المنهجيات والمنظومات والمصادر
لدراسة النساء والثقافات الإسلامية
المداخلات في الأفرع المعرفية
الفولكلور (المأثورات الشعبية)
في العقود الأخيرة، عمل الباحثون والباحثات في مجال الفولكلور على مواءمة طبيعة ومنهج بحثهم من أجل إثراء مجالهم ومن أجل تناول مسائل تتعلق بالصلة بالمجتمع وبأخلاقيات وفاعلية العمل الميداني.
إن دراسات الفولكلور هي مجال معرفي متعدد الأبعاد وينتمي إلى الدراسات البينية إلى حد كبير. فالمتخصصات والمتخصصون في علم الفولكلور يعملون في عدة أقسام في الجامعات, ومنها الأنثروبولوجيا والآداب واللغويات والدراسات الثقافية والدراسات النسائية والتاريخ وعلم موسيقى الشعوب وتاريخ الفن، بالإضافة إلى أقسام متنوعة في الدراسات العرقية ودراسات المناطق. أما وسائط الفولكلور فتتنوع بقدر ما يمكن للتعبير الإنساني أن يتنوع، فهي تحتوي على أنواع من الفن اللفظي المنطوق (السرديات بكل أنواعها والشعر والأغاني والنكات والأمثال والمساجلات الكلامية) والثقافة المادية والرقص والطقوس والمسرح والموسيقى. وكان علماء الفولكور يتعاملون مع وسائل التعبير تلك بطرق متنوعة، وأكثر تلك الطرق تقليدية هي دراسة الفولكلور باعتباره يضم بقايا آثار ماض آخذ في التلاشي، وكثيرًا ما يتضمن هذا النوع من الدراسة محاولات لتقصي تاريخ محدد لتراث ما وللمحافظة على شكل فني يحتضر. ولكن منذ ما يقرب من ثلاثة عقود بدأ بعض الفولكلوربين في تحويل اهتمامهم من الماضي المتلاشي تدريجيًا إلى الحاضر سريع التغير، مما يزيد من مساحة مجال دراستهم ليتضمن طرق تعبير تتألق بشدة في يومنا هذا مثل أسطورة المدنية وأناشيد الملاعب ودوائر النكات والروايات الشخصية، مع تركيز بحثهم على العلاقة بين تلك الأشكال من الفولكلور والزمن الحاضر الذي يتم فيه أداؤها وإبداعها. وقد تم هذا التحول جزئيًا عن طريق إعادة تعريف كلمة “شعب” (folk) من معناها الذي يشير إلى مجموعة عرقية تقليدية ثابتة التي عادة ما يتم تعريفها جغرافيًا ولغويًا لتتحول إلى مفهوم “الجماعة الصغيرة” الأكثر حيوية ودينامية والتي تتمثل بصفة عامة في أية مجموعة متفاعلة من البشر (Paredes and Bauman 1972). وقد كان أحد الاهتمامات الرئيسية لعلماء الفولكلور الجدد هو الهوية المتباينة التي توحي بأن الخاصية النوعية للفرد رجلاً كان أم امرأة ينبغي أن تكون عاملاً مهمًا في تعريف تلك الجماعة الصغيرة (Mills 1993). ويوحي تضمين الجندر بتداخل الحدود بين الجماعات حتى في أدنى مستوى، مما يفتح الباب أمام أخذ الانتماء الاجتماعي، غير المركزي والمتقاطع والمتنوع، في الاعتبار. ومن الملامح المميزة والمشتركة في أنواع علم الفولكلور الجديد وما يربطها بأشكال الفولكلور التي تتم دراستها بطريقة أكثر تقليدية هي مفهوم ملكية الجماعة ومجهولية المؤلف. يمكن إذن أن نعرف الفولكلور باعتباره تعبيرًا ثقافيًا عن الجماعة لا الفرد، بالرغم من أنه يمكن التعرف على أفراد في الجماعة باعتبارهم ممارسين متميزين للفن الشعبي محل الاهتمام.
إن طبيعة الفولكلور، التقليدي منه والمتغير، تعني أنه يمكن استخدامه في أغراض تبدو متناقضة. لقد ولد مجال علم الفولكلور (folkloristics) في أوروبا في القرن التاسع عشر بالارتباط مع ظهور النزعة القومية، وقد ركز علماء الفولكلور الأوائل دراساتهم على الفلاحين غير المتعلمين في المقام الأول بهدف تتبع الأصول البعيدة للعادات والعقائد العتيقة. ومنذ ذلك الحين قامت الدول باستخدام الفولكلور بكثرة في خدمة القومية والشمولية وكأداة لتهميش وقهر الأقليات، وذلك باعتبار الفولكلور رمزًا (وفي بعض الحالات مصدرًا) للهوية بالإضافة إلى رمز للوحدة العرقية أو القطرية أو السياسية. فعلى سبيل المثال، قامت دراسات عديدة تتناول استخدامات الفولكلور وعلم الفولكلور من قبل النظام النازي ونظام فرانكو وغيرها من الأنظمة السياسية لتبرير الفاشية والأيديولوجبات شديدة القومية.
وحيث إنه يمكن تسخير الفولكلور لأغراض سياسية، يجب على الباحثين والباحثات في هذا المجال أن يكونوا دائمًا على وعي بالاستخدامات المحددة التي يمكن توظيف أبحاثهم فيها. ففي تركيا على سبيل المثال، استخدمت الحكومة الفولكلور لتحقيق أغراض قومية، فأغلقت بعض الأقسام في الجامعات التركية التي رفض أساتذة الفولكلور فيها إعادة صياغة مادتهم في خدمة الأسطورة القومية الجديدة. وفي هذه الحالة يجازف علماء الفولكلور، رجالاً ونساءً، الذين ينزعون موادهم من سباقها الاجتماعي والسياسي والتاريخي والثقافي، بأن يتحولوا إلى أشبه بمخالب الدولة (Conrad 1998). وفي المغرب تم استخدام “شيخات” الرقص إلى رموز للقومية المغربية ويتكرر ظهورهن بانتظام على شاشات تلفزيون الدولة، في حين أن هؤلاء الراقصات عادة ما يتم تأجيرهن لإحياء الأفراح وغيرها من المناسبات الاحتفالية، وكان يتم اعتبارهن تقليديًا كشخصيات مهمشة اجتماعيًا (Kapchan 1994).
ومع ذلك، فإن مهمة جمع وفهرسة وتصنيف أشكال الفولكلور الآخذة في الاندثار في العالم الإسلامي تبقى جزءًا مهمًا من علم الفولكلور، حيث أن هناك أشكالاً كثيرة أقدم (الملحمة الشفوية والأنواع الأخرى من الشعر الشفاهي والحكايات والأغاني والحرف اليدوية والرقص والموسيقى، على سبيل المثال لا الحصر) في طريقها إلى الزوال في وجه العولمة وانتشار الثقافة الجماهيرية، أو إنها تتحول بواسطة تلك القوى إلى أنواع تجارية جماهيرية (Caton 1990). ويظل علم الفولكلور من هذا النوع مستمرًا، وغالبًا ما يعرب عن نفسه فى كتالوجات الموتيفات وأنواع الحكايات والنصوص الأخرى حيث يتمثل الغرض الرئيسي له في توثيق وتصنيف المواد.
الجماعات التابعة
وقد استخدمت الجماعات التابعة (subaltern groups) الفولكلور بكفاءة كبيرة فى صراعها من أجل الاعتراف أو الاستقلال السياسي، فنجد أن الفلسطينيين في إسرائيل وفي الأراضي المحتلة وفي المنفى قد انخرطوا في مشروعات ضخمة ومستمرة لجمع وتصنيف ونشر الفولكلور الخاص بهم، وتم بذل الجهود من أجل إقامة متاحف للفن الشعبي (folk art) ونشر مجلدات الشعر التقليدي. كما تقوم منظمات مثل “البادية” بتدريب وتوظيف النساء لإنتاج أعمال التطريز الفلسطيني التقليدي، وهو فن لم يكتب له البقاء فحسب بل ازدهر ونما بطرق لم تكن ممكنة بدون هذا التدخل الواعي.
إلا أنه بسبب طبيعة الفولكلور غير الثابتة تستخدمه أيضًا الجماعات التابعة على نطاق واسع، وذلك من أجل تحديد هوياتها كمجموعات وطنية متضمنة والحفاظ على تلك الهويات، وكذلك كوسيلة آمنة لتوصيل أفكار قد تحمل قدرًا من الخطورة. وفي كتابه عن السيادة وفن المقاومة يصف جيمس سكوت (James Scott, Domination and the Art of Resistance 1990) ما يسميه بالسجل الخفي الذي يعبر من خلاله التابعون عن الأفكار والمشاعر التي تختلف بطريقة أو أخرى عن أفكار ومشاعر النخب. وبالرغم من أن هذا السجل الخفي قد يحتوي على استراتيجيات كثيرة مثل إبطاء العمل أو الزمجرة التي لا يمكن تصنيفها باعتبارها فولكلور إلا أنه غالبًا ما يتم نقل الأفكار والمعلومات والمشاعر الخلافية من خلال الفولكلور. ويشير سكوت إلى الأغاني الدينية للسود في أمريكا (spirituals) التي تحتوي على رسائل مشفرة عن الحرية، كما يذكر حكايات المحتالين (trickster tales) مثل حكايات “الأرنب برير” و“نانسي العنكبوت” التي يستخدم فيها مخلوق ضعيف ذكاءه للتغلب على عدو أقوى منه، بأنها من التراث الفولكلوري التي يصفها باعتبارها وسائل للتعبير عن موقف التابع. أما في الشرق الأوسط، فعادة ما يلعب جحا في التراث العربي، وحجا نصر الدين في التراث التركي، دور شخصية المحتال لتحقيق غرض مماثل.
ويمكن للفولكلور بالطبع باعتباره سجلاً مخفيًا لمن يقعون في وضع التابعين أن يوجد أيضًا في سياق عدم توازن القوى الذي تتسم به العلاقات بين الجنسين. وتبحث المقالات المتنوعة في كتاب جوان رادنر رسائل نسوية: التشفير في فولكلور النساء (Joan Radner, Feminist Messages: Coding in Women’s Folklore 1993) في بعض الطرق التي استخدمت فيها النساء التشفير (coding)، أي التعبيرات المتوارية للأفكار المزعجة أو الانقلابية، في الفولكلور الخاص بهن. وتتنوع استراتيجيات التشفير وقد تتضمن على سبيل المثال لا الحصر الاستحواذ (أي مواءمة صور ذكورية للنساء لتحقيق أغراض نسوية)، والتوازي (الترتيب الساخر لنصوص أو لأعمال فنية جنبًا إلى جنب وما فيها من مفارقة)، والتشتيت (جذب الانتباه بعيدًا عن الرسالة النسوية كوسيلة لإخفائها عن هؤلاء التي لا توجه إليهم)، وغير المباشرة (أي استخدام الاستعارات والمجاز والتمثيل أو المواربة لتغطية الرسالة المقصودة)، وعدم الكفاءة (أي ادعاء عدم الكفاءة في إحدى الأنشطة المرتبطة بالأنوثة كوسيلة للتعبير عن المقاومة). وإحدى الاستراتيجيات المنتشرة هي التسفيه (أي استخدام أشكال أو أنواع مثل النميمة أو النكات التي لا ترتبط بقيمة ثقافية، حيث تشير دراسة موهاوي وكنعانا (Muhawi and Kanaana 1989) على سبيل المثال كيف أن حكايات النساء الفلسطينيات كثيرًا ما تعد مجرد لغو، أو يمكن الجمع بين اثنتين من تلك الاستراتيجيات أو أكثر. ويوحي عمل خليل جوريج وجوانا حاجيتوماس بأنه يمكن لفعل التعبير الإبداعي في حد ذاته، حتى وإن كان خاليًا من المحتوى السياسي، أن يكون رسالة مشفرة للتمرد وقوة العزيمة. ففي فيلمهما خيام (Khalil Joreige and Joana Hadjithomas, Khiam 2000) يقومان بتوثيق الإنتاج الفني لسجناء “سجن خيام” في جنوب لبنان، وهم يستخدمون أشياء يجدونها مثل نوى الزيتون والحجارة لكي يبدعوا أشياء ذات قيمة فنية وعملية عندما لا يتاح لهم الحصول على مواد تقليدية تسمح لهم بالإبداع (مثل الورق والقلم، والإبرة والخيط، وغيرها).
ويتمتع العالم الإسلامي بالكثير من تقاليد الفولكلور الغنية التي ترتبط بالممارسة الدينية وتتضمن الأنشطة والفن المادي واللفظي الذي يرتبط بالمهرجانات والاحتفاليات وبزيارة الأضرحة والذكر الصوفي، ولكنها لا تقتصر عليها. وبالرغم من أن هذه المنطقة ما زالت لا تحظى بما تستحقه من دراسة، إلا أن طبيعة تلك الممارسات تدل على أنه يمكن تطبيق نظرية التشفير الخاصة بجوان رادنر تطبيقًا فعالاً في هذا السياق. وتلحظ أولسون (Olson 1994)، على سبيل المثال، أن الأضرحة التركية التي درستها عادة ما تقع بعيدًا عن مراكز الإسلام التقليدي، وتكون غالبًا في ضواحي المدن، وذلك حتى تتمكن النساء ولو جزئيًا من الممارسة دون الخوف من رقابة المؤسسات الدينية المعتادة ذات المركزية الذكورية. ففي تلك الأضرحة، التي تصفها بأنها مواقع مهمة لكل من التفاعل الاجتماعي والتمكين حيث يمكن للنساء الحصول على أصوات لها سلطتها، لاحظت أولسون تشارك النساء في الأغنيات والحكايات والأمنيات والأدعية وممارسات العلاج، والتي يمكن لأي منها أن تصلح كوسائل للتشفير. كما أكد كثير من الباحثات والباحثين الذين درسوا الأضرحة في أفريقيا، بما فيها مصر والمغرب وإثيوبيا بالإضافة إلى آسيا الوسطى (أفغانستان)، على أهمية هذه الأضرحة كمساحات خاضعة للجندر. ويمكن لدراسة التشفير المتضمن في الفولكلور الذي يتم إنتاجه وممارسته في تلك المواقع أن تكشف عن ملاحظات عميقة بشأن إسلام النساء، وأن تساعد على تغيير النظرة إلى الإسلام باعتباره “دينا للرجال [حيث] يظهر عالم النساء كنوع من المحمية الثقافية التي يحيطها الإسلام (Coulon quoted in Gibb 2001, 32). ويمكن لمثل تلك الدراسات أن تكمل البحث في إعادة قراءة النصوص الإسلامية من منظور نسائي وهو الأمر الذي شرعت النساء في القيام به في عالم المسلمين في الأعوام الأخيرة.
وكما تشير دراسة رادنر ولانسر، فإن الصعوبة بالنسبة للباحثة أو الباحث هي بالطبع في القدرة على التعرف على الشفرات والتشفير عندما يحدث، مع تجنب خطأ إقحام التشفير حيث لا يوجد. فحيث إن غرض استخدام الشفرة هو إخفاء الرسالة الانقلابية عن الرسائل الأكثر منها قوة فمن الوارد استخدامها لإخفاء المعلومات عن الباحث أو الباحثة ممن قد يكونون أيضًا في موقع قوة بالنسبة للأفراد موضوع بحثهم. وتزداد المشكلة تعقيدًا نظرًا لإمكانية استخدام التشفير بلا وعي بواسطة ممارسي الفولكلور، مما يؤدي إلى توصيل حالة من القلق و/ أو الأفكار الثورية الانقلابية إلى الآخرين (Radner and Lanser 1987). وهكذا فلن يستطيع علماء الفولكلور تفسير الرسائل المشفرة وتأويلها إلا إذا كونوا علاقات ثقة مع من يمدونهم بالمعلومات بما يمس علاقات القوى بين الطرفين. وحتى إذا استطاع عالم أو عالمة الفولكلور التغاضي عن هذا التفاوت في علاقات القوى، فإن التعرف على الرسائل المشفرة والتفسير الصحيح لها سوف يتطلب فهمًا دقيقًا للسياق الذي تتم فيه ممارسة نوع معين من الفولكلور.
إذا كانت الشفرات التي ترسلها النساء من خلال الفولكلور ستنال قدرًا من الدراسة والفهم، فينبغي على علماء الفولكلور تناول اعتبارات أخلاقية مقلقة قبل القيام بالبحث الميداني، والأهم من ذلك هو أنه ينبغي عليهم الوعي بالسياقات الاجتماعية والسياسية التي يعملون فيها، والطرق التي يمكن للآخرين استخدام تلك الدراسات والمواد التي جمعوها، وكيف يمكن لعملهم أن يؤثر على هؤلاء الذين جمعوا المادة منهم. وينبغي عليهم أن يتعلموا العمل بطريقة مناسبة تتلاءم مع البنى والهياكل الاجتماعية التي يعملون فيها. وبالإضافة إلى ذلك يمكن للطريقة التي يوائم علماء الفولكلور بها أنفسهم أن تؤثر على طبيعة المادة التي يجمعونها في بعض المجتمعات، مثل كثير من مجتمعات العالم الإسلامي، حيث يمكن أن يوجد مستوى عالٍ من الفصل بين الجنسين. فعلى سبيل المثال، تصف ليلى أبو لغد (Abu-Lughod 1986) مدى أهمية اشتراك والدها في تقديمها إلى البدو الذين عملت وعاشت معهم، حيث تحددت هويتها بالنسبة لهم باعتبارها ابنة فاضلة من أسرة محترمة، وهي هوية أصبحت ذات أهمية في العلاقات التي كونتها مع البدو. كما أنها اتخذت قرارًا واعيًا بتقييد نفسها بمجتمعات النساء بما يتفق مع ممارسات النساء الأخريات ممن يقاربنها في العمر والحالة الاجتماعية. فقد كان حصولها على نصوص الشعر التي أصبحت موضوع كتابها هو نتيجة مباشرة للعلاقات القوية التي كونتها مع النساء بناء على قرارها السابق. ومن هذا المنطلق فإن ليلى أبو لغد قد حذت حذو باحثة الأنثروبولوجيا إليزابيث فيرنيا (Elizabeth Fernea) التي اختارت أثناء بحثها الميداني في العراق الالتزام بالأنماط الخاصة بالجنسين في المجتمعات التي عاشت فيها. ومن جهة أخرى، اكتشفت الباحثة ويبر في دراستها للسرديات التاريخية في كليبية أن انتماءها إلى جنس النساء كثيرًا ما حال دون حضورها جلسات الحكي المقصورة على الذكور والتي كانت موضوع دراستها، مما أجبرها على الاعتماد على أصدقائها من الرجال في جمع الحكايات لها (Webber 1991, 71).
ومع أن الالتزام بالأدوار الاجتماعية المفروضة على الجنسين في المجتمع الذي يدرسه الباحث أو الباحثة قد يساعد علماء الفولكلور على إقامة علاقات والوصول إلى فهم للمادة التي يجمعونها، إلا إنه غير كاف في ذاته لتفادي عدم التوازن وغياب المساواة في علاقات القوى الموجودة بين الباحث / الباحثة من ناحية وموضوع البحث من ناحية أخرى. وينبع ذلك من الاختلافات القائمة في التعليم والخلفية الاقتصادية الاجتماعية وانتماء الباحث أو الباحثة إلى كيانات ثقافية وسياسية مختلفة (وعادة ما تكون هي الأكثر قوة)، فحتى هؤلاء الباحثات والباحثون الذين يحاولون الالتفاف حول اختلافات القوى، على الأقل عن طريق إتاحة مساحة داخل أعمالهم لأصوات الأفراد موضوع بحثهم، أو المتعاونون معهم، أو المنتمون إلى نفس ثقافة الأفراد موضوع الدراسة (رغم تلقيهم العلم في أماكن أخرى)، لا ينجحون بالضرورة في تخطي هذه الفجوة (Altorki and El- Solh 1988, Abu- Lughod 1990).
سياق الأداء
إن التطور الآخر الكبير الذي ظهر نتيجة لإعادة تعريف الفولكلور في أوائل السبعينات هو الاعتراف بأهمية سباق الأداء (Bauman 1977). وبالنسبة لهؤلاء الباحثات والباحثين الذين يهتمون بدراسة الفولكلور باعتباره علمًا يتتبع أثار هوية إنسانية عرقية قديمة بدرجة أقل من دراسة علاقته بالجماعة التي يوجد بها، أصبحت الكيفية التي يرتبط بها الفولكلور بالجماعة مهمة للغاية. وفي هذه الدراسات يعرف الفولكلور من منطلق ظهوره في الأداء، ومن حيث استجابته دائمًا لخصوصيات سياق معين، ومن ثم يخضع لعمليات إعادة صياغة مستمرة. فأصبح سياق الأداء بالنسبة للبعض السمة المميزة للفولكلور (Limon and Young 1986)، كما أضاءت دراسات الفولكلور المهتمة بالسياق (Caton 1990, Reynolds 1993, Webber 1991) الدور الحيوي الذي يلعبه الفولكلور في تطوير الذات والجماعة والارتباط بالمكان وجوانب أخرى من الهوية الفردية. ومع ذلك أثار الاهتمام بسياق الأداء أسئلة حول مناهج تسجيل وحفظ الفولكلور، لأنه إذا كان لا يفهم تمامًا سوى في سباق أدائه يصبح من الضروري جدًا الحفاظ على جوانب سياق الأداء (أي مناسبة الأداء، والجمهور ورد فعله أو مشاركته، والتفاعل بين المؤدين، وقواعد التفاعل، والأزياء، والعناصر الجسدية، وغيرها).
وفي الثقافات الإسلامية التي ما زال يميزها الفصل التام بين الجنسين ووجود أدوار محددة بوضوح لكلا الجنسين يمكن للدراسات التي تتناول العلاقة بين النص والأداء أن تتمتع بأهمية خاصة في التوصل إلى فهم دقيق لعادات وقيم النساء. ففي كثير من الثقافات الإسلامية نجد أن باحثي وباحثات الفولكلور ممن ضمنوا أبحاثهم اعتبارات عن سباق الأداء قد كشفوا عن استراتيجيات مهمة في بناء الجندر (أي علاقات القوى بين الجنسين) وصياغة رموز بديلة لسلوك وشرف النساء، فتوضح دراسة غريما (Grima 1991) للسرديات الشخصية عن النساء والموجهة إليهن في أفغانستان أهمية المعاناة في صياغة شفرة الشرف الأنثوي. كما وجدت كل من ميلز (Mills 1991) ورامانوجان (Ramanujan 1991) في كتاباتهما عن الحكايات الأفغانية وحكايات جنوب آسيا – على التوالي – أنه بينما مالت قصص الرجال إلى الانتهاء بالزواج حيث تكون العروس هي الجائزة التي يفوز بها البطل من خلال أعماله البطولية، كان الغالب على حكايات النساء أنها تبدأ بالزواج وتحدث في الحيز المنزلي وتتضمن قدرًا كبيرًا من الصعوبات التي عادة ما لا تستحقها النساء. وهكذا فإن حكايات النساء تعكس وترسخ رؤى للعالم وقواعد للسلوك تتميز بوضوح عن تلك التي يتبناها شركاؤهن من الذكور. وبالإضافة إلى ذلك فإن حكايات النساء تلك، أي التي تحكيها النساء أو موجهة إليهن، تقدم النساء باعتبارهن “ذوات تنظر وتتأمل، لا كمجرد موضوعات تقدم من وجهة نظر الآخرين“(Appadurai, Korom, and Mills 1991, 8).
وقد أدى التركيز على سباق الأداء بدوره إلى اهتمام آخر بالفولكلور اللفظي: أي وجه اختلاف الفولكلور (أو أي من لفظي آخر) عن الأنواع الأخرى من التفاعل اللفظي المنطوق. ومن هذا يأتي مفهوم الوضع في السياق، أي تلك الملامح التي تعرف المنطوق باعتباره نصًا خفيًا يحافظ على هويته كفن لفظي حتى عند نزعه من سياق الأداء (Bauman and Briggs 1990).وقد نادى بعض باحثي وباحثات الفولكلور أيضًا برؤية نسوية لسياق الأداء، وهي رؤية تركز على استقبال الجمهور للأداء وتؤكد على المشاعر جنبًا إلى جنب العقل (Sawin 2002, 56).
الشفاهية والكتابية
نظرًا لأن علم الفولكلور كثيرًا ما يعالج نصوصًا شفوية فقد كان المجال أيضًا في مقدمة البحوث التي تتناول الشفاهية والكتابية (ومؤخرًا الشفاهية الثانوية) وآثار الكتابة والوسائل التكنولوجية الأخرى على الفن اللفظي، فقد كان للتداخل الثري بين الشفاهي واللفظي، وهو ما ميز الثقافات الإسلامية، أثره الفعال في خلق إشكالية الثنائية بين الشفاهية والكتابية (orality and literacy)، وتحسين فهمنا للطرق المتنوعة التي يتفاعلان بها ويؤثران على بعضهما البعض. فعلى سبيل المثال أوضحت دراسة ميسيك (Messica 1993) عن اليمن في القرن التاسع عشر كيف أن النقل الشفاهي والكتابي كان يحدث في نفس الوقت بل وكان أحدهما يكمل الآخر. أما دراسة سويني (Sweeney 1987) فقد امتدت بكثافة بالغة لبحث علاقة الاعتماد المتبادل بين الشفاهية والكتابية في فن الملايو اللفظي. وفي أغاني الأفراح الشفاهية الفلسطينية، لا يهتم الشعراء أنفسهم بالفروق بين النصوص الشفاهية واللفظية بقدر اهتمامهم بمسائل التأليف وتعريفات صوت المؤلف أو المؤلفة.
L. Abu-Lughod, Veiled sentiments. Honor and poetry in a Bedouin society. Berkeley 1986.
-, Can there be a feminist ethnography? In Women and Performance 5 (1990), 7-27.
S. Altorki and C. F. El-Solh, Arab women in the field Studying your own society, Syracuse, NY. 1988.
A. Appadurai, F. Korom, and M. Mills (eds.). Gender, genre, and power in South Asian expressive traditions, Philadelphia 1991.
R. Bauman, Verbal art as performance, Prospect Heights, III. 1977.
R. Bauman and C. Briggs, Poetics and performance as critical perspectives on language and social life, in Annual Review of Anthropology 19 (1990), 59- 88.
S. Caton, “Peaks of Yemen I summon. Poetry as cultural practice in a North Yemeni tribe, Berkeley 1990.
J. Conrad, The political face of folklore. A call for debate, In Journal of American Folklore 111 (1998), 409- 13.
E. Early, Baladi women of Cairo. Playing with an egg and a stone, Boulder, Colo, 1993.
E. W. Fernea, Guests of the sheik. An ethnography of an Iraqi village, New York 1965.
C. Gibb, Negotiating social and spiritual worlds. The gender of sanctity in a Muslim city in Africa, In Journal of Feminist Studies in Religion 16 (2001), 25-42
B. Grima. The role of suffering in women’s performance of Paxto, in A. Appadurai, F. J. Korom, and M. A. Mills (eds.), Gender, genre, and power in South Asian expressive traditions, Philadelphia 1991, 81- 101.
D. Kapchan, Moroccan female performers defining the social body, in Journal of American Folklore 107 (1994), 82-105.
J. E. Limón and M. J. Young, Frontiers, settlements, and development in folklore studies, 1972- 85, in Annual Review of Anthropology, 15 (1986), 437- 60.
B. Messick. The calligraphic state. Textual domination and history in an Islamic society, Berkeley 1993.
M. A. Mills, Gender and verbal performance style in Afghanistan, in A. Appadurai, F. J. Korom, and M. A. Mills (eds.), Gender, genre, and power in South Asian expressive traditions, Philadelphia 1991, 56-80.
-, Feminist theory and the study of folklore. A twenty-year trajectory toward theory, In Western Folklore 52 (1993). 173-92.
I. Muhawi and S. Kanaana, Speak bird, speak again, Berkeley 1989.
E. A. Olson, The use of religious symbol systems and ritual In Turkey. Women’s activities at Muslim saints’ shrines, In Muslim World 84 (1994), 202- 16
A. Paredes and R. Bauman (eds.), Toward new perspectives in folklore, Austin, Tex. 1972.
J. Radner and S. Lanser, Strategies of coding in women’s culture, In Journal of American Folklore 100 (1987), 412- 25, reprinted in J. Radner (ed.), Feminist messages Coding in women’s folk culture, Chicago 1993, 1- 29.
J. Radner (ed.), Feminist messages. Coding in women’s folk culture, Chicago 1993.
A. K. Ramanujan. Toward a counter-system. Women’s tales, in A. Appadurai, F. J. Korom, and M. A. Mills (eds.), Gender, genre, and power in South Asian expressive traditions, Philadelphia 1991, 33- 55.
D. Reynolds, Heroic poets, poetic heroes. The ethnography of performance in an Arabic oral epic tradition, Ithaca, N. Y. 1993.
P. Sawin, Performance at the nexus of gender, power, and desire. Reconsidering Bauman’s Verbal Art from the perspective of gendered subjectivity as performance, in Journal of American Folklore 115 (2002), 28- 61.
J. Scott, Domination and the art of resistance, New Haven, Conn. 1990.
A. Sweeney, A full hearing, Berkeley 1987.
S. Webber, Romancing the real. Folklore and ethnographic representation in North Africa, Philadelphia 1991.