الفضول المتبادل
في عام ۱۷۲۰ تم إيفاد السفير العثماني “يرمزكيز شلبي محمد أفندى” إلى فرنسا بهدف زيارة “الحصون والمصانع ودراسة وسائل الحضارة والتعليم“، ثم تقديم تقرير عن ما يمكن تطبيقه والاستفادة منه في الإمبراطورية العثمانية (ص4). ومن ثم تطورت بعثة هذه السفارة إلى حدث تاريخى هو عبارة عن لقاء بين حضارتين – بين الشرق والغرب – فى مواجهة غير استعمارية، ستؤدى على المدى البعيد إلى انهيار تدريجي للإمبراطورية العثمانية على أيدى القوى الأوروبية الاستعمارية فيما بعد. هذه السفارة هي موضوع كتاب فاطمة موجى جوتشك “الشرق يلتقى بالغرب: فرنسا والإمبراطورية العثمانية في القرن ۱۸“, (اکسفورد، ۱۹۸۷).
يتناول الكتاب بالدراسة وثائق وتقارير هذه السفارة والظروف المحيطة بها وتأثيرها كمثال على طبيعة الاحتكاك بين مثل هذا “المجتمع التقليدى والغيب الصاعد” (ص ٤)، بهدف اكتساب معرفة ووعى جديد بالاختلافات الثقافية بين المجتمعات وسبر غور طبيعة قنوات الاتصال والانتشار للمفاهيم والثقافات. فتعرض الكاتبة من خلال إعادة تصور تاريخي لوقائع هذه المهمة الدبلوماسية رؤية مفصلة ومثيرة للتباين بين المجتمعين الفرنسى والعثماني في ذلك الوقت. وتذكر المؤلفة أن هذه التقارير المكتوبة من قبل هذا المبعوث الرسمي العثماني بهدف التعرف على المجتمع الأوروبي وفهمه تعد أول “نافذة شرقية” تفتح على الغرب قبيل الهجوم الاستعمارى الصريح لفرنسا وإنجلترا في آواخر القرن الـ ۱۸ والـ 19. وهنا تكمن أهمية هذا الكتاب، فهو يلقى الضوء على مرحلة انتقالية – وهى أيضًا الحلقة المفقودة في وعينا التاريخي جميعًا – بين مجتمعات الأقطار الإسلامية المختلفة تحت لواء الإمبراطورية العثمانية الجامعة لها من ناحية، والعصر الحديث عندما بدأت القوى الاستعمارية تقطع أوصال “رجل أوروبا المريض” من ناحية أخرى.
أى أن الحاجة إلى إرسال سفير عثماني إلى فرنسا والاشتراك فى مجال الدبلوماسية الغربية نشأت أساسًا لأسباب سياسية واستراتيجية وعسكرية، فقد كان على العثمانيين مواجهة النمسا، والوقوف على التقدم العسكري والتكنولوجي لفرنسا. وبالرغم من أن هذا الإدراك لتراجعهم العسكري والتجاري كان الدافع الأول لتوجههم إلى الغرب من أجل الإصلاح الإداري, فإن تقارير السفير محمد أفندى عكست ملاحظاته حول التباين الشديد فى ثقافة وأساليب الحياة الاجتماعية بين المجتمعين. ولم يكن العثمانيون وحدهم، بل كانت سائر الدول الأوروبية فى ذلك الوقت تتطلع إلى فرنسا كرائدة معظم التحولات في مجالات الفن والعمارة ووسائل الترفيه من باليه وأوبرا وخلافه. إلا أن الفضول العثماني في تلك المرحلة تجاه التقاليد والأعراف الفرنسية – مثل أبناء الأمراء والأشراف الذين يؤدون الرقصات في قصر الملك – يظل نوعًا من التعجب الحيادى الذى يؤكد مسافة البعد عن “الآخر“، وإن كان أيضًا يعكس ثقة بالنفس وعدم التعصب في نفس الوقت؛ ذلك أن البلاط العثماني بالمقارنة كان يتسم بالجدية والتحفظ بسبب الاحترام الشديد لمكانة الباب العالى ووضع السلطة. ونادرًا ما يقوم محمد أفندى “بعمل مقارنات صريحة بين المجتمع العثماني والفرنسى” (ص ٢٦) ، كما يتفادى أي تقييم للممارسات الأجنبية في مقابل ثقافته المحلية. كان اهتمامه الأكبر منصبًا على أساليب الحكم ونظم الإدارة وخصائص العمل الرسمي للدولة.
وفى جزء ممتع من الكتاب، تقابل المؤلفة بين لوحتين مرسومتين من هذه الفترة تصوران مراسم استقبال السفيرين الفرنسي والعثماني ببلاط السلطان فى واحدة، وبالقصر الفرنسي في الأخرى. ويظهر اختلاف ذو دلالة: يرتدى السفير الفرنسي وحاشيته العباءات الرسمية العثمانية والقبعات في محاكاة لموظفي الباب العالي, بينما ظل القفطان الواسع لمحمد أفندى وعمامته يعكسان مظهرًا مغايرًا تمامًا وبارزًا فى محيط الحضور من الفرنسيين في القصر. والصورة الأخيرة تبرز تردد العثمانيين في ذلك الوقت المبكر تجاه مسألة الاستيعاب الكامل للمؤثرات الأجنبية، وهو ما سينقلب إلى تطرف في الاتجاه الآخر عندما يرسخ الربط بين الإصلاح والتغريب في الأذهان. أما على الجانب الفرنسي فهذه الاختلافات الظاهرة فى الزى أدت لفترة وجيزة من الوقت إلى ظهور “موضة الأزياء التركية” أثناء عهد الملك لويس الخامس عشر, وهى عبارة عن تقليد للزى والزينة التركية في الرسومات واللوح والمناسبات الترفيهية على سبيل الدعابة (72 – 73). والملاحظ أن في الواقعتين نزعة مهيمنة على الآخر مع تباين في الدرجة: فالفرنسيون فى سماحهم للعثمانيين أن يظهروا بالمظهر التركى الحق إنما يجعلون منهم “فرجة” ويخضعونهم لفضول النظرة الأوروبية الفاحصة المحدقة، بينما في إصرار العثمانيين على التماثل السطحي للسفراء الفرنسيين دلالة غير مباشرة على التراتب المتأصل من حيث المكانة والوضعية بين الطرفين.
وهناك مظاهر عدة للاختلافات الثقافية التي تتضح في تقارير محمد أفندي، وهي تغطي مجالات الحدود بين العام والخاص، وأساليب التسلية والأنشطة الترفيهية، واستخدام المكان والمساحات, وأسلوب تناول الطعام. كان العثمانيون يفصلون بين أنشطة العام والخاص وقد ظهرت دهشتهم الشديدة واستنكارهم عند أى بادرة لكشف عاداتهم المعيشية الخاصة إلى الجمهور. فمثلا: كان ظهور غرفة منفصلة ومخصصة للطعام مظهرًا جديدًا للترف فى فرنسا ومناسبة اجتماعية تعج بالجلبة والتفاخر حيث أن النبلاء أصبحوا يحتاجون عددًا مضاعفًا من الخدم في المطبخ وغرفة الطعام في نفس الوقت. أما العثمانيون فالوجبات كانت تقدم لهم حيثما كانوا – عادة فى الجزء الخاص بالمعيشة في المنزل – ويتناولون الطعام في خصوصية وصمت واحترام. وفى واقعة طريفة يرويها محمد أفندى أن الفرنسيين صدموا العثمانيين عندما أرادوا أن “يتفرجوا” عليهم وهم يأكلون, فاعتبروا ذلك بالطبع تطفلاً شديدًا على حياتهم الخاصة. تعجب العثمانيون من فضول الفرنسيين ولاحظوا بدورهم الفروق البيئة فى المعيشة والثقافة، فأظهر كلام محمد أفندى إدراكًا للاختلاف عن الآخر ولكن ليس الانبهار بالآخر أو الحنق على الثقافة المحلية، وإن لم يمانع العثمانيين في التماشي مع الفرنسيين أحيانًا من أجل متطلبات الدبلوماسية والبروتوكول. ولذ فإن الباب الذي أسمته فاطمة جوتشك “التفاعل الثقافي” والذي يضم تفاصيل مثيرة عن اختلاف أساليب الحياة لا يشي بتفاعل أو استيعاب كامل (ليس بعد) بقدر ما هو انعكاس لهذا الفضول والرغبة في استكشاف الآخر.
بدأ ظهور بعض التأثيرات المباشرة لهذه البعثة في العقود التي تلت عودة السفير محمد أفندى وجاليته متمثلة في ولده محمد سعيد. وتلحظ فاطمة جوتشك أن بينما اتخذ هذا التأثير في فرنسا شكل “موضة” أزياء مؤقتة، فإن المجتمع العثماني بدأ يتعرض لسلسة من التغيرات بعيدة المدى. وقد جمعت الباحثة بمهار شديدة أدلة تاريخية هامة كنا نرجو أن تتوج بمزيد من تفسير الأصداء الثقافية والاجتماعية لهذا الحدث, وخاصة فيما يتعلق بالنساء. تقول جوتشك أن العثمانيين شرعوا في تقليد أسلوب العمارة الفرنسية وتصميم القصور والحدائق, وبالتالي العادات الاجتماعية المقترنة بوسائل الترفيه وأنماط الاستهلاك التي روج لها خاصة صفوة المجتمع وكبار موظفي الدولة الرسميين. وهكذا بدأ خلال القرن الـ ١٨ يتحول الدافع الأصلي – وهو رصد التطورات العلمية والحربية – إلى مجرد رغبة شديدة تجاه المصنع الجاهز الذى يرد من الخارج وميل إلى الاستهلاك السريع لهذه البضائع الكمالية المستوردة. وتقدم جوتشك تفسيرًا ثاقب البصيرة لهذا الموقف فتذكرنا بأن العثمانيين فى أوجهم كانوا يملكون القوة للسيطرة والتحكم فى أى مؤثرات خارجية قد تأتى مع منتجات المجتمعات الأخرى ولكن في هذه الحقبة بدأ الحال يتغير: “تزامن هذا اللقاء العثماني – الفرنسي في القرن الـ ۱۸ مع بداية تراجع الإمبراطورية عسكرياً وتكنولوجيًا؛ فقد العثمانيون القوة والقدرة على السيطرة أو تشكيل هذه المؤثرات الخارجية، بل بدأت هذه العوامل هي التي تعيد تشكيل الثقافة والسلوك فى المجتمع العثماني” (ص۸۰) تقول المؤلفة هنا ما معناه أن السيادة الثقافية لدى أي مجتمع مرهونة بعلاقات القوة.
أما عن أهم أثر تكنولوجي مباشر لبعثة محمد أفندى العثماني في فرنسا، فكانت إنشاء أول دار طباعة عثمانية رسمية من قبل ولده محمد سعيد في ١٧٢٦ بمساعدة “إبراهيم متفرقة” رغبة منهما كما أعلنا في الدفع بالعلم والتعليم إلى التقدم. وسهل من تشغيل المطبعة بسرعة وجود جماعات اليهود واليونانيين والأرمن المشتغلين فعلاً بالطباعة في القسطنطينية وكانوا يطبعون كتبًا عبرية ويونانية. ولكن فيما عدا المطبعة وبعض المحاولات غير الناجحة لإنتاج وتسويق الساعات الميكانيكية والمنسوجات أهمل العثمانيون في تتبع الوسائل التكنولوجية الأكثر تقدمًا وعندما عجزوا عن انتاجها اتجهوا إلى استيرادها واستهلاكها. وهذا أدى بالتالي إلى أخطر أثر من آثار هذا الاحتكاك بالغرب وهو ظهور القسام في المجتمع العثماني بين فريق يتوجه إلى الغرب، وفريق آخر يرفضه بشدة. وتربط الكاتبة بين صرعة استهلاك المنتجات الفرنسية التي سادت المجتمع العثماني وتبني ذوق جديد في السلوك والمعيشة من ناحية، وظهور تیار تغریبی قوی من ناحية أخرى, وبالتالي “ازدواجية ثقافية” لأول مرة في المجتمع (ص ۸۱). ظل التوجه التغريبي داخل نطاق الصفوة وكبار موظفي الدولة متمثلاً في استيراد البضائع الاستهلاكية، وبذلك بدأت عملية “الشد والجذب بين التيارين المحافظ والتقدمي, ذلك الاستقطاب الذى أدى إلى التآكل التدريجي لوحدة الإمبراطورية في نهاية الأمر” (ص ۸۱) ؛ وهكذا زاد التوسع التجارى لفرنسا والدول الأوروبية الأخرى في حوض البحر المتوسط والمحيطات. واستمر إجبار العثمانيين على منح المزيد من الامتيازات التجارية للأجانب فى مصر وسوريا، مما ساعد على اختراق المنتجات الغربية والتجار والمسافرين للأسواق العثمانية والتحكم فيها بلا منازع (ص ۱۰۱).
وفي النهاية تكون العبرة المستخلصة هي تأمل الطريقة التي تحول بها المجتمع العثماني في انفتاحه على الغرب (والتي بدأت كما رأينا بالهيمنة العسكرية والاقتصادية),
“ومقارنة هذه الحالة بتجارب المجتمعات التقليدية الأخرى في احتكاكها بالغرب أيضاً” (ص ۱۳۷). وقد أزعجني بعض الشئ إشارات الكاتبة المتكررة إلى ثنائية “التقليدي” – كعنصر سلبي جامد – في مقابل كل ما هو “تكنولوجي” متطور ديناميكي يأتى الغرب؛ (رغم أنه قد ورد عرضًا على أحد صفحات الكتاب تأثير انتشار العلوم العربية قبيل عصر النهضة الأوروبية من خلال ترجمتها وطبعها بدور الطباعة الإيطالية).
ولذا أخذت أتفكر في عدة أمور: ألا يبشر هذا الوضع بموقف مصر نفسها فيما بعد في القرن الـ ١٩ وبعملية التحديث التي قادها محمد على؟ ألا يعد هذا المشروع صدى للمشروع الإصلاحي للسلطان سليم الثالث (۱۷۸۹ – ۱۸۰۷) الذي سعى إلى تحديث قوات الجيش والمدارس الفنية، وكذلك السلطان محمود الثاني (۱۸۰۷ – ۱۸۳۹) في تقويته للسلطة المركزية والحاكم الأوحد؟ وألا يذكرنا هذا بالجدل الدائر بين المؤرخين حول ما إذا كان محمد على يعمل داخل الإطار العثماني أم أنه كان محرر مصر من نير العثمانية ؟{ الرجاء النظر الى مراجعة باسكال غزالة لكتاب خالد فهمي, “رجال الباشا: حمد على وجيشه ومصر الحديثة” ( جامعة كامبردج ۱۹۹۷) في “الأهرام ويكلى” (٢٧ أغسطس ٢ سبتمبر (۱۹۹۸)}.
هل هذه هي البداية الحقيقية لهذا الاستقطاب المغلوط بين الحداثة أو الإصلاح (خاصية الغرب وحده) وبين الثقافات الأصيلة التقليدية في انتظارها لفاعليات التحضر والتمدن؟ وأخيرًا: هل يجب أن تصطدم الحداثة دائمًا بالتراث أو تتطلب قطيعة مع الموروث الثقافي والتاريخي؟
وهكذا كنا نتطلع إلى مزيد من التحليل المتعمق للتفاعل بين الانحسار العسكري / الاقتصادي والتراجع الثقافي. فعلى الرغم من أن الكتاب يتناول حالة العثمانيين بالذات في القرن الــــــ ۱۸ ، إلا أننا نلحظ التشابه الكبير مع حالة الوطن وأزماته التاريخية المحدثة.