ذكرى ملك حفنى ناصف
(التاريخ والواقع المعاصر)
“إن الإنسان الذي لايستطيع معارضة ماضيه لاماضي له، أو بالأحرى لايتمكن من مغادرة الماضي، فهو يعيش فيه باستمرار“
قام ملتقى المرأة والذاكرة بتنظيم مائدة مستديرة لمناقشة بعض القضايا المثارة في الأوراق المقدمة عن العلاقة بين التاريخ والواقع المعاصر ضمن أعمال الندوة المقامة للاحتفال بذكرى ملك حفنى ناصف، وقامت د . سمية رمضان بكتابة ورقة أساسية أرسلتها لنخبة من المثقفين وأساتذة الجامعة، هم: د. أمينة رشيد د. عماد أبو غازي، أ. محمود أمين العالم، ود. سامية محرز، أ. نولة درويش.
بدأت الندوة بإلقاء د. سمية ورقتها، ثم تلتها قراءة أوراق المشاركين والمشاركات ثم أعقب هذا مناقشة مع الحضور.
سمية رمضان:
لاشك أن واحدة من أكثر مظاهر واقعنا مثاراً للأرق هي حالة الدوران في ذلك قضايا بعينها وكأننا كما يقول شيللينج نعيش في ماضينا باستمرار، لا نقوى على مغادرته. وقد يظن المطلعون على تاريخ نهضتنا الحديثة التي عادة ما يؤرخ لها بنهايات القرن الثامن عشر، أن مائتي عاماً كانت كفيلة بتجاوز الكثير من المسائل التي ما زالت مطروحة على الساحة الثقافية والفكرية والفنية في يومنا هذا. لكن قراءة الواقع وللأسف الشديد لا تزل تدهشنا كل يوم بمدى تشابه اليـوم والأمس، بل في بعض الأحيان بمدى التراجع في المساحة التي تناقش فيها القضايا الخاصة بالفكر والإبداع.
وكانت أزمة نصر حامد أبو زيد، ومصادرة الموضوعات الدراسية في الجامعة، وقضية كتاب المسامير لعبد الله النديم وتكفير رموز الماضي بديلاً عن قراءة أعمالهم بصفتها جزء لا يتجزأ من تراثنا الفكري والثـقـافـي، وكان هذا كله لايكفي ماكينة التكرار الكابوسي فأضافت إلى القائمة قضية أوضاع النساء وكأنها موضوع يطرح للمناقشة لتوه ولأول مرة. لا تزال الساحة تنبئنا كذلك بجدل على نفس الدرجة من الإلحاح وسخونة ردود الأفعال فيما يخص موقفنا من الآخر حتى عندما يتمثل هذا في حدث تاریخی مضى عليـه قـرنان من الزمان مثل حملة نابليون التي تتناولها الأقلام وكـان جيوش حكومة الديراكتور قد فرغت لتوها من الإنزال على شواطئ الإسكندرية وفي طريقها إلى اكتساح الدلتا!!
لقد شارف القرن العشرين على الانتهاء وما زال الكثير من الجهود الخلاقة التي كان من الممكن أن تتوفر للبحث العلمي الهادئ الجاد وتفيض بالحلول الإبداعية (فكرية وفنيه وتقنية) وتمد العاملين والعاملات في حقول التنمية والتوعية بما يحتاجونه من مادة علمية وثقافية نابعة من أرض الواقع الذي يتعاملون معها فيؤازر البحث الثقافي والاجتماعي والتاريخي جهودهم في إحداث التغيير الذي يرغبون، لازالت الكثير من تلك الجهود تستنزف في مواجهة حالة التكرار الكابوسية التي تتمثل في الصدارة التي تتبوؤها قضايا مثل حرية الإبداع، الحجاب والسفور وما شابه. المعركة الثقافية ما زالت تدور على نفس الأرضية وتستخدم نفس الأسلحة بين أنصار التوجه الذي يرى الواقع على أساس من تجدد مشكلاته وبين من يرفضون هذا التوجه من الأصل. وربما كان العاملون والعاملات في حقول التنمية والتوعية سواء كان عملهم هذا في فصول محو الأمية أو في مجالات الصحة الإنجابية أو التوعية القانونية والصحية، هم أكثر من يعانون على نحو مباشر ويومي من مظاهر حالة “محلك سر” التي ترى مظاهرها في الكثير من مناحي الحياة في مجتمعنا. والمثال الأقرب إلى الذهن هنا هو محاولة إضافة شروط إلى عقد الزواج، التي أثبتت على نحو قاطع مدى الصدع الذي أصاب ذاكرة الأمة حتى بدت تلك المحاولة وكأنها بدعة لا مثيل لها في تاريخنا الاجتماعي. إن هشاشة الاتصال بين القائمين على الإنتاج الثقافي والفكري والفني وما يحويه هذا الإنتاج من توجه “حلال للمشاكل” وبين الجمهور الأعرض المراد لرسالة هؤلاء المبدعين لهو من أثر العوامل المؤثرة في إعـاقـة حـركـة التـقـدم. فـرسالة هؤلاء المبدعين في مقدورها أن تفرز إنتاجاً يؤثر في المناخ الثقافي العام من خلال إذكاء وتعضيد ومؤازرة حس القدرة على تغيير الواقع وبث روح المبادرة الخـلاقـة، ومـا من شك كذلك أن استفاقة الذاكرة التاريخية والعمل على ربط حلقات قصة الوطن، والتأكيد على مظاهر الاستمرارية وبحث مظاهر القطيعة في تاريخ هذا المجتمع، إلى جانب تقديم وإبراز النماذج التي استهدفها النسيان لأسباب سياسية مختلفة وإتاحة المساحة المناسبة للفئات المهمشة ومنها النساء في التعبير من خلال القوة التي يهبها شعور المرء بأن له تراثاً يعتد به ويعينه على مواجهة متحديات الواقع، هي من الوسائل الجديرة باهتمامنا سواء كان عملنا نظرياً بحتاً أو في القلب من عمليات التنمية التي تصارع آفات المرض والفقر والجهل على ارض الواقع.
ونحن في ملتقى المرأة والذاكرة إذ نتشرف بدعوة سيادتكم للاشتراك في نقاش حول مائدة مستديرة هي من ضمن أعمال اللقاء المكرس للاحتفال بالذكرى الثمانين لملك حفنى ناصف وإعادة نشر كتابها “النسائيات“، تؤكد أهمية ما أصبح بالنسبة لنا حلماً وهدفاً ملحاً نسعى بكل جهدنا إلى تحقيقه ألا وهو ضرورة إتاحة الفرص في كل ما تعمل لخلق وحدة مبدعة بين القائمين على الإنتاج الثقافي وبين العاملين على أرض الواقع بهدف تجاوز معوقات التقدم، ومن منطلق إيماننا بضرورة تمكن الأفراد من مقدراتهم ومؤازرة حسهم بالقدرة على التحرر من مسالب اليأس والإحباط، وعلاقة هذا الأمل في التحرر بمدى حضور الحس التاريخي لدى الأفراد في المجتمع، نتوجه لسيادتكم برجاء ألا تزيد المداخلة عن ربع الساعة حول الأسئلة التالية، يفتح بعدها باب الحوار لأعضاء المائدة أولا ثم لجمهور الحاضرين.
سنبدأ بنقاط النقاش الخاصة بهذه المائدة المستديرة وسوف تقوم بقراءة الأسئلة التي ستقودنا إلى الاتجاه الذي فكر ضيوفنا أو كتبوا على أساسه. النقاط التي سنتوجه إليها بالسؤال في سياق الاحتفال بملك حفني ناصف هي الآتي:
-
ما السبيل إلى فتح قنوات بين المنظرين والمنظرات للقضايا الثقافية، والعاملين والعاملات في حقول التنمية والتوعية؟
-
ما الهدف من الاحتفال بشخصيات لعبت دوراً في تاريخنا مثل ملك حفنى ناصف؟ وكيف ننأى بهذه الاحتفاليات عن خطر تكريس أفكار بعينها أو إعادة إنتاج الماضي بتوصيفه دون التعامل معه على نحو نقدي يهدف إلى تطوير أسئلة الحاضر والخروج بها من الدوائر المفرغة؟
-
هل في مقدورنا تلمس مشكلات حاضرنا في ماضينا على نحو يشي أن التراث، تلك الكلمة التي تفيد كل هذا الجـدل، لا تدل في الواقع على تراكم أفضى إلى وحـدة إبداعية ثقافية بقدر ما أفضى إلى التخلف أو الدفاع عن وجهات النظر حتى أصبحت هي ذاتها موضوعاً للصراع؟ وكيف حدث ذلك إن صدقت تلك المقولة؟
-
ما العلاقة بين إحياء ذكرى شخصية تاريخية ولتكن ملك حفني ناصف والمشاكل التي تواجه النساء الآن على سبيل المثال؟ وكيف يمكن أن تساهم تلك الاحـتـفـاليـات والدراسات التي تقدم فيها في التعامل مع قضايانا الراهنة؟
- هل يمكن الاستفادة من عملية التغيير والتحرر من تاريخ تمت كتابته وقراءته بصورة انتقائية ينتقى فيها كل من الأطراف ما يشاء ويسقط ما يشاء؟ وما السبيل للخروج من تلك الدائرة المفرغة دون الوقوع في نفس الفخ، ودون فرض الوصايا على الذاكرة الجماعية؟
السؤال الأول:
ما السبيل إلى فتح القنوات بين المنظرين والمنظرات للقضايا الثقافية والعاملين والعاملات في حقول التنمية والتوعية؟
سوف ارد بما فهمته من صياغة السؤال، وهو أن هذا السؤال له شقان:
– الشق الأول: يخص علاقة المثقف بالجمهور.
– الشق الآخر: يخص مشكلة المثقف والمناضل أو الصفوة والجمهور.
ففي رأيي الإجابة على هذا السؤال واضـحـة عن باقي الأسئلة، وهي المزيد من الديمقراطية، لا أقصد هنا بالديمقراطيـة مـا نقـصـده عـادة بوجود تعددية أحـزاب وصحف معارضة رغم أهمية هذا كله. ما أقصده هو علاقة المثقف بالجمهور وهذا من خلال علاقة المثقف بكل ما يسمى وسائل الإعلام Media، بمعنى عـلاقـة المثقف بالتليفزيون. علاقة المثقف بإعداد مقررات التعليم منذ الحضانة حتى الجامعة والدراسات العليا. علاقة المثقف بمتخصص الشئون الاجتماعية، أو بمعنى علاقة المثقف بكل ما يصل إلى الجمهور، إلى جانب علاقة المثقف بالجمهور بشكل مباشر.
أرى أن الانفصال الذي يحدث حاليا ليس انفصالا بريئا أو بالصدفة. ففي رأيي في الماضي كان المثقف الذي لا يعجب السلطة كان يسجن وتحاول السلطة القضاء عليه جسديا ومعنويا. الآن هذا لا يحدث لكن يعطي للمثقف مجالات لمهرجانات، لاحتفالات ثقـافـيـة. وأنا لا أتحدث عن ندوة مثل هذه الندوة الجميلة المتواضعة التي تجمع متخصصين حول مـوضـوع للخروج منه بشيء. أتكلم عن المهرجانات التي ليس لها علاقة بالجمهور والتي تنحصر في صفوة من المثقفين، وفي رأيي أن هذا مقصود وليس بالصدفة. علينا أن نسعى لكسر هذا الانفصال، مثلا قضية نصر حامد أبو زيد تحولت إلى قضية صفوة، التليفزيون رفض إعطاء أي مجال للكلام لنصر حامد أبو زيد. رفض اقتراح عمل ندوة في أي مكان، المجلس الأعلى للثقافة كان من واجبه تنظيم ندوة لنصر لم يفعل ذلك. الندوة الوحيدة كانت في التجمع، وفي بعد الملتقيات المغلقة، أنا أتكلم عن أبسط ما هو ممكن حيث لابد أن يكون للمثقف تواجد أكبر في وسائل الإعلام Media
طبعا حلمي أن يحدث كما حدث في الثورة الكوبية في أوائل سنواتها، أن يذهب كل مثقف إلى الريف أو إلى أماكن شعبية يعيش فيها، ويحدث تبادل بين الجمهور والمثقف وهذا لم يحدث في مصر. إذن العلاقة مطلوبة لكن علينا أن ننظم في ظل الموجود أو محاولة تغيير الموجود أنواع أخرى من التبادل.
أما عن السؤال الثاني:
ما الهدف من الاحتفال بشخصيات لعبت دوراً في تاريخنا مثل ملك حفنى ناصف؟ كيف تنأى بهذه الاحـتـفـاليات عن خطر تكريس أفكار بعينها أو إعادة إنتاج الماضي بتوصيفه دون التعامل معه على نحو نقدى يهدف إلى تطوير أسئلة الحاضر والخروج بها من الدوائر المفرغة؟
سوف أبدأ بأن هدف الاحتفال أساسي ومطلوب وضروري لكن هنا تطرح مشكلة Context Text أو النص وسياقه أو الاحتفال بما يدور حوله. فأرى أن الاحتفالية في حد ذاتها مهمة لكن ينبغي أن كل احتفالية من الاحتفاليات التي لها علاقة برموزنا الوطنية، وإعادة طرح أسئلة تم طرحها في فترات أخرى، أن يكون لها قنوات ما للانتشار أو لمعرفة الناس بها. إذن ضرورة ربط سؤال كيف يتم الاحتفال؟ بسؤال كيف يصل إلى الناس؟ وبسؤال ما معنى هذا الاحتفال الآن؟ ما هي النقاط التي ينبغي إبرازها مثلا سؤال الهوية، هذا سؤال أساسي لدى ملك حفنى ناصف التي طرحت سؤال الهوية وسمعنا اليوم باكراً بعض الإشارات لما طرحته.
قرأت النسائيات وأشكر المشرفات على الملتقى لأنهم قاموا بتوزيع صورة من كتاب ملك. وعندما قرأت الكتاب فوجئت بما يوجد من تشابه بين فترة الأزمة التي عاشت في سياقها، والأزمة التي نعيشها الآن، مثلا حكاية الـ“أنا والآخر” التي طرحت اليـوم، “الغرب والشرق” الغرب لم يعد الآن كما كان من قبل زيارة بعض السواح كما نراهم في كتاب ملك حفنى ناصف. ولا الغرب هم عساكر في ثكنات جيش الاستعمار.
فإذن ضرورة إعادة السؤال اليوم: ما يمثل الآن بالنسبة لنا سؤال “الآخر” وسـؤال “الغرب“؟ الغرب الآن اختلف عن غرب ملك حفني ناصف والغرب ليس هو غرب واحد بل هو إمكانيات مختلفة.الغرب الآن اختلف عن غرب ملك حفني ناصف والغرب ليس هو غرب واحد بل هو إمكانيات مختلفة. لكن الغرب بمعناه السياسي هو كيان أخطبوتي ما، لا نراه كما كنا نراه في عساكر الثكنات، فهناك مصالح وشركات متعددة الجنسية وراء ما نسميه الغرب، وكل هذا ضروري أن يطرح بكل تفاصيله.
هناك غرب آخر غير معروف في مصر هو غرب النقد، غرب الدفاع عن قضايا، غرب التضامن. وأنا شخصيا عشت ١٥ سنة في الغرب لم أر كم الرجعيين الذين نعـاشـرهم في مصر. حيث كنت أتعامل مع ناس لهم اهتمام بقضايا فلسطين، فإذن عمومية الغرب لا تنفع. بالإضافة إلى أن الغرب اليوم لم يعد يعيش نفس حركات التضامن التي نعرفها.
لكي لا أطيل عليكم، أريد أن أصل إلى شئ ناقص في الطرح، هو عـلاقـة الأيديولوجيا بالثقافة، فنتحدث عن الثقافة، عن الثقافة التي عرفتها ملك حفنى ناصف في عصرها ولا نتحدث أبدا عن الأيديولوجيا، وأقصد بالأيديولوجيا معنى الوعي الزائف وليس معنى نظام الأفكار.
الأيديولوجيا بمعنى الوعي الزائف تتمثل في إمكانية أن تنتشر أفكار تبدو ثقافية لكن هي في الأساس أيديولوجية. اليوم ينبغي في رأيي أن يطرح السؤال بمعنى السياق الحالي للفرانكوفونية كسياسة وليست كثقافة وكأيديولوجية. إذن هذه المعركة أخذت شكلاً غير الشكل الذي كنا نريده وهو طرح الحقيقة وراء ما يبدو. وبالتالي لابد من التفرقة بين الأيديولوجيا والثقافة.
النظر إلى الماضي موجود أيضا بصورة واضحة في هذا السؤال، هنا نجد أن جملة شيللينج الموجودة بالطرح بها شق أول مهم جدا “إن الإنسان الذي لا يستطيع معارضة ماضيه لا ماضى له“، وهذا صحيح بمعنى أن الإنسان إن لم يستطع معارضة ماضيه بالتالي لا يصبح له ذات ولا مستقبل. وأنا لا أوافق شيللينج على الجزء الآخر للتعريف أو بالأحرى لا يتمكن من مغادرة الماضي فهو يعيش فيه وباستمرار، حيث أرى أن هذه مسألة أخرى، الدوران في الماضي غير معرفة الماضي حتى يكون لنا حاضر ومستقبل. فيمكن أن أرفض شخصيا الدوران في الماضي وأن نبقى في الماضي لكن أتأسف لقطيعتنا مع ماضينا.
ملك حفنى ناصف قالت عبارة جميلة: إنه لا يمكن للبشر وللإنسان أن يقيم مدنية إن لم يكن له ماضي.
أما عن سؤال “التخندق” كي لا تتخندق في مقولات في الغالب ينبغي أن نقيم علاقة جدلية مع ماضينا بمعنى أن الماضي كما قال Franz Fanon في المعذبون في الأرض. الماضى ليس شيئاً متحجراً، الماضي هو كما نراه من واقعنا الراهن فعلينا أن لا نحجر الماضي“.
إحياء الشخصية التاريخية كما قلنا فيما سبق مهم، وأنا أرى أيضا أن مارلين بوٹ قالت في الصباح شيئاً مهماً خاصاً بالشخصيات الاستثنائية، وهنا أرى أنه شئ مهم جدا أن تحتفل بشخصياتنا، لكن معرفة المرأة وذاكرة المرأة تستدعي أننا نخرج من الاستثناء. وهنا نجد أن المغاربة لديهم تجارب مهمة جدا في كتابة كتب انطلاقا من الذاكرة الحية الشفهية للمرأة في طبقات أخرى غير طبقات المثقفين والطبقات الوسطى. فأشجع ملتقى المرأة والذاكرة، أن يضيف إلى عمله الثرى والثمين والجيد عن ذاكـرة المرأة المثقفة، ذاكـرة المرأة المدفونة، لأننا حتى اليوم نتكلم كثيراً عن تدهورنا وتدهور الصفوة، وننسى أنه يوجد ناس لم يخرجوا أبدا من حالة الدفن التي يعيشون فيها. فمهم أن الذاكرة تحتوى على ذاكرة من ليس لهم كلمة أو لهن إذا كنا نهتم بالمرأة.
آخر سؤال وهو سؤال “الانتقاء“. طبعا الانتقاء دائماً وارد في عمل مثل عملكم. أرى ربما الانتقاء ينبغي أن يرتبط بالذاكرة الجماعية (الذاكرة الجماعية تعريفها وما هي الجماعة الممثلة).
أتصور تلخيصا لكلامي أن الموضوع يحتاج ذاكرة للشخصيات اللجوء إلى نصوص أدبية، فالنصوص الأدبية تقول كثيرا وأحيانا تقول ما لا يقوله التاريخ الرسمي، اللجوء إلى القصص الشعبية والأدب الشعبي، اللجوء إلى الذاكرة الشفهية.
سامية محرز:
أريد دمج الموضوع في ثلاث نقاط رئيسية حول هذه الأسئلة المطروحة، النقطة الأولى بالنسبة لمسألة القنوات التي يمكن فتحها بين المنظرين والمنظرات والقائمين على العمل بالفعل في المواقع سواء في التنمية أو التوعية أو التربية. لدى إحساس أننا بصدد إنتاج / تكوين خطاب ثقافي بمنأى عن المثقفين. أرى أننا نخاطب أنفسنا وهذه أصبحت سمة، وسوف أعمم، أي أن المؤتمرات والمهرجانات والملتقيات والمناقشات أصبحت معلقة على حلقة صغيرة جدا بالرغم من أننا لنا مجالاتنا المفتوحة جدا. فمناقشتنا في الجامعة مختلفة تماما عن مناقشاتنا في مثل هذه التجمعات. فأين هي الأجيال التي نتوجه إليها بمثل هذا الخطاب، وهل نحن هنا بصدد أن نوجه خطابنا إلى أنفسنا؟ للأسف لا يفرض أحـد علينا مثل هذا الانقطاع بل نحن الذين نفرضه على أنفسنا.
وجه آخر للسؤال المطروح: المعنيون بأمور التنمية والتوعية والتربية –أتسائل وأنا لا أعلم إن كان بيننا أحد منهم– أين العاملون في التعليم الدكتورة ألفت الروبي قالت إن هناك صور بشعة تواجهنا في كتب التعليم المدرسي خاصة بالمرأة والأمومة والأنثى وما إلى ذلك. هل بالفعل اتخذنا أي إجراءات في حوار حقيقي مع هؤلاء المسئولين؟ وهل كان من المفيد أن ندعو إلى مثل هذا اللقاء أشخاص من هذا النوع؟
النقطة الثانية، بالنسبة للاحتفاليات فأنا أختلف تماماً مع الدكتورة أمينة، لقد سئمنا من الاحتفاليات أيا كانت من مؤسسات حكومية أو مؤسسات غير حكومية، خاصة وأن الحلم كما هو مطروح في أروقة العمل هو حلم التـقـدم، فنحن نحلم بأن تخرج من هذه الأزمة. وهذه العودة المستمرة إلى الماضي لا أعتقد أنها قد تؤدي بنا إلى التقدم. يوجد عنصر خطير في الحقيقة يتمثل في أن جماعة نسائية غير حكومية توظف هي الأخرى مسألة الاحتفالية لأن هذا هو النمط السائد. إذن عندما اتبني أنا کمسود هذا النمط الثابت فهناك مشكلة، وهنا أستعير بعض أفكار وتنظيرات مدرسة دراسات التابع في التاريخ، أن المستتبع غير قادر على الحديث أو الكلام، فهل هذه هي الفجوة التي وقعنا فيها؟ ولماذا وقعنا فيها؟ وهو سؤال، فأنا أطرح أسئلة مقابلة للأسئلة المطروحة.
النقطة الثالثة، أدمج أكثر من سؤال في هذه النقطة وأربطهم بما قالته الدكتورة أميمة أبو بكر، بخصوص مسألة العلاقة بين الماضي والحاضر والقضايا التي حسبنا أنها حسمت لكن فوجئنا أنها لم تحسم بعد. وهنا أيضاً أستعير الأفكار التي سوف أطرحها من مدرسة دراسات التابع وأعتقد أنها مدرسة مهمة جدا بالنسبة لنا، لأنهم بالفعل أشخاص نظروا إلى أنفسهم بل نقدوا خطابهم عن ذاتهم بعد أن انتجوه، وهذه عملية مهمة جدا في هذه المرحلة. وأنا أتفق معهم خاصة مع أحـد منظريهم وهو تشاترجي في كلامه عن قضية المرأة بالذات، وهو يقول إن قضية المرأة حسمت بالنسبة للخطاب القومي. المرأة في الحقيقة ترمز في خطاب الأمة إلى ذاتها. ولكن بما أن هذا خطاب أبوى ذكوري فإذن الأيديولوجية الذكورية الأبوية هي التي تقوم باختيار العناصر التحديثية والعناصر التأصيلية في هذه القومية. يترتب على هذا الاختيار استمرار عين الخطاب الأبوى على الفصل في حدود بين الخارج والداخل. الخـارج هو عالم الرجل والعالم المادي وما إلى ذلك. والداخل هو عالم المرأة، عالم الجواني، عالم المنزل. فإذن بالنسبة للخطاب القومى هذا هو المهم، الدكتورة هدى الصدة تحدثت صباحاً عن الضغوط التي واجهت المرأة في عصر النهضة، وأنها كانت مطالبة باستمرار بالتماثل مع المرأة الغربية، وأننا لم نخرج عن هذه الضغوط والقضايا التي أشارت إليها دكتورة أميمة أبو بكر بأنها قد حسمت، هي لم تحسم ولن تحسم طالما نحن في إطار هذا الخطاب الأبوى القومي.
سأبدا بالمقولة التي أيدت د. أمينة نصفها الأول وعارضت نصفها الثاني، أنا أرى أن النصفين لا ينفصلان عن بعضهما، بمعنى أن الإنسان الذي لا يعارض ماضيه يعيش في ماض دائم، بمعنى أنه ليس له ماض، لأن هذا الماضي هو مستقبله وحاضره، وهذا هو حالنا بالفعل، وهذا هو السؤال الذي تطرحه الورقة. إننا ما زلنا إلى الآن نعيد إنتاج الإشكاليات والقضايا التي أثيرت من بداية القرن ومن القرن الماضي حول حجاب المرأة أو سفورها إلى آخره. أنا أرى المشكلة في عنصرين أساسيين في ثقافتنا لا تخرج هذه الندوة عنهما فعلاً وهي ثقافة الشائعة وثقافة الانتقاء. على سبيل المثال بناء هذه الندوة أو هذه الاحتفالية قائم على تقديم ملك حفني ناصف بوصفها تقدم نموذجاً حاول أن يجيب على الأسئلة المطروحة في بداية القرن بمنطـق مـتـدرج وهادئ لا يصطدم مع المجتمع في مقابل آخرين وصفوا بأنهم دعاة التحديث أو دعاة النهضة، ووضع قاسم أمين مثالاً لهم، وكانوا يدعون إلى الإسراع بتحرير المرأة رافضين فكرة الحجاب داعين إلى السفور. أنا أتصور أن هذه هي إحدى الشائعات التاريخية وأرى أنه لا يوجد في الحقيقة خلاف بين موقف ملك ناصف وموقف قاسم أمين، وأن معظم من هللوا لقاسم أمين باعتباره داعية تحرير المرأة والذين عارضوه لم يقرأ أحد منهم قاسم أمين، فهو في كتاباته لم يدع إلى خلع الحجاب وما دعا إليه هو الالتزام بالحجاب الشرعي كما ورد في الشريعة الإسلامية، وسأقرأ نصاً صغيراً لقاسم أمين عن حجاب النساء من کتاب “تحرير المرأة“:
“ربما يتوهم ناظر أننى أرى الآن رفع الحجاب بالمرة، لكن الحقيقة غير ذلك، فإننى لا أزال أدافع عن الحجاب واعتبره أصلاً من أصول الآداب التي يلزم التمسك بها غير أني أطلب أن يكون منطبقاً على ما جاء في الشريعة الإسلامية“.
أي أن قاسم أمين لا يدعو إلى السفور بأي معنى من المعاني ومن يهاجمونه باعتباره مختلفاً عن ملك حفنى ناصف أو ينحاز لموقف قاسم أمين لأنه موقف مـتـقـدم بينما موقف ملك موقفاً رجعياً، هو في الحقيقة لا يدرك أن الموقفين واحد وليس بينهما خلاف. إن ما يعترض عليه قاسم أمين هو الحجاب في العصر العثماني وما ساد فيه من برقع ونقاب وغيره، ويرى أنه خارج عن الحجاب الإسلامي الذي يتمسك به بشدة باعتباره أمراً من الأمور الدينية، وباعتباره من الأمور الداعية للأدب والاحتشام إلى آخره. وإن للمرأة أن تظهر وجهها وكفيها هذا ما يدعو إليه قاسم أمين. حتى لطفى السيد عندما يقدم بوصفه يقف موقفاً معارضاً لملك، فهو في كلامه يتكلم عن أنه لا يدعو إلى المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة لكنه يرى أن الموضوع يحتاج إلى وقت وهو موضوع تدريجي. إذن الفكرة كلها شائعة، افترضنا فرضاً لا أساس له، وهو أن هناك موقفين ونبني بينهما معركة، بينما المشكلة الحقيقية هي: أن دعاة النهضة والإصلاح كانوا أقل راديكالية مما ينبغي وأقل جذرية مما ينبغي، إنهم لم يدعوا إلى مواجهة هذا الماضي وهذا التراث المعوق والمقيد لتطور هذا المجتمع، وهذه هي مشكلتهم الحقيقية أو إحدى مشكلات فشل هذه النهضة، ملك حفنى ناصف كانت تتوجه للطبقة المتوسطة في طرحها قضايا المرأة، فهي ترى أن الطبقة الدنيا هي بائعة البرتقال قليلة الأدب أو الفلاحة التي إذا اتيح لها الاختلاط ستصبح قليلة الأدب مثلها، لكنها ليست قادرة لأن المجتمع يمنعها، وأن الطبقة الأرستقراطية خارج الموضوع لأنها طبقة منحلة، فالمشكلة في الطبقة الوسطي. وهو نفس ما كانت تفعله جماعة السفور التي تتوجه إلى الطبقة المتوسطة، وهذه مشكلة دعاة هذه الحركة، هذا الجيل من الدعاة مشكلته واحدة ولا توجد فروق جوهرية بينه في رأيي، وهذه الفروق هي نوع من الشائعة على الأقل حتى قيام ثورة 19 هذا من ناحية، من ناحية ثانية إذا كان يتردد إن ملك كانت اهتماماتها أوسع ولم تحصر قضية المرأة في الزي والحجاب والاختلاط، أيضاً قاسم أمين لم يفعل ذلك، وقاسم أمين في كـتـاب تـحـرير المرأة يضع فـصـلاً كـامـلاً عـن مـوضـوع الزواج والطلاق، ويطرح مشروع عقد زواج يضمن للمرأة حقوقها، ويناقش قضية حق الطلاق وتقييد حق الرجل في الطلاق وجعله أمام القاضي، وفي نفس الوقت يطرح منح المرأة حق الطلاق، ويناقش المشاكل الفقهية في هذا الجانب، وفرض المذهب الحفني على مصر منذ الاحتلال العثماني، ويدعو إما إلى ترك المذهب الحنفي أو منح المرأة الحق في وضع شرط في العقد لحقها في تطليق نفسها، فهو درس هذا الموضوع دراسة أكثر جدية حتى من دراسة ملك له، فموقف ملك في النهاية جزء منه من تجربتها الشخصية المعيشة، بينما هنا دراسة مبنية على إحصائيات لثمانية عشر سنة من حالات الزواج والطلاق من سجلات الزواج والطلاق في مدينة القاهرة، وصل منها إلى أن كل أربع زيجات تمت في القاهرة خلال الثمانية عشر سنة السابقة لتأليفه للكتاب انتهت ثلاثة منها بالطلاق. ولقد أورد هذه الإحصائيات في كتابه، إذن نحن نتعامل مع ما يتردد عن قاسم أمين وعن غيره وما يشاع عنهم. هذا فيما يتعلق بالشق الخاص بثقافة الشائعة، في المقابل أيضاً هناك ثقافة انتقاء، أنا شخصياً لست ضد فكرة أن نحتفل بشخص ما لكن لا نحـول هذا الاحتفال إلى أن يكون هو المخرج من الأزمة الراهنة، لو بحثت في الماضي عن سبيل للخروج من أزمتي فأنا أكرس لهذا الماضي وأعيد إنتاج مشاكله. لكن أيضاً هناك مشكلة في انتقاء من أحتفل به، والحقيقة رغم أن الورقة تحاول طرح هذه القضية لكن الملتقى واقع في هذه المشكلة وهي مشكلة الانتقائية. إن الملتقى يبحث عن حل لمشاكل المرأة في مكان لا يمكن أن يجد لها فيه حلاً، عندما نختار أن نحتفل بملك ناصف ولا نحتفل بهدى شعرواوي رغم أنه في ديسمبر الماضى مر 50 سنة على وفاتها، ولا نحتفل بتأسيس الاتحاد النسائي المصري رغم أن في هذا العام مـر ٧٥ سنة على تأسيسه، اللمحات التي تم فيها تحقيق مكاسب حقيقية للمرأة من خلال احتكاكها بالعمل السياسي بالعمل العام بفكر الوطن وقضاياه نغلفها لنبرز شخصیات، نعم قد تكون ملك أول مصرية إذا اعتبرنا –أن عائشة التيمورية أصلها ترکی– كتبت أو غيره لكن هل الريادة بمن بدأ أم بمحـتـوى مـا يكتب. هذا تساؤل حول فكرة الانتقاء. وهذا يطرح أيضاً المشكلة الموجودة في الورقة وفي مقدمة هدى للنسائيـات حـول العلاقة بالآخر والعلاقة بالغرب والنظر إليها وخطاب الحداثة ونقد الحداثة، هل ممكن أن يصل بنا التصور إلى أن الغرب غير متقدم عنا، ولن أتحدث عن فكرة التقدم والتخلف إذا اعتبرناها معياراً قيمياً، سأتحدث عن التفوق والسيادة والسيطرة إلى آخره، هذه الأمور مرتبطة بما تم إنجازه في عصر الثورة الصناعية، وهو عصر انتهى بالمناسبة ونحن نبـدأ عصراً جديداً، وإذا لم ندرك ذلك وظللنا نحيا في وهم أننا لسنا أقل من الغرب ولا توجد مشكلة في تراثنا، وأن الغرب هو السبب في تعطيلنا، وليس أن هناك مشكلة أصيلة سابقة على احتكاكنا بالغرب بثلاث قرون على الأقل. لقد توقفنا عن الحركة قبل اصطدامنا الحقيقي والقوى بالغرب بثلاث قرون أي من القرن الخامس عشر ونحن متوقفون عن التطور. المشكلة أبعد من الاصطدام بالغرب. المشكلة أن ذلك العصر الذي ينتهي الآن عصر كانت الثورة الصناعيـة هـي كلمـة السـر فـيـه، الثـورة الصناعية مرتبطة بنظام في القيم ونظام في التفكير نحن لم نكن قريبين منه، حدث في مكان ما على الأرض تفوق أو اكتساب قدرة ولم يحدث في مكان آخر.
محمود أمين العالم:
أولاً أشكر ملتقى المرأة والذاكرة حقيقة على هذا العمل الرصين الذي يعالج بجدية وبعمق قضية بالغة الأهمية، وأشكر هذه الورقة الجيدة التي قدمت لنا عن التاريخ وقضايا المعاصرة فهي مكتوبة بشكل جيد وعميق.
أنا لن أجيب عن الأسئلة إلا في النهاية إجابات سريعة لأنني أعتقد أن القضايا متشابكة وسأركز على نقطة أساسية وهي ما علاقتنا بالتاريخ؟ كيف نقرأ التاريخ وكيف نستخلص من التاريخ الدروس الواجبة؟ وفي رأيي هذا جذر الموضوع. سأتكلم من زاوية شخصية في أغلب الوقت، من خبرتي الذاتية ومن موقفي الذاتي، فأنا مثلاً شديد الاهتمام بالذاكرة باعتبارها وسيلتنا في رحلتنا نحو الماضي ورحلتنا نحـو التـراث، فالذاكرة في تقديري عملية مهمة جداً من خلالها نشحذ حسنا التاريخي ونغذي إحساسنا بتراثنا ونحقق علاقتنا بقوميتنا أو تراثنا القومي بالذات وانتمائنا القومي بالذات. وعلى هذا الأساس ندرك فعلاً تاريخيتنا، ولا أقول تاريخنا، في داخلنا لأن القضية في رأيي هي الحس بالتاريخية لا معرفة التاريخ.
إن بعض تجاربي تدعوني إلى الخشية من الذاكرة، أنا أخشى الذاكرة وسأضرب بعض الأمثلة: كان لي أستاذ وصديق عزيز كان يدرس لنا المنطق، فكان هناك كتاب بالفرنسية عن المنطق، فكان يقف والكتاب ليس معه، فيترجم إلى العربية مباشرة هذا الكتاب الفرنسي من الذاكرة. هذا الرجل واسع المعرفة جداً لكن في كل ما أنتجه لم ينتج شيئاً جديراً بالاحترام بسبب هذه الذاكرة القوية فيما أزعم. هناك تجربة أخرى مع الأستاذ العظيم يوسف مراد، أذكر أنه في أيامه الأخيرة قال لي الذاكرة هذه مصباح معلق على ظهرنا ينير ماضينا فقط، أنا طبعاً اختلف مع هذا، ولكن عندي تجربة شخصية مع فؤاد زكريا وأنا أحكي لكي أوضح أموراً قد تكون مهمة. فؤاد زكريا قال لي إنني دخلت قسم الفلسفة لسبب واحـد لأني ضعيف الذاكرة جداً وعرفت أن قـسم الفلسفة لا يفرض علينا أن نحفظ شيئاً. وأنا من خلال معرفتي بفؤاد زكريا أعرف أنه أفضل مفكرينا في مجال الفلسفة وأزعم أن هذا نتيجة لضعف ذاكرته أخشى أن أقول إن هناك جـدلاً متناقضاً بين الذاكرة وبين الإبداع. مـا قـضيـة العلاقة بين الذاكرة والإبداع. عندمـا تقـوى الذاكرة يضعف الإبداع وعندما تضعف الذاكرة يقوى الإبداع، هذه القضية اعتبرها مدخلاً مهماً في مناقشتنا، وأسأل كيف نتعامل مع الماضي أو مع التراث بشكل عام؟
في تقديري وأجازف بالقول إن كل قراءة للتراث ليست قراءة للتراث في ذاته، لكنها قراءة للتراث في الحاضر وليس في الماضي، لأن القراءة دائماً مرتبطة بهذا الحاضر وبالموقف من الحاضر. وفي تقديري أن هناك عدة قراءات نستطيع أن نحددها. القراءة الأولى نستطيع أن نطلق عليها القراءة الاستنساخية التكرارية، أن ترجع للتراث، فنكرره تكرر طبعاً سطوحه الخارجية تضاريسه الخارجية وتعتبرها هي أيضاً معاييرنا في الحاضر، وهي قراءة كما تعرفون قراءة الأصولية الدينية، الأصولية السلبية القراءة الثانية هي القراءة الانتقائية التي تحدث عنها الدكتور عماد، وهي أن ننتقى من الماضي ما نراه صالحاً للحاضر أو سلاحاً لموقفنا في الحاضر، وهي القراءة البراجماتية. القراءة الثالثة في القراءة التي تأدلج الماضي، بحيث يكون لدى فكرة نظرية معينة، فكرة أيديولوجـيـة أسقطها على التراث واقـرأ التراث بهذه الأدلجة أو الأدلوجـة أو الأيديولوجيا، وبالتالي اتخذها فعلاً بشكل مقصود أوغير مقصود. في تقديري هناك قراءة أيضاً موضوعية أو يمكن أن تكون موضوعية إلى حد كبير عقلانية نقدية، وإن ظل فيها أردنا أم لم نرد، جانب أيديولوجي، لكن لا يمكن في قراءة التاريخ وفي العلوم الإنسانية بشكل عام أن نستبعد العامل الذاتي حتى في الفيزياء وفي الرياضة أيضاً، وعندما أقول نقدية أقصد المعنى الذي يؤكده كانط بالذات، أن النقد هو كشف ظروف وشروط الظاهرة: كيف نشأت الظاهرة، ما أسباب ظهورها، ما مدى فاعليتها في الواقع الذي توجد فيه، ما حدودها وما نسبيتها في الواقع الذي توجد فيه.
اسمحو لي أن أعبر بشكل شخصي أكثر عن قـضـيـة سـتـوضح اتجاهاً من هذه الاتجاهات الأيديولوجية. عندما دعتني الدكتورة سمية إلى المشاركة في هذه الندوة سعدت جدًا وتلقيت كل الأوراق ولم أقـرأ كل الأوراق ولكن نظرت نظرة سطحية إلى بعضها وسرعان ما اتصلت بها وقلت لها أنتم تحتفلون بملك حفنى ناصف وارسلتم کتاب شخصية أخرى هي باحثة البادية، فقالت لي بلطف شديد، إنهما شخصية واحدة، خجلت جدًا واستغربت كيف أخطأت هذا الخطأ، وجلست أحفر في ذاكرتي، أنا عميق العلاقة مع أسرة عصام حفنى ناصف، أنا أعرف معركة الأب في ثورة 19 وموقفه من الوفد، وأعرف شعره وأحفظه حتى الآن. وأعرف أيضاً أن هناك مجلة كان اسمها المصور في ذلك الوقت كان يصدرها إسماعيل مظهر الذي دافع عن الداروينية والتطور، ولا زلت أذكر الشعر الذي كان مكتوباً في أول صفحة في المجلة، وكان اسمه “حـرر فكرك” فهي من أوائل المجلات البالغة الأهمية في ذلك الوقت، كان من أهم كتابها مجدى وعصام ناصف، فأنا أعرف الأسرة جيداً وأعرف ملك وما زلت أذكر صورتها في بيتي وهي في هذه العقال. فما الذي أسقطها؟ كيف أبقيت ناصفيتها واسقطت باديتها؟ لماذا؟ هذه أيديولوجية لأني عرفتها في علاقتها السياسية بأبيها وأخيها. هل السبب في ذلك أني اعتبرتها جزءاً من هذه الذكورية أبوها وأخوها … أم الجانب السياسي لدى أسرتهـا هو الذي حرصت أن أراه والبادية التي هي الدين والماضي والصحراء أخافتي. كما ترون ذاكرة أيديولوجية حقيقة، لكن بدأت أفكر في الاسم وسألت نفسى: لماذا تسم نفسها بنت البادية مثل بنت الشاطيء عائشة عبد الرحمن؟ فتأملت وأنا لا أدري هل أبرر خطئي وارتفع بخطئي إلى رؤية إيجابية لها، ألا نستطيع أن نرى الثنائية أو التوفيقية أو الرؤيا ذات الاتجاهين في الاسم، البحث عن الواقع من أجل اكتشاف مستقبل والبادية ارتباط بأصول. وبالتالي استطيع أن أقول إن اختيارها لهذا الاسم بالذات هو اختيار لموقف محدد، إنها تؤسس للبحث العلمي والحفر في الواقع من أجل صناعة مستقبل جديد، وفي نفس الوقت تؤسسه على تراث البادية، سيدنا محمد والإسلام التراث العربي الإسلامي، إلى آخر هذا.
أريد أن استخلص من كل هذا أن ملك حفنى ناصف جزء من فكر عصر النهضة، لا تختلف في الجوهر عن بقية المفكرين إلا في التفاصيل. الرؤية التوفيقية الثنائية التي بدأت من الطهطاوي واستمرت حتى الآن باختلاف نسبها. أريد أن أقول إنها لم تتجاوز جوهر فكر النهضة برغم الاختلافات والتوازنات المختلفة هنا وهناك، من هنا أصل إلى لب القضية التي أريد أن أتحدث عنها. ما هو الموقف من التراث والتاريخ؟ في تقديري أن الموقف المنهجي الصحيح من التراث هو أولاً تجنب الموقف الانتقائي وتجنب الموقف التجزيئي، لا أجزئه إنما أنظر إليه نظرة شاملة، وأتجنب الموقف الإيديولوجي والحرص على القراءة الموضوعية النقدية له في سياقه الاجتماعي وتداخل عناصره المختلفة وتفاعلها وتناميها، أي في تاريخيتها في نفس الوقت. لن نستطيع أن نقرأ ملك حفنى ناصف قراءة أقرب إلى الصحة إلا– في تقديري –في تراث عائلتها، هذه العائلة السياسية الحوار والأدب والفكر واللقاءات أين هذا من فكرها؟ هذا ما نقرأه في هذا التراث في السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي أنتجها، والشروط التي أنتجت ملك والرسالة العامة لهذا الإنتاج وحدودها النسبية في عصرها، ولهذا الهدف يجب أن تؤكد أننا لا نسعى إلى تكريس نموذج، ولا يجب أيضاً أن نقف عند نموذج واحد في أي مرحلة من المراحل نختاره اختياراً، لأني أزعم أن التراث بكل ما فيه إيجابي وسلبي تقدمي وتكسكسي، هو تراثي. أنا قد أكون قريباً من ابن رشد العقلاني وبعيداً إلى حد ما عن الأشاعرة التوفيقيين، قريباً أحياناً وبعيداً جداً أحياناً عن التصوف. ولكن كل هذا هو تراثي العزيز جداً بكل ما فيه. ما هو موقفي الحقيقي منه، أن أحسن قراءته قراءة نقدية في سياقة الخاص، ولا أقتطع منه واحداً أجمله هو النموذج، ولا أستبعد الآخرين لأنني اختلف معهم، ولكن أعتبرهم جميعا ممثلين لمرحلة معينة من مراحل تراثي العربي الإسلامي مهما كانت أيديولوجيتي، هذا إذا أردت أن أقف موقفاً صحيحاً من التراث واستخلص منه حسي التاريخي أولا، وحسي القومي ثانياً، رغبتي الأصيلة نتيجة لهذه الرؤية النقدية الشاملة للتراث، إرادة التجاوز أن أتخطى كل هؤلاء، مثلما قـال فـرويد نقتل الأب ولكن لا نقتله لكي نتزوج زوجته، ولكن يمكن مثلما قال أمين الخولي نقتل التراث معرفة، تتمثله معرفة من أجل أن نتجاوزه، والمهم أن أعرف التراث بكل عناصره ولا أقف وقفة معينة مركزة على فرد واحد حتى لو كان من أفضل الناس. ينبغي ان أتجاوز التراث واتخطاه، والهدف هو الإضافة الإبداعية والخروج على الذاكرة التراثية من أجل الإبداع. أي استيعاب الذاكرة التراثية النقدية وتحليلها وتجاوزها.
وسأجيب بشكل مختصر جدا عن الأسئلة. في رأيي الهدف من الاحتفال بشخصية مثل ملك حفني ناصف هو تعميق حسنا التاريخي وانتمائنا القومي وتنمية الوعى بضرورة الإضافة الإبداعية، نتيجة لقراءتنا النقدية لهذا التراث في إطار سياقه التاريخي والاجتماعي، فضلا عن أن الاحتفال بشخصية مثل شخصية ملك هو إغناء لوجداننا الاجتماعي، ونقد وتجاوز لتهميش دور المرأة في حياتنا.
السؤال الثاني لعلنا نجد بعض مشكلات ماضينا لها امتداد في مشكلات حاضرنا، ولكن في مستوى تاريخي وموضوعي مختلف تماماً، ولهذا لا سبيل لقراءة حاضرنا إلا من خلال قراءته قراءة صحيحة بإدراك عميق لشروطه العقلية وقوانينه. الماضي هو مجرد إضاءة وجدائية وخبرة، لكن معرفة الحاضر هي في قلب الحاضر، وإلا نسقط فعلاً في تبعية للماضي، الماضي يحكم الحاضر وليس العكس.
ثالثاً: هذه الاحتفاليات تسهم بغير شك في التعامل مع قضايانا الراهنة بما تفجره وتغذيه من وعي نقدي في التعامل مع هذه القضايا، لكن خبرات الماضي ليست كافية وحدها في حل قضايا الحاضر، فقضايا الحاضر لها سياقها الخاص تاريخيا الذي لابد من دراسته دراسة علمية موضوعية في ضوء خبرة الماضي، فالحاضر له شروطه وقوانينه الخاصة التي لها الصدارة في تفهم مشاكله وقضاياه وإلا أصبح الماضي معيارا للحاضر وبهذا تسقط في أصولية جامدة مرة أخرى.
السؤال الرابع: أنا أزعم أن هناك فخين في تقديري لا فخ واحد بالنسبة لعملية التغيير والتحرر، الأول هو أن نسقط في فخ الصور الانتقائية القائمة الجاهزة الماضية للتاريخ، أي نفرض الوصاية الانتقائية السابقة في تنوعها على واقعنا الراهن وهذا لن يفضي لا لتغيير أو إلى تحرر. الفخ الثاني هو أن نخرج على هذه الانتقائية الجاهزة القائمة وأن نفرض نحن رؤية أخرى جزئية أو أيديولوجية أو انتقائية وبالتالي نحقق وصاية على الذاكرة الجماعية. فنحن لا نريد الوصاية التراثية علينا ولا وصايتنا نحن على التراث. الطريق هو أن نكتشف فعلاً بقراءة موضوعية نقدية غير أصولية وغير انتقائية وغير أيديولوجية واقعنا، وإشاعة هذا الوعي القرائي عامة بما يحول إرادة التحرير والتغيير من مجرد إرادة ذاتية إلى إرادة جماهيرية فاعلة في واقعنا. هذا هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يغير في هذا الواقع.
يبقى سؤال فتح القنوات أعتقد أن ما قيل لا أستطيع أن أضيف إليه الحقيقة، لكن أعتبر أن ندوة مثل هذه الندوة هي فتح لهذه القنوات. كيف نوسع هذه الندوة، وألا تصبح القاهرة فقط في المركز دائماً للثقافة وللرجل وللسلطة، هي المركز الوحيد للعمل. كيف يصبح لنا مراكز عمل؟ كيف لا تحقق فعلاً نهضة في مختلف الأقاليم؟ والآن هناك نهضة فعلاً من خلال الثقافة، فأعمال ذاتية كثيرة في الأقاليم تستطيع أن تنمو وتنمي فعلاً في المجتمع المصري تطورات جديدة، كيف تستفيد من الإعلام فعلاً ليس في حدوده الضيقة؟ كيف نستفيد أيضاً من الإذاعة والتلفزيون والوسائل المختلفة الاتصالية؟ ولكن أهم شئ أن نحقق حواراً مجتمعياً ديمقراطياً في مصر، وهذه هي معركتنا الحقيقة لن يتحقق هذا إلا بمعركة يشترك فيها أصحاب الخبرة الفكرية مع أصحاب العمل، دون أن نتجنب بشكل كامل العمل السياسي. أنا في رأيي أن الحركة اليسارية في مصر لم تبدأ بتراث اللحظة التي بدأت فيها، لو بدأنا بأن ننقد من الطهطاوي إلى ما وصلنا إليه في أوائل القرن العشرين، وأضفنا إليه، لكان الأمر مختلفاً، لقد بدأنا من لا شئ تقريباً، بدأنا فكرياً ولكن لم نؤسس على الماضي تأسيساً نقدياً.
أشكر الزميلات في ملتقى المرأة والذاكرة لإتاحتهم هذه الفرصة لي. وأنا شخصياً أقـدر جـداً المجهود الذي تقوم به الزميلات. أول سؤال تبادر إلى ذهني بخصوص الموضوع الذي نحن بصدده هو ما هي العلاقة أو هل هناك علاقة بين ملك حفنى ناصف أو إعادة إصدار كتاب أو إعادة كتابة التاريخ والسيدة التي تبيع الخضار في سوق باب اللوق؟ لم أعرف الإجابة على هذا السؤال. فكرت في أن هناك ثلاث نقاط مرتبطة ببعضها البعض، وهي مرتبطة بشكل دائري، لذلك لن أطرحها بالترتيب وهي ارتباط الثقافة والتنمية، وارتباط المرأة–الثقافة، وارتباط المرأة – التنمية. عندما أتحدث عن التاريخ أتحدث عنه بوصفه أحد مكونات الثقافة، فالتاريخ ذاكرتنا وتاريخنا من أين أتينا وكيف تم تشكيلنا وما هي مكونات ثقافتنا، وأنا في رأيي أن فقدان الذاكرة هو إنكار لوجود الإنسان، فالإنسان المصاب بأمنيزيا ليس موجوداً وبالتالي فالتاريخ له أهمية في التشكيل، فنحن نتـاج ثقـافـة طويلة، عندما يجلس عدة أفراد حول مائدة واحدة لتناول الطعام، طريقة الأكل، نوعية الأكل، الأفراد الذين يقومون بإعداد الأكل وتقديمه، المناقشات التي تدور حول هذه المائدة، الأحلام والتطلعات هي نتاج الثقافة التي تشكلوا من خلالها. الأحلام والتطلعات من المفترض أنها تتحققق من خلال التنمية البشرية، وعندما أتحدث عن التنمية البشرية أقصد مفهومها الشامل، أي التنمية التي تتضمن كل المكونات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليم إلى آخره. أي التنمية التي تعزز من قدرة الإنسان على التحكم في مصيره، هذه هي التنمية التي أعنيها. بهذا المعنى لا يمكن أن نتحدث عن التنمية بدون مكون الثقافة، وإلا لا تكون تنمية حقيقية، لأن التغيرات العميقة التي تحدث في المجتمع لابد أن تحدث على المستوى الثقافي.
لو أخذنا قضية تحرير المرأة كمثال، فإننا سنفكر أن السبيل إلى تحريرها هو تغيير القوانين، قوانين الأحوال الشخصية، من الممكن أن تكون هناك قوانين جميلة جداً والدستور يتحدث عن المساواة، لكن في الواقع ليست هناك مساواة، غيرنا القوانين لكن واقع المرأة لم يتغير، لابد أن نغير العقليات والذهنيات الثقافية الموجودة بداخل الناس. لكن من أجل إدماج المكون الثقافي في عملية التنمية، نحتاج إلى وقت ومساحة وفرصة التعبير الثقافي من أجل بلورة خطابهم وقيمهم الاجتماعية والروحية. ولكن الذاكرة ذاكرة انتقائية والذين يقررون انتقاء أحداث أو أفكار من الذاكرة، أو الذين يقـومـون بإبراز أحداث معينة أو جوانب معينة على حساب جوانب أخرى هم من يمكلون القدرة على ذلك في إطار علاقات القوة الموجودة في المجتمع، وبالتالي يقـومـون بفرض رقابة معينة على الآراء والأفكار التي لا تتطابق مع آرائهم وأفكارهم، ونتيجة لذلك يصبح فكرهم هو الفكر السائد أو المهيمن في المجتمع على حساب الفكر الآخر. طبعاً هذه الرقابة تتخذ أشكالاً عديدة، منها المنع من النشر والتجاهل والهجوم والتقليل من شأن العمل نفسه أو تفسيره بصورة مغرضة أو إخفائه وصور أخرى متعددة. وبالتالي ما يصل لنا من التاريخ أو من الذاكرة هو تاريخ النخبة، وحتى هذا التاريخ تتم كتابته من منظور خاص جداً وحسب المساحة التي يتيحها القائمون على الرقابة في المجتمع.
هناك شكل خاص جداً من أشكال الرقابة المفروضة على أساس التـمـيـيـز بين الجنسين، هذه الرقابة أوسع من الرقابة الرسمية المنظمة، هذه الرقابة مرتبطة بآليات اجتماعية تؤدى إلى إسكات صوت النساء والتقليل من شأن خبراتهن ومنعهن من المشاركة في بلورة الخطاب السياسي. هذه الآليات ليست دائماً آليات واعية لكنها تؤدى إلى إخفاء الأوضاع الحقيقية للنساء وإلى تجاهل التمييز الواقع، وعندما تتجرأ امرأة وتخرج عن الأطر التقليدية المرسومة لها، تقوم عليها حرب ويكون درس لا ينسى لكل النساء الأخريات. ومن هذه الآليات تتولد ثقافة نسائية خاصة جداً هي ثقافة الصمت. هناك رقابة المدرسين الذين يقـمـعـون طمـوحـات البنات ويحـدونها في حدود الزواج والأمومة، هناك رقابة الناشرين الذي يقللون من شأن الأعمال النسائية، هناك رقابة النقاد، هناك رقابة الاتجاهات اليمينية المحافظة التي تهاجم خروج المرأة للعمل وهناك أيضاً رقابة الاتجاهات التقدمية التي لا تعترف بأن هناك قضية خاصة للمرأة لابد أن ينظر إليها من منظور خاص وتعالج بطريقة خاصة. ومن هذا المنظور أعتقد أن صمت النساء لا يقل خطورة عن الفقر، لأنه في نفس الوقت سبب ونتيجة للفقر. وإذا نظرنا اليوم إلى معظم البرامج الموجهة للنساء ولتنمية قدراتهم الاقتصادية أو التعليمية أو المساواة السياسية، سنجد أنها تتضمن عيوباً أساسية في المفاهيم، لأن هذه البرامج إما تستند على فكر ذكورى أبوى أو تستند على ثقافة تنموية أجنبية، ولكن كلها لا تحاول أن تعرف ما هي حقيقة أوضاع النساء. هي أيضاً برامج مبنية على افتراض قديم بأن خروج المرأة للعمل والسوق سوف يكون السبب في حل مشاكل النساء وقضية المساواة، ولو أن المشاكل الاقتصادية انتهت تنتهى مشكلة المرأة. والحقيقة أن خبرة أجيال متتالية سواء عندنا أو في بلاد أخرى تنفى هذه المقولة.
أخيراً أريد أن أقول إن اكتشاف النساء لتاريخهن هو في حد ذاته أداة من أدوات التغيير وكسر جدار الصمت المفروض عليهن هو أداة التغيير ورسم معالم ثقافة نسائية، وهي ثقافة في مجملها ترغب في التواصل مع الثقافات التقدمية الأخرى في المجتمع وليست ثقافة منعزلة، وهي أيضاً أداة تغيير، وهي أداة أيضاً لوضع ثقافة بديلة في المجتمع، ثقافة تؤمن بالعدالة بالمساواة بين البشر وتستمد أصولها من التاريخ الإنساني للنساء.
وأنا الحقيقة أشجع جداً إعادة كتابة تاريخ النساء ولكن أتمنى أيضاً أن نفكر جميعاً في الست الجالسة في سوق باب اللوق تبيع الخضار.
سمية رمضان:
لدى تعليق بسيط له علاقة بكلام الأستاذة نولة والأستاذ محمود أمين العالم. الحقيقة من بضعة سنين كان هناك أستاذ أجنبي في زيارة للقاهرة وهو أستاذي، وكنت من المفروض أن أجعله يشاهد القاهرة. بدأنا الزيارة بتخطى كوبرى قصر النيل ونظرنا إلى فندق هيلتون وقلت له أنه كان ثكنات الجيش الإنجليزي، ثم شاهد منطقة ضريح سعد وقلت له أن من هنا بيت الأمة بدأت ثورة 1919. كنا متجهين للقاهرة القديمة ودخلنا الأزهر فقلت له الآن سنتحدث عن القاهرة المملوكية، فقال لي كيف تعيشون تحت هذا الكم من التاريخ ونحن لم نكن زرنا مصر الفرعونية. إن هذا الكم من التاريخ بدأت أدرسه عندما علمت أنه قادم للقاهرة لكي أستطيع أن أحكيه له. لأنه أساساً عندما كنت في المدرسة هذا التاريخ كان يدرس لي بشكل مختلف تماماً، فحاولت أن أتذكر. الرابطة التي أحب أن أنتقل منها من علاقة السؤال الإبداعي للتاريخ بالواقع الحاضر، لدى تجربة بسيطة جداً في قرية أعيش قريباً منها وأهتم جداً بمنسق فصل محو الأمية في هذه القرية، عندما جاءت صورة ملك، أنا وهذا الرجل كنا مجتمعين لأنه كان هناك مشكلة حقيقية خاصة بطفل لم نستطع إلحاقه بالفصل لأن الفصل كله نساء. فأحضرت كتاب النسائيات وصورة ملك، قلت له ضع هذه الصور في الفصل، فالرجل نظر إلى بامتعاض شديد لكنه وافق ووعدني. ووضع الصورة وأمس اتصل بي وقال لي أن هناك سيدة منبهرة جداً أن هناك امرأة بدوية شكلها مصرية هي التي كتبت هذا الكتاب العظيم، فأنا في رأيي ممكن أن يكون هناك علاقة، وطبعاً الصورة التي أرسمها رومانسية بعض الشيء، لأنه حدث رد فعل حقيقي. لكنني أتخيل العلاقة وكأنها دائرة كاملة تبدأ بالسؤال الإبداعي للتاريخ الذي طرحه الأستاذ محمود، إلى أن نصل إلى حقل التنمية الذي تهمش فيه المرأة مثل بائعة الخضار.
هدى الصده:
أولاً، فكرة الاحتفاليات توقفنا عندها كثيرا عند الإعداد للندوة، لقد أصبح لدينا في مصر نوع من الحساسية تجاه المهرجانات الفارغة المعنى، فأنا موافقة على الموقف المتشكك بعض الشئ من الاحتفاليات إلى حد كبير. لكن أحب أن أتوقف عند مفهوم الاحتفالية. ماذا تفعل الاحتفالية؟ الاحتفالية في النهاية هي عمل تذكيري، والتذكر هنا بهدف تكريس فكرة ما أو اتجاه ما أو شئ نحن نراه مهماً للحاضر، عادة الاحتفاليات يكون لها هدف تشكيل الذاكرة أو تشكيل واقع اجتماعي، أو تشكيل طموحاتنا وأملنا في المستقبل. تختلف أنواع الاحتفاليات، على سبيل المثال نحتفل بعيد الأم، نحتفل بالأعياد الدينية، نحتفل بشخصيات مثل هدى شعراوي أو رواد التنوير، السؤال هو لماذا نحتفل برواد التنوير ولماذا لدينا سلسلة اسمها رواد التنوير؟ توجد أسباب متعلقة بأزمة في الحاضر ويدل اختيارنا لموضوع الاحتفالية عن توجه ما أو هدف ما . والسؤال الأهم في رأيي هو: كيف نحتفل؟ ومن يحتفل؟ هل نحتفل بشخصية تاريخية لنمجدها ونجعلها أسطورة؟ أم نحتفل بهدف التفاعل والدخول في جدل مع الماضي؟ هناك طرق كثيرة للاحتفال.
في حالة ملك تكلمنا عن الانتقاء والاختيار، والأستاذ محمود أمين حكى لنا عن أنه حدث ليس ما بين باحثة البادية وملك وهذا شئ مهم، نتوقف عند هدى شعروای نحتفل بها كلنا، ولكن هدی شعرواي هي تقريبا الاسم الوحيد الذي نعرفه كلنا، وعندما نقول الحركة النسائية في مصر نتذكر تلقائياً هدى شعروای، بهذه الاحتفالية نريد أن نقول إنه هناك أخريات قمن بدور مهم مثل ملك حفنى ناصف. عن اختيارنا لملك له هدف، بالطبع، ولكن لا يعني الاختيار بالضرورة محاولة لاستبعاد الأخريات، بالعكس نحن نتمنى أن يكون مشروعنا هو التذكير والاحتفال بنساء كثيرات جداً، لأن حصر ای حركة أو أي اتجاه في شخصية واحدة يجعلها دائما استثنائية أو رمزية، لقد كرس التاريخ الرسمى هدى شعروای فقط، لماذا؟ أيضاً نحتاج احتفاليات مضادة لتشكيل ذاكرة مضادة للتاريخ الرسمي.
بالنسبة لموضوع أن قاسم أمين لم يختلف عن ملك، أختلف بشدة مع رأى الدكتور عـمـاد، أولا قاسم أمين له تطور فكري يجب أن ننتبه إليـه، كتب أولاً رده على الدوق داكور وبعد ذلك كتب “تحرير المرأة” ، ثم المرأة الجديدة وهناك تطور في الأفكار والمواقف، وهناك اختلاف في رؤيته لتحرير المرأة. توجد نظرية تقول إن محمد عبده ساعده في كتابة “تحرير المرأة” ولا يوجد شك أن الكتاب به موضوعات متعلقة بالشريعة كتبت بشكل جيد جدا. أما بالنسبة للحجاب، ليست المسألة أنه اتفق مع ملك أو اختلف، المسألة أن معنى الحجاب في ذلك الوقت هو البرقع التركي. فهدى شعراوی عندما نزعت الحجاب هي في الواقع نزعت البرقع من على وجهها.
لدى تعليق على فكرة كيف نقرأ ملك والسياق الذي نقرأها فيه، هل نقرأها ونراها في سياق أسرتها التاريخية؟ أوافق أن السياق مهم جدا ويوجد أكثر من سياق نقـرأ أعمالها من داخله، ولكن أتخوف من اتجاه سائد يميل إلى قراءة أعمال النساء في سياق تاريخ الأسرة أو تاريخ الأب. أزعم أن هذا الاتجـاه شـائع أكثر مع النساء عن الرجال، فالرجل عادة نسمح له بقدر أكبر من الحرية والتميز. مع المرأة نبحث دائما عن سبب وراء تميزها، هل نحاول أن ننفي عن المرأة قدرتها على التفكير بطـريقـة مختلفة عن معاصريها؟ لقد استطاعت أن تخط لنفسها خطاً مختلفاً بعض الشيء واختلف مع فكرة أننا لابد أن نضعها في إطار الأسرة أو إطار أبيها أو إطار أحمـد لطفي السيد .
تعقيب على الدكتور عماد أبو غازی. بشأن أن قاسم أمين لا يختلف عن ملك حفنى ناصف وأيضا بخصوص ثقافة الشائعة. وأنا أقول إنه غير صحيح ويوجد مشكلة عامة بالنسبة لخطاب النهضة، أنهم لم يقطعوا مع الجذور الدينية وهذه مشكلة الثقافة العربية. وبالتالي مشكلة الدين دائما تقع على المرأة ومسألة الحجاب مسألة إشكالية دائما، هناك تقارب في وجهات النظر فيما يتعلق بالحجاب وخلعه أو عدم خلعه لأن هناك خوفاً من مواجهة هذه المشكلة. وبالنسبة لملك حفنى ناصف، لقد كانت أكثر وضوحا من قاسم أمين في مسألة الحجاب، وقالت أن نرجأ المسألة فيما بعد، وهو قال رأيه الشائع عنه. لكن المفاهيم الأساسية يختلف فيها قاسم أمين عن ملك حفنى ناصف، وهي لفت الانتباه إلى أن المرأة لابد أن تكون كيانا مستقلا بذاته، وأنها ليست تابعا للرجل، وأنها تربى على ذلك. لا يشترط في المرأة أن تكون زوجة ممكن أن تكون أرملة أو مطلقة أو غير متزوجة إلخ… هو كان يعد أو يجهز للمجتمع لأن يربي البنت تربية مختلفة تماما وتجعلها مستقلة بذاتها وتتحمل أخطابها. وأنا عندي نصوص في المرأة الجديدة يقدم فيها قاسم أمين هذه الأفكار التي يختلف فيها بشكل جذرى عن ملك حفني ناصف، ولكن هناك مظلة واحدة تظلل الجميع. إنها فعلا مشكلة الدين والمرأة وماذا يغطى أو لا يغطى، وإنما فعلا يوجد اختلاف كبير جدا بين ملك وقاسم في المفاهيم، وإذا رجعت للمرأة الجديدة ستجد أو ستقف على هذا الاختلاف. وبالمناسبة هناك بعض معاصرى ملك حفني ناصف من الرجال وصفوها بأنها شيخ معهم “یعنی ناقص تلبس عمة“. يعني بعض المعاصرين من أصحاب النظرة التقدمية بعض الشيء لأن المسالة لم تحسم حسماً شديداً. ونحن لا نطالب رجال النهضة بتقديم كل الحلول، ونستلم نحن كل شئ جاهزاً. يعني لا نلوم قاسم أمين ولا أي رجل أو امراة طالبت بتحرير المرأة لأنها لم تفعل الشيء الذي نريده الآن أو الذي كنا نريده بالفعل.
بالنسبة لمسألة القطيعة التي أشارت إليها الدكتورة أمينة، القطيعة مع الماضي لابد أن تبنى على معرفة الماضي معرفة جيدة بالطبع، أنا أؤيدك في هذا لأنه يوجد كثير ممن يتصورون أننا يجب أن نقطع مع الماضي دون معرفة. لابد أن تعرف الماضي معرفة تامة ثم نقطع معه بمعنى لا نهمله.
منى إبراهيم:
نقطة أثارتها الدكتورة أمينة وهي نقطة عدم التركيز على الاستثناءات مثل ملك حفنى ناصف، والتركيز على الذاكرة الجماعية بدلاً من الاستثناءات، أنا أقول إننا لابد أن نفعل ذلك. بالنسبة للدكتورة سامية ما قالته عن التدريس في الجامعة، إننا ندرس اشياء مختلفة عن الذي نقوله في المنتديات، وهذا سبب من أسباب التشاؤم. أنا أرى أننا في الحقيقة يمكن أن نقول ما نريده عن طريق التدريس.
بالنسبة للدكتور عماد لا أعرف من أين جاء بهذا الكلام، هدف الندوة هو تقديم حفني ناصف بوصفها نموذجاً، لأن الندوة فعلت أشياء كثيرة بدليل الكلام الذي نقوله الآن، أي أننا في أثناء كلامنا عن ملك حفنى ناصف استطعنا أن نتكلم عن قربها من قاسم أمين، ونتكلم عن بائعة الخضار في سوق باب اللوق، استطعنا أن نقول كل ما نريده ولم نبعد، ولم ينحصر اهتمامنا في الصفوة مثلما قيل. فمن خلال بداية قد تبدو أنها موجهة للصفوة نستطيع تناول قضايا أخرى. وعلى ما أذكر الورقة التي جاءت قبل الندوة لنا تدعونا للكتابة، كانت مفتوحة، كان من الممكن أن نكتب أن ملك حفنى ناصف ليست المثال ولا النموذج. إن تحويل الاحتفال بشخص إلى أنه طريقنا للخلاص أو شئ من هذا القبيل، ليس هذا المقصود بالاحتفال، هو ممكن أن يكون طريق ومن الممكن أن تطرح طرق أخرى.
موضوع أننا توقفنا عن التطور منذ ثلاثة قرون قبل الغرب، لا أعرف ما المقصود بنحن، هل المقصود بها المسلمون أم العرب أم المصريون؟ أعتقد أن في الثلاث قرون كان يوجد أسباب أخرى غير الغرب تكاد تكون بقوة الغرب أو أقـوى بمعنى احتلالات أخرى، وبالتالي إذا كان المقصود منها هم المصريون نستطيع بالتالي أن نبحث مع زوال الأسباب أشياء أخرى لا يوجد فيها سبب.
بالنسبة للأستاذ محمود لقد أشار إلى قراءة حاضرنا قراءة صحيحة. ما قول حضرتك إذا كان حاضرنا يحكمه جزء من الماضي لا نستطيع أن نغفله، وكان فعلا في النقطة التاريخية التي نقف عندها الآن، في حـاضـرنـا حـالـيـاً سيطرة كبيرة جدا للماضي. فإذا قرأت حاضرنا قراءة صحيحة لا أستطيع أن أغفل الماضي في حاضرنا الآن بالأخص في هذه النقطة التاريخية التي توجد فيها. يمكن في عصور أخرى في نقاط أخرى من تاريخنا كان الاتجاه أن نترك الماضي والحاضر، لابد أن يكون في اتجاه المستقبل.
وإنما حاضرنا الآن يسيطر عليه الماضي إلى حد كبير ولا أستطيع أن أغفل هذا إذا كنت سوف أقرأ حاضري قراءة صحيحة.
بالنسبة لنقطة السياق، ولقد أشارت هدى إلى جزء منها، سوف أقراها في السياق ولكن يوجد سياقات مختلفة، المهم ماذا أريد أن أفعل بهذه القراءة لأبحث عن السياق المناسب؟ هل السياق العائلي هو المناسب لما أريد أن أفعله بقراءتها حاليا؟ لا يهمني أن أبحث في الوقت الحالي عن السياق العائلي وأبحث عن سياق آخر سوف يفيدني أكثر وما الذي أحاول أن أفعله بملك حقني ناصف في الحاضر وليس الماضي؟
خالد عبد المحسن طه بدر:
لا أريد أن أبدأ بأشياء مختلفة عن أشياء قام بها هذا المنتدى وخاصة أنا أحضر لأول مرة وبالتالي سوف استغل الفرصة لأطرح هموم إنسان يعايش قضايا المجتمع وبالذات ثنائية العلاقة بين الرجل والمرأة، وهي مشكلة مؤرقة وهي تشغل كثيراً جدا من المثقفين. واستغل هذه الندوة لأطرح قضية محددة إذا كنا نتكلم عن قضايا التاريخ وقراءة المرأة وتاريخها والأسئلة تكون في إطار منهجي.
السؤال الأول: إلى أي مدى أزمة قراءة المرأة هي في حد ذاتها جزء من أزمة قراءة الرجل نفسه، بمعنى أنه يوجد مقام مشترك، أي أن المسألة مجتمع يعاني من أوضاع فيها قهر ودرجة عالية من التسلط ودرجة عالية من العجز عن التعبير عن الحرية وبالتالي الاثنين يقعا في نفس الدائرة سوياً. ولكن كل واحد منهما يعبر عنها بشكل مختلف، أتصور الرجل مقهوراً والمرأة المقهورة، والرجل يعبر عن قهره بحرية أكثر أو عن طريقة يمكن أن يستعبد بها المرأة. ولكن المرأة نفسها في بعض الأحيان لها آليات لقهر الرجل بأشكال أخـرى وأنا أريد أن أدخل في القضية من هذا المدخل، ثم أنطلق للجوانب التي تقسم الثنائية ولكن لا أذكر الثنائية ولكن المنطقة المشتركة أين توجد؟ هذه هي النقطة الأولى.
النقطة الثانية: موضوع الذاكرة، أنا تشغلني مسألة الذاكرة بحكم أني متخصص في علم النفس فيوجد عندي أزمة في موضوع الذاكرة. مـوضـوع الذاكرة الجمعية هل أستطيع أن أجد ذاكرة واحدة متجانسة، بمعنى أنه من أى شئ يعبر المفهوم؟ أعتدت منهجيا أن المفهوم الذي أتكلم عنه يجسد منطلقات معينة ذاكرة المثقفين، ذاكرة المجتمع ككل؟ هل نتحدث عن شئ متجانس؟ الذاكرة الجمعية التي نتكلم عنها الآن ما هو مداها التاريخي؟ تأخذ كم سنة؟ تأخذ كم عقد؟ الحد الذي يجعلني أتكلم عن تجانس هذه الذاكرة سواء عبر قطاعات أو عبر الزمن.
السؤال الثالث: نقطة خاصة بأستاذنا محمود أمين العالم هي نقطة ضعف الذاكرة وعلاقتها بالإبداع، وهذه جزئية منفصلة ولكن لها علاقة بما طرح، هل هو ضعف في الذاكرة فعلا أم هو إعادة إنتاج للذاكرة بطريقة مختلفة، أى يعاد ترتيب المعلومات وتوزيعها والتعامل معها بشكل مختلف بحيث إنها لا تكون ذاكرة نمطية تقليدية وبالتالي تنشط الإبداع.
أميمة أبو بكر:
تعقيب على كلام الدكـتـورة ألفت، وهو مرتبط بمداخلتها هذا الصباح، عندي اعتراض شديد على توصيل أو تسطيح المسألة إلى درجة أن نبحث عن من يوجد لديه الشجاعة الكافية لقطع جذور الدين، بمعنى لا يجب أن تصل المسألة إلى هذا الحد. الدوران حول هذه المسألة يتطابق أو يتماثل مع الخطاب الاستعماري الاستشراقي الذي يسره جدا أن تتكلم عن الدين الذي يقهر والحجاب الذي يساهم في تخلف المرأة. ثم تنتقدين ملك بسبب المرجعيات التي تدور في فلكها والمرجعيات الدينية وهي نفس المرجعيات التي قهرت المرأة. وما مرجعيات قاسم أمين؟ هل مرجعيته خطاب المستعمر أو خطاب الرجل الأبيض أو خطاب المرأة الأوروبية، أو المرأة في باريس بعـد تطوره؟ بمعنى أني لو لدى اختيار لمرجعيات وفرديات ما هو الأفضل لي، المرجعيات التي على أرضيتي أنا ومرجعيات ثقافتي أم مرجعيات التمدن الأوروبي والتمدن الغربي؟
أميرة سنبل:
أنا عندي اعتراض بسيط واقتراح. الاعتراض الأخت ردت عليه بطريقة حسنة وهو بالنسبة للدكتور عماد وما قاله عن التاريخ، وهو من الصعب أن ينحدر أي مجتمع لمدة 300 سنة. وبما أنني أسـتـاذة تاريخ أعـتـرض على فكرة أن ننظر إلى ٣٠٠ سنة تأخر معنى هذا أننا نقبل أن ليس لدينا أي نوع من الأمل للمستقبل وأصبح متشائمة مثل الدكتورة سامية. نرجع للاقتراح وأهمية دراسة التاريخ ونرجع للأستاذة نولة وهي طبعا مؤرخة. للأسف عندنا في الجامعات هنا كلنا ندرس التاريخ السياسي، أما التاريخ الاجتماعي ليس له وجود بل بالعكس الأساتذة لا يشجعون التاريخ الاجتماعي حتى للطلبة الذين يدرسون دكتوراة أو ماجستير، فهم يذهبون إلى دار الوثائق ليـدرسـوا التاريخ السياسي والأستاذ لا يقبل التاريخ الاجتماعي. وفي هذه الأيام يوجد بعض الأساتذة الذين بدءوا يغيرون من هذه الطريقة. أتقدم باقتراح للسنة القادمة أن نعقد ندوة، وهذا الاقـتـراح للدكتورة سميـه وهـدى الصده والكل، أن تكون الندوة عن تاريخ المرأة العاملة. إننا اليـوم أما مشكلة مطروحة أمامنا كسيدات مصريات. (لقد قلت لزوجي إن المرة القادمة سوف آتي بالباسبور الأمريكي). الحديث الآن يدور حول هل للسيدة الحق في أن تعمل أو ليس لها الحق أن تعمل. هل لها الحق أن تخرج من المطار أو لا تخرج من المطار. وسوف تكون مشكلة كبيرة السنة القادمة وبعد القادمة، واليوم لابد أن نحاول أن ندرس تاريخ المرأة العاملة من أجل أن نرجع إلى الوثائق ونحاول أن نرى الناس الذين لا يعرفون أن السيدة طول عمرها تعمل، لا يوجد عندنا قضايا من العهد العثماني تقول إن الرجل ذهب إلى محكمة، وقال إن زوجتى لا أريدها أن تعمل هذه أشياء لابد أن ندرس الأسباب وراء محاربة عمل المرأة في العصر الحديث. أنا أدرس أحوال الدايات والحكيمات وغيري يدرس رؤساء حرف… إلخ، وهذه أشياء مهمة جدا لابد أن ندرسها ولابد أن ندرس المرأة العاملة التي تبيع في السوق، فالمرأة طول عمرها تبيع في السوق. أرى أن دراسة ملك حفنى ناصف ممتازة جدا وأعـتـقـد أن الرجال يعترضون على وجود بطلات سيدات. اتفق مع كلام الدكتورة هدى الصدء التي تقول إننا ندرس المرأة عن طريق قاسم أمين أو محمد عبده، هذا يريحنا جداً وهذا هو المنظور الأبوى التي كانت الدكتورة سامية تتكلم عنه. ولكن كوني أنظر إلى واحدة تقف بنفسها كفرد وممكن أن تكون مفكرة وتحرر نفسها هذا شئ صعب جدا على الرجال في العالم كله أن يتقبلوه.
محمد عفيفي:
عندى أربع نقاط سوف أطرحها بشكل تلغرافي. أنا بالفعل متفق مع د. أميرة سنبل في أهمية الاحتفال بملك حفني ناصف، وأنا سعيد أننا نحتفل بها ولن نقول إنها نموذج جيد أو غير جيد. ولكن ببساطة شديدة لأن وجود كل النماذج والتيارات في حد ذاته دليل على حيوية المجتمع وليس عدمه. في نفس الوقت التاريخ والاحتفال أو تقديم احتفالية بمناسبة تاريخية أتصور أنه في غاية الأهمية جدا، ولكن المشكلة مثلما قالت سمية أننا نعيش في مصر بلد التاريخ وبالتالي هي أكثر بلد عندها مشكلة في التاريخ. ساعطيكم مثالاً بسيطاً زميل لي أستاذ مساعد تاريخ حديث ومعاصـر، قلت له إنى ذاهب للمشاركة في ندوة عن ملك حفني ناصف قال لي من هي ملك حفنى ناصف ببساطة شديدة. اتصور أن مجرد الاحتفالية هذا يعني في حد ذاته عمل مهم جدا حتى للواقع. ولكن كيف نستغل التاريخ أو نستفيد من التاريخ في خدمة الواقع؟ اتصور ان في مصر لدينا مشكلة في هذا، ولكن في اتجاهات أخرى أو بلاد أخرى لديهم قدرة أكبر في هذه المسألة.
مشكلة التنويعات المختلفة في الاتجاهات الفكرية سواء قاسم أمين أو أحمد لطفي السيد، أو ملك حفنى ناصف أو حتى رشيد رضا في فترة، ولكن سوف نتركه لفترة لأنه نموذج مختلف أكثر، ولكن أتصور أن الانتماء لطبقة واحدة يمكن أن يحدد القضايا، ويوجد اختلافات في الوصول للحلول لهذه القضايا، الثقافة ثقافة الفترة نفسها في نهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ٢٠ والأصول الفكرية لكل هؤلاء – فيما عدا محمد رشيد رضا لأنه مختلف قليلاً – واحدة تقريباً والمنابع الفكرية سواء كانت شرقية أو غربية واحدة، ومن هنا يوجد تشابه ولكن يوجد اختلاف كبير جدا وهذا موجود.
النقطة الثالثة: وهي التي قالتها الدكتورة منى وهي نقطة اختلافي مع الصديق العزيز عماد أبو غازی دائما مع بعض، حتى الاحتلال العثماني وتخلف المجتمع، ولكن بالفعل بأي معايير أستطيع أن أحاكم المجتمع الشرقي من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر. وأقول إنه مجتمع متخلف بالمقارنة بمن؟ وماذا نقصد بهذا التخلف؟ أنت تعلم جيداً أنه كان هناك مؤسسات حية جداً في المجتمع لكن مشكلتها ببساطة شديدة أنها مؤسسات شرقية ليس لها مثيل في الغرب. هل التقدم هو النموذج الغربي؟ بالعكس سوف أذكرك بمؤسسة الأوقاف التي كانت تنظم المجتمع كله صحة وتعليم ودين… ولا نظير لها في الغرب هذا نموذج للتحضر.
النقطة الأخيرة: وهي التاريخ والانتقائية سوف أكون صادقاً مع نفسي، إني رجل وأنا سعيد بالاحتفال بملك حفني ناصف. كلنا نكتب التاريخ بانتقائية ولابد أن نعترف بذلك لسبب بسيط جدًا، لأن المؤرخ نفسه تحكمه معايير مختلفة جداً هو في مؤسسة، وبالتالي هو مؤرخ رسمي أو حتى من يدعي أنه مؤرخ غير رسمي هو مؤرخ لاتجاه معين، فإذا لم تحكمه المؤسسة التي ينتمي إليها أو التي يعيش فيها تحكمه أيضا المصادر، المصادر التاريخية الباقية وهي انتقائية وبقت لأنها تخدم اتجاهاً معيناً. ولأجل هذا كان الحل الوحيد هو التاريخ الشفوي وأعجبتني جدا مقولة الأستاذة نولة وأنا وأميرة تكلمنا عنها، ولماذا لا نكتب تاريخ بائعة البرتقال، وبالفعل الحل الوحيد لتجاوز محنة التاريخ والمصادر الرسمية للتاريخ أتصور أنه يتمثل في التاريخ الشـفـوى وممكن أن يكون إضافة .
دكتورة أمينة رشيد:
عندي ثلاث كلمات أريد أن أدافع عن عـمـاد أبو غازي ليس عن مشكلة التاريخ العثماني ولكن أنا أعرف عماد من مدة طويلة وأعرف إيمانه الجذري والذي بدون أي أفكار مسبقة بحق المرأة في الوجود والتساوى وإلى آخره.
أنا لم أقل إلى ضـد احتفالية أي شخصية الانتقاء موجود، ولكن ما قلته هو أن المفروض أن يكمل بالذاكرة الجماعية، بمعنى أن مقاومة بورسعيد شئ موجود في الذاكرة الجماعية. مثال في الانتقاء، أنا اخترت سيزا نبراوي، لأنها بدأت في مدارس فرنسية داخلية ولا تعرف غير الفرنسية وأخرجت مجلة اسمها “المصري“، وحضرت لها معركة انتخابية، ودخلت فيها انتخابات وهذا طريق جيد وأتمنى أن نعمل شيئاً عن سیزا نبراوی.
سامية محرز:
أنا مصرة على موقفي. أتسائل هل نحن فعلا تطرقنا لأفكار مـحـورية في فترة تاريخية معينة، أعتقد أنه بالنسبة لي وبالنسبة لأى جمهور، يكون الاهتمام بفترة أهم بكثير من التركيز على شخصية مفردة منفردة فإذن أصر على موقفي.
أنا متفقة مع الدكتورة هدى فأنا لم أقل إننا نحن ندور في فلك الخطاب الأبوى وبعد ذلك كيف نجاوب على ذلك، وهل من مخرج وهل بالفعل ممكن اخترق مثل هذا الخطاب. أنا اتفق معها لكن ليس بتكريس هذه الأنماط.
أ– محمود أمين العالم:
مصر الآن مليئة بالاحتفاليات، ومليئة بضجيج فارغ حقيقة. ولذلك وزارة الثقافة تقوم بعمل احتفاليات طوال السنة، والدولة تقوم بعمل احتفاليات طوال السنة لكي تؤكد أشياء محددة. فقضية الاحتفالية حقيقيا ليست القضية التي تعمل لها Approach للقضايا المختلفة. مثلا لو سمحتم لي مع ملك، اقترح لماذا لم نحتفل بخطاب النهضة عند ملك حفنى ناصف وبالتالي ندرس ملك حفنى ناصف في لحظتها، علاقتها بالنهضة، علاقتها بالذين حولها، دلالاتها والدرس التاريخي الذي نستمده منها وهذا أعظم احـتـفـال. أنا أعظم احـتـفـال حـضـرته في أمريكا، لشخص اسـمـه جیکی کارکاتوریست عظيم كانت حفلة موسيقية الحقيقة، وكانت السمفونية التاسعة لبيتوفهن. أريد أن أقول كيف تعمل الـ Approach بعيدا عن الفكرة الاحتفالية.
كل قراءة انتقائية، نعم بالتأكيد كل قراءة انتقائية. ولكن هذا المفهوم إجرائي كإجراء يجب أن ننتقى كيف أقوم بدراسة التاريخ منذ سيدنا آدم، غير ممكن. لكن يجب إجرائيا أن أختار أنتقى. أنا لا أتحدث عن الانتقائية الإجرائية ولكن أن انتقى موضوعاً وأعلاجه انتقائيا بقصد أن أحوله إلى الحاضر وأجعله معيارا لحركتي. زكي نجيب محمود يأخذ أو يقول مثلا “سآخذ من التراث ما ينفعني” ، أما ما لا ينفعني، فلا أقول كما قال هيوم “أضعه في النيران“، لا على الأقل استمتع به فنياً مثل التصوف مثلا التصوف مدرسة عظيمة أستطيع أن استخلص منها أشياء كثيرة. إذن القضية هي قضية هذا الموقف الانتقائي الذي يأخذ دلالات معينة، فالإجرائية الانتقائية هي ما أعنيها.
الشئ الآخر، الحقيقة أنا لم أقل لا ندرس التاريخ هذا. لقد دخلت معركة في ثانوي لكي يتحول التاريخ إلى درس ضروري وكانت معركة. نحن بلا تاريخ نفـقـد كل شئ حقيقية. ولكن القضية التي أقولها، كيف ندرس التاريخ؟ وما هو التاريخ في حياتنا؟ أنا أقول إنها تاريخية وليست تأريخية، وأنا أفرق بين التأريخ والتاريخ حتى، وأسمى الذي يؤرخ بشكل تاريخي أنه أراخ، وليس مؤرخاً لأنه يؤرخ التضاريس الخارجية، والأحداث الخارجية. لكن المؤرخ الحقيقي الذي يدرك تاريخية الأشياء أي العلائقية، الفعل والتفاعل بين الأشياء. قانون الحركة التاريخية. هذه هي التاريخية، ولذلك يجب أن نتعلم التاريخ، ولكن القـضـيـة نتعلم التاريخ من أين؟ لكي نأخذ فعلا الاستمرارية التـاريخـيـة، الحس التاريخي، وهذا حس أساسي على فكرة في النظر الآن. أريد أن أقول بدون النظرة التاريخية أفقد أشياء كثيرة جدا، لكن نظرتي التاريخية لا تعني أنني أسـتـورد من الماضي شيئاً يفرض على رؤيتي للحـاضـر، والماضي لن يحل مشاكل الحاضر، وهذا لا يعني أنني أتجاهل التاريخ أبدا، بدون الرؤية التاريخية نحن نفتقد شيئاً في حياتنا، فالرؤية الاستراتيجية للأشياء تاريخية الأشياء هي جوهرها الحقيقي. لأن كل شئ ليس في كينونة مثلما يقول الفلاسفة لكن في صيرورة، كل شئ يتحرك.
عندما أقصد السياق أنا لم أقصد أبدا السياق العائلي، هذا مر بشكل عابر، لكن أنا في رأيي مثلاً أن السياق العائلي له دلالته في عمقها اللغوى، اللغة العظيمة الرائعة الجديدة جدا، المتقدمة عندها. لكن أنا أقصد السياق المجتمعي بكل ما فيه من دلالات وصراعات إلى آخره. أنا لا أجد فرقا مثلا بين لطفى وبين ملك في كثير من الجوهر، وإن كان يمكن أن نلمح هذا الفرق في المواقف.
أنا مع خالد تماماً في هذه الملاحظة الذكية الحـقـيـقـة، لكن الإبداع يقـوم على الذاكرة، ولكن يقوم كل اختيار وانتقاء إبداعي من الذاكرة بحيث يحيل الذاكرة إلى شئ آخر غير الذاكرة وهذه إبداعياته، يتجاوز الذاكرة ويعطيها دلالة فاعلية جمالية ذات فعل جمالي أو علمي او معرفی جديد.