الشئون الجنسية اليوم

التصنيفات: غير مصنف

الشئون الجنسية اليوم

هذا هو أول عدد { مقالات هذه المطبوعة مترجمة عن العدد الثاني عشر من مجلة الصحة الإنجابية ماعدا المائدة المستديرة حول التشويه الجنسي للإناث والمأخوذة من العدد الثالث عشر}. يتناول موضوع الشئون الجنسية كموضوع محوري له، رغم أن المجلة نشرت في أعداد سابقة عدة مقالات حول ذات الموضوع. إن كافة المسائل المتعلقة بالصحة الإنجابية للمرأة ترتبط بطبيعة الحال بالجنس ومع ذلك، فعادة ما كان تناولها يتم في سياق وبأسلوب يتيح حجب ذلك الجانب غير المستساغمنها. فالنساء المتزوجات يذهبن إلى عيادات تنظيم الأسرة (لاحظ لطف التعبير لتفادي استخدام كلمة الجنس) وتعالجهن الطبيبات ذوات الرداء الأبيض من مشكلاتهن الجنسية دونما إشارة إلى أسبابها، والنساء المتزوجات يمارسن العلاقة الجنسية مع أزواجهن (ونعني العلاقة الجنسية المهبلية العادية، والتي لا تحتاج تفاصيلها إلى مناقشة) وهذا هو كل ما في الأمر. إن هذا النوع من التفكير لازال هو المستقر في مجال الصحة الإنجابية، مؤكدًا ملاحظة روث مولر أن: “زائرًا من كوكب آخر لا بد وأن يشعر بالحيرة إزاء السلوك الجنسي (البشري)، إذا ما استقى معلوماته من المجلات المتعلقة بالعلوم السكانية وتنظيم الأسرة (1).   لقد دفعني موضوع هذا العدد للتأمل في الفجوة المستمرة بين عالم صحة المرأة وتنظيم الخصوبة (وهو المجال الذي كنت أعمل فيه في منتصف الثمانينات) وبين عالم البحوث في مجال الشئون الجنسية (وهو المجال الذي أعمل فيه الآن). وهذا يعني أنني انتقلت من فرع يتعلق بالرعاية الصحية والتثقيف الصحي إلى فرع يتعلق بعلم الاجتماع، وأعتقد أن علم الاجتماع هو الموقع الصحيح للبحوث المتعلقة بمجال الجنس، فالسلوك الجنسي هو سلوك اجتماعي، مثله مثل الجريمة أو العمل كما أن الشئون الجنسية” (Sexuality) ونوع الجنس” ( Gender) هما مفهومان اجتماعیان جوهريان، لا تقل أهميتهما عن مفهومي العنصر” (race) أو الطبقة” (Class). وفي رأيي هناك منهجان أو مدرستان في مجال البحوث الجنسية الاجتماعية المعاصرة: البحوث التجريبية والدراسات الثقافية. ولسوف أعرض لكل منهما بإيجاز، مع تحديد الخطوط العريضة للأطروحات التي يتبناها المعارضون في كلا المعسكرين. المسوح التجريبية: تهتم البحوث التجريبية أساسًا بمعرفة من يفعل ماذا بمن؟ وكم مرة يفعل فيها ذلك؟ وما إذا كان يستخدم الواقي الذكري أم لا؟ كما تهتم أيضًا بدراسة المواقف والهويات والتوجهات الجنسية ورغم أن هذا المجال يشمل وضع النظريات حول الشئون الجنسية، إلا إن ذلك ينحو في التطبيق إلى التركيز على تطوير الاستبيانات وتحليل الاستجابات. كذلك يستخدم الباحثون في مجال البحث الجنسي التجريبي أنماطًا من الاستبيانات والتحليلات الإحصائية المستقاة من العلوم النفسية والصحية والوبائية والاجتماعية. وسرعان ما تستفيد تلك العلوم من خلال عملية التغذية المرتجعة، بالرؤى المتبصرة والمناهج التي توصل لها الباحثون. وهم يلجئون أيضًا، وإن بصورة أقل إلى المناهج التجريبية الكيفية مثل الأنثروبولوجيات الوصفية للتعرف على السلوكيات الجنسية للثقافات الفرعية والأقليات، ولأن المنهج تجريبي فإنه يدمج بين الرؤى المتبصرة المستقاة من البحوث الجنسية الطبية. ويرى المعارضون للبحوث المسحية التجريبية أنها بحوث وضعية(2) لا تعي أن مصطلحاتها لها مضمون سياسي، كما أنهم ينتقدونها باعتبارها نوعًا من مسك الدفاتر اجتماعيًا” (أي تركز على قياس وحساب الأشياء بدلاً من تفسيرها) ويعتبرونها جزءًا من تكنولوجيا الرقابة في الدول الحديثة. الدراسات الثقافية: تنبع جذور هذا المنهج من الفلسفة والتاريخ والأنثروبولوجية الأوروبية (وخاصة الفرنسية)، وتتقدم بشكل عام داخل البنيوية وما بعد البنيوية(3) ولا يقوم الممارسون إلا بقدر ضئيل من العمل التجريبي. وعندما يدرسون البيانات، يميل منهجهم إلى التحليلات التفصيلية لنصوص المقابلات أو الإنتاج الثقافي للمجتمع في شتى صوره مثل الإعلانات أو الملابس أو المؤسسات (مستعيرين التقنيات المستخدمة في علوم اللغويات والنظرية الأدبية). كما يرفضون اعتبار الموضوعية هدفًا علميًا، مؤكدين على نسبية الأخلاقيات والثقافة وعدم قابلية النصوص للترجمة. وهناك علم وثيق الصلة بالموضوع هو علم الفينومينولوجيا، إذ يركز على الخبرة الحية لمن يتم إجراء مقابلات معهم خلال البحث (أحيانًا الباحث ذاته/ الباحثة ذاتها). إن المعارضين للدراسات الثقافية (بما فيها الدراسات الخاصة بنوع الجنس ونظرية المثلية الجنسية) يعتبرونها نوعًا من الهذيان الفرنسي الذي يتعذر قراءته، نظرًا لما يشتمل عليه من لعب بالألفاظ واستخدام مكثف للرطانة حديثة الابتكار. كذلك ينظر النشطاء اليساريون إلى الدراسات الثقافية باعتبارها توجهًا محافظًا أو غير سياسي نظرًا لنسبيتها الأخلاقية بينما ينظر إليها المحافظون باعتبارها توجهًا راديكاليًا خطيرًا لأنها تتحدى المصادر التقليدية للقوة (مثل العلم والطب، ونظام القضاء الجنائي)، وتتعامل معها جميعًا باعتبارها مجرد خطاباتمتنافسة (بمعنى الأطر اللغوية والتصورية“) لا يمكن لأي منها الزعم بامتلاك الحقيقة.

من وجهة نظر العلماء والباحثين في مجالات علم النفس الإكلينيكي أو علم الأعصاب، أو علم الوراثة، أو علم الغدد الصماء، أو الأمراض التناسلية فإن الجنس لا ينتمي بالضرورة إلى علم الاجتماع، حيث يتصور كل فريق منهم أن مجاله الخاص هو المجال الأمثل للتعامل مع الشئون الجنسية للبشر. فوحدات البحوث في مجال العلوم الطبية عادة ما يقترن عملها بعمل العيادات التي تقدم الخدمات الإكلينيكية إلى مجموعات معينة من الناس، مثل الذين يعانون من تبدلية الجنس (Transsexuals) (أي الشعور بالانتماء إلى الجنس الآخر)، أو الذين يعانون من شذوذ جنسي موروث. وتؤثر المفاهيم والاكتشافات المتعلقة بهذه الميادين على كافة المجالات الثلاثة للبحث الاجتماعي والممارسة الاجتماعية المشار إليها أعلاه، كما هو الحال بالنسبة لمبحث الأمراض التناسلية ومبحث الجهاز البولي ومبحث أمراض النساء (دراسة وعلاج الاضطرابات التي تصيب الأعضاء الجنسية، والأمراض المنقولة جنسيًا).

أما المعارضون لمنهج العلوم الطبية في مجال الجنس فيجادلون بأن افتقاد الوعي النفسي والاجتماعي (وأحيانًا كراهية النساء وكراهية المثلية الجنسية) الذي يبدو واضحًا لدى مراكز بحوث الطب الجنسي (علاج الذين يعانون من الازدواجية الجنسية أو صغر عضو الذكورة) إنما يمثل في بعض الأحيان نوعًا من التحذير. وعندما يحاول علماء الطب إدماج الرؤى الاجتماعية في منهج تناولهم للشئون الجنسية، عادة ما يتبنون شكلاً ضعيفًا من أشكال نظرية التأثير الاجتماعي وليس البنيوية الاجتماعية. إنهم بتعبير آخر، يقبلون وجود اختلافات ثقافية في المعتقدات والسلوكيات الجنسية، ولكنهم يستثنون مفاهيمهم الخاصة من مثل هذا الانتقاد. كما أنهم عادة ما يفترضون أن التنوع في الشئون الجنسية البشرية ينبع في الأساس من البيولوجيا، سواء من الجينات، أو البنى الفسيولوجية، أو الهرمونات. إن ميلهم لتقديم التصورات الخاصة بالاختلاف الجنسي باعتبارها نوعًا من الاضطراب أو المرض، إنما يضفي طابعًا طبيًا على الشئون الجنسية، متجاهلاً بنيتها الاجتماعية الأوسع نطاقًا. وتعد العلوم الطبية جزءًا من تكنولوجيا الدولة الحديثة في مجال التحكم في السلوك الجنسي، فالمكانة العالية التي يحتلها العلم والطب في المجتمعات الحديثة تعني أن الأطباء وعلماء الطب يمتلكون قوة ضخمة للتأثير على قرارات الحكومة في الأمور المتعلقة بالسلوك الجنسي، وهي الأمور التي قد لا يكونوا على دراية جيدة بها.

التقاليد الخاصة بتقديم المشورة:

يعد هذا المنهج، الذي يتضمن العديد من العلاجات الجنسية منهجًا انتقائيًا من الناحية النظرية. ويستخدم بعض الممارسين أساليب التحليل النفسي الفرويدية وما بعد الفرويدية ويستخدم البعض الآخر أنماط تعديل السلوك التي تم تطويرها من خلال النزعة السلوكية الأمريكية. وهناك البعض الذين يستخدمون النظريات والأساليب الشعبية التي تطورت في صناعة المشورة. بينما يلجأ العديدون إلى استخدام مزيج من هذه الأساليب. كذلك يوظف بعض الممارسين الأفكار الاجتماعية، وخاصة أولئك المدربين كباحثين اجتماعيين وليس كمتخصصين في علم النفس الإكلينيكي. إن تقديم المشورة في مجال الجنس يلتقط النظرية من كل مكان، بما في ذلك العلوم الطبيعة (علم التشريح، علم الفسيولوجيا، علم الغدد الصماء، علم الوراثة).

ويرى المعارضون لمنهج تقديم المشورة أنه لا يقدم أي مساهمة جادة في نظرية الشئون الجنسية، فضلاً عن افتقاده للرؤية السياسية. فهو يخفق في توضيح الإشكالية المتعلقة بعلاقات القوى في إطار الزواج، وليس له موقف نقدي من الزواج كمؤسسة أبوية. كما أنه لا يعترف بوجود تحيز للعلاقات الجنسية المغايرة بتركيزه على تقديم المشورة للمتزوجين والتي تهدف عادة للحفاظ على العلاقة الزوجية، ومن هذه الناحية المفاهيمية يتعامل هذا الأسلوب مع المشكلات الجنسية باعتبارها مشكلات في العلاقات.. بما يدفع بالشئون الجنسية، إلى المجال الخاص.. ويتجاهل الأبعاد الاجتماعية الأوسع التي تسهم في تشكلها.

الشئون الجنسية ومجلة الصحة الإنجابية:

لا أعتقد أن مجلة الصحة الإنجابية تعاني من تجنب لقضايا الجنس، كما ذكرت في الفقرة الأولى من مقالي. لماذا إذن نجد انفصالاً بين البحوث الأكاديمية في مجال الشئون الجنسية والمواد التي تنشرها الدوريات الجديدة مثل مجلة Sexualities وما يتم نشره حول الجنس في مجلة الصحة الإنجابية؟

لقد أثارت مجلة الصحة الإنجابية دائمًا قضايا الممارسة على أرض الواقع، وقضايا تغيير العالم فعليًا، ولا تقتصر في موادها على البحوث فحسب. وهذا هو السبب في سياستها التي تتسم بالعراقة الإنجليزية وموادها الإخبارية، بالإضافة إلى ما تشتمل عليه من ملخصات للأبحاث المنشورة في المجلات الأخرى. ومع ذلك يتم إجراء الكثير من البحوث المعاصرة في مجال الجنس داخل إطار منهج الدراسات الثقافية الذي تحدثت عنه أعلاه. إنه منهج فلسفي ونظري وعسير في القراءة، كما يصعب تطبيقه بشكل مباشر على مختلف المشكلات المعاصرة مثل الإجهاض في أمريكيا اللاتينية، أو انتشار أمراض النساء في الهند. ووفقًا لقواعد البيانات في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية وليس في قواعد البيانات والنقاشات الدائرة في المجال الطبي ومجال الصحة، ينحو العاملون في مجال الصحة الإنجابية إلى استخدام هذا المنهج. إنه يركز على الهويات الجنسية والثقافات الفرعية التي قد لا تحمل مدلولاً للقراء من البلدان الأخرى.

هناك سبب آخر للفجوة القائمة بين الصحة الإنجابية والبحوث في مجال الشئون الجنسية، فالطفرة التي شهدتها البحوث في مجال الشئون الجنسية في السنوات الخمسة عشر السابقة ترجع إلى توفر التمويل للبحوث المتعلقة بالوقاية من مرض الإيدز. وقد أدى ذلك (على الأقل في البلدان الغنية) إلى التركيز على سلوك الرجال في مجال الجنسية المثلية، وعلى الثقافات الفرعية المتعلقة بالجنس واستخدام المواد المخدرة، وجاء ذلك على حساب القضايا الإنجابية أو الجوانب الأخرى من الجنس. ففي بلدان مثل أستراليا حيث كان انتشار مرض الإيدز ناجمًا بدرجة كبيرة عن انتشار الجنسية المثلية بين الذكور، تمت دراسات مستفيضة حول الهوية الجنسية والمجتمعات التي تمارس فيها الجنسية المثلية. ولكن هناك أشياء أخرى كثيرة يمكننا اختيار دراستها في مجال الشئون الجنسية البشرية مثل الجوانب الأخرى من الأذواق والتفضيلات الجنسية (للكبار والشباب، للبدين والرفيع، للبشرة داكنة اللون أو الشاحبة لكثيف الشعر أو الأملس)، والعادة السرية والخيال وأحلام اليقظة، والأدب والفن الإباحي، والولع أو التعلق الشديد، والإنجاب (بما في ذلك الرضاعة الطبيعية) والشهوة الجنسية، والشهوانية اللمسية والشمية. وعلى الرغم من ثراء واتساع نطاق الموضوعات التي يغطيها هذا العدد من المجلة، فهناك موضوعات عديدة أخرى لم يتم التطرق إليها، وأتمنى أن ننشر في المستقبل مقالات حول سفاح القربى، أو الجنس بين أجيال مختلفة، أو الشذوذ الجنسي أو الجنس وكبار السن، أو الثقافات الجنسية الفرعية أو العادة السرية، أو شبكات العمل في مجال الجنس. كما لا يضم هذا العدد من المجلة الكثير حول الأمراض المنقولة جنسيًا لكن ذلك يسعدني، إذ تنحو الكتابات الطبية إلى تقليص الصحة الجنسية إلى (غياب) الأمراض المنقولة جنسيًا فحسب.

يعد هذا المؤتمر أيضًا مثالاً على وجود مثل تلك الفجوات. كان المؤتمر يحمل عنوان: “عبور الفجوة، بينما كان يمكن تسميته تأملات حول الفجوة“. لقد انصب اهتمام أغلب العلماء على البحوث الفيروسية والعلاجية، وكانوا عادة ما يتوجهون إلى خارج القاعة عندما تبدأ مداخلة متحدث في مجال علم الأوبئة، أو مداخلة متحدث من أحد البلدان النامية (عادة ما يكون نفس الشخص).

هناك حوالي ٣٣ مليون شخص مصابين بفيروس نقص المناعة البشرية (يزيد العدد بمقدار شخص واحد كل ثانية تقريبًا و٩٠٪ من المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية ينتمون إلى البلدان النامية. وفي بعض مناطق أفريقيا وآسيا تصل نسبة انتشار فيروس نقص المناعة البشرية بين النساء المترددات على العيادات في فترة ما قبل الولادة إلى حوالي ٢٠% (وهو مؤشر جيد على معدل انتشار الفيروس بين الشباب البالغين في فترة النشاط الجنسي بشكل عام وليس فقط بين أولئك الذين يتم اختيارهم باعتبارهم أكثر عرضة للخطر). وبالنسبة لأغلب هذه البلدان والتي لا تفي ميزانياتها الصحية بالاحتياجات الاعتيادية، مثل توفر أخصائي مدرب أثناء الولادة، ووجود نظام علاج للأمراض المنقولة جنسيًا، ووجود رعاية أولية بشكل عام، وعلاج الأمراض المعدية…. إلخ، فإن الإنفاق على علاج حالات الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية على النمط الأمريكي يعد أمرًا خارج الموضوع. وكما قال أحد الحضور في مؤتمر سابق حول الإيدز، فإننا لا نقدر حتى على توفير كوب من الماء النقي للمصاب بفيروس نقص المناعة البشرية لتناول هذه الحبوب، ناهيك عن القدرة على شراءها!

لقد ظهرت العديد من ردود الأفعال المختلفة إزاء هذا المأزق. فقد طرح البعض ضرورة قيام البلدان الغنية و/ أو شركات الأدوية ذاتها بدعم تكلفة العلاج للمصابين في البلدان الفقيرة. وفي رأيي الشخصي أن ذلك يعد ضربًا من الجنون، إذ ينصب اهتمامي على وجود برامج معونة فعالة تقوم بتقديم المياه النظيفة والرعاية الأولية، عبر خطوط تقرير الصحة الذي أصدره البنك الدولي من عدة سنوات. وهناك مشكلة أخرى، من الزاوية البنيوية، تتعلق بالعجز العالمي عن توجيه أو إلزام الشركات متعددة الجنسيات بأي شكل، فالشركات الخاصة تنفق مخصصات البحث والتطوير نقودًا على الأدوية العلاجية وليس على الأمصال، ذلك أن الأمصال تحقق ربحًا أقل للشركات، فالزبائن هم الحكومات وليس الأفراد. ومن المثير للسخرية أيضًا أن كل حالة تتم وقايتها من فيروس نقص المناعة البشرية ستقلل من عدد الذين سوف يشترون العقاقير العلاجية باهظة التكلفة. وقد شهدت جلسات المؤتمر الختامية العامة تذمرًا يعكس مشاعر الاستياء نحو شركات الأدوية، وتشجيعًا للمتحدثين الذين أثاروا أمورًا هامة حول ما ينبغي أن تقوم به شركات الأدوية وإن لم يكن هناك اتفاق واضح حول ما يجب أن نطلبه منها.

ومما أثار دهشتي أن التمثيل في المؤتمر لم يضم سوى هيئة واحدة فقط من بين الهيئات القائمة على تصنيع الواقي الذكري، إنها مجموعة لندن الدولية التي تقوم بتصنيع ديوركس. إذن فقد كان ممثلو الواقي الذكري العملاق ديوركس حاضرين. ولقد ضم المؤتمر، من خلال نشرات معلومات منظمات المجتمعات المحلية، علامات تجارية أخرى لأنواع الواقي الذكري، ولكنني لم أجد أيًا من المصنعين الرئيسيين الآخرين. وهذا غريب، فالشركات ترغب في التواجد لإبرام صفقات كبرى مع من يبغي الشراء من أجل برامج التسويق الاجتماعي سواء الوطنية أو الدولية، ومن أجل الخدمات الصحية.

في سياق الوقاية (والتي، كما قلت، تعد موضوعًا مملاً بالنسبة للعلماء الحقيقيين)، تمت الإشارة إلى نجاح أستراليا ومؤخرًا تايلاند، في محاصرة وباء الإيدز أكثر من مرة في الجلسات العامة. وقد كان جيدًا أن أمثل بلدًا يعتبر، على المستوى العالمي، ناجحًا لكني شعرت بالذنب لتقديم ملصق حول المخاطر التي تحيق بالمرأة(4)، في بلد كان إجمالي النساء المصابات فيه في العام الماضي ٦٦ امرأة.

لقد أجريت حوارات رائعة مع بعض النسوة اللاتي حضرن الاجتماعات. دار أحدها، على سبيل المثال، مع امرأتين أفريقيتين حول العزلكوسيلة ممكنة للوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية في حالة اختلاف الجنس. وقد شعرت، على مستوى آخر، باعتباري شخص يعمل داخل الحقل الاجتماعي والسلوكي، شعرت بتعاطف خفي تجاه سلوك علماء الفيروسات الذين كنت اعتبرهم سابقًا متغطرسين وفاقدين للمسئولية الأخلاقية. كانت الأوراق البحثية التي أثارت اهتمامي في علاقتها بعملي، تدور حول مشكلات مماثلة في بلدان أخرى بالعالم الأول: ما يحدث في حمامات البخار (الساونا) في شرق لندن أو سان فرانسيسكو، أو المنهج المتبع لقياس ما يتم رصده من ممارسات جنسية في أمريكا الشمالية لقد عرضت في المؤتمر ملصقات عن انتشار فيروس نقص المناعة البشرية والتي رغم جفافها وتقديمها دونما براعة، اشتملت على مشكلات فكرية مثيرة للاهتمام، مثل تطوير تقنيات التقدير الدقيق لانتشار الفيروس بين السكان بناءً على إحصاءات عبادات رعاية الحوامل، أي التعديل وفقًا للنشاط الجنسي.

ولكن هل يهم فعلاً ما إذا كان الانتشار في فترة الحمل يصل إلى 19.5% أم 23.4%؟ فالاختلاف لن يؤدي إلى فارق جوهري فيما يتعلق بما ينبغي أن نقوم به إزاء ذلك.

ومع ذلك تبقى حقيقة أن سلسلة من الملصقات حول كيفية إدارة برنامج تعليمي للنساء القرويات في غانا/ لاوس/ المكسيك/ تونجالا يرتبط، في واقع الأمر، بالاهتمامات الفكرية للباحثين الاجتماعيين. إن هذا الانقسام (بين ما يثير الاهتمام والإغراء الفكري وما يؤدي إلى تغيير العالم بالفعل) قد أكده المتحدثون في الجلسات العامة الذين قالوا، فيما يتعلق بالوقاية: “نحن نعرف ماذا نفعل. والآن علينا أن نفعله“. هذه مشكلة تتعلق بالسياسات وليست بعلم الأوبئة أو بعلم السلوكيات (على الأقل بقدر ما يتعلق الأمر بدراسة سلوك الأفراد الأكثر تعرضًا للخطر). ويعني ذلك: محاربة العنصرية، والتمييز بين الجنسين، والإفراط في الاحتشام والاستعلاء والتوحش الطبقي والدين، والمصالح الإقليمية، واللامبالاة القاسية، وعدم الكفاءة المؤسسية، والنزعات الدموية المحضة. لقد كنت أتمنى فحسب أن يتوفر قدر كافٍ من حوارات الأروق والجلسات المخصصة للمنابر المجتمعية ليتحاور فيها المنخرطون في مراحل مختلفة من النضال ضد هذه المشكلات بما يساعدهم على شق طريقهم. ولكن تصميم المؤتمر كان يميل إلى التأكيد على حل المشكلات التقنية وليس السياسية.

ومن حيث الأساس، لم يضم مؤتمر الإيدز إلا القدر القليل حول النشاط الجنسي، رغم أنني بحثت عن ذلك بعناية. وفي واقع الأمر، قد يكون مؤتمر الإيدز مؤتمرًا نموذجيًا لعلماء الفيروسات في مجال فيروس نقص المناعة البشرية، ولكنه ليس كذلك بالنسبة للباحثين الاجتماعيين (بمن فيهم الباحثين في مجال الجنس). كان مفهوم العلممحدودًا بنطاق ضيق، بحيث ضاع تمامًا نوع البحث الاجتماعي في مجال الشئون الجنسية الذي نقوم به أنا وزملائي. (وضعت جلسات الملصقات المتعلقة بالعلوم الاجتماعية والسلوكية بطبيعة الحال في قاعة بعيدة في الدور العلوي، بحيث لم يكن وجودها معروفًا لأغلب الوفود).

لم يعبر المؤتمر الفجوات بل تركنا متأرجحين مرة أخرى فوق فجوات تعذر عبورها: الفجوة بين البلدان الغنية والفقيرة، الفجوة بين العلماء والاجتماعيين والفجوة بين الباحثين والنشطاء، والفجوة بين شركات الأدوية والعاملين في مجال الوقاية، وبالطبع الفجوة بين العلم والجنس.

 

1 – راجع بهذا الصدد:

Dixon- Muller, R, 1993. The sexuality connection in reproductive health. Studies in Family Plan – ning, 24 (5): 269.82

٢ أي تهتم فقط بينما يمكن التحقق منه تجريبيًا، وتنظر إلى كافة الاهتمامات الأخرى الأخلاقية، والدينية، والسياسية، والأدبية، والرمزية باعتبارها أمورًا ميتافيزيقية، وبالتالي ليس لها معنى.

3 – البنيوية الاجتماعية هي فكرة تطرح أن كل شيء وثيق الصلة بحياتنا وهام بالنسبة لها ينبني من خلال التفاعل الاجتماعي، بما في ذلك حتى الأفكار. نحن لا نطلق أسماء على الأشياء التي نراها لمجرد أن أشعة الضوء تسقط على شبكية العين: نحن نحتاج إلى تصنيفات تصورية نحدد داخلها ما نراه، وهذه التصورات يتم تعلمها اجتماعيًا، فالكلمات، على سبيل المثال، تعني ما تعنيه لنا نظرًا لكيفية استخدامها، ومن ثم تتغير معانيها دائمًا وفقًا لمن يستخدمها وفيما يستخدمها. وعلى الرغم من وجود اتفاق عام بشأن كفاية الوقت اللازم لتحقيق الاتصالات، فلن يصبح المعنى مثاليًا، وسوف بناضل الناس على الدوام لتغيير المعاني بحيث يحصلون على ما يريدون (مثال: من يرغبون في التخلص من حمل مبكر، ومن يرغبون في إيقافهم عن قتل طفل برى لم يولد بعد“). راجع بهذا الصدد:

Richters J, 1997. Doing HIV/AIDS Social Research: travelling in two cultures (editorial ( Venereology, 10: 214 – 16.

4 – راجع بهذا الصدد:

Richters J.Bergin S, Lubowitz Set al, 1998, Women In contact with the gay and lesbian community. Sydney Women and Sexual Health Survey 1996 and 1998. Abstract 23492.12the World AIDS Con- Berence, Geneva. Conference record.

 

شارك:

اصدارات متعلقة

اغتصاب وقتل طفلة رضيعة سودانية في مصر
نحو وعي نسوي : أربع سنوات من التنظيم والتعليم السياسي النسوي
شهادة 13
شهادة 12
شهادة 11
شهادة 10
شهادة 9
شهادة 8
شهادة 7
شهادة 6