العدد الأول-5 مايو– 2020 لوتس
حدوتة مصرية
إطلالة ميدانية بمدونة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أم محمد.. من أين جاءت الخطوة الأولى للعمل فوق الرصيف؟
أصدر المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في العام 2009 مدونته الخاصة للتعريف بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ً معتمدا في منهجيته على كافة المواثيق والمعاهدات الدولية، التي اتجهت منذ بداية القرن العشرين لإقرار تلك الحقوق في مواجهة آثار العولمة والسياسات المالية العالمية ودورها في حرمان جزء كبير من البشر من هذه الحقوق، فخلال السنوات العشر الأخيرة تزايدت البطالة العالمية لتصبح أكثر من 41 مليون شخصا، أما الفقر المزمن فحصد حتى الآن ما يقارب الـ 300 مليون وأكثر من مليار شخص يسكنون بمناطق غير كريمة؛ ولذا أصبح تفعيل تلك الحقوق عبر نشر الوعي، وخوض المعارك، والتعريف بها نهج وفلسفة وضرورة.
-
إنها أسس ومبادئ كثيرًا ما تهدر على جنبات الطرق ومعها يفقد ملايين العشرات من حقوقهم دون دراية، دون إرادة، دون دليل.
-
لذا نتوقف هنا، ومع كل ورقة لوتس لأخذ لمحة مع قصة حياة مصرية وعدد من الحقوق المنسية
في شارع لا يدخله الضي إلا قليل، عاشت(ولاء) طفلة في كنف أسرة تملك غرفتين وحمام مشترك في حوش واسع مع ثلاث أسر أخرى في قلب منطقة عين شمس، الأب كان يعمل في منتصف السبعينات سباكًا داخل شركة حسن علام وراتبه الأساسي قبل الخروج على المعاش 80 جنيهًا. خرجت ولاء مبكرًا من التعليم، واعتادت بعد مساعدة والدتها أن تحمل عدة والدها وتشاركه أعمال السباكة في المناطق المجاورة، فحرمت مبكرًا هي وأسرتها من حقها في التعليم، والسكن الكريم، وغاب عن والدها الأجر العادل.
وتُقر المادة السابعة من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية “تعترف الدول الأطراف في هذا العهد بما لكل شخص من حق في التمتع بشروط عمل عادلة ومرضية تكفل أجرًا منصفًا، ومكافأة متساوية بما يتضمن عيشًا كريمًا له ولأسرته“.
وتقر المادة 13 يحق لكل فرد في التربية والتعليم وضمان الممارسة التامة لهذا الحق يتطلب جعل التعليم الابتدائي إلزاميًا واتاحته مجانًا للجميع، وتعميم التعليم الثانوي بمختلف أنواعه وجعله متاحًا للجميع.
في إحدى الليالي وفي ليلة ممطرة انهارت الغرفتان، وتم نقلهم وباقي الأسرة إلى مساكن الإيواء في منطقة الدويقة ليتكرر المشهد وبشكل أصعب (منطقة الإثنينات) غرف مشتركة مرة أخرى لكنها أكثر ضيقًا والحمام أكثر انكشافًا. فكرت الفتاة قليلًا بهذا الحال الصعب ولم تجد مخرجًا إلا بالزواج بأول من طرق الباب، شاب يكبرها بأربع سنوات هو الآخر بلا تعليم ويعمل على عربة توصيل الدواجن من المزارع للأسواق، بلا تأمينات مالية ولا صحية.
وتقر المادة 11 من العهد بحق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته، يوفر ما يفي بحاجتهم من الغذاء، والكساء، والمأوى وبحقه في تحسين متواصل لظروفه المعيشية.
انتقلت ولاء إلى منطقة العمرانية بالجيزة مع زوجها، عاشوا وانجبوا 5 أولاد، ارتفع دخلهم عبر السنوات من متوسط 50-100 في اليوم الواحد، وكانت مثل كل امرأة مصرية تعتمد على ثقافة التدوير، والتوفير وحسن الاستغلال لكل كبيرة وصغيرة تتعلق بالمأكل والملبس بل والعلاج أيضًا حتى تمر الأيام.
لم تعمل، عاشت لبيتها وأولادها لكن بدأ هذا البيت في الاهتزاز بعد تعرف زوجها على تذاكر الهيروين، قالت “اعتدت في السنوات الأولى معرفته بأخريات، وكنت ابتلع ولا أقول شيئًا رغم الهمز واللمز من الجيران، تعلمت أن الست الشاطرة تسكت وتستحمل وقد فعلت وبعد أن تخطى الأربعين وكبرت بناته توقف عن العلاقات سيئة السمعة، لكن ذهب لما هو أسوأ، وبدأت سلسلة طويلة من الاهانة باللفظ والاعتداء بالضرب عليّ كلما تشاجرت على قلة الدخل“.
ويقول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالمادة 3، 5 “لكل فرد حق في الحياة والحرية، وفي الأمان على شخصه، لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية، أو الحاطة بالكرامة”.
اكتمل الانهيار بعدما رأته تلفيق من أحد ضباط المباحث لزوجها بتهمة إتجار بدلًا من تعاط، قالت: ” اخذوه كبش َ فداء حتى يترق َ الضابط، ويبق التاجر الشهير المسيطر على المنطقة في عمله“، تم الحكم عليه بـسبع سنوات سجن قضى منها حتى الآن ثلاث فقط.
لم يعد هناك مفرا، عليها أن تعمل، فكرت مع ابنتيها، فلم تجد إلا النزول للشارع للبيع أمام المترو، تحكي: ”بالأول كنت أبيع المناديل، أجلس بالشارع طوال اليوم ولا أحصل على مكسب إلا على عشرين جنيه بأقصى حد، إحدى السيدات التي اعتادت جلستي تعاطفت معي وكان لديها محل دواجن وكانت تعرف زوجي من قبل، منحتني ميزانًا، فبدأت الخطوة الثانية أن أنزل للسوق بعد الفجر أشتري بعض الخضروات وأجلس بها وأعرض على السيدات تجهيزها نصف تجهيز”.
داومت أم محمد على عملها دون هوادة وانضمت إلى جيش من سيدات العمل المهمش في مصر، تجلس ما يزيد عن العشر ساعات يوميًا بالشارع من الساعة السابعة صباحًا وحتى الثامنة مساءً، تشتري الخضروات بحوالي 200 جنيه يوميًا، ولا تتحرك من مكانها إلا إذا حصلتها ومعها بعض الربح الذي لا يزيد عن 100 جنيه بأفضل الأحوال وبأحيان أخرى تجمع ال 200 جنيه فقط، تفرط البازلاء، تقطع أوراق الملوخية وتخرطها، وكذلك الفاصوليا، تعد الكوسة، والباذنجان وورق العنب للحشو، تمر السيدات وتطلب ما تريد وتحصل عليه في طريق عودتها من العمل.
ويقول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالبند 21،22 “لكل شخص بوصفه عضوًا في المجتمع حق في الضمان الاجتماعي ومن حقه أن يتوفر له ذلك من خلال المجهود القومي والتعاون الدولي وبما يتفق مع هيكل كل دولة ومواردها، ولكل شخص حق في العمل الكريم والحماية من البطالة“.
ترفض (أم محمد) أن تترك ابنتها المخطوبة للعمل معها، تقول: “لا أريد لها بهدلة الشوارع“، وتحزن على أبنها الصغير الذي يرفض الذهاب للمدرسة،يأتي خلال جلستنا ليحصل على جنيهين للذهاب لمقهى الانترنت وتسألني ” هل سيوقفون معاش الكرامة لو ثبت تهربه من التعليم؟“، أخبرها أنه احتمال قائم، فتقول: “ كل ما حصلت عليه 465 جنيه بعد دخول زوجي السجن وتم“. تخفيضهم ل 375 جنيه بعد أن أتم ابني اﻷوسط 18 عامًا نأمل أن يتم اﻹفراج عنه بعد منتصف المدة لسوء حالته الصحية، فقد اصابته أصعب اﻷمراض بالسجن (الزهايمر). ندفع إكرامية عشرة جنيهات ﻷمين الشرطة؛ كي يوصله لزنزانته، فينظر لحالها ويقول: “ خليهالك تروحي بيها أنا هوصله“، تذهب لضابط المباحث تطالب بتحويل زوجها لمشفى خارجي والعرض على أخصائي مخ وأعصاب وعمل اﻷشعه اللازمه، فيرد: “ أ،ت فاكراها بسيطة كده أن حد يخرج يتعالج بره السجن!”، تمر اﻷيام وتذهب للزيارات التي تكلفها في المرة الواحدة ما لا يقل عن 200 جنيه، وتعود حزنًا بعدم معرفة زوجها لها وﻷبنائها وشعوره الدائم بالخوف.
وتنص لائحة السجون المصرية المادة 36: “ أن كل مسجون محكوم نهائيًا يتبين لطبيب السجن أنه مصاب بمرض يهدد حياته بالخطر، أو يعجزه عجزًا كُليًا يُعرض أمره على مدير القسم الطبّي للسجون لفحصه بالاشتراك مع الطبيب الشرعي للنظر في اﻹفراج عنه، وينفذ قرار اﻹفراج بعد اعتماده من مدير عام السجون وموافقته النائب العام وتُخطر بذلك جهة اﻹدارة والنيابة المختصة“.
قامت بتجهيز ابنتها اﻷولى عبر التدبير من يومية زوجها، وتقوم بتجهيز ابنتها الثانية من خلال عملها بالشارع، دخلت جمعية ب1000 جنيه لكنها لم تستطع شراء شيء منها لابنتها، فابنها اﻷوسط الذي كان يساعدها بالعمل على التوك توك أصابه والده ليس تذكرة هيريوين، ولكنه هذه المرة نوع أرخص وأخطر تقول (شادو)، خافت عليه من السجن، أخذته إلى مصحة خاصة ودفعت ال 1000 جنيه لكنه خرج بعد ثلاثة شهور، ليعود مرة أخرى للتعاطي، تقول:”طول ما بيشتغل في الشارع على تك تك هيعمل زي باقي الشباب، قليل منهم اللي ربنا هاديه وعقله في رأسه“.
تتمنى أن يتعلم حرفه، لكنه لا يفعل وترى أن هذا هو المخرج الوحيد لتعيد بنائه من جديد بعد أن فشل بالتعليم ما تتعرض له من أحداث عارضه قاصمه للظهر كثيرة، كان أكثرها إثارة لحسرتها هو سرقة ميراثها، تحتاج إلى 300 جنيه لشراء آخر، وهى لا تستطيع تدبيرهم في ظل هذه المصاريف، جلست في البيت أسبوعًا كاملًا تصرف من (الجمعية) إلى أن تبرع لها به أحد الجيران.
ومن سرقة القوت لسرقة الحياة للصحة، ظلت على تجاهلها ﻷوجاع المعدة فترة طويلة إﻷى أن أصبحت لا تستطيع الجلوس أو الوقوف، ذهبت إلى القصر العيني، وحصلت على دور بقائمة أنتظار عمل المنظار وبالنهاية نفذته مقابل 300 جنيه، أما العلاج فلم تحصل من صيدلية المستشفى إلا على القليل منه والتكلفة المتبقية لا تقل عن 100 جنيه أسبوعيًا: لعلاج اﻷنيميا وقرح المعدة، استمرت على العلاج لمدة شهر، ثم توقفت لشعورها ببعض التحسن وعدم القدرة على إنفاق المزيد، عادت للعمل مرة أخرى ولم تفكر في زيارة الطبيب.
ترى أن السرقة هي التجربة اﻷصعب عليها من تجربة المرض.
وينص العهد الدوليّ للحقوق الاقتصادية والاجتماعية المادة 9: “ تقر الدول اﻷطراف في هذا العهد بحق كل إنسان في التمتع بأ`لى مستوى من الصحة الجسمنية، والعقلية على أ، تتخذ الدولة التدابير اللازمة لتأمين الممارسة الكاملة لهذا الحق“.
ما زالت تُحاول وتُعافر، ولا تعرف إﻷى أين تأخذها اﻷيام، وحين حدثتها عن حقوقها المسلوبة، قالت:” أعرف بعض مما قلتيه والبعض اﻷخر لا أعرفه، ولكن لا يهم فأنا لا أعرف كيف أدافع عن حقي في أي منها، ونسأل الخالق الرحمة والوفيق“.