الفصل الثالث: موقف الفقه الإسلامي من عمل المرأة بالقضاء

التصنيفات: غير مصنف

موقف الفقه الإسلامي

من عمل المرأة بالقضاء

إن الهيئة الاجتماعية لا يتماسك قوامها إذا تركت نهبا لكل قوى ظالم أو متعد غاشم لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهَّالهم سادوا لذا كان تنصيب قضاة يهرع الناس إلى كنفهم يحتمون بهم من صولة ظالميهم أكبر سبيل لامتداد العمران والتدرج في مراقي التقدم والكمال، وكان الإحساس بضياع الحقوق في غياب الوساطة والمحسوبية، أو تباطؤ الوصول إليها من أكبر عوامل انهيار الأمم وبوارها؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القوي وهو غير متعتع” ( ) لأجل ذلك كانت الكتابة في موضوع القضاء من أخطر وأهم مجالات البحث العلمي؛ وذلك لأنه يعايش الناس في همومهم اليومية وكذلك في شئونهم المصيرية، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم وأمهاتهم، تجد معهم قضايا كانت مطمورة تحت أكداس من قضايا أخرى أهم لدى من سبقهم، ومن القضايا التي تمخض عنها زماننا المثقل بالأحداث قضية: تسلم المرأة منصة القضاء، والبحث في هذا الموضوع قديم جديد، هو قديم لأننا إذا ما قلبنا صحائف القدامى من فقهائنا سنجد لهم حديثا تشعب بهم في هذا الشأن وتركهم على ثلاث شعب، رأي منع، ورأي أجاز على إطلاق، ورأي أجاز على قيد. وهو جديد لأن العصر الذي نحياه هو عصرٌ بحث فيه كلُّ المهمشين عن حقوقهم الضائعة، وعن مكان لهم تحت الشمس، والمرأة في مسيرتها الدوارة مع الزمن وقع عليها قدر لا يستهان به من الغبن، أسهم الرجل في هذا الظلم بنصيب ليس باليسير، عطل به ملكات الأنثى وخلفها وراءه دامغا لها بكل نقيصة وعيب، وفي غمرة حماسته الهجائية نسي أنه يهجو غرس يمناه. المرأة والقضاء في الإسلام هو موضوع هذا الفصل وسنتناوله على ثلاث مباحث وخاتمة: المبحث الأول: يتحدث في عجالة عن تعريف القضاء والأصل فيه وحكمه وخطره وشروط من يتولاه عند المذاهب الفقهية. المبحث الثاني: آراء القدماء حول اشتراط كون القاضي ذكرًا. المبحث الثالث: اجتهادات لبعض المعاصرين. الخاتمة: وفيها يقدم الباحث رؤيته حول هذا الموضوع

1 – تعريف القضاء:

في اللغة: هو الحكم” ( ). “وكلُّ ما أُحكم عمله أو أُتم أو خُتم أو أدي أداء أو أوجب أو أعلم أو أنْفِذ أو أمْضِي فقد قُضي” ( )

وفي اصطلاح الفقهاء: “فصل الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله تعالى” ( )

2 – الأصل فيه:

الأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع فمن الكتاب آيات كقوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقوله تعالى فاحكم بينهم بالقسط وقوله تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس ومن السنة أخبار كخبر الصحيحين إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران وفي رواية صحح الحاكم إسنادها فله عشرة أجور ” ( )

3 – حكمه:

القضاء والإمامة فرض كفاية بالإجماع، فإن قام به من يصلح سقط الفرض عن الباقين، وإن امتنع الجميع أثموا وأجبر الإمام أحدهم على القضاء، وقيل لا يجبر، والصحيح الأول، ثم من لا يصلح للقضاء تحرم توليته ويحرم عليه التولي والطلب، وأما من يصلح فله حالان: أحدهما أن يتعين للقضاء فيجب عليه القبول ويلزمه أن يطلبه ويشهر نفسه عند الإمام إن كان خاملاً ولا يعذر بأن يخاف ميل نفسه وخيانتها، بل يلزمه أن يقبل ويحترز، فإن امتنع عصا، وهل يجبر وجهان: الصحيح نعم وبه قال الأكثرون كما يجبر على القيام بسائر فروض الكفاية عند التعين” ( ) “ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بين الناس، وبعث عليا كرم الله وجهه إلى اليمن للقضاء بين الناس ولأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم حكموا بين الناس، وبعث عمر رضي الله عنه أيًا موسى الأشعري إلى البصرة قاضيا، وبعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضيًا، ولأن الظلم في الطباع فلا بد من حاكم ينصف المظلوم من الظالم” ( )

4 – أهميته وخطره:

وفيه خطر عظيم ووزر كبير لمن لم يؤد الحق فيه؛ ولذلك كان السلف رحمة الله عليهم يمتنعون منه أشد الامتناع، ويخشون على أنفسهم خطره قال خاقان بن عبد الله ( )

أريد أبو قلابة ( ) على قضاء البصرة فهرب إلى اليمامة ( ). فأريد على قضائها فهرب إلى الشام فأريد على قضائها وقيل ليس ههنا غيرك قال: فأنزلوا الأمر على ما قلتم، فإنما مثلي مثل سابح وقع في البحر فسبح يومه فانطلق ثم سبح اليوم الثاني فمضى أيضًا فلما كان اليوم الثالث فترت يداه، وكان يقال: أعلم الناس بالقضاء أشدهم له كراهة، ولعظم خطره قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جعل قاضيًا فقد ذبح بغير سكين) قال الترمذي (أبو عیسی محمد بن عیسی ت ٢٧٩هـ): هذا حديث حسن وقيل في هذا الحديث أنه لم يخرج مخرج الذم للقضاء وإنما وصفه بالمشقة فكأن من وليه قد حمل على مشقة كمشقة الذبح” ( ) ” ولا شك أنه منصب عظيم إذا قام العبد بحقه، ولكنه خطر والسلامة فيه بعيدة إلا من عصمه الله تعالى، وقد كتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء رضي الله تعالى عنهما لما كان قاضيا ببيت المقدس: إن الأرض لا تقدس أحدًا، وإنما يقدس المرء عمله، وقد بلغني أنك جعلت طبيبا تداوى؛ فإن كنت تبرىء فنعما لك، وإن كنت مطببا فاحذر أن تقتل أحدًا فتدخل النار، فما بالك بمن ليس بطبيب ولا مطبب وقال بعض الأكابر ممن دخل في القضاء: أنا نذير لمن يكون عنده أهلية العلم أن لا يتولى القضاء فإن كلام العلماء يؤخذ بالقبول وكلام القضاة تسري إليه الظنون، وإن ترتب على القضاء أجر في وقائع جزئية فالعلم يترتب عليه أمور كلية تبقى إلى يوم القيامة، وما ورد في التحذير عنه من جعل قاضيًا ذبح بغير سكين فهو محمول على من يكره له القضاء أو يحرم.. وقد امتنع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما سأله عثمان رضي الله عنه القضاء رواه الترمذي، وعرض على الحسين بن منصور النيسابوري ( ) قضاء نيسابور ( ) فاختفى ثلاثة أيام ودعا الله تعالى فمات في اليوم الثالث، وورد كتاب السلطان بتولية نصر بن على الجهضمي عشية قضاء البصرة فقال أشاور نفسي الليلة وأخبركم غدا وأتوا عليه من الغد فوجدوه ميتا، وقال مكحول ( ): لو خيرت بين القضاء والقتل اخترت القتل وامتنع منه الإمام الشافعي رضي الله عنه لما استدعاه المأمون لقضاء الشرق والغرب، وامتنع منه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه لما استدعاه المنصور فحبسه وضربه، وحكى القاضي الطبري ( ) وغيره أن الوزير بن الفرات ( ) طلب أبا علي بن خيران ( ) لتولية القضاء فهرب منه فختم على دوره نحوا من عشرين يوما كما قيل فيه وطينوا الباب على أبي على عشرين يوما ليلي، فما ولي.

وقال بعض القضاة:

وليت القضاء وليت القضاء لم يكن شيئًا توليته

فأوقفني في القضاء القضاء وما كنت قدما تمنيته

وقال آخر: “فيا ليتني لم أكن قاضياويا ليتها كانت القاضية” ( )

لم يكن القضاء إذن عندهم منية المتمني بل كان أشبه بشبح يهربون منه في الكهوف والمغاور والمفاوز، لقد أدركوا خطره، فخافوا سكرته.

4 – شروط من يتولى القضاء:

اتفق الفقهاء في اشتراط أن يكون القاضي مسلمًا بالغًا حرًا عاقلاً عدلاً ( ) ” واختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد، فقال الشافعي: يجب أن يكون من أهل الاجتهاد، ومثله حكى عبد الوهاب عن المذهب، وقال أبو حنيفة: يجوز حكم العامي” ( ) جاء في كتاب المغني لابن قدامة المقدسي الحنبلي: “الشرط الثالث: أن يكون من أهل الاجتهاد وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية وقال بعضهم يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد لأن الغرض منه فصل الخصائم فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز كما يحكم بقول المقومين“( )

واختلفوا حول شرط الذكورة وهو موضوع حديثنا في المبحث الثاني.

 

كما اختلف العلماء في اشتراط كون القاضي مجتهدًا كذلك اختلفوا حول كونه ذكرًا على ثلاثة آراء:

الرأي الأول:

قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وقد اشترطوا الذكورية لصحة تولى القضاء، يقول ابن رشد: “وكذلك اختلفوا في اشتراط الذكورة، فقال الجمهور: هي شرط في صحة الحكم” ( )

أدلة الجمهور:

المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجالس، ولا تُخالط الرِّجال، ولا تفاوضهُمْ مُفاوضة النظير للنظير، لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها، وإن كانت متجالةً بَرَزَةً لَمْ يَجْمَعُها وَالرِّجَالُ مجلس تزدحم فيه معهم، وتكون منظرةً لَهُمْ، وَلَمْ يُفلح قط من تصور هذا، ولا من اعتقده( ).

وهذا كلام ابن العربي وهو إلى حد كبير كلام مهذب. وهناك تعليل آخر ليس فيه ما في سابقة بل فيه تحامل على المرأة وقدراتها الذهنية والنفسية ففي المغني يقول ابن قدامة الحنبلي: “وتمام العقل والفطنة، والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي ليست أهلاً للحضور في محافل الرجال ولا تقبل شهادتها، ولو كان معها ألف امرأة مثلها ما لم يكن معهن رجل، وقد نبه الله تعالى على ضلالهن ونسيانهن بقوله تعالى: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى آية ۲۸۲ البقرة) ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلغنا ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبا” ( ) وفى شرح منتهى الإرادات وصاحبه حنبلي أيضًا نقرأ: ولأنها ضعيفة الرأي ناقصة العقل..” ( )

أما الماوردي الشافعي فيستدل بأية القوامة ويرد على خصومه بقوله: “ولا اعتبار بقول يرده الإجماع مع قول الله تعالى: (الرجال قوامون على النِّساء بما فضل اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بعض.. آية ٣٤ النساء). يعني في العقل والرأي، فلم يُجز أن يقمن على الرجال” ( ). أما القرطبي المالكي فهو يأتي لنا بدليل من السنة فيقول في تفسيره لقوله تعالى في سورة النمل على لسان الهدهد (إني وجدت امرأة تملكهم..) ( ): “العاشرة روى البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال: “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” ( )

فنحن أمام أدلة من القرآن والسنة والمعقول والواقع التاريخي للمسلمين الذين لم يشهدوا خلال تاريخهم امرأة قاضية.

ولنا مع هذه الأدلة نقاش: أما قوله تعالى (الرجال قوامون على النساء) فيذكر القرطبي وهو ممن لا يرى تولية المرأة القضاء يذكر سببًا لنزولها فيقول: “وقيل: سببها: قول أم سلمة المتقدم، ووجه النظم أنهن تكلمن في تفضيل الرجال على النساء في الإرث، فنزلت (ولا تتمنوا) الآية. ثم بين تعالى أن تفضيلهم عليهن في الإرث لما على الرجال من المهر والإنفاق، ثم فائدة تفضيلهم عائدة إليهن“. ( ) أما قول أم سلمة رضى الله عنها المشار إليه فيذكره القرطبي قبل ذلك بسبع صفحاتروى الترمذي عن أم سلمة أنها قالت: يغزو الرجال ولا يغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله تعالى (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض). قال مجاهد: وأنزل فيها (إن المسلمين والمسلمات) وكانت أم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة مهاجرة.

قال أبو عيسى: هذا حديث مرسل، ورواه بضعهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، مرسل أن أم سلمة قالت كذا ” ( ) أي أن الآية تتعلق بقضية الميراث الذي فيه المرأة على النصف من الرجل لما على الرجل من تكاليف الإنفاق وليست القوامة فى كل شئ فإن المرأة تكون قيمة راعية لأمر بيتها وقد يكون في البيت خدم أو عبيد من الرجال.

أما ضعف عقل المرأة لكون شهادة المرأتين بشهادة رجل فننقل في الرد على ذلك قول رجل من الحنابلة الذين لا يرون جواز تولي المرأة للقضاء وهو ابن القيم الجوزية، يقول في تفسيره لآية سورة البقرة إن قيل: فظاهر القرآن يدل على أن الشاهد والمرأتين بدل عن الشاهدين وأنه لا يقضى بهما إلا عند عدم الشاهدين

قيل: القرآن لا يدل على ذلك فإن هذا أمر لأصحاب الحقوق بما يحفظون به حقوقهم فهو سبحانه أرشدهم إلى أقوى الطرق فإن لم يقدروا على أقواها انتقلوا إلى ما دونها فإن شهادة الرجل الواحد أقوى من شهادة المرأتين؛ لأن النساء يتعذر غالبًا حضورهن مجالس الحكام وحفظهن وضبطهن دون حفظ الرجال وضبطهم، ولم يقل سبحانه احكموا بشهادة رجلين فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان” () إذن فليس هذا حكمًا على الدوام بل هو في حالة الاستيثاق الشديد بدليل أن النساء ما كان من الشهادات لا يخاف فيه الضلال في العادة لم تكن فيه على نصف رجل، وما تقبل فيه شهادتهن منفردات إنما هي أشياء تراها بعينها أو تلمسها بيدها أو تسمعها بأذنها من غير توقف على عقل كالولادة والاستهلال” () إذن فالنساء تقبل شهادتهن منفردات وليس كما قال حنبلي سابق أنه لا تقبل شهادتهن منفردات ولو كان معهن ألف امرأة ما لم يكن معهن رجل، كما أن الحكم بكون شهادة امرأتين بشهادة رجل تحكمه في هذه الآية كما يقول ابن القيم (أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ت ٧٥١ه) نقلاً عن أستاذه ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم ت٧٢٨ه):.. وهذا إنما يكون فيما يكون فيه الضلال في العادة” () أي أنها عوائد تختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان. فضعف العقل الذي يعني ضعف الضبط إنما كان منشؤه كون هذه الأمور بعيدة عن مجال اهتمام المرأة في هذا العهد، وحين يكون الأمر بعيدًا عن اهتمام أي إنسان يضعف ضبطه له.

أما حديث لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة فله مورد خاص؛ فقد كان الحديث عن بوران ابنة كسرى التي وليت على قومها بعد أبيها، فهي نبوءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء في فيض القدير: قال الطيبي (): هذا إخبار بنفي الفلاح عن أهل فارس على سبيل التأكيد وفيه إشعار بأن الفلاح للعرب فتكون معجزة.” ()

كما أنها بلغة الفقهاء واقعة عين، وليست حكمًا عامًا بدليل أن القرآن قص علينا قصة قوم أفلحوا ولوا أمرهم امرأة؛ امرأة كانت تقول لهم: (ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون) (() وكانت تقول: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون) () وكانت خاتمتها أن قالت: (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان الله رب العالمين) () إنها بلقيس ملكة سبأ، وكانت امرأة وكانت أيضًا من المجوس؛ مجوس اليمن، فالشأن إذن ليس في المرأة والرجل، ولكن في القيم التي يحياها الرجل أو المرأة.

فما التأنيث لاسم الشمس عيبولا التذكير فخر للهلال

أما قياس ولاية القضاء على الولاية العامة وأن المرأة لا تتولى الأخيرة؛ فلا يجوز أن تتولى الأولى، فهو قياس يتسع فيه المقيس عليه في الوقت الذي يضيق فيه المقيس عنه، فنحن كمن يقول يجب أن تنطفئ المصابيح المشعلة نهارًا عند قدوم الليل من ذات نفسها لأن الشمس تغيب وتفعل ذلك بجامع أن المصابيح أضاءت نهارًا كالشمس.

أما القول بأنه لم تكن هناك سوابق ولم يكن على عهد رسول الله ولا خلفائه الراشدين امرأة تلي القضاء، فنقول: إنه واقع بيئة كان الرجال وقتها أقدر على هذا الأمر، ولكن الأمر كما يقول المناطقة: ليس انعدام دليل الوجود دليل على وجود العدم أو انعدام الوجود لو حكمنا بالسوابق التاريخية، فلن نجيز للمرأة أن تكون طبيبة لأنه لم يوجد طبيبات من النساء أو مهندسة أو أستاذة جامعية أو وزيرة كما رأينا” () ومع ذلك فنذكر اسم صحابية جليلة على سبيل المثال يقول عنها الحافظ ابن حجر: “الشفاء بنت عبد شمس بن خلف، أو خالد بن شداد، وقيل: صداد بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، وقيل في نسبها غير ذلك. روت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن عمر بن الخطاب. وعنها ابنها سليمان بن أبي حثمة وابنا ابنها أبو بكر وعثمان ومولاها أبو إسحاق وحفصة أم المؤمنين. قال أحمد بن صالح اسمها ليلى وغلب عليها الشفاء. أسلمت قبل الهجرة بمكة وهي من المهاجرات الأول، وكان عمر بن الخطاب يقدمها في الرأي ويرضاها ويفضلها وربما ولّاها شيئًا من أمر السوق، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علمي حفصة رقية النملة.”() فهذه سابقة تاريخية كانت فيها امرأة تقضي على الباعة والتجار في سوق المدينة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل أحد ساعتها كيف تبرز للرجال، وكيف تأمن على نفسها الفتنة، وكيف يأمن الرجال فتنتها على أنفسهم، إن الشأن ليس العمل في وضح الشمس مع الرجال، وإنما كما قال القرآن (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في في قلبه مرض وقلن قولاً معروفًا) ()

يرى أصحاب هذا الرأي أن المرأة تلي القضاء كالرجل تمامًا بتمام منهم ابن جرير الطبري (أبو جعفر محمد بن جرير ت ٣١٠ه) يقول عنه الماوردي (أبو الحسن علي بن محمد ت ٤٥٠ ه): “وشَذَّ ابْن جرير الطبري فَجَوّزَ قضاءها في جميع الأحكام” () وإن كان أبو حيان (محمد بن يوسف بن علي بن يوسف الأندلسي الشافعي النحوي توفي بمصر في ٧٤٥ه) ()، و ابن العربي (المعافري أبو بكر محمد بن عبد الله الإشبيلي الأندلسي ت ٥٤٣ه) ()، والقرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ت ٦٧١ه) () لا يصححون نسبة هذا القول إليه دون الاعتماد على دليل، وابن جرير يرى أن الأصل هو أن كل من يتأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز إلا ما خصصه الإجماع من الإمامة الكبرى” () فابن جرير يرى أن القضاء كالإفتاء، وهو أمر لا يفتقر إلى غلبة وقهر، ولا يستند إلا إلى معرفة الحكم الشرعي، ومعرفة الأحكام الشرعية لا يختص بها الرجال وحدهم دون النساء، ومن القائلين بهذا القول ابن حزم الأندلسي الظاهري ففي حديثه عن شروط القضاء لم يذكر شرط الذكورة مطلقًا () وهو يقول: وجائز أن تلي المرأة الحكم وهو قول أبي حنيفة، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه ولى الشفاء امرأة من قومه السوق” () وقال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المرأة راعية على مال زوجها وهي مسئولة عن رعيتها) وقد أجاز المالكيون أن تكون وصية ووكيلة، ولم يأت نص من منعها أن تلي تلك الأمور” () ويستدل ابن حزم من القرآن بقوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكمو بالعدل.. آية ٥٨ النساء) فيقول: “وهذا متوجه بعمومه إلى الرجل والمرأة، والحر والعبد، والدين كله واحد إلا حيث جاء النص بالفرق بين المرأة والرجل وبين الحر والعبد؛ فيستثنى حينئذ من عموم إجمال الدين” ()

وابن حزم ظاهري يتبع النص أينما وجده فهو يقول: “ولا يحل الحكم بقياس، ولا بالرأي، ولا بالاستحسان، ولا بقول أحد ممن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يوافق قرآنا أو سنة صحيحة؛ لأن ذلك حكم بغالب الظن..”() أي أن الرجل لو عثر على نص من آية أو حديث يفيد اشتراط كون القاضي ذكرًا لسارع إليه؛ فإذ لم يقل دل على أنه لم يجد. وموقف ابن حزم من المرأة يستدعي وقفة فهو فى منتهي علمي الوحيد الذي أجاز نبوة النساء ()، وفي حديثه عن أفضل الناس بعد رسول الله يقول: “الذي نقول به وندين الله تعالى عليه ونقطع على أنه الحق عند الله عز وجل أن أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر..”() وانظر حديثه المسهب عن فهمه لقوله تعالى: (وليس الذكر كالأنثى آية ٣٦ آل عمران) () وموقف ابن حزم من المرأة يعطينا درسًا في أن البيئة المحيطة بالإنسان في محيطها الضيق والواسع والأوسع تؤثر تأثيرًا كبيرًا في رؤيته للأشياء والناس والأفكار ().

الرأي الثالث:

وهو رأي الإمام أبي حنيفة حيث لا يشترط الذكورة فيمن يتولى القضاء ويرى جواز قضاء المرأة في غير الدماء والحدود، جاء في بدائع الصنائع: ” و أما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة؛ لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة إلا أنها لا تقضي في الحدود و القصاص؛ لأنه لا شهادة لها في ذلك وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة () فالإمام يقيس القضاء على الشهادة، فالمرأة تقضي فيما تشهد فيه، ولا يرى قياسه على الولاية العامة لأنه يرى فروقًا بين الاثنين تمنع من وجود الجامع بينهما منها: ” الفرق بين القضاء والإمارة، أن الإمام يصير إمامًا، وإن كان فاسقًا، وإذا كان عدلاً، ثم فسق لا يخرج عن الإمارة والإمامة، والفرق أن مبنى الإمارة على السلطنة والغلبة، ألا ترى أن من الأمراء من قد غلب، وجاز أحكامه، وصلى خلفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبنى القضاء على الأمانة والعدالة، فإذا بطلت العدالة بطل القضاء ضرورة، هذا بيان من يجوز له تقلد القضاء ” (). والجديد في موقف الحنفية أنهم طرحوا قياسًا جديدًا حين قاسوا القضاء على الشهادة، وليس على الولاية العظمى فألمحوا بذلك إلى ما يرجع إليه القضاء من مؤهلات وملكات ذهنية ونفسية، وليس إلى الغلبة والقهر كما هو الأمر في الولاية العظمى، وأن ما جاء من تفوق الرجل في ذلك وما له من أفضلية إنما هو للمجموع وليس للجميع، فلن نعدم أن نجد بين النساء من تساوي الرجال في هذه الملكات، وهذا في حد ذاته تقدم بالقضية إلى طريق النور..

نتعرض في هذا المبحث لاجتهاد ثلاثة من المفكرين الإسلاميين حرص الباحث على أن يكونوا ممن يمثلون ما يسمى في عصرنا بالصحوة الإسلامية، تجمع ثلاثتهم الشعبوية والانتشار لأكثر من سبب، من هذه الأسباب: اعتلاء أحدهم لمنابر أكبر المساجد في مصر وظهور الآخرين في وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، وإكثار ثلاثتهم للتأليف وخاصة الكتابة في قضايا تجديد الإسلام والصراع الحضاري مع الغرب، وترشيد الصحوة الإسلامية في عصرنا الحديث، يقف الأول من الآخرين موقف الأستاذ والرائد،

  • أما الأول فهو: الشيخ محمد الغزالي (1917 – ١٩٢٦م)
  • والثاني هو: الدكتور يوسف القرضاوي (1926م – )
  • والثالث هو: الدكتور محمد عمارة (1931م – )

والثلاثة ليسوا محسوبين بحال من الأحوال على الفكر اليميني الليبرالي، ولا اليساري الاشتراكي، وإن كان الأخير منهم قضى بعض عمره في صفوف اليسار؛ وهو الآن أحد أعضاء مجمع البحوث الإسلامية وريث هيئة كبار العلماء التابع للأزهر الشريف ممثل الأشعرية والإسلام الوسطي في العالم الإسلامي.

وفي هذه القضية وغيرها من القضايا المثارة على الساحة الفكرية يجمع الثلاثة عنايتهم الشديدة بتقديم إجابات تنفي عن الشريعة ما ترمى به من الجمود من قبل الغربيين في خارج بلاد الإسلام وما يسمونهم بالعلمانيين فى داخلها فالغزالي يقول: “ومن حقنا أن ننتقي من أقوال مجتهدينا ما يدعم أمتنا في هذا العصر، وما يجنبنا مزالق وقع فيها غيرنا، وما يبعد عن الإسلام تهمًا هو منها براء“() والقرضاوي يقول: ” العلمانيون اليوم يتاجرون بقضية المرأة ويحاولون أن يلصقوا بالإسلام ما هو براء منه، وهو أنه جار على المرأة وعطل مواهبها وقدراتها، ويحتجون لذلك بممارسات بعض العصور المتأخرة، وبأقوال بعض المتشددين من المعاصرين“() والدكتور عمارة ينادي بضرورة إنقاذ المرأة من تفسيرات العلمانيين والغربيين المغرضة لموقف الإسلام منها() والثلاثة يعرضون فكرًا وسطيًا يبتعد كما يقولون عن تزمت فقه البداوة وتشدده()

وبعد هذه المقدمة نبدأ بعرض:

أولاً: رأي الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:

يقرر الإمام محمد الغزالي في غير مواربة أو جمجمة أن للمرأة ذات الكفاءة العلمية الإدارية والسياسية أن تلى أي منصب ما عدا الخلافة العظمى..”()، وهو ينتصر لرأي الإمام ابن حزم ویری جواز شهادة المرأة في كل شيء حتى الدماء والحدود، وكذلك توليها القضاء في كل القضايا يقول: “وقبلت شهادة المرأة في جميع القضايا المدنية والجنائية في حدود النصاب الشرعي، ولم أفهم وجهًا لمنعها من الشهادة في الحدود والقضاء، وأيدت في ذلك الفقه الظاهري“()

توجيهه لأدلة المانعين:

1 – آية القوامة يرى أنها للرجل في بيته وداخل أسرته” ()

٢ حديث (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) يراه تنبؤ من الرسول لزوال ملك الأكاسرة لما عندهم من خلل في نظام الحكم، فإذا كانت الوثنية السياسية قد جعلت الأمة والدولة ميراثًا لفتاة لا تدري شيئًا كان ذلك إيذانًا بأن الدولة كلها إلى ذهاب” () ثم يقارن بينها وبين بلقيس ملكة سبأ التي لم تكن تقطع أمرًا دون استشارة العقلاء من قومها وكيف انتهى بها المطاف إلى أن دخلت في دين الله مع نبي الله سليمان، ويتساءل في النهاية: ” هل خاب قوم ولوا هم امرأة من هذا الصنف النفيس؟“()

كما استدل بتولية عمر أمر الحسبة في سوق المدينة للشفاء بنت عبد الله()

والشيخ الغزالي في موقفه من قضايا المرأة يمكن أن ينعت بأنه من المناصرين لها، والمنافحين عن حقوقها()

ثانيًا: رأي الدكتور يوسف القرضاوي:

في البداية يمهد القرضاوي لرأيه بأن آراء السابقين من الفقهاء ليست ضربة لازب وأن هناك أحكام وفتاوى لا نستطيع أن نفصلها عن عصرها وبيئتها، ومثلها قابل للتغيير بتغير موجباته، ولهذا قرر المحققون أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والعرف، وكثير مما يتصل بالمرأة من هذا النوع“()، وأن ما كان محتملاً في فهمه لأكثر من فهم وأكثر من تفسير؛ فليس لأحد أن يلزم الأمة بفهم دون آخر“()

في كتابه: فتاوى معاصرة، وتحت عنوان مناقشة فتوى بتحريم الحقوق السياسية على المرأة يدلي القرضاوي برأيه فيقول: “..أما ما عدا الإمامة والخلافة وما في معناها من رئاسة الدولة فهو مما اختلف فيه، فيمكن بهذا أن تكون وزيرة، ويمكن أن تكون قاضية، ويمكن أن تكون محتسبة احتسابًا عامًا“()

توجيهه لأدلة المانعين:

١ هو في البداية يذكر أن القضية ليس فيها نص قطعي الثبوت أو الدلالة ويستدل على ذلك أنه لو وجد لتمسك به ابن حزم وجمد عليه وقاتل دونه كعادته“()

٢ أما آية القوامة فيراها للرجل على المرأة في البيت أما ولاية بعض النساء على بعض الرجال خارج نطاق الأسرة فلم يرد ما يمنعه، بل الممنوع هو الولاية العامة للمرأة على الرجال“()

3 – في تعقيبه على حديث (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) يحمله على عدة وجوه:

أ يؤكد القرضاوي على أهمية سبب الحديث، ويعلق على قاعدة العبرة بعموم بخصوص السبببأنها غير مجمع عليها، وقد ورد عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما ضرورة رعاية أسباب النزول، وإلا حدث التخيط في الفهم…”()

ب وهو يذكر كالغزالي أن سبب الحديث يجعل ما قاله الرسول إنما هو نبوءة سياسية بهلاك دولة الأكاسرة لعدم أخذهم بالشورى، وإلا لعارض ذلك ما جاء في القرآن من قصة ملكة سبأ، ويؤكد كذلك صرف الحديث عن العموم الواقع الذي نشهده، وهو أن كثيرًا من النساء كن لأوطانهم خيرًا من كثير من الذكور ()

ج الحديث وارد في الإمامة العظمى والولاية العامة كما تدل على ذلك لفظة ولوا أمرهم، وفي رواية تملكهم امرأة()

د المجتمع المعاصر في ظل النظم الديمقراطية حين يولي المرأة منصبًا عامًا كالوزارة أو الإدارة أو النيابة أو نحو ذلك، فلا يعني هذا أنه ولاها أمره بالفعل، وقلدها المسئولية عنه كاملة، فالواقع أن المسئولية جماعية والولاية مشتركة تقوم بأعبائها مجموعة من المؤسسات والأجهزة، والمرأة إنما تحمل جزءًا مع من يحملها“()

4 – يرد القرضاوي على من يذكر أنه لم تكن هناك سابق أن عدم وجود سابقة تاريخية ليس دليلاً شرعيًا على المنع ؛ فهذا مما يدخل في تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان..”().

والقرضاوي يرى الأخذ بالتدرج وذلك ووفق ظروف المجتمع ودرجة نموه وتطوره، فتعطى المرأة ما يناسبها من الوزارات، وتقضي فى مجال الأسرة أولاً ثم في الأمور المدنية وهكذا…”(7) والدكتور القرضاوي يرى أن تتولى المرأة القضاء في سن الحكمة بعد أن تكون قد زايلها ما ينتابها من تغيرات فسيولوجية وعصبية نتيجة الدورة الشهرية، وبعد أن تكون قد فرغت من تربية النشأ فلا تشكو شغلاً في البيت يعوقها عن مهام القضاء (۱)

ثالثًا: رأي الدكتور محمد عمارة:

يتناول الدكتور محمد عمارة موضوع ولاية المرأة للقضاء من خلال مناقشته في الكثير من كتبه للشبهات كما يسميها التي تثار حول موقف الإسلام من المرأة، وهو إذ يتناولها من هذا المنطلق متفقًا مع سابقيه نراه كأي مدافع يلتزم بخطة مهاجمه التي هي مفروضة عليه، وإن كنا تلمح خلال ردوده رؤية تبدو إلى حد كبير أكثر اتساعًا لمكانة المرأة في الإسلام لا يخرج فيها د/ عمارة عن نهجه من الاتكاء على نصوص المجديين من أمثال ابن تيمية وابن القيم في العصور الوسطى، ومحمد عبده ومحمود شلتوت في العصر الحديث، الأمر الذي يجعل مساحة الإبداع لديه ضيقة الحدود، ومن خلال استعراض ردود د/ عمارة على بعض الشبهات نستطيع أن نخرج بقناعته الكاملة باستحقاق وأهلية المرأة للولاية العامة، وهو يقدم بين يدي رؤيته هذه بتنقية الأجواء في الفضاء الفكري مما تراكم لدينا عبر عصور التراجع الحضاري التعبير الأثير لديه من احتقار للمرأة وإزراء بمكانتها، الأمر الذي يجعل هذه العصور المتحمل الوحيد لهذا التشويه دون أن يكون لذلك أدنى صلة بجوهر التصور الإسلامي الصحيح.

من هذه الأمور التي يجعلها مقدمة لإيضاح رأيه:

  • ما لدينا في تراثنا حول قضية ولاية المرأة لمنصب القضاء هو فكر إسلامي.. وليس دينًا وضعه الله
  • القرآن الكريم لم يعرض لهذه القضية كما لم تعرض لها السنة النبوية؛ لأن القضية لم تكن مطروحة على الحياة الاجتماعية والواقع العملي لمجتمع صدر الإسلام“()
  • يترتب على ما سبق أن القضية من مواطن ومسائل الاجتهاد“()
  • وقد حدث الاجتهاد بالفعل فقدمت لنا اجتهادات مختلفة مما يعني أنه ليس هناك اجماع فقهي حتى يكون هناك إلزام الخلف بإجماع السلف.. ناهيكم عن أن إمكانية تحقق الإجماع أي اجتماع سائر فقهاء عصر على مسألة من مسائل فقه الفروع كهذه المسألة هو مما لا يتصور حدوثه..”()
  • الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة حول الأصل الذي قاسوا عليه القضاء وليس حول دليل قطعی

بهذه المقدمات يكون د/ عمارة قد خلص إلى فتح باب الاجتهاد من جديد في هذه المسألة يقول: “معلوم أن الأحكام الفقهية التي هي اجتهادات الفقهاء مثلها مثل الفتاوى تتغير بتغير الزمان والمكان والمصالح الشرعية المعتبرة“()

الذكورة لم تكن الشرط الوحيد الذي اختلف حوله الفقهاء فعلى سبيل المثال اختلفوا في شرط الاجتهاد فأوجب الشافعي وبعض المالكية أن يكون القاضي مجتهدًا.. على حين أسقط أبو حنيفة هذا الشرط بل وأجاز قضاء العامي“()

وبعد أن فتح الدكتور عمارة باب الاجتهاد فى هذه المسألة يتبقى له على طريقة الفقهاء المدرسية أن يقرر رأيه بالأدلة ثم يفند فى إطار تعضيده لرأيه أدلة الخصوم

بعد أن يورد د. عمارة رأى قطاع من الفقهاء وقف بولاية المرأة عند الولايات الخاصة يعقب بأن ما أورده من أدلة كافٍ فى الرد على الذين يمارون فى ولاية المرأة العمل العام، وهو يرى قضاءها في كل القضايا يتجاوز رأى أبي حنيفة الذى يمنع قضاءها في الحدود والقصاص بناءً على رد شهادتها فيهما، بينما يؤكد الدكتور عمارة أن رد شهادتها في ذلك موضوع اختلاف والمفترض في الحكم المقيس عليه أن يكون موضع إجماع، وهو بذلك يلتقى مع ابن جرير الطبرى وابن حزم الظاهرى فى قبول قضائها في كل القضايا دون استثناء.

والسؤال هنا: ماهي الإضافة أو الفارق بين رأى ابن جرير فى القديم وابن حزم في القديم واجتهاد محمد عمارة في الحديث بعدما أسهب الدكتور عمارة فى وضع القضية على مائدة البحث للوصول إلى اجتهاد جديد يتفق وتطورات العصر الحديث؟

والجواب على ذلك: الذى يميز رأى الدكتور عمارة والحق يقال أن الرجل أكثر الثلاثة الذين نتعرض لاجتهادتهم في عصرنا اهتمامًا ببحث هذة المسألة – نقول الذى يميزه عن ابن جرير وابن حزم بعد اتفاقه معهما في وجهة النظر بأن تتولى المرأة القضاء تمام بتمام شأن الرجل؛ فأبن حزم لم يجد نصًا – وهو الظاهرى – يتكيء عليه، أما ابن جرير فقد استند إلى القياس فقاس قضاء المرأة على إفتائها، وما دامت المرأة يجوز لها أن تفتي فى كل المسائل الفقهية كذلك يجوز قضاؤها في كل هذه المسائل، والأصل المقيس عليه هنا وهو الإفتاء مجمع على جوازه في حق المرأة مما يطبع القياس بطابع القوة، ولكن الدكتور عمارة رأى مع ذلك ضعف الاستناد إلى قياس يستند فيه الأصل الذي نقيس عليه إلى دليل الإجماع، وهو دليل ضعفه دكتور عمارة من قريب فإلام استند إذن؟ لقد رأى الدكتور عمارة الاستناد إلى عموميات الشريعة الإسلامية أو ما يمكننا أن نسميه الروح العامة للشريعة الإسلامية فى رؤيتها لمكانة المرأة أو ما يعرف بفقه المقاصد يدلنا على ذلك قوله: “ثم إن هذه القضية ( قضاء المرأة ) هى من مسائل المعاملات وليست من شعائر العبادات وإذا كانت العبادات توقفية تلتمس من النص ونقف عند الوارد فيها؛ فإن المعاملات تحكمها المقاصد الشرعية، وتحقيق المصالح الشرعية المعتبرة، والموازنة بين المصالح والمفاسد فيها ويكفى فى المعاملات ألا تخالف ما ورد في النص لا أن يكون قد ورد فيها نص“()

وتنطلق أدلة الدكتور عمارة من نظرة الإسلام إلى الرجل والمرأة كشريكين يتساندان في القيام بأعباء هذا الدين؛ فلا يكون فصل أو تخصيص لأحدهما إلا بدليل، ومن أدلته على رؤيته هذه:

1 – اشتراك الإناث والذكور جميعًا في حمل الأمانة التي حملها الإنسان، وليكون بعضهم أولياء بعض فى النهوض بالفرائض الاجتماعية الشاملة لكل ألوان العمل الاجتماعي والعام ويضرب المثل بأم المؤمنين خديجة وشهيدة الاسلام سمية بنت خياط ()

2 – “المرأة مسئولة مسئولية عامة فيما يختص بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والإرشاد إلى الفضائل والتحذير من الرذائل ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكرالتوبة آية ٦٧)”()

3 – “المسلمون مجمعون على أن الاسلام سبق كل الشرائع الوضعية والحضارات الإنسانية عندما أعطى للمرأة ذمة مالية خاصة وولاية وسلطانا على أموالها والولاية المالية والاقتصادية من أفضل الولايات والسلطات فى المجتمعات الإنسانية على مر تاريخ المجتمعات.. وفى استثمار الأموال ولاية وسلطان يتجاوز الإطار الخاص إلى نطاق العام“()

توجيه الدكتور عمارة لأدلة الخصوم:

استناد الخصوم لآية قوامة الرجل على المرأة يدفعها بقوله بعد شرح مسهب لوجهة نظره: لقد ربط القرآن هذه الدرجة في الريادة والقيادة بالمؤهلات والعطاء وليس بمجرد الجنس.. فجاء التعبير الرجال قوامون على النساء، وليس كل رجل قوامًا على كل امرأة ؛ لأن إمكانات القوامة معهودة في الجملة والغالب لدى الرجال، فإذا تخلفت هذه الإمكانات عند واحد من الرجال كان الباب مفتوحًا أمام الزوجة إذا امتلكت من هذه المقومات أكثر مما لديه أن تدير دفة الاجتماع الأسرى.. “()

ثم يذكر أن ما فسرت به الآية بما ينتقص من مكانة المرأة إنما هو إفراز لعصور التراجع الحضاري.

۲ – حديث ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأةيتلخص رده في:

أ الحديث نبوءة سياسية لزوال ملك فارس.. “()

بملابسات الحديث تجعل معناه خاصًا بالولاية العامة أي رئاسة الدولة وقيادة الأمة…” ()

ج تغير مفهوم الولاية في عصرنا الحديث وذلك بانتقاله من سلطان الفرد إلى سلطان المؤسسة، ولقد تحول القضاء من قضاء الفرد إلى قضاء مؤسسي يشترك في الحكم فيه عدد من القضاة “()

د العبرة في الولاية العامة ليست بالذكورة أو الأنوثة، وإنما العبرة بكون هذه الولاية مؤسسة شورية أم سلطانًا فرديًا ثم يذكر ثناء القرآن على بلقيس المرأة وذمه لفرعون الرجل الذي قال: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد (غافر آيه ٢٩)”()

3 – حديث ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكنيقدم الدكتور عمارة ردوده على الفهم المتحيف لحق المرأة في نقاط:

أالذاكرة الضابطة لنص هذا الحديث قد أصابها ما يطرح بعض علامات الاستفهام؛ ففي رواية الحديث شك من الراوي حول مناسبة قوله هل كان ذلك في عيد الأضحى أم في عيد الفطر؟ وهو شك لا يمكن إغفاله عند وزن المرويات والمأثورات“()

ب الحديث يتحدث عن واقع ولا يشرع تشريعًا عامًا والحديث عن الواقع القابل للتغير والتطور شيء والتشريع للثوابت عبادات وقيمًا ومعاملات – شيء آخر“() فهو كقول الرسول (ص) في حديث البخاري ومسلم: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) فهو يصف واقعًا ولا يشرع لتأييد الجهل بالكتابة والحساب.

جالمراد بالنسوة اللاتي ذكرهن الحديث حالة خاصة منهن وهن اللائي يكثرن اللعن ويكفرن العشير بسبب النزق أو الحمق أو غلبة العاطفة التي تنسيها ما قدمه لها هذا العشير (الزوج ) من إحسان” ()

د – أن مناسبة الحديث ترشح ألفاظه وأوصافه لأن يكون المقصود من وراءها المدح وليس الذم فالحديث يشير إلى غلبة العاطفة والرقة على المرأة وهي عاطفة ورقة صارت سلاحًا تغلب به هذه المرأة أشد الرجال حزمًا وشدة وعقلاً.. ونقصان الدين الذي فسر بتركها الصلاة والصيام كل شهر عند حلول الدورة الشهرية هو أيضًا من باب المداعبة والمزاح يوم العيد؛ فالمرأة تشترك مع الرجل فى كل رخص العبادة التي يحب الله أن تؤتى كما يحب أن تؤتى عزائمه، ولكن المرأة تزيد على الرجل بهذه الرخصة التى تترك بها الصلاة والصيام ثم تقضى الصيام دون الصلاة، ولو كان هذا الأمر وصف ذم كان جزاء المرأة على أعمالها الصالحة ناقصًا عن أجر الرجل أو كانت التي تصوم وتصلى حالة الرخصة المعطاة لها نائلة للأجر والثواب ولكن الأمر على نقيض ذلك فهى محرم عليها الصلاة والصيام أثناء هذه الرخصة مما يؤكد أنها مأجورة على إتيانها الرخصة فى الوقت الذي يحرم على الرجل أن يترك الصلاة والصيام“()

هثم كيف يعهد الإسلام وتعهد الفطرة الإلهية بأهم الصناعات الإنسانية والاجتماعية صناعة الإنسان ورعاية الأسرة وصياغة مستقبل الأمة إلى ناقصات العقل والدين بهذا المعنى السلبي“()

٤ – يرد دكتور عمارة على القائلين بأن العادة لم تجر فى العصور الإسلامية الماضية بتولي المرأة للقضاء فيقول: “إن جريان العادة في الأعصر الإسلامية السابقة على عدم ولاية المرأة منصب القضاء لا يعنى تحريم الدين لولايتها هذا المنصب فدعوة المرأة للقتال وانخراطها في معاركه هو مما لم تجر به العادة في الأعصر الإسلامية السابقة ولم يعن ذلك تحريم اشتراك المرأة في الحرب فهي قد مارست هذا القتال وشاركت في معاركه على عصر النبوة والخلافة الراشدة والعادة مرتبطة بالحاجات المتغيرة بتغير المصالح والظروف والملاسبات وليست هي مصدر الحلال والحرام“()

وفي النهاية يحيط دكتور عمارة رأيه بضابط أن يخضع ذالك كله لتوافر الأهلية والقدرة وألا يخل الاشتراك في العمل العام بحق واجب على المرأة لأسرتها أو بضابط من الضوابط الشرعية..”() بذلك يشترك الثلاثة – الغزالي والقرضاوى وعمارة – في رفضهم للتفسير الذي يجعل من النص سلاحًا يشهر فى وجه المرأة يسمها بميسم النقص في العقل والإنسانية والأهلية ويتفق الغزالي مع الحنفية فى جعل قضاء المرأة فى الأمور القريبة من اهتماماتها الأنثوية، أما القرضاوى فيجعل رأى الحنفية تدرجًا للوصل إلى قضائها فى كافة قضايا الإنسان مع إضافته كونها قاضية في سن الحكمة وفراغها من أشغال البيت ومن تربية الأولاد. ويبقى دكتور عمارة هو الأكثر تسامحًا مع المرأة في تولى القضاء ليتفق مع كل من ابن جرير الطبري وابن حزم الظاهري.

 

أحسب أن القضية أصبحت أكثر وضوحًا وتمايزت فيها المواقف وتبين خلال البحث أن واقع التخلف والجمود لا ينبغي أن يتخذ دينًا يتعبد الناس به، وأن الرجوع إلى النصوص الشرعية أمر لا بد منه لإدراك المسافة التي تفصل بين شرع الله وبين ملابسات كل عصر وظروفه التي تجعله يفهم النص في ضوء ما يعيشه من أحوال هي بالأساس متغيرة وليست لاصقة بالنص ضربة لازب. وإذا كان القضاء يرتبط في جوهره بقدرات الإنسان الذهنية وحصيلته المعرفية وملكة الاجتهاد والحكم عنده فإن كل هاتيك الأمور ليست مضروبة على المرأة في أصل الفطرة فتخلق مزودة بها أو محرومة منها، وإنما هي أمور يكتسبها الرجل ومثله المرأة من بيئته الثقافية والاجتماعية والحضارية وقد قطعت المرأة شوطًا بعيد المدى والغور في هذا الشأن وليست المرأة بالكائن العجيب أو المنقطع الصلة بالرجل كيف والقرآن يقول: (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) آل عمران آية ١٩٥، فهي بضعة من الرجل وشريكته في رحلة الحياة الشاقة قسى عليها حينًا قسوة الزمان عليه فعطل بعض ملكاتها إلى حين كانت هذه الملكات كامنة كمون النار تحت الرماد فما هو حتى أتت رياح التغير فعادت الجذوة جذعة كما شاء لها واهب الخلائق والفطر، والفقهاء الأقدمون الذين جعلوا القضاء صورة من صور الولاية العامة شبيهة بالإمامة العظمى قد أسرفوا على أنفسهم في القياس.

فالقاضي عمله ذهني يرجع إلى القدرات العقلية التي هي ترجع إلى أساس من الخلق والفطر الإلهي تنميها وتحورها أساليب التهذيب والتثقيف والإرهاف والرجل والمرأة في ذلك سواء وأراني أتفق مع الدكتور القرضاوى في الأخذ بسنة التدرج في تولى المرأة للقضاء؛ فهو أمر يتفق مع السير العام للشريعة الإسلامية حين تزيل السدود والحواجز أمام أمر كان ممنوعًا أو تضع الموانع أمام أمر كان مباحًا.

شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات