مقدمة
واجهت النساء عبر تاريخ طويل من الإسكات والتهديد نفيًا تامًا خارج المجال العام. فطالما كان هذا المجال أكثر حصرية وقاصرًا على أصحاب مكانة بعينها أو أصحاب مجال عمل بعينه. كان استبعاد النساء من أن تكون لهن هذه المكانة أو أن يتاح لهن دخول مجال العمل هذا كفيلًا باستبعاد إمكانية أي مشاركة لهن في المجال العام. وكما فتحت الإنترنت المجال العام لكل من يمكنه الوصول إليها، بما في ذلك الرجال الذين لم تكن مكانتهم أو مجالات عملهم تتيح لهم في السابق النفاذ إلى المجال العام، فقد أتاحت للنساء أن ينفذن إلى المجال العام.
فتح الفضاء السيبراني ساحة جديدة للصراع حول الحق في المساواة التامة بين النساء والرجال. هذه الساحة هي من جانب أكثر اتساعًا لأنها متاحة لكل من يملك إمكانية الوصول إلى الإنترنت، وهي أكثر تغلغلًا في طبقات وفئات المجتمع، لأنها ليست قاصرة على أصحاب مكانة أو مهنة بل مفتوحة للجميع من كافة الطبقات والفئات (مع ملاحظة أن الحواجز المادية لا زالت تستبعد الشرائح الأكثر فقرًا منها). على جانب آخر، هذه الساحة لنفس الأسباب (الاتساع والتغلغل المجتمعي) قد رفعت من حدة الصراع وشراسته.
في هذه الورقة سنتناول السؤال “لماذا أخفق الفضاء السيبراني في أن يكون مختلفًا عن الفضاء الاجتماعي الأوسع فيكون أقل عدائية للنساء؟”. وما ستحاول الورقة إيضاحه، بالاعتماد على عديد من المصادر، هو أن ذكورية الفضاء السيبراني ليست مجرد انعكاس بسيط لذكورية المجتمع. كما أنها ليست مجرد بقايا من عهد محافظ في سبيله إلى الاختفاء مع الوقت. فقبل أي شيء الذكورية هي بنية اجتماعية ذات دور أساسي في الحفاظ على التراتبية القائمة في المجتمع، وأدواتها مثل الخطاب الكاره للنساء هي أسلحة ضرورية للدفاع عن بقاء الوضع القائم، مع ما يتيحه من مزايا ويحققه من مصالح لفئات مهيمنة في المجتمع. فأولًا، يتيح الفضاء السيبراني للذكورية أن تتضخم، ويتيح أدوات أكثر فعالية للتعبير عن كراهية النساء بشكل جماعي. وثانيًا وهو الأهم، ذكورية المجتمع متضمنة في البنى التحتية للفضاء السيبراني، حيث انعكست فيه الثقافة الذكورية لرواده الذين وضعوا بروتوكولات الإنترنت وأكواد تطبيقاتها، وفي بنية العمل الرأسمالي الذي يرسم سياسات الشركات المسيطرة على المساحة الأكبر من الفضاء السيبراني، وفي خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي وغيرها من التطبيقات التي تشكل معظم الخبرة اليومية لمواطنى الفضاء السيبراني.
كما هو الحال في أي فضاء عام (الشارع، أماكن العمل، المؤسسات العامة، المنظمات بأنواعها)، لا يزال الرجال هم الأكثر عددا، الأكثر مشاركة، وفي المحصلة الأعلى صوتا في الفضاء السيبراني. لا زالت التقاليد المتوارثة والخجل المفروض على النساء، والخوف من التهديد المستمر بعار الفضيحة وتبعاته، تحول بين النساء وبين التواجد بأعداد أكبر، المشاركة أكثر، وأن يكون صوتهن أعلى. تلك إحدى صور الانعكاس المباشر للثقافة الذكورية السائدة في المجتمع في الفضاء السيبراني.
لا يكتسب الناس شخصيات جديدة بمجرد دخولهم إلى الفضاء السيبراني، وإنما يأتون إليه محملين بذات الأفكار والمعتقدات والسلوكيات التي يؤمنون بها ويمارسونها بصفة يومية في العالم الحقيقي. في مجتمع ذكوري، وهو حال جميع المجتمعات الحالية حول العالم بدرجات متفاوتة، ما يغلب على معتقدات الناس وسلوكياتهم هو تلك الذكورية، مع ما يصحبها من ممارسات تنطوي على الخط من قدر النساء، والعمل على قمع أصواتهن، مع استخدام درجات مختلفة من العنف.
تتيح دراسة أجرتها جريدة الجارديان نافذة دالة على مدى توسع الخطاب الكاره للنساء على الإنترنت وطريقة استخدامه. أجريت هذه الدراسة في عام 2016 واعتمدت على البيانات المتوفرة لموقع الجريدة لتعليقات القراء على المواد المختلفة التي ينشرها الموقع. استخدمت الدراسة بيانات التعليقات في فترة العشر سنوات من 2006 وحتى 2016، وبلغ عدد هذه التعليقات حوالي 70 مليون تعليق. من بين هذا الكم الهائل، قام مراقبو الموقع بحجب 2% من التعليقات، أي 1.4 مليون تعليق نظرا لمخالفتها لقواعد النشر على الموقع.
ويقول محررو تقرير الجارديان حول الدراسة، أن كثيرا مما يرد في تعليقات القراء يتراوح بين الخشونة، والعنصرية، أو يمكن الحكم عليه بأنه ببساطة “شرير”. ويؤكدون أن هذا هو حال كل مواقع الأخبار، وقد تسبب تصاعد ظاهرة التعليقات المسيئة في أن تقوم بعض المواقع بغلق قسم التعليقات بها تماما، فما يتلقاه الكتاب والصحفيون وكذلك المعلقون الآخرون من إساءات هو حسب قول محرري الجارديان “لا يمكن تخيل قوله وجها لوجه.” وتلك واحدة من سمات التواصل عبر الإنترنت، أي غياب المواجهة المادية مما يعطي شعورا بإمكانية الإفلات بسلوكيات قد لا يقدم عليها نفس الناس في العالم الحقيقي.
بالنسبة لنتائج الدراسة، فمن بين من يكتبون لموقع الجريدة بصفة دورية كان العشرة كتاب الذين تلقوا أكبر قدر من التعليقات المسيئة مقارنة بزملائهم هم ثمانية نساء ورجلين أسودين. هذا على الرغم من أن غالبية كتاب الرأي على موقع الجارديان هم من الرجال ذوي البشرة البيضاء. ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد. فاثنتين من النساء الثمانية وأحد الرجلين مثليون. وإحدى النساء مسلمة والأخرى يهودية. وفي المقابل كان جميع الكتاب العشرة الذين تلقوا أقل عدد من التعليقات المسيئة رجالا ذوي بشرة بيضاء.
هذه الدراسة دون أي ترتيب مسبق قدمت قياسا صادما في مدى انطباقه على تصوراتنا الأسوأ حول حجم وتوزيع الانحيازات والتمييز القائمين على اعتبارات النوع/الجندر، والتوجه الجنسي، والعرق، والدين، وتثبت نتائجها دون أن تدع مجالا للشك أن الذكورية والعداء للنساء يأتيان في مقدمة صور التمييز المتفشية في الفضاء السيبراني، وفي نفس الوقت تتركز ممارسات كراهية النساء بصفة خاصة على هؤلاء الذين تقع هوايتهن عند تقاطع أكثر من هوية لأقليات مهمشة اجتماعيا، فأن تكون امرأة مثلية أو امرأة مسلمة، أو امرأة يهودية، إلخ يجعلك عرضة لقدر أكبر من الإساءة.
هذا التوزيع للتعليقات المسيئة بالغ الدلالة وهو يؤكد بشكل إحصائي ما يمكن لأي متابع مهتم بشؤون المساواة الجندرية والعرقية أن يلاحظه، سواء من خلال تعليقات القراء على المواقع الصحفية، أو بشكل أوسع وأكبر من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وتويتر ومؤخرا تيك توك وكلوب هاوس. النساء بشكل واضح، وبلا أدنى شك، هن الهدف الأكبر وبفارق هائل للتعليقات المسيئة على منشوراتهن أو مداخلاتهن، وكذلك في الردود على تعليقاتهن على منشورات الآخرين، ويصل صدى ذلك بمعدل كبير إلى صندوق الرسائل الخاصة أيضا.
فيما يتعلق بالصياغات الشائعة يقدم تقرير الجارديات نماذج ممثلة مثيرة للاهتمام. من بين هذه الأمثلة للتعليقات المسيئة التي أوردها تقرير الجارديان، تعليق على تقرير كتبته صحفية حول مظاهرة خارج أبواب عيادة للإجهاض، وكان تعليق أحد القراء هو “أنت قبيحة للغاية حتى أنك لو كنت حبلى لقدتك بنفسي إلى عيادة الإجهاض.” في مثال آخر كتبت بريطانية مسلمة عن تجاربها مع الإسلاموفوبيا، فقرر أحد المعلقين أن ينصحها قائلا “لتتزوجي أحد مقاتلي داعش، ثم أنظري كيف سيعجبك ذلك.” في مثال ثالث اتهم مراسل أسود بأنه “عنصري يكره ذوي البشرة البيضاء،” وذلك لمجرد أنه أورد خبرا عن أمريكي أسود تعرض لإطلاق النار من قبل الشرطة.
هذا النوع من التعليقات التي يمكن لأي متابع على مواقع التواصل الاجتماعي أن يتعرف فورا عليها، حيث أنها تتكرر دائما بصيغ مختلفة، له دلالات عدة. يميل الخطاب العدائي تجاه النساء إلى مهاجمة مظهرهن، ومدى أنوثتهن، ومدى رغبة الرجال فيهن. عبارات من قبيل “أنت سمينة للغاية”، “أنت قبيحة جدا”، “أنت كثيفة الشعر كأنك قرد” إلخ هى الأكثر استخداما في هذا السياق. وهي تنطوي أولا على إهانة ضمنية تتمثل في عدم الالتفات بأي شكل ذو معنى لمحتوى ما كتبته المرأة سواء كان مقالا، تقريرا، أو تعليقا. والفكرة أن ما تكتبه امرأة هو بالضرورة لا يستحق الالتفات إليه، ولا حتى توجيه الإهانة بناء عليه بشكل مباشر، وإنما ما يلتفت إليه أولا وأخيرا هو جسدها، وما يهم بخصوص هذا الجسد هو قدر قبول الرجال له، ومدى إثارته لهم. وهذه من بين الصور السائدة للخطاب المعادي للنساء في المجتمع بصفة عامة، والتي سنعود إليها لاحقا.
من بين أنواع التعليقات المسيئة التي حجبها مراقبو موقع الجارديان أيضا، التعليقات التي تعمد إلى التقليل من شأن من توجه إليه من خلال نوع من التعالي ونزع الاعتبار. من أمثلة تلك التعليقات “هدئي من روعك عزيزتي.” يقوم مثل هذا التعليق القصير والبسيط ظاهريا باستدعاء حزمة معروفة من الصفات التي دأب المجتمع على إلصاقها بالنساء، وهي أولا الطفولية، التي تستدعي استخدام لغة بسيطة ومباشرة وفيها قدر من التدليل “عزيزتي”. وثانيا تغلب مشاعرهن على عقولهن، وهو ما يستدعي السعي إلى تهدئتهن، مع الانصراف بشكل تام عما يقلنه لأنه في النهاية بالضرورة ليس عقلانيا أو منطقيا وإنما هو نوع من الهستيريا.
في تقدمتها لكتاب “الكراهية الجندرية على الإنترنت: فهم العداء الجديد للنسوية،” تعترف ثريا شمالي مبدئيا بحقيقة أن النساء بتمكنهن من الدخول إلى عالم الوب قد أتيحت لهن فرص لا مثيل سابق لها للتعبير عن أنفسهن وللاشتباك في الفضاء العام. (p. vii) ولكن هذه المزايا التي يتيحها الفضاء السيبراني هي ذاتها سبب مباشر لتضخم ونمو ظواهر الذكورية والعداء للنساء عليه. على مستو بسيط يستفز دخول النساء إلى أي فضاء عام في حد ذاته شعورا لدى الرجال بتعرضهم للمزاحمة في مجال هو تقليديا خاص بهم. لم يكن استبعاد النساء من الفضاء العام في أي يوم من الأيام مجرد مصادفة، وهو لذلك يدخل مع عدة ظواهر ذكورية أخرى في التكوين النفسي للرجال الخاص بحدود هويتهم كرجال. ينشأ الذكور على تضمين ضرورة الدفاع عن هويتهم الجماعية كرجال في مواجهة أي تطفل أو تطاول أو غزو للنساء لهذه الحدود. هذا في الواقع جزء ضروري من تكامل هوية الرجل، بحيث أن تهديده بأي شكل يستفز رد فعل عدائي فوري. وعدم تمكن الرجال لأي سبب من إبداء رد الفعل المباشر هذا يولد لديهم شعورا بالاضطهاد يتطور إلى حقد وكراهية عميقين لنماذج بعينها من النساء اللاتي يبدو أنهن أبعد من أن تطولهن ردود الأفعال العدائية للرجال عندما يتخطين الحدود الواجب عليهن الالتزام بها.
أحد الفرص التي يتيحها الفضاء السيبراني هو تغييب بعض من المحددات التي تعيق تمكن الرجال من إبداء رد فعل عدائي مباشر لما يعتبرونه خروجا للنساء عن حدود مكانتهن الاجتماعية ومن ثم تعديا على حدود هوية الرجال. فعلى سبيل المثال تختفي في الفضاء السيبراني الفوارق الطبقية والثقافية إلى حد كبير، مما يسمح للرجال أن يوجهوا ردود أفعال عدائية مباشرة وصريحة إلى نساء لم يكن بمقدورهم أن يتطاولوا عليهن في العالم الحقيقي بسبب الفوارق الطبقية والثقافية.
فرصة أخرى يتيحها الفضاء السيبراني هو شعور الأمان والقوة والثقة الذي يمنحه الانتماء إلى جماعة قادرة على تقديم الدعم والمساندة في مواقف الصراع. يمكن تسمية هذه الظاهرة بدعم القطيع، ويتيح الفضاء السيبراني فرصا للانتماء لمجموعات مترابطة بقدر أو بآخر دون اعتبارات المعرفة المسبقة أو القرب الجغرافي أو حتى الحدود السياسية. وكمثال تحدثنا ثريا شمالي في تقدمتها السابق الإشارة إليها عن إمكانية أن تجد كاتبة باكستانية نفسها عرضة للهجوم ليس فقط من جماعات الرجال المحافظين في بلدها ولكن من جماعات يعيش أغلب أفرادها في شمال أمريكا. ينبغي بالطبع الإشارة إلى أن دعم القطيع متاح أيضا للنساء والنسويات بصفة خاصة. وهذا بالطبع يسمح بتصعيد حدة الصراع حول حقوق النساء في الفضاء السيبراني مقارنة بالعالم الحقيقي.
ميزة ثالثة يتيحها الفضاء السيبراني هي المجهولية النسبية، فحتى إذا ما استخدم أحدهم اسمه الحقيقي على وسائل التواصل الاجتماعي فهو يظل مجهولا بالنسبة لكل من لا تجمعهم به معرفة سابقة، ولكن إضافة إلى ذلك ثمة دائما فرصة استخدام أسماء وهمية والتخفي ورائها. في المحصلة يمنح الفضاء السيبراني شعورا بالحصانة ضد عواقب ما يقدم عليه الأفراد، وهو ما ليس متاحا في العالم الواقعي إلا في حدود ضيقة. ويستعيد ذلك إلى أذهاننا ملاحظة محرري الجارديان حول إقدام القراء في تعليقاتهم على توجيه إهانات إلى الآخرين لم يكونوا ليوجهوها إليهم وجها لوجه في العالم الحقيقي.
اجتماع هذه العوامل المساعدة على الشعور بقدر من الحرية في توجيه أي قدر من الإساءة والتهديد باستخدام العنف دون عواقب، مع تزايد الاستفزاز نتيجة تواجد النساء وظهورهن في الفضاء السيبراني بوصفه فضاءً عامًا، هو من بين أسباب أن ظواهر الذكورية وخطاب الكراهية ضد النساء يتم تضخيمها في الفضاء السيبراني مقارنة بما هي عليه (أو بالأحرى ما كانت عليه) في فضاءات عامة أخرى، مثل مجالات الصحافة والإعلام والإنتاج الفني. وفي الواقع من الملاحظ أن نمو وتطور الإنترنت لتتحول إلى الوسيط الشامل لشتى صور التعبير، بحيث أصبحت هي النافذة الأساسية للعمل الصحفي والإعلامي والفني أيضا، أدى بشكل تدريجي إلى أن تكتسب هذه المجالات بدورها مساحة حرية أكبر في التعبير عن الذكورية وإفساح المجال لخطاب كراهية النساء، وهو ما يبدو واضحا في كثير من الأعمال التي يتم نشرها من خلال الإنترنت بالأساس.
إبقاء النساء في موقعهن من تقسيم العمل الاجتماعي، أي أن يؤدين دورهن في إعادة الإنتاج الاجتماعي للرأسمالية، هو الدافع الحقيقي وراء استمرار الذكورية السائدة في المجتمع، وتطورها وتضمينها في كل ما يطرأ على المجتمع من تغييرات. بل وفي أحيان كثيرة، هو أداة ضرورية لجعل هذه التغييرات ممكنة.
في فصل بعنوان “العداء للنساء على الإنترنت كتصيد للساحرات: التراكم الابتدائي في عصر الرأسمالية التكنولوجية”، كتبته يوجينيا سيابيرا في كتاب الكراهية الجندرية على الإنترنت: فهم العداء الجديد للنسوية الذي سبقت الإشارة إليه، تحاول الباحثة إثبات أن “الوظيفة السياسية [لخطاب العداء للنساء] هي الإقصاء المستمر للنساء من الوصول إلى وسائل الإنتاج والسيطرة عليه ومن المشاركة الاجتماعية–الاقتصادية الكاملة في التشكيل الجديد الناشئ” الذي تسميه سيابيرا “الرأسمالية التكنولوجية”.
لفهم هذه الحجة التي تحاول سيابيرا اثباتها نحتاج إلى العودة إلى فهم تاريخي أعم للرأسمالية، وهو أن وجودها بطبيعته قائم على ضرورة استبعاد فئات اجتماعية مختلفة من امتلاك أدوات الإنتاج حتى يمكن تركيز ملكية هذه الأدوات في أيدي الطبقة البرجوازية ومراكمة رأس المال الكافي لضمان النمو المستمر للرأسمالية. وحيث أن النمو المستمر شرط لبقاء الرأسمالية، فهذا التراكم ضروري لاستمرارها. في تصور ماركس، كان ثمة نوع بدائي من التراكم الرأسمالي يتمثل تحديدا في نزع أدوات الإنتاج من أيدي المزارعين بطردهم من أراضيهم مع تغيير العلاقات الإقطاعية القديمة، ومن ثم دفعهم قسرا إلى التماس مصادر الدخل في المدن حيث تنشأء الصناعة فيتحولون إلى بروليتاريا، أي عمال مأجورين.
جادل باحثون كثيرون أن عملية التراكم البدائي ليست قاصرة على فجر نشأة الرأسمالية بل هي مستمرة باستمرارها، بل وفي رأي البعض هي ضرورية لاستمرارها. تمثل النساء بصفة خاصة الفئة الأكثر أهمية (أولا لأنها الأكبر عددا)، التي يتم بصفة مستمرة استبعادها من امتلاك أدوات الإنتاج، ولكن غياب النساء عن كثير من التحليلات الماركسية القديمة كان عائدا إلى أن غالبية النساء لا يتحولن إلى عاملات صناعيات بل يتم استبقاؤهن في بيوت الزوجية حيث يقمن بعمل غير مأجور هو ضروري لاستمرار نمط الإنتاج الرأسمالي. فالنساء ربات المنازل يقدم لأزواجهن وذكور أسرهن خدمات دون مقابل ضرورية لتجديد طاقة العمل لديهم. هذا الدور هو ما يعرف عامة بإعادة الإنتاج الاجتماعي.
إبقاء غالبية النساء في إطار الدور المنوط بهن حتى وإن خرجن إلى العمل، بمعنى أنه يظل دور إعادة الإنتاج الاجتماعي مفروضا عليهن في جميع الأحوال هو ركن أساسي لاستمرار الرأسمالية لأنه ضروري للحفاظ على الأجور في أدنى حد ممكن. يتفاعل هذا الهدف مع الذكورية الاجتماعية السائدة والتي تقوم بدورها على مبدأ اقتصادي قديم ومستمر وهو النظر إلى المرأة في حد ذاتها كأداة إنتاج من خلال دورها البيولوجي في التكاثر، وهو بالمنطق الاقتصادي إنتاج مزيد من الأيدي العاملة.
ينتج الهدف العام للمجتمع وهو استبقاء النساء في حدود مكانتهن الاجتماعية التي تتيح استغلالهن كأدوات إنتاج بيولوجي وإعادة إنتاج اجتماعي–اقتصادي، عديدا من الظواهر في الفضاء السيبراني، منها أنه إذا لم يكن بالإمكان إقصاء النساء بشكل كامل من هذا الفضاء فينبغي إبقاؤهن في مساحات محدودة منه تتفق مع التصورات الاجتماعية السائدة لهوية المرأة. فلا أحد يزعحه وجود النساء بكثرة على صفحات الموضة في الملابس والعطور والإكسسوارات ومستحضرات التجميل، كما أن لا أحد يلتفت إلى أن تكون إمرأة ذات تأثير بفعل عدد متابعيها إن كان ما تنتجه من محتوى متعلق فقط بما يعتبر اهتمامات نسائية تقليدية، مثل الحفاظ على الشباب والنضارة وعلى محبة الزوج، والتربية الصالحة للأبناء إلخ.
المزعج دائما وما لا يمكن للرجال تحمله بطريقة شبه غريزيه لأنها متضمنة في هويتهم هو تخطي النساء لحدودهن بالتدخل في القضايا العامة، والأسوأ بالطبع هو أن تتعلق هذه القضايا بالمساواة الجندرية. الأمور في الواقع أكثر تعقيدا، ولذا فعلى مستو آخر أقرب إلى تهديد النساء بامتلاك أدوات إنتاج جديدة تتيحها رأسمالية التكنولوجيا، التواجد ذو القيمة على وسائل التواصل الاجتماعي الذي يمكن أن يتحول إلى مصدر للدخل هو أحد أكثر الظواهر إثارة للقلق واستفزازا لشعور الرجال بتهديد مكانتهم وهويتهم. وعلى مستو مختلف يقابل دخول النساء إلى مجالات التكنولوجيا والبرمجيات بعداء شديد، وهن يتعرضن لأكبر قدر من التنمر في المنتديات الخاصة بهذه المجالات. مرة أخرى يتعلق ذلك بامتلاك أدوات إنتاج ذات قيمة في الاقتصاد الرأسمالي في نسخته التكنولوجية الجديدة.
يميل أغلب الباحثين والمدافعين عن حقوق الإنسان إلى الاهتمام بالعنف السيبراني ضد النساء مع حصره في كونه يتعلق بالاستهداف المباشر لامرأة ما في كل مرة، ومن ثم يغيب عن أغلب التحليلات البحثية وكذلك عن الأدبيات الحقوقية النظر إلى الخطاب الذكوري المعادي للنساء في مجمله كخطاب كراهية. ينعكس ذلك أيضا في القوانين والممارسات القضائية التي يفترض أنها موجهة لمكافحة خطاب الكراهية، ففي حين تصل قضايا عديدة في الغرب إلى منصات القضاء تدور حول خطاب الكراهية على أساس اللون أو العرق أو الديانة إلخ، فليس ثمة أمثلة لقضايا تتعلق بخطاب الكراهية ضد النساء.
بخلاف أن ثمة أذى معنوي ونفسي ناجم عن سيادة خطاب معادٍ للنساء في الفضاء السيبراني، فهذا الخطاب مثله في ذلك مثل خطابات الكراهية الأخرى يسهم بالضرورة في نفي الفئة المستهدفة منه وفي تحجيم مشاركتها، وهو ما يمثل عائقا للتطور الاجتماعي ككل نحو مجتمعات أكثر انفتاحا وديموقراطية.
واحدة من أسباب عدم قدرة الكثيرين على تبين حقيقة أن الخطاب المعادي للنساء هو خطاب كراهية أن أغلب هذا الخطاب يعيد إنتاج كليشيهات محافظة معتادة إلى حد أن كثيرن لا يلاحظون فيها عداءً للنساء في الأصل. الخطاب السائد حول الأمومة وقدسيتها على سبيل المثال يبدو بريئا للغاية، ولكنه في الحقيقة يمثل خطاب كراهية من حيث أنه يحصر النساء في دورهن البيولوجي والاجتماعي المرسوم لهن رغم إرادتهن. وبالنسبة للغالبية العظمى من النساء يخاطب هذا الخطاب داخلهن مركب شعور دائم بالذنب، وعدم كفاية ما يقمن به في رعاية أبنائهن والبعد الدائم عن نموذج الأمومة المثالي.
خطابات أخرى واضحة في عدائيتها لفئات بعينها من النساء تظل مع ذلك بمنأى عن تهمة خطاب الكراهية لأنها تعيد إنتاج بنى أخلاقية سائدة في المجتمع تمثل تابوهات لا يجرؤ كثيرون على المساس بها. خطاب التمجيد للعفة والحشمة والسلوكيات المقبولة اجتماعيا هو في مجمله تعدٍ على الحرية الشخصية سواء فيما يتعلق بالجنسانية وممارساتها والتعبير عنها، أو المظهر أو السلوك. هذه جميعها صور هي بالأساس خطاب كراهية لا يتوقف أذاه بأي حال على الأذى المعنوي مع أهميته بل يولد تهديدات ضمنية لكل من تخرج عن النموذج الاجتماعي المقبول الذي يراد لجميع النساء أن يحبسن أنفسهن داخله.
في هذه الورقة حاولت في عجالة التعرض لطبيعة الذكورية السيبرانية والخطاب الكاره للنساء على الإنترنت. بصفة خاصة استهدفت هذه الورقة أولا تكرار إثبات حقيقة أن الفضاء السيبراني ذكوري وكاره للنساء، ليس فقط بقدر يعكس حجم هذه الظواهر في المجتمع وإنما لأسباب عدة بقدر أكثر تضخما وظهورا.
حاولت أيضا الإشارة إلى أن ذكورية الفضاء السيبراني وسيادة الخطاب المعادي والكاره للنساء فيه تقومان على أساس مادي اقتصادي–اجتماعي يتمثل في حاجة الرأسمالية في طورها الجديد، أي الرأسمالية التكنولوجية، إلى تمديد الاستبعاد السائد في أطوارها السابقة للنساء من ملكية أدوات الإنتاج بوصفه أحد الأركان الضرورية لاستمرار الرأسمالية.
أخيرا أشرت إلى إخفاق كثير من جهود مكافحة خطاب الكراهية في ملاحظة أن الخطاب المعادي للنساء، بما في ذلك ما يتخفى منه في صورة كليشيهات اجتماعية متوارئة هو في حقيقته خطاب كراهية ينبغي مواجهته مثله في ذلك مثل جميع صور خطاب الكراهية على أساس العرق أو الدين أو اللون إلخ.
أخيرا، محاولة تحجيم الخطاب المعادي للنساء في صوره الأكثر بروزا والتي تشكل العنف اللفظي المباشر تجاه نساء بعينهن، ستظل غير قادرة على تحقيق الهدف منها طالما لم تتخذ الجهات المعنية (إدارات الشركات المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي، وماكينات البحث وغيرها)، خطوات مبنية على فهم أوسع للظاهرة وجذورها الاجتماعية. هذا مع الاعتراف بأن ذلك يعد أملا بعيدا نظرا لارتباط مصالح هذه الشركات بالبنية الرأسمالية للفضاء السيبراني كما هو عليه الآن، ومن ثم فالأمل الحقيقي قد يكمن فقط في تحرير الفضاء السيبراني من سيطرة رأس المال واستعادة السيطرة عليه إلى أيدي مواطنيه، أي المستخدمين العاديين لشبكة الإنترت.