السيطرة وفنون المقاومة الخفية
تاريخ النشر:
2003
عرض:
السيطرة وفنون المقاومة: النصوص الخفية *
عرض: رحاب القبطان**
يتناول جيمس سكوت في كتابه “السيطرة وفنون المقاومة: النصوص الخفية” موضوعا هاما يتصل بالكثير من فروع الدراسات الحيوية مثل نظريات الأنا والآخر، وما بعد الاستعمار، والعناصر التي تتواجد في العلاقات بين الأطراف الخاضعة والأطراف المهيمنة، ويعرض سكوت في هذا الكتاب دراسة مستفيضة عن علاقات القوى، والتي أرساها – كما يقول في تصديره للكتاب – بعد تحليل للتحيز الطبقي في قرية في شبه جزيرة الملايو، فيقول سكوت أن التناقضات التي تحكم مختلف الطبقات هناك كانت شديدة الوضوح، فكان يبدو وكأن “الفقراء ينشدون لحنا واحدا في وجود الأثرياء، وينشدون لحنا آخر مختلفا تماما عند تواجدهم وسط الفقراء“، ويضيف سكوت أنه عندما كان يقوم بدراسة الحديث الذي يستخدمه سكان شبه جزيرة الملايو، وجد أنه كان يفعل الشيء نفسه في وجود من لهم سلطة عليه (ص ix).
ويؤكد سكوت أن موضوع الكتاب ليس جديدا، فلقد تناوله الكثيرون بالدراسة والتحليل، ولكنه يحاول أن يتخذ من هذا الموضوع ما يمكن أن يلقي بعض الضوء على مفاهيم هامة، وخاصة: الهيمنة والقوة والمقاومة والخضوع. وهو لا يكتفى بالسلوك المتوقع الذي يحكم علاقات السيد والعبد مثلا. فهو يقول أن السلوك العنيف الذي يحدث بالفعل مثل الضرب المبرح أو التحرش والاعتداء الجنسي أو تعمد الإذلال العلني ليس كافيا لتعريف علاقة القوى. فمجرد اليقين الذي يشعر به الطرف التابع بأن هذا السلوك يمكن أن يحدث في أي وقت يسيطر على العلاقة أكثر من حدوث هذا السلوك بالفعل. لذلك فسكوت يركز على الجوانب النفسية والاجتماعية لعلاقات القوى أكثر مما يحلل ما يحدث من أفعال صريحة وواضحة. وفيما يلى عرضا لأهم ما جاء في كتاب جيمس سكوت السيطرة وفنون المقاومة: النصوص الخفية.
يقتبس سكوت من إستيان دي لا بونيه في كتابه الحديث عن العبودية الطوعية:
ينظر الطاغية إلى من حوله وهم يحاولون استجداء رضائه بأي شكل. لذلك، فهو يرى أنه ليس عليهم فقط أن ينصاعوا لما يأمر به، بل يجب عليهم أن يفكروا بما يسمح لهم فقط بالتفكير فيه. ويجب عليهم دائما – كي يكتسبوا رضاءه أن يتوقعوا الشئ الذي سوف يقوم بالتفكير فيه. فليس كافيا أن يطيعونه. يجب أيضا أن يعملوا على إدخال السرور إلى قلبه. بل يجب أن يضايقوا ويعذبوا ويقتلوا أنفسهم في خدمته. (…) ويجب أن يلاحظوا بعناية كلماته ونبرات صوته وإيماءاته (ص 1).
ويشير سكوت هنا إلى النفاق الاجتماعي الذي يجب علينا ممارسته، والذي يعتبره إخلالا بمبدأ “قول الحقيقة حتى في وجود الطرف الأقوى” (Speak truth to power)، وهي أصبحت عبارة مثالية بدرجة يستحيل تحقيقها حتى في أكثر المجتمعات ديمقراطية.
ولكن سكوت لا يعني بهذا السلوك بقدر ما يهتم بالكوادر العامة التي فرضت على العلاقات البشرية بشكل عام على مر التاريخ، والتي تتسم بوجود صراعات قوى مثل تلك الموجودة في علاقة الموظف برئيسه في العمل، والمستأجر بصاحب العقار، والعبد بسيده فما تتسم به هذه العلاقات هي حتمية وضرورة إبقائها في إطار من الخضوع والسيطرة للحفاظ على شكلها الظاهر للمجتمع بأسلوب جلي بحيث لا يستطيع أحد أن يتخطى حدودها. فهي معرفة من خلال النص الصريح (Public Transcript) بمعنى ما هو واضح للطرف الأقوى في العلاقة، وهو ما يختلف عما يقال في النص الخفى (Hidden Transcript).
ويضرب المؤلف مثالا على ما يعنيه بالنص الخفي. فيشير إلى ما كتبته مارى تشتنات عندما لاحظت السكوت التام الذي كان يسيطر على العبيد الذين كانت تمتلكهم عندما كانت تأتيهم أخبار عن الحرب الأهلية الأمريكية. فتقول: “كانوا يتجولون بأقنعتهم السوداء دون أن تبدو عليهم أية بادرة تعبر عن مشاعرهم” (ص۳). ويتخذ سكوت هذا المثال ليؤكد أنه ليس من المبالغة أن يقوم بتعميم هذا المثال على جميع أنواع علاقات القوى. فكلما اتسعت الفجوة بين المسيطر والتابع، كلما اتخذت الكلمات المنطوقة شكلا طقسيا (ritualistic) ومقولب (stereotyped) أي أنه كلما كانت القوة المسيطرة أكثر شراسة وتهديدا، كلما ازدادت الأقنعة سمكا.
ويضرب سكوت أمثلة أخرى من بعض الأعمال الأدبية، فيشير إلى مقال “قتل الفيل” الذي كتبه جورج أورويل أثناء عمله في قوة الشرطة في بورما أثناء فترة الاستعمار في العشرينات. وكان فيل قد قام بحل وثاقه وانطلق غاضبا وسط الناس. ووقف أورويل شاهرا سلاحه ومراقبا للفيل حتى يستعيد هدوءه، وكان هناك الآلاف من سكان بورما يقفون خلف أوريل لمشاهدة ما يحدث. ويقول أورويل هنا:
وفجأة أدركت أنه يجب على أن أقوم بإطلاق النار على الفيل، يتوقع الناس منى أن أفعل ذلك ويجب على أن أطيع، لقد كنت أشعر بإرادة آلاف الناس تدفعني إلى الأمام دون مقاومة منى، وفي هذه اللحظة، عندما كنت واقفا أحمل بندقيتي في يدى، أدركت عدم الجدوى من سيطرة الرجل الأبيض على الشرق. فهاأنذا : الرجل الأبيض حاملا بندقيته وواقفا أمام جمع من المواطنين العزل – وأتظاهر بأنني البطل في هذه المسرحية. ولكنني في الواقع لم أكن أكثر من دمية سخيفة تحركها إرادة هذه الوجوه الصفراء في الخلف، وأدركت عندئذ أنه عندما يتحول الرجل الأبيض إلى طاغية. فإنه يخسر حريته. (…) فهو يرتدي قناعا ينمو وجهه تحته حتى يصير الوجه والقناع واحدا. (ص 10 – 11)
ويشير سكوت إلى نقطة غاية في الأهمية وهي أن الأداء التمثيلي الذي يتحتم على التابع فعله يقابله أداء تمثيلي آخر من الطرف الأقوى للعلاقة، حيث يجب على الطرف الأقوى أن يظهر نفسه أمام الطرف التابع في صورة تحمل صفات السيادة والغطرسة والتعجرف حتى تكون قابلة للتصديق، فعندما يتخطى العبد حدوده أو يخرج عن النص، فإنه يقوم بمخاطرة يمكن أن تنتهى بضرب مبرح. أما أورويل، فهو إن فعل ذلك، قام بمخاطرة يمكن أن تنتهى بسخرية سكان القرية من “الرجل الأبيض“.
ويحاول سكوت أن يقوم بتعريف النص الصريح، فيتساءل: كيف يتكون؟ ولماذا يعد هاما في إظهار الولاء والاحترام للطرف الأقوى في العلاقة؟ ومن هو الجمهور الموجه إليه هذا الأداء التمثيلي؟ وهو يبسط تعريف النص الصريح في أنه انعكاس للصورة الذاتية للطرف الأقوى في العلاقة. فهي الصورة التي يحب أن يرى الطرف الأقوى نفسه في شكلها السيادي، ويحدد سكوت أربعة أنواع من الخطاب السياسي (Political discourse) التي توجد في النص الصريح للمجموعات التابعة:
-
النوع الأول:
وهو النوع الذي يتخذ شكل الصورة الذاتية للطرف الأقوى في العلاقة، ولكنه يسمح في الوقت نفسه بوجود نوع من الصراع السياسي بسبب وجود بعض التنازلات. فمثلا، كان مفروضا على من يمتلك العبيد في الجنوب الأمريكي قبل وقوع الحرب الأهلية توفير المأكل والملبس والمأوى لهم، وقد خلقت هذه المطالب مساحة أدت إلى إمكانية مطالبة البعض بحقوقهم في الحصول على طعام أو ماوى أفضل أو السماح لهم بالذهاب لأداء الصلوات الخاصة بهم.
-
النوع الثاني:
يرتبط النوع الثاني بعكس الصورة التي يقدمها النص الصريح، وهو ما نجده في الأحاديث التي تظهر الطرف التابع وراء الكواليس مثل أحاديث العبيد أثناء غياب السيد حيث يتبادلون عبارات الغضب والوعيد والتهديد بالانتقام، وهو ما لا يظهر في النص الصريح إلا نادرا جدا.
-
النوع الثالث:
يتمثل في العناصر التي تحمل أكثر من معنى في النص الصريح ومنها : الأغاني والنكات والطقوس التي يمارسها الطرف التابع. وتعكس هذه العناصر روح التمرد والانتقام التي تستتر خلف النص الصريح.
-
النوع الرابع:
هو النوع النادر من النص الصريح الذي تتسرب إليه عناصر من النص الخفي، ففى لحظات نادرة الحدوث، يقوم الطرف التابع بالتعبير عن مشاعر الغضب والرغبة في الانتقام في النص الصريح. وهي لحظات قصيرة ومؤقتة غالبا ما تنتهى بممارسات عنيفة ضد من يتفوه بها.
ويشير سكوت إلى السياسة التحتية للمجموعات التابعة وهو يعني بذلك العبارات أو الإشارات التي تظهر في النص الصريح وتتم عن عناصر مقاومة للطرف الأقوى. فيرى مثلا أن مظاهر الإذعان والاحترام (Deference) يمكن تقسيمها في إطار نموذج طبقى (pattern of stratification) حيث تحتل الفئة التي تقوم بإصدار الأوامر فقط أعلى هذا النموذج، بينما تبقى الفئة التي تقوم بتنفيذ الأوامر ولا تقوى على إصدارها في قاع النموذج. ومن هنا يؤكد المؤلف أنه في ظل هذا النظام، فإنه من الخطأ الجسيم أن نقوم بإصدار الأحكام على الأشخاص لمجرد قيامهم بفعل ينم عن الإذعان والاحترام. ففي رأيه أن هذه الحركات كالايماءات مثلا أو استخدام ألقاب التعظيم أثناء الحديث مع الطرف الأقوى لا تدل على الإذعان الفعلى له، فهذه الحركات تتم بطريقة أوتوماتيكية طقسية يمكن أن يكون مصدرها تفكير مسبق للنتائج التي سوف يترتب عليها الإتيان بهذه الحركات. لذلك، فسكوت يؤمن بأنه من بالغ الصعوبة أن نقوم بدراسة النص الصريح الذي يتضمن حركات أو كلمات تدل على الإذعان في ظل الوجود المستمر للطرف الأقوى. ويضرب على ذلك مثالا عندما يشير إلى تلاميذ المدرسة عندما يظهرون الاحترام ويتسم سلوكهم بالأدب والهدوء أثناء وجود المعلم ويقارن ذلك بحالة الهرج والمرج التي تعم الفصل عند خروج المعلم أو أثناء خروج التلاميذ من المدرسة. فيدل هذا السلوك على وجود نص خفى لا يظهر إلا باختفاء الطرف الأقوى في العلاقة.
ومن هنا، يبدأ المؤلف في النظر إلى النص الصريح كأداة هامة لاستمرارية علاقات القوى. فبدون ممارسة السيد للحقوق التي يمنحها لنفسه في رئاسة الآخرين ومعاقبتهم، لن تتوفر للعلاقة العوامل الأساسية لوجودها، وبالتالي، لن نتمكن من رؤية النص الصريح بوضوح. لذلك، يرى سكوت أن الإشارات والانحناءات الدالة على الإذعان والاحترام ما هي إلا أدوات يلجأ إليها الطرف التابع للحفاظ على الشكل المقولب لعلاقته بالطرف الأقوى. ويشير المؤلف هنا إلى السيرة الذاتية لروبرت أوين والتي يحكي فيها عن “المراقب الصامت” (silent monitor) الذي ابتدعه مدير المصنع الذي كان يعمل به، وكان هذا “المراقب” عبارة عن هيكل خشبي له عدة وجوه ملونة بالوان متعددة. وكان يوضع أمام كل عامل المراقب الخاص به. وحسبما يقيم المشرف على العمل أداء العامل، كان يدير ناحيته اللون الذي يستحقه عن هذا الأداء: الأسود : سيئ، الأزرق: متوسط، الأصفر: جيد، الأبيض: ممتاز. وعندما يقوم مدير المصنع بالمرور على العمال، يستطيع أن يرى على الفور التقييم الخاص بأدائهم، والذي يمكن أن يتغير في أي لحظة إذا ما تكاسلوا أو تباطئوا لفترة قصيرة. وهكذا، تظل علاقة القوى قائمة حتى أثناء غياب الطرف الأقوى وفي وجود مراقب لا يتكلم.
ويضيف المؤلف أيضا مثالا من حياته الشخصية على استمرار هيمنة الطرف الأقوى حتى في غيابه ففي المزرعة التي يمتلكها سكوت كان يحيط مجموعة خراف بسور مكهرب حتى لا تقوم بالركض خارج المزرعة. فعندما رأت الخراف أن البعض منهم قد صعق ومات عند لمس هذا السور، لم يقتربوا منه بعد ذلك، حتى بعدما تم فصل الكهرباء عن السور لمدة طويلة.
ويرفض سكوت تحديد علاقات القوى في إطار قاطع ومحدد بطريقة تجعل المحرك الأساسي لرد فعل الطرف التابع هو المادة، وهو ما يحاول أن يتجنب سكوت إبرازه. فهو يرى أن عناصر المقاومة تبدأ من خلال أفعال مستترة مثل سرقة بضعة حبوب أو اختصار ساعات العمل، لكنه لا يرجع أسباب هذه الأفعال إلى مظاهر الاستبداد مثل الضرب والإهانة والتحرش الجنسي فقط، ولكنه يؤمن بأن هناك عوامل اجتماعية مفروضة على الطرف التابع مثل ضرورة استخدام ألفاظ وإيماءات معينة لإظهار الإذعان والاحترام. ويعتبر سكوت هذه العوامل بنفس قوة مظاهر الإذلال الأخرى التي يمارسها الطرف الأقوى.
ويقول سكوت أننا إذا عرفنا مثلا أن هناك رجلا فقيرا من شبه جزيرة الملايو لا يمتلك المال أو الأرض، فإننا لم نعرف عنه الكثير، ولكننا عندما نعلم أنه ليس بإمكانه دعوة أحد إلى الإفطار في رمضان، وأن أثرياء القرية التي يعيش بها يمرون بجانبه يوميا دون إلقاء التحية، وأنه لا يستطيع أن يجد المال الكافي لدفن أبويه، وأنه يجب عليه أن يقوم بإذلال نفسه من وقت لآخر لجيرانه لكي يحصل على وظيفة أو طعام، عندئذ، ندرك البعد الاجتماعي والثقافي لفقر هذا الرجل، ونستطيع حينئذ البدء في دراسة ما يعتريه من يأس وغضب عارمين. فبالرغم من أن الأشياء التي يعاني منها هي كلها نتاج للطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، إلا أنها تدل على حركات اجتماعية طقسية هي التي تسبب ما يعانيه من ذل وخضوع.
ويؤكد سكوت أن العناصر المقاومة لهذه الظروف الاجتماعية لا تظهر بالضرورة في شكل جماعي منسق يتحدى الطرف الأقوى. كما أنها لا تكمن أيضا في صورة الخضوع والامتثال التام، بل تظهر عناصر المقاومة في حياة المجموعات التابعة في المنطقة الموجودة بين العالمين: عالم الخضوع والاستسلام التام، والعالم الذي يتوق للتحدى والثورة. ويرغب سكوت في أن يوضح الاستراتيجيات الخاصة بتسرب جزئيات هذه المنطقة إلى النص الصريح. فيقول أن الفئات التابعة تتميز بأسلوب مصقول في الحديث، وهو الذي يجعل الطرف الأقوى في العلاقة يرى في هذه الصفة مكرا شديدا لأنه يشعر بأن هناك الكثير وراء ما يقال، فحتى صمت الطرف التابع يحمل معنى. ويعلق سكوت على ذلك فيقارن بين اللعبة التي كان يمارسها العبيد السود في الولايات المتحدة عندما كان يقف العبد ويلقى عليه أصدقائه وابلا من الإهانات (خاصة عن الأم أو الأخت)، وكان يجب عليه أن يقف ساكنا ولا يرد على أي منها وعلى العكس من ذلك، كان يتم تدريب الفئة الأرستقراطية على الرد على أقل بادرة إهانة يمكن أن تتعرض لها، ويبرهن سكوت على ذلك بقوله أن معظم المبارزات التي راح ضحيتها الكثيرون كان سببها مجرد كلمة أو إيماءة بها قدر بسيط من الإهانة.
ويشبه سكوت هذا الصمت بالحرب غير المعلنة الدفينة في النص الصريح، والتي تظهر فيه في شكل الإشاعات والحيل اللغوية والاستعارات والحكايات الشعبية. وبالطبع، لا يوجد أي نوع من المباشرة في كل هذه الأشكال. فقبل ظهور المبادئ الديمقراطية، كانت هذه الأشكال تمثل الموقع الوحيد لممارسة المناقشات العامة السياسية وهو ما يسمح بوجود حوار سیاسي مع الطرف الأقوى في العلاقة. ولكن إذا تمكن الطرف التابع من إظهار ما ينطوي عليه النص الخفي دون الإفصاح عن شخصيته، فإن الخوف يزول عنه، ويضرب سكوت مثالين على ذلك، فيشير في المثال الأول إلى الكاتب التشيكي ميلان كونديرا عندما كان يحكى عن الوقت الذي قضاه في السجن كمعتقل سياسي، في أثناء ذلك الوقت، نظم حراس السجن سباقا للتناوب بينهم وبين السجناء، وبالطبع، كان السجناء يعلمون بأنهم سوف يخسرون السباق، فما كان منهم إلا أن أفسدوا فرصة السجناء للانتصار عليهم بأن قاموا بالمبالغة في سوء اللعب بطريقة بدت ساخرة ومضحكة في الوقت نفسه، لم يتمكن الحراس من اتخاذ أي إجراء ضدهم الانتصار الصغير الذي حققه السجناء كان بمثابة حدثا سياسيا، فيقول كونديرا أن “تخريب سباق التناوب جعلنا نشعر بقوتنا عندما أدى ذلك إلى حالة من الهرج والمرج” (ص ١٤٠).
أما المثال الثاني الذي يشير إليه سكوت فهو يتعلق بدولة بولندا عام ١٩٨٣ عندما قام الجنرال وجيتش يارموزيسكي بإعلان قانون الطوارئ على البلاد للحد من نشاط الاتحاد التجاري. قام مناهضو الاتحاد في مدينة “لوتز” باللجوء إلى أسلوب متفرد في الاعتراض الذي تشوبه الحيطة، فلكي يظهروا احتقارهم للأكاذيب التي تروجها نشرات الأخبار الرسمية نقلا عن الحكومة، كان سكان المدينة يخرجون من منازلهم كل يوم إلى الشوارع للتنزه في نفس توقيت النشرات الإخبارية وهم مرتدون قبعاتهم بالمقلوب. بالطبع، أدرك الضباط غرض هذه النزهات ولكنهم لم يستطيعوا اتخاذ إجراءات ضدهم حيث أنهم لم يرتكبوا شيئا غير قانوني. فقامت قوات الشرطة بتغيير مواعيد حظر التجول بحيث تتماشى مع مواعيد نشرات الأخبار، فيضطر أهل المدينة إلى البقاء في منازلهم. ولكنهم تحايلوا على ذلك عندما قاموا بوضع أجهزتهم التليفزيونية على نوافذ منازلهم بحيث تواجه الشوارع، وقاموا بتشغيل الأجهزة بصوت جهوري أثناء نشرات الأخبار، وهو الوقت الذي يقوم الضباط فيه أيضا بالمرور في شوارع المدينة فيجدون هذه الأجهزة تحدق بهم وهي تكرر رسالة حكومتهم إليهم بصوت مدوى.
وبهذين المثالين يقدم لنا سكوت ما يبرهن به على أن دراسة علاقة القوى لا تنطوي فقط على تحليل طرفی العلاقة كل على حدة وتفاعلهما معا. كما أنها لا تكتفى بإبراز أنواع الصراعات الموجودة بين الطرفين. فما يقدمه إلينا جيمس سكوت في هذا الكتاب هو نوع من التحليل النفسي الاجتماعي للصور الظاهرة والخفية في علاقات القوى. وهو يعترف في الوقت ذاته بصعوبة تحليلها. فمن الواضح أن سكوت يرى في الكثير من السلوكيات الخاصة بالطرف التابع بالذات، الكثير من عناصر المقاومة التي تتستر خلف الحركات والإشارات العفوية التي يمكن أن تصدر عن أي شخص أثناء تعامله اليومي. لذا، فإن أهمية هذا الكتاب لا تكمن في تقديم هذا الموضوع لأنه ليس بجديد، وإنما تكمن أهميته في ثراء رؤية سكوت للجوانب النفسية والاجتماعية التي تتحكم في العلاقات البشرية بطريقة غاية في التعقيد. ففي رأيي أنه عند الانتهاء من قراءة هذا الكتاب، يصبح من الصعب أن نقرأ في فرع من فروع المعرفة الإنسانية دون أن تتردد أصداء هذه الأفكار في أذهاننا، بل إنه يصبح من الصعب علينا تجاهل الكثير من الإشارات والإيماءات التي تصدر عنا أوعن الأشخاص التي نتعامل معهم دون أن نفكر فيما يتضمنه “النص الخفي“.
* السيطرة وفنون المقاومة الخفية، تأليف جيمس سكوت الناشر: جامعة ييل. ١٩٩٠.
** معيدة بقسم اللغة الإنجليزية، جامعة القاهرة ومهتمة بالدراسات النسوية.