المنهجيات والمنظومات والمصادر
لدراسة النساء والثقافات الإسلامية
المداخلات في الأفرع المعرفية
الفلسفة
الإسلام دين أبوي، شأنه شأن الأديان الأخرى التي تقوم على الوحدانية. وهو يعتبر أن الله يعلو على كل شيء وأن صفاته أسمى من الصفات الإنسانية. ومع هذا فإنه يستخدم ضمير المذكر للإشارة إلى الله. وفضلاً عن هذا فإن البناء الاجتماعي الذي نراه سواء في التنزيل أو في المؤسسات يهيمن عليه الرجال. وكما هو الحال في المجتمع الغربي فإن هذا الميراث الذكوري له آثار متعلقة بوضع النساء في الفلسفة الإسلامية. وأول هذه الآثار هو أننا لا نستمع إلى أصوات النساء في الأعمال الفلسفية التقليدية، أما الثاني فهو أن موضوع النساء نادرًا ما يتم التطرق إليه في الفلسفة الإسلامية، والثالث هو أن تقييم النساء (عندما يرد ذكرهن في الفلسفة الإسلامية) عادة ما يكون سلبيًا، ومع هذا فإن المثل العليا الإسلامية (خلافًا لما يحدث في الواقع) والخاصة بالنساء إيجابية في مجملها حتى داخل الإطار الذكوري. ولهذا فإن الحركات الإصلاحية التي تحارب الوضع المتدني للنساء في العالم الإسلامي في العصر الحديث عادة ما تعكس الأفكار الدينية عن الكرامة الإنسانية والمساواة. وقد ركزت هذه الحركات على القضايا الدينية والقانونية وعلى الفلسفة، كما اتجهت إلى طمس الحدود بين العلوم المختلفة في الفكر الإسلامي المعاصر.
خلافًا لمكانة الفلسفة في المسيحية، لا تلعب الفلسفة دورًا أساسيًا في التراث الإسلامي، بل إن القانون هو سيد العلوم في الإسلام وأرفعها شأنًا. وقد قام علماء الكلام بالتعبير عن المبادئ الدينية المأخوذة من التنزيل وتفسيرها بشكل عقلاني. ونظرًا لأن أهداف علم الكلام الفكرية لم تتعد نطاق النص المنزل، فقد اعتبر علم الكلام علمًا مشروعًا بل وأساسيًا في الإسلام. لكن الفلسفة لم تكن محدودة بالقضايا المتعلقة بالتنزيل، بل تضمنت مسائل أخرى أثارها المفكرون من الإغريق القدامى والرومان الإغريق وغيرهم من المفكرين القدامى ممن كانت أعمالهم متاحة من خلال الترجمة بحلول القرن الثاني الهجري (القرن التاسع الميلادي)، كما أن الفلسفة لم تكن تضع أية حدود للتساؤلات العقلية. وفي الحالات التي تضاربت فيها نتائج التساؤل مع التنزيل، كان التفسير الذي يمليه العقل هو أن التنزيل لم يتم فهمه على الوجه الصحيح. وقد خلص الفلاسفة المسلمون إلى أن التنزيل يجب فهمه باعتباره تعبيرًا مجازيًا عن حقائق عميقة لا يمكن أن يصل إليها العقل غير المدرب. وبشكل عام لم تكن هذه الاستنتاجات مقبولة بالنسبة لعلماء الدين، كما إنها لم تكن ذات أهميه لمعظم المسلمين.
وبالرغم من هذه القيود، إلا أن بعض كبار المفكرين الإسلاميين في الفترة السابقة على العصر الحديث قد شاركوا في البحث الفلسفي. وكانت أعمالهم غالبًا ما تعكس كراهية المؤسسات الاجتماعية والقانونية الإسلامية السائدة للنساء. وقد دعم هذا الاتجاه الاعتماد على كبار الفلاسفة الإغريق. ففي رأي أفلاطون إن النساء لسن أكثر من رجال فاشلين. ففي كتابه تيمايوس مثلاً يزعم أفلاطون أنه من المعقول أن نفترض أن الجبناء والمجرمين سيعاد بعثهم كنساء. أما أرسطو فكان يؤيد فكرة أن النساء أدنى من الرجال بطبيعتهن حيث أنهن مرتبطات بالجسد وعاطفيات مقارنة بالرجال الذين يتسمون بالروحانية والعقلانية، وبالتالي لايد وأن يكون للرجال السيطرة والتحكم. وبينما رفض الفلاسفة المسلمون القدامى فكرة تناسخ الأرواح وفكرة أن المرأة مخلوق أدنى، إلا أنهم لم يتساءلوا حول الغياب العام للنساء في خطابهم أو حول ربط النساء بالشهوة الجنسية عندما يرد ذكرهن.
كان أبو بكر الرازي (المتوفى عام ۳۱۱ – ۳۲۰هـ./ ۹۲۳ – 9۳۲م) من أوائل كبار الفلاسفة المسلمين، وكان يهدف في تفسيره العقلاني للعالم إلى توضيح كيف يكون الله مصدرًا لهذا العالم الناقص المتغير والمليء بالشر وهو المتسم بصفات الكمال والخير المطلق والثبات. وقد حدد الرازي خمسة مبادئ أبديه هي: الله والروح والمادة الرئيسية والمكان المطلق والزمان المطلق. والروح وفقًا لتصور الرازي مؤنثة، ويعكس وصف الرازي للعالم المخلوق رأيه بأن الأنوثة تتحكم فيها العاطفة ولهذا فإنها تحتاج إلى العقلانية (المذكرة). ووفقًا لوجهة نظر الرازي، فقد خلق الله العالم لأنه برحمته يحاول التخفيف من رغبة الروح في المادة، ولكي يعلمنا في نفس الوقت التغلب بالعقل على هذه الرغبة بما تسببه من معاناة.
لقد حاول بعض الفلاسفة المسلمين تصحيح خروج بعض الفلاسفة الآخرين عن التعاليم الإسلامية التقليدية، وأن يعطوا للعقلانية معايير إسلامية. ومن أشهر هؤلاء المصلحين الأوائل الغزالي (المتوفى عام ٥٠٥هـ./ 1111م) الذي انتقد الفلاسفة السائدين لما فيهم من “تهافت” (تهافت الفلاسفة). ولكنه مثلهم اعتبر أن النساء أقل درجة من الرجال. وقد حذر الغزالي الرجال في كتابه إحياء علوم الدين من الانحدار إلى مستوى النساء في أي أمر، كما قال إنه ينبغي ألا يسمح للنساء صرف الرجال عن مهامهم وواجباتهم الدينية، فالنساء موجودات فقط من أجل الإنجاب وخدمة الرجال.
النموذج الوحيد الشاذ والخارج على هذا الاتجاه العام في فلسفة العصور الوسطى هو الفيلسوف الأندلسي الشهير ابن رشد (المتوفى عام 595هـ./ ۱198م) الذي فند في كتابه تهافت التهافت هجوم الغزالي على الفلاسفة. كما هاجم ابن رشد أيضًا الاتجاه السلبي السائد تجاه النساء قائلاً إن الضعف والفقر في الدول الإسلامية يرجعان إلى منع النساء من ممارسة أية أنشطة أخرى غير تربية الأطفال. ومع هذا فإن ابن رشد يعتبر حاله شاذة وسابقًا لعصره، والدليل على ذلك هو مرور قرون كثيرة قبل أن تتم مناقشة المكانة المتدنية للنساء في الخطاب الإسلامي السائد.
كان الحال في الغرب شبيها بالحال في العالم الإسلامي، حيث كانت النساء غائبات عن الخطاب الفلسفي الغربي حتى العصر الحديث. وقد كانت ماري ولستونكرافت من أوليات الفيلسوفات اللاتي نشرت أعمالهن (المتوفاة عام ١٧٩٧م). وفي كتابها دفاع عن حقوق المرأة (Mary Wallstonecraft, A Vindication of the Rights of Woman 1792) تقول ماري ولستونكرافت إن سيادة الرجل في المجتمع قد حرمت كلاً من الرجال والنساء من تحقيق إمكاناتهم الحقيقية وحالت دون إيجاد مجتمع فاضل. وبعد حوالي قرن من الزمان، عبرت الكاتبة البنغالية المسلمة رقية سخاوات حسين عن فكرة مشابهة لذلك في قصتها عن حلم سلطانة (Rokeya Sakhawat Hossain, Sultana’s Dream) التي تصف فيها مجتمعًا فاضلاً تمت فيه السيطرة على النزعة الطبيعية للشجار والموجودة لدى الرجال عن طريق إشراكهم في المهام الدنيا وإبعادهم عن السلطة. ولكن لا ماري ولستونكرافت ولا رقية حسين كانتا تعبران عن الأفكار العادية بشأن أدوار النساء في مجتمعيهما.
لم يكن من الشائع سماع أصوات النساء في الفلسفة الغربية حتى القرن العشرين، وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى تحديدًا. فقد كانت هذه الفترة عصر ثورة فكرية، حيث حاول المفكرون التعامل مع وعود الحداثة التي فشلت في أن تتحقق ومع انهيار الأخلاق المتمثل في كارثة الحرب العالمية. وفي هذا السياق بحثت سيمون وايل (Simone Weil) (المتوفاة عام ١٩٤٣م) عن علاج للهم الإنساني عن طريق مدينة مسيحية فاضلة تقوم على حياة التأمل الأفلاطوني المثالي. أما هانا أرندت (المتوفاة عام ١٩٧٥م) فقد اتخذت موقفًا مغايرًا حيث سارت على خطى أستاذها مارش هايديجر وانتقدت التراث الفلسفي الغربي الذي يركز على الإدراك بدلاً من التركيز على الفعل وهو لب المسؤولية الأخلاقية (Hannah Arendt, The Human Condition 1985). وبالنسبة لما تراه هانا أرندت، ليست للتفكير قيمة في ذاته ولكن تنبعث أهميته من تحليله النقدي لنتائج الأفعال الأخلاقية. أما مسألة وضع النساء في الفلسفة فلم يحدث أن أثيرت بشكل مباشر قبل الفيلسوفة سيمون دي بوفوار (Simone de Beauvoir) (المتوفاة عام ١٩٨٦م) التي ركزت على الحرية والهوية الفردية تحديدًا (دون أن يقتصر الأمر عليها فقط) فيما يتعلق بالنساء. ولم تتوقف سيمون دي بوفوار عند حدود معلمها ومشاركها جان بول سارتر، وإنما قالت إنه على الرغم من الحرية الوجودية للأفراد، إلا أن حريتهم الحقيقية وهويتهم تتأثر بالظروف وبالسياق الاجتماعي.
ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين حدث انقسام منهجي في الفلسفة الغربية. ففي إنجلترا وفرنسا هيمن الفلاسفة التحليليون على المجال، أما في أوروبا فقد سادت المقاربات الفينومينولوجية (دراسة الظواهر). والفلسفة في أوروبا – وهي عادة ما توصف بالتمائها إلى ما بعد الحداثة – تتجاوز حدود المجال الفلسفي متقاطعة مع علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والدراسات الأدبية ومجالات أخرى في محاولات مستمرة للتعرف على مصادر التهميش الاجتماعي والعنف بكافة أنواعه.
وفي العالم الإسلامي يوجد طمس مشابه للحدود القائمة بين الأفرع المعرفية المختلفة، وهو ما يتجلى واضحا في عصرنا الحديث خاصة فيما يتعلق بالدراسات النسائية. وينكر الفيلسوف المصري المعاصر حسن خلفي وجود ما يمكن أن يطلق عليه “الفلسفة” في العالم الإسلامي الحديث. ويوضح أن الفلسفة قد استبدلت بجهد فكري أكثر عمومية يتضمن الإصلاح القانوني الديني، والخطاب السياسي الاجتماعي، وكذلك العلوم الدنيوية العلمانية التي يقوم بها مسلمون وغير مسلمين في العالم الإسلامي، ومن بينهم الماركسيون. والسمة الأساسية لهذه المساحة الأوسع من الفكر، هي نقد الاتجاه التقليدى المحافظ. ويدعو حسن حنفي إلى استعادة الروح العقلانية للقرآن والتراث الإسلامي، كما يدعو أيضًا إلى صياغة نوع جديد من التأويل يتعامل مع الحقائق المعاصرة بما فيها إعادة هيكلة الأيديولوجيا الإسلامية المتعلقة بالنساء.
إن النقد الاجتماعي والفكري لدى حسن حنفي يعتمد على التحليل التاريخي، وهو يعكس بذلك التيار الفلسفي الرئيسي عالم المسلمين في العصر الحديث. وشأنه شأن غيره من المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث، وبالتوازي مع الإحساس بالأزمة لدى أتباع مذهب الفينومينولوجيا الغربيين، يدرك حسن حنفي أن الإصلاح أمر جوهري من أجل بقاء ثقافته. والفكرة الشائعة في أعمال هؤلاء المفكرين هى الاعتراف بأن الثقافة في العالم الإسلامي قد دخلت أثناء العصور الوسطى في حاله من الركود. فبعد فترة من الإنتاج الثقافي الرائع في كل مجالات العلوم والفنون، حدثت حاله من التشظي في العالم الإسلامي الذي غلبته القوى الاستعمارية واستغلت مواطن ضعفه. فعلى سبيل المثال، ينتقد المفكر المغربي محمد عابد الجابري المجتمع الإسلامي بشكل عام لأنه أهمل في الالتزام بالعقلانية ففقد القدرة على التعامل مع الظروف المتغيرة وأصبح حبيسًا لماضيه التاريخي. وعندما جاءت الحرب العالمية الأولى واضطر هذا المجتمع إلى إدراك عيوبه، حاول القيام بإصلاحات هيكلية جاء معظمها عن طريق استيراد أنظمة أجنبية وتجاهل جذوره بما لها من قوة ثقافية. وكانت نتيجة ذلك هي انعزال الأغلبية داخل المجتمع مما أدى إلى ردة دينية محافظة. ويدعو الجابري إلى إصلاح هذا الوضع عن طريق العودة إلى المصادر الأصلية للثقافة العربية الإسلامية وتطبيق منهجياتها التأويلية العقلانية على التحديات المعاصرة. وسيرًا على نهج عالم الاجتماع عبد الكبير الخاطبي يؤكد المؤرخ عبد الله العروي (Abdallah Laroui) مقولاته، وعلى الرغم من أنهما لا يعملان في مجال الفلسفة إلا أنهما يمثلان اتجاهًا نحو النقد الثقافي يهدف إلى تحرير المجتمع من قيود المحافظة على القديم. ولكن أشهر أتباع التاريخانية الجديدة (neo- historicists) هو محمد أركون الذي يعترف بالحاجة إلى ثورة ثقافية تحقق أشياء كثيرة من ضمنها إدماج النساء في الفلسفة الحديثة. ولابد لهذه الثورة أن تقلب الأنظمة الاجتماعية ونظم صباغة الهوية التي كانت سببًا لتدني مكانة النساء. ولابد أيضًا أن تعتمد هذه الثورة على تحليلات بيولوجية وأنثروبولوجية وتاريخية.
ولكن أوسع المفكرين تأثيرًا في العالم الإسلامي الحديث هم من يعطون أهميه للمصادر الدينية في جهودهم الإصلاحية، ومنهم فضل الرحمن (Fazlur Rahman) (المتوفى عام ۱۹۸۸م) الذي كان له أكبر الأثر على التفكير الإسلامي الحديث عامة وعلى إصلاح الفكر الإسلامي فيما يخص مكانة النساء بوجه خاص. لقد تلقى فضل الرحمن تعليمًا تقليديًا في الفكر الإسلامي في إقليم البنجاب قبل التقسيم، ثم درس الفلسفة في أكسفورد، وقد وصف نفسه بأنه حداثي. وكان يعني بهذا الوصف أنه يدرك أن الوحي قد نزل في أوقات وأماكن محددة، وهو ما ينطبق أيضًا على تفسيرات دلالات الوحي بالنسبة للعصور والأماكن التي أعقبت نزوله. وبالتالي يجب إعادة دراسة الوحي وتفسيرات الوحي والقوانين الإسلامية المستندة على هذه التفسيرات في ضوء الظروف المحددة التي خرجت منها. كما يجب إعادة صياغتها بشكل يتماشى مع الظروف المحيطة. ولابد أن يعتمد هذا كله على فهم واضح للروح العامة للقرآن ولآليات مجتمع اليوم المعقد.
ويعتمد جوهر منهج فضل الرحمن على التأويل الفلسفي، فقد اتفق بوضوح مع ما قاله هانز غيورغ غادامر من أن “كل تجربة فهم تفترض مسبقًا حدوث تكييف مسبق للذات المارة بالتجربة” (Hans George Gadamer 1982, 9). وهكذا فهو يؤكد أن فهم مقصد النصوص المنزلة يتطلب الوعي بالإطار التاريخي الذي حدث فيه التنزيل. ويدرك فضل الرحمن تأثير العوامل الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، كالتعليم والاهتمامات السياسية والاقتصادية، على تفسير كل أنواع النصوص المقدسة. ولذلك فهو يرفض إمكانية وجود تفسير نهائي ويطالب بتقييم نقدي للتراث الفكري للإسلام، للتمييز بين المبادئ الإسلامية الجوهرية وبين صياغتها الخاصة التي جاءت نتيجة لاحتياجات محددة لبعض السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ربما يكون قد عفا عليها الزمن. وعلى ذلك يستطيع المفسرون في السياقات المختلفة أن يحددوا الطريقة المثلى لتطبيق المبادئ الأساسية للإسلام في الظروف الخاصة بهم (والتي لابد أن يتم تحليلها هي نفسها تحليلاً نقديًا).
وفيما يتصل بالقضايا الاجتماعية على وجه الخصوص، يقول فضل الرحمن أن مطالبة أي مفسر بصيغة يمكن تطبيقها أبديا يشبه مطالبة طبيب بعلاج يكون شافيًا للأبد، بينما في الواقع لابد للناس أن يبحثوا دائمًا عن علاجات جديده كلما ظهرت علل جديده. وقد وصف فضل الرحمن هذه الطريقة بأنها الطريقة التأويلية الملائمة للقرآن، وكان يرى أن الوضع القانوني والاجتماعي للنساء من أوضح المجالات التي تحتاج إلى إعادة تقييم. وكثيرًا ما استخدم شهادة النساء في المحاكم كمثال. فوفقًا للتفسيرات التقليدية فإن شهادة المرأة تساوي نصف شهادة الرجل. ويقول فضل الرحمن إن الجزء الذي يستند عليه هذا الحكم في القرآن لابد وأن يفهم في سياقه التاريخي لأن هذا سيتيح التمييز بين الآيات التي تحتوي على مبادئ أخلاقية عامة التطبيق وبين تلك التي تمثل استجابة لظروف سياسية خاصة. وهو يقول أيضًا إن الآية المذكورة تشير إلى الأمور المالية التي لم تكن للنساء معرفة بها وقت نزول الآية. وبالتالي فإن تطبيق الحكم الموجود في الآية لا يكون ملائمًا إلا في الحالات المشابهة، ولكن عندما تكون النساء متعلمات وعلى دراية بشؤون المال فلا مجال لأن نفترض أن نفس الحكم لا يزال ساريًا. وقد خلص بشكل عام إلى أنه “في فهم الإصلاحات الاجتماعية التي أتى بها القرآن … سنقع في الخطأ إذا لم نفرق بين القوانين المفروضة وبين الوصايا الأخلاقية. أما إذا قمنا بهذه التفرقة فسوف نستطيع ليس فقط فهم التوجه الحقيقي للتعاليم القرآنية وإنما سنتمكن أيضًا من حل بعض المشاكل المعقدة المتعلقة مثلاً بالإصلاحات الخاصة بالنساء. والخطأ الواضح للتراث القانوني المسلم قد جاء من هذه النقطة بالذات حيث تم اعتبار القرآن كتابًا في القانون لا مصدرًا دينيًا للقانون” (Rahman. 1980, 47).
ويؤكد بعض المصلحين الدينيين على موقفهم المحافظ فيما يتعلق بمكانة النساء. فتبنى أبو الأعلى المودودي (المتوفى عام ۱۹۷۹م)، وهو الباكستاني مؤسس الجماعة الإسلامية، وجهة نظر اجتماعية أبوية مبنية على تفسيره للمصادر الدينية، فيرى أن المرأة تحتاج إلى سيادة الرجل لضعفها وعدم إمكانية الاعتماد عليها. وعلى نفس المنوال اعتنقت زينب الغزالي، مؤسسة جمعية الأخوات المسلمات في مصر في ١٩٣٦م فكره تحرير النساء من الجهل والقهر، ولكنها تمسكت بنظرة أبوية عامة للمجتمع ترى أن واجب المرأة الأساسي هو أن تكون زوجة وأُمًا. إلا أنه لابد قراءة هذه الآراء باعتبارها رد فعل مضاد للهيمنة الغربية، ومحاولة لتمييز الأخلاق الإسلامية عن أخلاق المستعمرين. وعلى الرغم من تأثير الاستعمار على بعض شرائح المجتمع، إلا إصرار فضل الرحمن على الاجتهاد (بمعنى إعادة التفكير في المصادر الدينية وتطبيقها على ضوء الظروف الاجتماعية والتاريخية الجديدة) هو إصرار ما زال يؤثر على كبار دعاة الإصلاح في الفكر الإسلامي فيما يتعلق بمكانة النساء.
ومن بين هؤلاء عزيزة الحبري التي تبدأ بالاعتماد على عمل فضل الرحمن مفرقة بين نوعين من القواعد في القرآن: القواعد العامة والقواعد الخاصة. وهي تقول إن معظم تعاليم القرآن عامة وأن القوانين الخاصة قليلة نسبيًا وتتعلق في الغالب بمسائل العبادة أو قوانين الأسرة وبعض جوانب القانون التجاري والجنائي أيضًا، وتطالب عزيزة الحبري شأنها شأن فضل الرحمن بإعادة تقييم التفسيرات التقليدية للنصوص المقدسة، وتركز على الاجتهاد كوسيلة لتفسير القرآن وكمفتاح للإصلاح. ولكنها تزيد على فضل الرحمن بأن أي مسلم يتوفر لديه الاستعداد من الممكن أن يشارك في تفسير النصوص الإسلامية والقانون الإسلامي. وتذكرنا هذه الخطوة الإصلاحية بذلك النوع من خصخصة التفسيرات الدينية التي ميزت حركة الإصلاح الديني المسيحية. (ويجب أن نلاحظ هنا أن حركة الإصلاح المسيحية كانت مقدمة لإعادة تقييم دور النساء في المجتمع الأوروبي، وأنه ما زال أمام الكنيسة الكاثوليكية، التي أدانت هذا الإصلاح، القيام بعملية إعادة التقييم هذه.)
وهناك مفكر كبير آخر معاصر تأثر بفضل الرحمن، وهو فريد إيساك العالم والناشط من جنوب أفريقيا. ولكن مجال فريد إيساك أوسع بكثير من عزيزة الحبري، حيث أنه من خلال عمله في سياق نضال جنوب أفريقيا صد سياسة الفصل العنصري، طالب بالاجتهاد للتركيز على مسؤولية المسلمين في العمل ضد كل أنواع الظلم الاجتماعي، والعمل مع “الآخر” الديني لتحقيق الأهداف المشتركة في العدالة الاجتماعية. ولكنه يقول إن الصراع متصل أيضًا بتحرير النساء. ومره أخرى يكمن التحدي في دمج التعاليم الدينية بالواقع الاجتماعي. والتغير الذي طرأ على طبيعة الأسرة، وزيادة القدرة على القراءة والكتابة، والاستقلال الاقتصادي المتنامي، كلها أمور تتطلب إعادة التفكير في القضايا الأخرى الخاصة بالحداثة. فالتفسيرات الدينية التقليدية تعكس سياقًا اجتماعيًا كانت فيه النساء تابعات اقتصاديًا وأقل نشاطًا في المجال العام. ولكن طل هذه التغيرات لابد للمسلمين من ممارسة الاجتهاد كي تصبح التعاليم الدينية متصلة بالواقع الاجتماعي.
لم يتم في الغرب الاعتراف بغياب النساء عن المجال العام إلا مع الاتجاه نحو التصنيع والتوسع الحضري والديمقراطية. فقد اجتمعت هذه الأشياء لتطمس جذور الأبوية ولتحرر النساء تدريجيًا، كما سمحت أيضًا بالاعتراف بإنسانية النساء الكاملة أو على الأقل بمسؤوليتهن المدنية. ولم يظهر مصطلح “النسوية” إلا في أواخر القرن التاسع عشر، مشيرًا إلى دعم مساواة النساء بالرجال في الحقوق القانونية والسياسية. ومع هذا، فإن المشاركة في مجال العلم تحتاج إلى التعليم، والفارق بين تعليم الرجال والنساء كان بحاجة إلى عقود ليتم علاجه، كذلك لم توجد جهود منظمة لتحليل وتقييم غياب النساء عن الفلسفة الغربية إلا في الربع الأخير من القرن العشرين. وقد زعم البعض أن النساء قد شاركن بالفعل في الفكر الفلسفي ولكنهن تعرضن للتهميش. فعلى سبيل المثال، توصلت سوزان مولر أوكين إلى مجموعة من النساء ممن قدمن إسهامات في الفكر السياسي (Susan Moller Okin. Women in Western Political Thought 1981).كما ذهبت أخريات إلى أنه قد تم تحريف الفلسفة لإضعاف قيمة إسهامات النساء الفريدة (أنظر/ أنظري مثلاً: Michele Le Doeuff, Hipparchia’s Choice: An Essay Concerning Women, Philosophy, etc., 1991). وقد كانت هذه القضايا وقضايا أخرى محورًا لمجلة هيباتيا (Hypatia) وهي “الدورية الوحيدة للأبحاث المتخصصة التي تتناول تقاطع الفلسفة مع الدراسات النسائية” والتي “تستعيد أعمال الفيلسوفات“. وعزيزة الحبري هي من العضوات المؤسسات لهذه الدورية. ولا يزال هناك نقاش حي في الفلسفة الغربية عما إذا كان غياب الأصوات النسائية في الفلسفة ناجمًا عن التقليل من قيمة عقلية النساء أم عن المبالغة في تقدير عقلية الرجال، أم عن الحدود الضيقة لمجال الفلسفة نفسه.
وكما هو الحال في الغرب، أدت الظروف المتغيرة إلى إعادة التفكير في وضع النساء في العالم الإسلامي. ولكن على العكس من الغرب، كان العالم الإسلامي واقعًا في ذات الوقت في صراعات هائلة من أجل الاستقلال عن السيطرة الأجنبية ومن أجل تحقيق التطور في فترة ما بعد الاستعمار. وفي ظل تلك الظروف، لا تزال الإصلاحات الاجتماعية الكبرى في مهدها. إن مكانة النساء وتقييم طبيعتهن مقارنة بالرجال وتداعيات هذا التقييم على مشاركة النساء في الحياة العامة هي أمور تنتمي إلى المناقشات النقدية حول الديمقراطية والتنمية ودور الدين في المجتمع. ومع هذا، تتطور الفلسفة في العالم الإسلامي في اتجاه تعدد الأفرع المعرفية كما هو الحال في التراث الأوروبي الغربي. وفي كلا الحالتين، يأتي التحول نتيجة للنقد الاجتماعي والثقافي، ومن ضمنه نقد تهميش النساء.
مصادر أولية
الغزالي، إحياء علوم الدين، ٥ مجلدات القاهرة ١٩٦٧ – ١٩٦٨.
م. ع. الجابري، نحن والترات: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، بيروت ١٩٨٠.
Primary Sources
A. Y. al- Hibri and M. A. Simons (eds.), Hypatia reborn Essays in feminist philosophy, Bloomington, Ind. 1990.
M. A. Al- Jabiri, Arab- Islamic philosophy. A contemporary critique, Austin, Tex. 1999.
Aristotle, The works of Aristotle, ed. W. D. Ross, trans. B. Jowett, Oxford 1921.
M. Arkoun, Rethinking Islam, trans, and ed. R. D. Lee, Boulder, Colo, 1994.
F. Esack, Quran, liberation and pluralism, Oxford 1997.
R. S. Hossain, Sultana’s dream and selections from the Secluded Ones, ed. and trans. R. Jahan, New York 1988.
Plato, The collected dialogues of Plato, ed. E. Hamilton and H. Cairns, New York 1961.
F. Rahman, Islam and modernity, Chicago 1982.
-, Major themes of the Qur’an, Mineapolis 1980.
J. Rumi, Mathnawi of Jalalu`ddin Rumi, ed and trans. R. A. Nicholson, 8 vols, London 1925- 40.
Secondary Sources
L. Ahmed, Women and gender in Islam. New Haven, Conn. 1992.
T. Sonn, Fazlur Rahman’s Islamic methodology, in Muslim World 81: 3- 4 (1991), 212- 30.
A. Wadud, Qur’an and woman, New York, 1999.
W. Walther, Women in Islam, trans. C. S. V. Salt, Princeton, N. J. 1981