المنهجيات والمنظومات والمصادر
لدراسة النساء والثقافات الإسلامية
المداخلات في الأفرع المعرفية
الفن والعمارة
في الثلاثين سنة الماضية تطورت دراسة الفن والعمارة في المجتمعات الإسلامية لتشكل مجالاً معترفًا به من مجالات دراسات تاريخ الفن، ورغم أنه لا يزال مجالاً محدوداً إلا أنه كون تراثًا خاصًا به في كتابة التاريخ وقدم إسهامات كان لها تأثيرها الكبير. ولكن تظل دراسة النساء والجندر مساحة غير مطروفة في الثقافة البصرية للعالم الإسلامي. وتقدم هذه المقالة الخطوط العامة للمصادر المتاحة لمثل هذا النوع من البحث، وعرضًا عامًا للمناهج المستخدمة في الأبحاث المتخصصة في هذا المجال، كما تشير إلى الطرق المتاحة للبحوث المستقبلية (أنظري/ أنظر أيضًا الصور والرسوم التوضيحية في القسم المخصص لها من هذه الموسوعة).
إن التساؤل عن سبب ضعف تناول نقاط الالتقاء ما بين الجندر والثقافة البصرية في العالم الإسلامي بالبحث، عادة ما يتم إرجاعه إلى قلة المصادر – البصرية والنصية – التي تتناول تلك القضايا أو تلقي عليها بالضوء، ولكننا نجد هذا الضعف في استكشاف المصادر الأولية في كل جوانب الدراسات الإسلامية تقريبًا، وحيث إنه لم يتم حصر المصادر المتاحة لدراسة الجندر بشكل منظم، فمن الصعب التأكيد الحاسم بعدم وجودها. والطريق الوحيد لرسم صورة أدق عن المصادر المتاحة ومدى تنوعها وكذلك الطرق المثلى لدراستها دراسة مثمرة هو المزيد من البحث العلمي. وإلى جانب محاولة العثور على مواد أولية “جديدة“، يمكن الاستفادة كثيرًا من قراءة المصادر المتاحة قراءة نقدية، وقراءتها من منظور الجندر. فعلى سبيل المثال، تبين دراسة أفسانة نجمبادي أن القراءات الحديثة للشعر الصوفي القديم، والتي تمت من منطلق الجنسية الغيرية (heterosexist)، هي قراءات دأبت على إخفاء وإغفال العشق المثلي المتضمن في هذه النصوص (Najmabadi forthcoming).
ومن الواضح أنه مجال يطرح العديد من التحديات المختلفة أمام الدارسة والدارس المهتم بقضايا الجندر. ولعله من المفيد تقديم عرض قصير لأنواع المصادر المتاحة. تختلف طبيعة المصادر كما يختلف ما قام به الباحثون والباحثات في تحقيقها باختلاف السياق الجغرافي. فعلى سبيل المثال في حين نجد دراسات الجندر في المجتمعات التي تسودها المجموعات التوركية* فإن النساء المسلمات في أفريقيا جنوب الصحراء لا يكاد يكون لهن وجود في هذه الأدبيات. ومؤخرًا ظهرت بعض الدراسات النموذجية للإنتاج والاستهلاك الفني الذي يقوم على أساس الجندر وذلك في المجتمعات الواقعة جنوب الصحراء الأفريقية (Prussin 1995, Perani and Smith 1998)، ولكن قضايا الجندر والثقافة البصرية بالنسبة للمجموعات الإسلامية الواقعة إلى الجنوب من شمال أفريقيا قد غابت تمامًا نتيجة الفجوات التي أوجدها تقسيم الدراسات الأكاديمية في الغرب حاليًا إلى مجالات على أساس المناطق الجغرافية.
كما تختلف الدراسات اختلافًا كبيرًا كذلك نتيجة السياق التاريخي. فالفرق كبير ما بين طبيعة المصادر في الفترة المعاصرة والفترة السابقة على الحديثة وبداية الفترة الحديثة. فاليوم يتم الإنتاج الفني والعمل المعماري في سباق مؤسسات مما يسمح بظهور فنانات كبيرات (شيرين نشأت، منى حتوم) ومخرجات سينما (آسيا جبار) ومعماريات ومنظرات (زها حديد) وممثلات وناشطات سياسيات (شبانة عزمي) (Nashashibi 1994, 1998). وبالإضافة إلى دراسة الشخصيات المتميزة يمكن أيضًا القيام ببحوث ميدانية وجمع شهادات شفاهية لتوثيق حياة وعمل النساء الفقيرات فيما يسمى بالحرف التقليدية كصناعة النسيج والعمارة البدوية (Prussin 1995, Stillman and Micklewright 1992, Stillman 2000). وقد قدم هذا النوع الأخير من الدراسات فهما أعمق لهذه الأعمال البصرية وكذلك طرقًا جديدة للتفكير في الجندر والعمل، وفي معنى الفن وقيمته، وتحويل الأشياء “التقليدية” إلى سلع. ومن الممكن كذلك اليوم إجراء مقابلات مع نساء ورجال وملاحظتهم بالمعايشة للتعرف على كيفية استخدامهم للفضاء.
عملت باحثة الأنثروبولوجيا سوزان سليوموفيكتش على النساء والحيز العام في تسعينات القرن العشرين في الجزائر، واعتمدت على المقابلات والملاحظة بالمعايشة بالإضافة إلى البحث في المصادر المكتوبة لتحديد سلوك النساء والرجال في الحيز العام (Slyomovics 1995).
ويختلف الأمر بالنسبة لمجموعة المصادر الخاصة بفترات سابقة. ففي حين لا نجد في بداية الفترة الحديثة أشخاصاً يقدمون المعلومات الدراسة العلمية، فإننا نجد في القرن التاسع عشر وبداية العشرين ثروة من المصادر المكتوبة. ويمثل مجيء الطباعة وظهور الأشكال الحديث للكتابة عن الذات نقطة بداية هامة للبحث. فنجد على سبيل المثال، خارج تاريخ الفن والعمارة، كيف استخدمت مارغو بدران وإليزابث فريرسون كتابات النساء المنتميات للحركة النسائية المصرية في بداية القرن العشرين، والمجلات الصادرة باللغة التركية الموجهة إلى النساء، في سبيل تكوين صور مركبة عن العناصر النسائية الفاعلة اجتماعيًا (Badran 1995, Frierson 2000). كما أن المادة البصرية بقدرتها على البقاء عبر الزمن أكثر من غيرها تشكل مجالاً متنوعًا وثريًا من الدلائل. فعلى سبيل المثال، قامت أفسانه نجمبادي بدراسة الصور الفوتوغرافية للنساء العاملات بالدعارة في طهران (Najmabadi 1998)، أما زينب تشليك فقد ركزت على مشروعات التجديد الحضري لمدينة الجزائر تحت الحكم الاستعماري الفرنسي، فتناولت المصطلحات التي تأخذ في اعتبارها معايير الجندر في الخطاب المعماري حول المستعمرة، كما تناولت التفاعل ما بين التحول الحضري والدراسات الفرنسية لعمارة “السكان الأصليين” في شمال أفريقيا، والتصورات حول الأدوار الاجتماعية للنساء الجزائريات (Celik 1992, 1996, 1997). أما نانسي ميكلرايت فقد استخدمت ما وصلنا من قطع الملابس والصور الفوتوغرافية واليوميات في دراستها للتغيرات التي طرأت على اختيار النساء في العصر العثماني لتصميمات تفصيل ملابسهن في مجتمع في طور التحديث (Micklewright 2000).
وعلى النقيض من ذلك فإن التحدي الذي يواجه البحث في موضوع النساء في الفترة السابقة على الفترة الحديثة يكمن بالقطع في التغلب على القصور الذي تفرضه ضآلة حجم المصادر والأعمال الفنية التي وصلت إلينا وطبيعتها. فالإنتاج البصري للفقراء ومن لا يملكون السلطة قلما يبقى منه شيء عبر العصور، وهو ما يعني أن هذا القسم من المجتمع عادة ما يتم استبعاده من النقاش. ويتعين على أية دراسة تتناول التداخل ما بين الجندر والحياة الجنسية والثقافة البصرية أن تبدأ بمساءلة منهجية للمصادر المستخدمة تقليديًا بحثًا عن جوانب الجندر ممثلة في علاقات القوى بين الجنسين والتشكل الاجتماعي والثقافي للجنس. وهذا النوع من البحث يتطلب من الباحثة والباحث استخدام الأدوات والمناهج النظرية، والالتزام بإعادة التفكير في كثير من الأعراف والمناهج المسلم بها في تاريخ الفن، وتحديدًا في تاريخ الفن الإسلامي. وقد كان لبعض المشكلات المنهجية في مجال تاريخ الفن الإسلامي أثرها خاصة على دراسة النساء والجندر.ومن هذه المشكلات ذلك الاتجاه الواضح نحو إنتاج أعمال وصفية بالأساس لا أعمال تحليلية، وهو ما يرجع جزئيًا، وليس كليًا، إلى أن كثيرًا من الجهد الأساسي من جرد وتصنيف وتنقيب ومسوح ما زال بحاجة إلى من يقوم به، في كل جوانب الثقافة البصرية الإسلامية تقريبًا. والمشكلة الأخرى تكمن في تلك المقاربات التحليلية التي تعتبر الفن تصويرًا شفافًا للواقع، من دون الرجوع إلى ما وصلت إليه منهجيات تاريخ الفن والتي تضع الفن في سياقه الاجتماعي والتاريخي، وتضع العمل الفني في إطار التمثيل الذي يعمل داخل مجال من المواد البصرية وأساليب التحليل البصري الذي يتجاوز بكثير اعتبارات الخصائص الشكلية وقضايا المصدر والتأليف والتعبير الأسلوبي. فعلى سبيل المثال تشكل وثائق الأوقاف المصدر الأهم الذي يرجع إليه الباحثون والباحثات دائمًا لكتابة تاريخ للعمارة يكون مزودًا بالوثائق. ورغم ما بها من ثراء في المعلومات المعمارية فإن عقود الأوقاف محدودة أيضًا، إذ تكتب بصيغة ثابتة ومعدة سلفًا. وقد استطاعت ليزلي بيرس من خلال معرفتها العميقة بطبيعة المصادر من الكشف عن الجوانب غير المعتادة أو الدالة في عقود الأوقاف والتي ربطتها بمدى كون واهب الوقف رجلاً أم امرأة، وما يتبع ذلك من توقعات اجتماعية (Peirce 2000).
وعلينا أن نطرح الأسئلة التالية: ما هي الخطابات في الفترة السابقة على الفترة الحديثة التي تطرح قضايا الجنس والجندر ؟ وكيف يمكن للمعلومات التي تم جمعها من هذه المصادر أن تدل على الممارسة الإبداعية للثقافة البصرية واستخداماتها؟ إن الأدبيات التي يمكن الرجوع إليها تتراوح ما بين الوثائق المحفوظة إلى الكتابات المنقوشة والوصفات الطبية والمذكرات القانونية والشعر الصوفي والملاحم التاريخية. إذن فالتحدي القائم بالنسبة للفترة السابقة على الفترة الحديثة هو تحديد أنواع الخطابات التي تتناول، ولو عرضًا، قضايا الجندر في علاقتها بدراسة الفن والعمارة.
لقد كان على مؤرخي الفن الذين طرحوا أسئلة حول الجندر في سياق المجتمعات الإسلامية أن يواجهوا مسائل تتعلق بتحديد المصادر والتحقق منها، كما أشرنا سابقًا، بالإضافة إلى التعامل مع المشكلات الخاصة بالمنهج. لقد خطت الدراسات حول النساء والجندر في المجال المعرفي الأوسع لتاريخ الفن والعمارة خطوات هائلة إلى الأمام منذ أن كتبت ليندا نوكلين مقالتها والتي أصبحت علامة هامة لما طرحته من تساؤل: لماذا لم توجد فنانات عظيمات؟ (Linda Nochlin, Why have there been no great women artists? 1971). وفي البداية كان تاريخ الفن النسوي يركز على استعادة دلائل وجود فنانات من النساء، تلك الدلائل التي تم تجاهلها في الاتجاهات السائدة في كتابة التاريخ. وكان قدر كبير من الأبحاث يركز على الشخصيات المتميزة، وفي الأغلب على الفنانات المتميزات باعتبارهن حالات استثنائية. ومؤخرًا تحول تركيز تاريخ الفن النسوي إلى تبني النظرية النقدية، وخاصة نظرية الجندر وخاصة ما خرج من دراسات السينما والأدب، واستخدامها في تفسير التمثيل الفني في السياق التاريخي. وقد أدت الإنجازات الكبيرة على المستوى المنهجي بالباحثين إلى التركيز بشكل مثمر على السياق المؤسسي لإنتاج الأعمال الفنية واستهلاكها (Pollock 1988)، وعلى سياسات تمثيل النساء في الفن الغربي، خاصة الجسد الأنثوى العاري (Nead 1992)، وعلى استكشاف أثر الاختلاف بين الجنسين على طبيعة المعمار وتطبيقاته في المكان (مثلاً: McLeod 1996, Agrest 1991 ) ولكن الغالبية العظمى من هذه الأعمال ركزت على الفن الغربي والسياقات الغربية، وتناولت بالدراسة النساء من غير الغربيات فقط في سياق كيفية تمثيلهن في الفن الغربي (على سبيل المثال الأعمال الهامة حول الصور الاستشراقية: Alloula 1981, Nochlin 1983, Porterfield 1994 ). وتقدم هذه الدراسات رؤى متعمقة قيمة بشأن التمثيل والغير (Lewis 1996)، كما أدخلت تلك الدراسات قضايا الحياة الجنسية والحيز المكاني في هذه المناقشات (Schick 1999). ولكن القليل من الأعمال تناولت التداخل ما بين الجندر والثقافة البصرية وبين البيئة المبنية وخاصة في السياقات غير الغربية، وتحديدًا في المجتمعات الإسلامية. وهو وضع وإن كان يمثل تحديات عديدة إلا أنه يقدم كذلك فرصًا غير مسبوقة.
وقد استجابت البحوث الحالية حول دراسة الجندر والثقافة البصرية في العالم الإسلامي إلى الاتجاه النقدي الذي اتخذته دراسات تاريخ الفن. فتقع العديد من الدراسات في إطار مشروع الاستعادة، أي الرغبة في استعادة المعلومات التاريخية عن النساء والفن والتي دأبت الاتجاهات السائدة في التأريخ على تجاهلها واستبعادها على أساس عدم أهميتها. وفي داخل العالم الإسلامي فضل الباحثون والباحثات دراسة الإسهام الأساسي للنساء في الفن والعمارة من خلال دورهن كراعيات للفنون. وهو ما بدا مناسبًا في ظل غياب أي أثر لوجود ممارسة للنساء لأعمال الفن والعمارة في الفترة السابقة على الفترة الحديثة. وقد كان العدد الخاص من مجلة الفن الآسيوي (Asian Art 1993) عملاً رائدًا في هذا المجال، وكان مخصصًا لموضوع “رعاية النساء للفنون الإسلامية“. وقد صدر مؤخرًا كتاب يضم مجموعة من المقالات عن النساء ورعاية الفنون وتمثيل الذات في المجتمعات الإسلامية، قدم المشاركون والمشاركات فيه أعمالهم في إطار مشروع الاستعادة، مع التركيز على ما قدمته نساء الطبقات العليا من رعاية في سياقات جغرافية وتاريخية متنوعة (Ruggles, ed., Women, Patronage, and Self- Representation in Islamic Societies 2000). وفي بعض المجالات أدى التراكم الذي خلفته الأبحاث العلمية طبقة بعد أخرى إلى ظهور دراسات تتميز بالتفصيل والتعقيد. إن ملاحظات أعمال أولكو بيتس (Ulku Bates 1978, 1993) حول رعاية النساء العثمانيات للعمارة تبعتها دراسة تولاي أرتان (Tulay Artan) الأكثر تحديدًا والتي اعتمدت بكثافة على مراجعة الوثائق لبحث التداخل ما بين الثقافة المادية والثروة والسلطة عند الأميرات العثمانيات في القرن الثامن عشر في مدينة إسطنبول (Artan 1993). وفي دراسة عن حياة نور جهان (١٥٧٧– ١٦٤٥م) وأعمالها في رعاية الفنون، وهي زوجة الإمبراطور المغولي جاهانغير ووالدة الإمبراطور شاه جهان، وجدت إليسون بانكس فيندلي أن نور جهان قد قامت ببناء الأضرحة والمساجد والوكالات بحسب التقاليد المتبعة في طبقتها الاجتماعية، بالإضافة إلى المزج بين الأشكال والأساليب الفنية للتراث الفارسي والتراث الهندوسي الذي نشأ وتطور في شبه القارة الهندية (Findly 1993a, 1993b, 1996, 2000). ورعاية الفنون عملية يتضح فيها التقاطع ما بين الوضع الاجتماعي والنوع الاجتماعي، فنجد أغلب الدراسات تدور حول ما قامت بها النساء ذوات الثروة والسلطة من أعمال الرعاية الفنون. وبالتالي فهي دراسات تكشف بمعنى ما عن الوضع الاجتماعي أكثر مما تكشف عن الاختلاف بين الجنسين أو عن الحياة الجنسية في مجتمع معين. إن المواد البصرية يمكن استخدامها في البحث عن آثار قضايا الجندر، ولكن قراءة هذه المواد البصرية في الإسلام مع التركيز على الجندر هو أمر يتطلب الكثير من الحذر. والعمارة، كغيرها من أنواع الإنتاج البصري، هي تمثيل تمت صياغته في إطار التطبيق. كما أن مشروع الاستعادة قدم القليل من الجهد في البحث عن الممارسات الخاصة بالفن والبناء والتي يستبعد أن ترد ضمن التصنيف التقليدي للفن أو في التاريخ، مثل العمارة الدارجة أو الأعمال الفنية رخيصة التكلفة. إن الدراسات القليلة التي تتناول هذه الموضوعات في السياق الإسلامي لا تضع قضية الجندر في مقدمة عملها.
وتلعب الدراسات التي تضع نفسها في سياق مشروع الاستعادة في البحث النسوي دورًا قيمًا في تطوير هذا المجال. فهي تشير إلى ما تم تجاهله من مصادر ومن فاعلين وفاعلات، كما تقدم مادة جديدة. ومع ذلك فإن هذا العمل بالمعنى العام لا يهدف إلى مساءلة الافتراضات الموجودة في مجال تاريخ الفن أو إلى طرح أية قضايا منهجية. ولكننا نجد ضمن هذا الفرع المعرفي اتجاهًا في الدراسات النسوية الراديكالية يقدم نقدًا لطبيعة تاريخ الفن والعمارة نفسه والمتأثر بالاختلاف بين الجنسين. فقد كشفت هذه الدراسات عن طبيعة الانحياز إلى الرجال في خطاب الفن/ العمارة، كما عارضت ما اصطلح على اعتباره “فنًا” أو “عمارة” والطريقة التي تم إنتاج الأعمال بها في سياق المؤسسات. وقد اعتمد هذا النوع من الكتابة على النظرية النقدية ونظرية الجندر. وكثير من الدراسات في مجال تاريخ الفن الإسلامي عمقت النقاش الدائر بشأن قضية الرعاية بطرح أسئلة نقدية. فقامت لوسيين ثيس سينوكاك بتحليل مواصفات مجمعات المنشآت التي قامت نساء العائلات المالكة بالتكليف بها في إسطنبول في القرن السابع عشر وذلك فيما يخص استخدام النساء لهذه المجمعات. وقامت بدراسة كيف أن القيود على حركة نساء الطبقات العليا وعلى إمكانية رؤية الآخرين لهن قد استدعت حلولاً محددة لمشكلات التركيب المعماري. فعلى سبيل المثال قد اشترطت الراعيات من النساء إقامة أماكن للرؤية تمكنهن من النظر من أماكن بعينها دون أن يراهن العامة. وبذلك أوضحت كيف تعبر الرؤية عن علاقات القوى (Thys- Senock 2000). وكثير من المداخلات الهامة على هذا المنوال جاءت من باحثين وباحثات لم يكن تاريخ الفن والعمارة هو مجال بحثهم الأساسي. وفي دراسة منهجية لمجمعات المنشآت الحضرية التي قامت صاحبات المقام الرفيع من نساء العائلة المالكة برعاية بناءها، حددت المؤرخة ليزلي بيرس توقعات النساء القائمات بالرعاية، حيث رصدت التغيرات في نوع الأبنية التي قمن بتكليف إقامتها، مع دراسة ردود الفعل تجاه مثل هذه الأعمال التي تمت بتكليف منهن (Peirce 2000).وقدمت أفسانه نجمبادي قراءة للوحات الفترة القاجارية باعتبارها نصوصًا بصرية، لرصد التحولات التي طرأت على إدراك وتمثيل مفهوم الجسد الإنساني من منظور الجندر، وقد قدمت أفكارًا جديدة ونتائج مثيرة، وهي على النقيض من التحليلات الشكلية والأكثر تقليدية للإنتاج البصري في تاريخ الفن (Najmabadi 1998).
لعل دراسة الجندر والثقافة البصرية في المجتمعات الإسلامية يمكن أن تقدم فرصًا غير متوقعة للإبداع المنهجي عند الباحثين والباحثات. فجوانب التاريخ البصري الإسلامي التي كانت إلى الآن مستعصية على التبويب والتأويل باستخدام المناهج التقليدية لتاريخ الفن يمكن أن تكون فرصًا للتجديد المنهجي والتقدم النظري إذا ما تم تناولها بطرق مبدعة تبتعد عن الافتراضات الصارمة لتاريخ الفن. فعلى سبيل المثال، كانت ندرة الأسماء المعروفة للفنانين والفنانات، وخاصة في الفترة السابقة على القرن التاسع عشر، سببًا لتأسي كثير من الباحثين والباحثات في الدراسات التي تعيد صياغة مسيرة فنان ما عبر النوع المعروف في كتابة التاريخ الفني بـ. “أسيرة الأعمال” (catalogue raisonné)، والذي يفترض درجة من الاستمرارية والارتباط الشرطي بين الأعمال التي أنتجها فرد على مدى عدد من السنوات، كما يركز على القضايا الشكلية للتطور الأسلوبي وللتأثير والتأثر. ولكن إذا كانت الدلائل التي بين أيدينا لا تسمح للمرء الاستعانة بمنهج من المناهج الراسخة، فبالإمكان الدفع في اتجاه مقاربات بديلة مثل التحول بعيدًا عن الصانع الفرد (والذي عادة ما يكون رجلاً) إلى التركيز على الممارسات المؤسساتية أو المهنية، أي الابتعاد عن الهموم الشكلية من أسلوب وتأصيل إلى قضايا مثل السياق الوظيفي ومشاركة الأعمال الفنية في النشاط الاجتماعي والسياسي والديني وغيرها.
هناك الكثير من المادة الواعدة من حيث نتائجها بالنسبة للتحليل النسوي والتي تنتظر الدراسة. ولنأخذ حالة الرسوم الفارسية فيما قبل العصر الحديث والتي تقدم مثالاً جيدًا على ذلك. فنجد العديد من المقالات المنشورة في العدد الصادر عام ١٩٩٣ من مجلة الفن الآسيوي (Asian Art 1993) تركز على البورتريهات التي تصور شخصيات نسائية تاريخية. ويمكننا تطوير مشروع استعادة مثل هذه الأدلة إلى دراسة في الأساليب التي يتضح من خلالها جانب الجندر في شكل كالكتاب المصور. فقد لفتت انتباه الباحثين والباحثات مرارًا مسألة صعوبة تحديد جنس الجسد الإنساني المصور في اللوحات التيمورية والتي أحيانًا ما يطلق عليها “عديمة الجنس” (Grabar 2000, 57). ولكن المزيد من التأمل يكشف أنه في حين أن الأجساد المصورة متطابقة، بمعنى أن الجنس ليس ممثلاً على الجسد نفسه من خلال مميزات تشريحية، إلا أن الجنس يكون ممثلاً بالفعل من خلال وسائل أخرى مثل غطاء الرأس والملابس والتفاصيل التقليدية لتشكيل الوجه، وكلها علامات على الهوية الاجتماعية. ولعل النقاش حول تصویر جنس الفرد في سياق التصوير الفارسي، مع التحرر من عبء تحديد الجنس من خلال الجسد، كما هو الحال في الفن الغربي، يكون فرصة لمناقشة الدور الاجتماعي لجنس الفرد وتداخله مع السلطة، وعلاقته بغيره من التصنيفات الاجتماعية مثل الوضع الاجتماعي والأصل العائلي والانتماء المهني. كما أن ذلك يكشف عن مدى هشاشة بعض الافتراضات الأساسية في تاريخ الفن الغربي التقليدي حول الجندر وتمثيله بصريًا. وفي نفس الوقت فإن نموذج الرسوم الفارسية يدفع إلى المقدمة بمسألة مدى تعقد تأويل التمثيل البصري، وهي المسألة التي تطرح نفسها في هذا السياق بأن تصوير الجسد الأنثوي والذكري بطريقة متطابقة لم يكن بالقطع يرتبط بأية درجة من المساواة الاجتماعية، وإنما كان هذا التصوير يعكس مفاهيم الجمال المجرد (Najmabadi forthcoming).
إن قضية مدى تكرار تصوير النساء وقضية كيفية تصوريهن وسياق استخدام تلك الصور هي قضايا معقدة وتستدعي دراسة متمعنة. ففي الفن الإسلامي توجد فرص لتقديم نظريات حول قضايا المرئي والخفي غير المرئي. فعادة ما يتم إرجاع اختفاء النساء من الحياة العامة في المجتمعات الإسلامية إلى انعدام تمتعهن بالسلطة، ولكن هذا الارتباط ليس على الإطلاق بهذه البساطة ولا بهذا الحسم. فالحقيقة أن عزل النساء ومفاهيم الخصوصية كانت ممارسات مثالية مرتبطة بالأغنياء وذوي السلطة، ولا تنطبق على كل أعضاء المجتمع الإسلامي. ومما يعقد قضية الاختفاء والسلطة أكثر هو تأمل موقف الفنانات النسويات المعاصرات في الغرب، حيث أن أشهرهن، ماري كيلي (Mary Kelly)، عارضت تصوير الجسد الأنثوي للاحتجاج على استخدام الجسد الأنثوي عبر التاريخ في الفن الغربي كمدلول فارغ، ورفضها استخدام الجسد الأنثوي كاستراتيجية لتمكين النساء.
وهناك اتجاه آخر مثمر للبحث النسوي في هذا المجال يجب أن يتناول الفئات المستخدمة في البيئة المبنية. ففي التاريخ الحضري والمعماري للمجتمعات الإسلامية (بل وفي التاريخ الحضري عمومًا) نجد سيادة ثنائية متضادة، حيث يتم توصيف الحيز العام باعتباره ذكوريًا، بينما الحيز الخاص والمنزلي يوصف باعتباره أنثويًا. ونجد أن دراسة تراكي زاناد تتناول العلاقة ما بين الحيز المكاني والجسد في السياق الإسلامي (Zannad 1984). كما أن دراسة عمل فني أو معماري ما يتضمن بوضوح دراسة سياق إنتاج هذا العمل (الفنان/ الفنانة، والمعماري/المعمارية، والراعي/ الراعية، وعملية الصنع أو البناء) ولكنه يتضمن أيضًا سياق استقبال هذا العمل واستهلاكه. فما هو دور الجمهور والمشاهدين والمستخدمين للأماكن العامة، مثل القسم الخاص بالنساء في الجوامع؟ إن أولئك الذين يستخدمون الأعمال الفنية والمعمارية وكذلك أولئك الذين يقومون بتأويلها يشاركون جميعًا في خلق معناها والذي دائمًا ما يكون قابلاً للتفاوض. وقد درست مؤرخة الفن، كاريل بيرترام، كيف أن معنى المعمار المنزلي هو نتاج مستخدميه، وقد قامت بتلك الدراسة من خلال تحليل صورة المنزل في بناء الذات عند النساء في تركيا في منتصف القرن العشرين (Bertram 1998).
وأخيرا يمكن إدراج مفاهيم الأداء في نظرية الجندر بشكل مثمر لدراسة مسألة الحيز المكاني كموقع محوري لأداء النوع الاجتماعي، كما يمكن أيضًا رؤية الجسد وأشكال تمثيله كموقع أساسي لأداء النوع الاجتماعي.
لقد فتحت الأعمال الرائدة حول قضايا الجندر في مجال تاريخ الفن الطريق أمام قيام مناقشات متطورة، وقدمت فرصًا لمعارضة السائد في هذا الحقل ولإثرائه. ولا تزال الكثير من الطرق مفتوحة على مصراعيها أمام البحث المبدع حول الجندر في المجتمعات الإسلامية في مجال دراسة تاريخ الفن والمعمار.
* أسرة من اللغات تشمل التركية والأذربيجانية والتركمانية والقيرغيزية وغيرها. (المترجمة)
D. Agrest, Architecture from without. Theoretical framings for a critical practice, Cambridge Mass. 1991.
M. Alloula, Le harem colonial. Images d’un sous-érotisme, n.p. 1981.
——, The colonial harem, trans. Myrna Godzich and Wlad Godzich, Minneapolis, Minn. 1986.
T. Artan, From charismatic leadership to collective rule. Introducing materials on the wealth and power of Ottoman princesses in the eighteenth century, in Toplum ve Ekonomi 4 (Nisan 1993), 53–92.
Asian Art, Special issue: Patronage by women in Islamic art, 6:2 (1993).
M. Badran, Feminists, Islam, and nation. Gender and the making of modern Egypt, Princeton, N.J., 1995.
Ü. Bates, Women as patrons of architecture in Turkey, in L. Beck and N. Keddie (eds.), Women in the Muslim world, Cambridge, Mass. 1978, 245–60.
——, The architectural patronage of Ottoman women, in Asian Art, Special issue: Patronage by women in Islamic art, 6:2 (1993), 50–65.
C. Bertram, Restructuring the house, restructuring the self. Renegotiating the meanings of place in the Turkish short story, in Zehra F. Arat (ed.), Deconstructing images of “the Turkish woman,” New York 1998, 263–74.
Z. Çelik, Le Corbusier, orientalism, colonialism, in Assemblage 17 (April 1992), 58–77.
——, Gendered spaces in colonial Algiers, in D. Agrest, P. Conway, and L. Kanes Weisman (eds.), The sex of architecture, New York 1996.
——, Urban forms and colonial confrontations. Algiers under French rule, Berkeley 1997.
E. B. Findly, Nur Jahan. Empress of Mughal India (1611–1627), New York 1993.
——, The pleasure of women. Nur Jahan and Mughal painting, in Asian Art, Special issue: Patronage by women in Islamic art, 6:2 (1993), 66–86.
——, Nur Jahan’s embroidery trade and flowers of the Taj Mahal, in Asian Art and Culture, 9:2 (1996), 7–25.
——, Women’s wealth and styles of giving. Perspectives from Buddhist, Jain and Mughal sites, in D. Fairchild Ruggles
(ed.), Women, patronage, and self-representation in Islamic societies, Albany, N.Y. 2000, 91–121.
E. Frierson, Mirrors out, mirrors in. Domestication and rejection of the foreign in late-Ottoman women’s magazines (1875– 1908), in D. Fairchild Ruggles (ed.), Women, patronage, and self-representation in Islamic societies, Albany, N.Y. 2000, 177–204.
L. Golombek, Timur’s gardens. The feminine perspective, in M. Hussain, A. Rehman, and J. L. Westcoat, Jr. (eds.), The Mughal garden. Interpretation, conservation and implications, Lahore 1996, 29–36.
O. Grabar, Mostly miniatures. An introduction to Persian painting, Princeton, N.J. 2000.
H. Harithy, Female patronage of Mamluk architecture in Cairo, in Harvard Middle Eastern and Islamic Review, 1:2 (1994), 152–74.
R. S. Humphreys, Women as architectural patrons of religious architecture in Ayyubid Damascus, in Muqarnas 11 (1994), 35–54.
R. Lewis, Gendering orientalism. Race, femininity and representation, London 1996.
M. McLeod, Everyday and “other” spaces, in D. Coleman et al. (eds.), Architecture and feminism, New York 1996, 3–37.
N. Micklewright, Musicians and dancing girls. Images of women in Ottoman painting, in Madeline C. Zilfi (ed.), Women in the Ottoman Empire. Middle Eastern women in the early modern era, Leiden 1997, 153–68.
A. Najmabadi, Reading for gender through Qajar painting, in L. S. Diba with M. Ekhtiar (eds.), Royal Persian paintings.
The Qajar epoch, 1785– 1925, London 1998, 76–89.
——, Male lions and female suns. The gendered tropes of Iranian modernity, University of California Press, forthcoming.
S. M. Nashashibi, Gender and politics in contemporary art. Arab women empower the image, in S. Zuhur (ed.), Images of enchantment. Visual and performing arts in the Middle East, Cairo 1998, 12–37.
S. M. Nashashibi, L. Nader, and E. Adnan, Arab women artists. Forces of change, in S. M. Nashashibi et al. (eds.), Forces of change. Artists of the Arab world, Washington, D.C. 1994, 13–37.
L. Nead, The female nude. Art, obscenity, and sexuality, London 1992.
L. Nochlin, Why have there been no great woman artists? in Art News 69 (1971), 21–76.
——, The imaginary Orient, in Art in America 71:5 (1983), 118–31, 187–91.
L. Peirce, Gender and sexual propriety in Ottoman royal women’s patronage, in D. Fairchild Ruggles (ed.), Women,
patronage, and self-representation in Islamic societies, Albany, N.Y. 2000, 53–68.
J. Perani and F. T. Smith, The visual arts of Africa. Gender, power, and life cycle rituals, Upper Saddle River, N.J. 1998.
G. Pollock, Vision and difference. Femininity, feminism, and histories of art, London 1988.
T. Porterfield, Western views of Oriental women in modern painting and photography, in S. M. Nashashibi et al. (eds.), Forces of change. Artists of the Arab world, Washington, D.C. 1994, 59–71.
L. Prussin et al., African nomadic architecture. Space, place, and gender, Washington 1995.
G. Renda, 9000 Years of the Anatolian woman, Istanbul 1993.
D. Fairchild Ruggles (ed.), Women, patronage, and self-representation in Islamic societies, Albany, N.Y. 2000.
N. Sadek, In the Queen of Sheba’s footsteps. Women patrons in Rasulid Yemen, in Asian Art, Special issue: Patronage by women in Islamic art, 6:2 (1993), 14–27.
I. Schick, The erotic margin. Sexuality and spatiality in alteritist discourse, London 1999.
A. Singer, The mülknames of Hürrem Sultan’s waqf in Jerusalem, in Muqarnas 14 (1997), 96–102.
S. Slyomovics, Hassiba Ben Bouali, if you could see our Algeria. Women and public space in Algeria, in Middle East Report 192 (1995), 8–13.
L. Thys-Senocak, The Yeni Valide mosque complex of Eminönü, in Muqarnas 15 (1998), 58–70.
——, Gender and vision in Ottoman architecture, in D. Fairchild Ruggles (ed.), Women, patronage, and self-representation in Islamic societies, Albany, N.Y. 2000, 69–89.
Y. K. Stillman, Arab dress. A short history from the dawn of Islam to modern times, ed. N. Stillman, Leiden 2000.
Y. K. Stillman and N. Micklewright, Costume in the Middle East, in Middle East Studies Association Bulletin, 26:1 (1992), 13–38.
L. Whalley, Urban Minangkabau Muslim women. Modern choices, traditional concerns in Indonesia, in H. L. Bodman and
N. Tohidi (eds.), Women in Muslim societies. Diversity within unity, Boulder, Colo. 1998, 229–49.
T. Zannad, Symboliques corporelles et espaces musulmans, Tunis, 1984.