المجتمعات الإسلامية والنساء المسلمات في خطابات العولمة
في عين العاصفة: المجتمعات الإسلامية والنساء المسلمات في خطابات العولمة*
تقديم المحررة:
اخترت هذا المقال، المنشور عام ٢٠٠٦، للكتاب لأنه يتناول موضوع خطابات العولمة وكيف تستخدم هذه الخطابات النوع الاجتماعي لتمثيل النساء المسلمات تمثيلاً سلبيًّا. يطرح المقال تقييمًا نقديًّا لبعض الأدبيات الخاصة بالعولمة، وتحديدًا تلك الكتابات التي تضفي امتيازًا على وجهات نظر “الشمال” لهذه المنطقة وتتجاهل وجهات نظرها وفهمها لهذه الظاهرة. وقد قدمت مصر مثالاً، لتوضيح كيفية استخدام الدولة وبعض المثقفين لخطابات العولمة، وطريقة مناقشتهم للنوع الاجتماعي بما يخدم أغراضهم الخاصة. كما يعرض المقال أيضًا أصوات النساء العلمانيات والإسلاميات اللاتي استجبن على نحو إبداعي للعولمة وخطاباتها حول النوع الاجتماعي.
في عين العاصفة:
المجتمعات الإسلامية والنساء المسلمات في خطابات العولمة
میرفت حاتم
إن الفهم النظري لاقتصادات العولمة يسبق الجهد الرامي إلى تنظير دينامياتها السياسية والثقافية. لقد ركزت تفسيرات العولمة، إلى حد كبير، على تطور الرأسمالية العالمية التي تشكلت نتيجة التقسيم الدولي الجديد للعمل، فضلاً عن تكنولوجيا المعلومات التي أسهمت في تعاظم الاتصالات والتكامل بين مختلف الاقتصادات الإقليمية الوطنية وعجلت من تدفق رأس المال والسلع والبشر.1 ويبدو كل هذا واضحًا وراسخًا إلى حد كبير. إن نقل قدر ضخم من الخطابات والممارسات السياسية والثقافية من الشمال إلى الجنوب قد ترك بصمته على دول الجنوب، لكننا لم نشهد أية محاولات لتحليل كيف استخدمت دول الجنوب والأصوات غير الحكومية داخلها نقل هذه الرؤى الخطابية في الاستجابة للديناميات السياسية والثقافية للتغيير العالمي.
لقد اعتبرت الخطابات العالمية حول العولمة في التسعينيات أن المجتمعات الإسلامية والنساء المسلمات بمثابة عقبة وتهديد أو استثناء بالنسبة لهذا العالم الجديد، مما عرضها إلى هجمات فكرية وفعلية عاتية. وقد استعرضت، في النصف الأول من هذه الدراسة، بعضًا من تلك الخطابات التي ظهرت في الولايات المتحدة، وتُعد مثالاً قويًّا لعدم قبول التعددية الثقافية والتوجه نحو التجانس. ولا ينصب اهتمامي هنا على الدفاع عن الثقافات الإسلامية أو الهجوم عليها، حيث يشتعل النقاش حول هذه المجتمعات. إن الثقافات الإسلامية، مثلها مثل الثقافات المركبة الأخرى، لديها مناطق عمياء – علاقات وممارسات إشكالية– يجب انتقادها حتى تتمكن هذه الثقافات من مواصلة التطور. وفي النصف الثاني من البحث، أوضحت كيف أثارت هذه الخطابات ردود أفعال غير متوقعة من الدولة والمنظمات غير الحكومية. لقد استخدمتها الدولة المصرية بنجاح لتعزيز قبضتها السلطوية على الإسلاميين والمنظمات غير الحكومية التي تمثل المجموعات النسائية ومجموعات حقوق الإنسان باسم حماية مصالحهم، ومصالحها، ومصالح حلفائها الغربيين. وأخيرًا، لقد درست الأصوات المتعددة للنساء اللاتي استخدمن السياق العالمي الجديد لإعادة البحث في تقاليدهن الثقافية من الداخل، وإعادة تعريف العلاقات بين الغرب والثقافات الأخرى، وتقديم حلول هادفة للمشكلات التي تواجههن.
لقد قدم صمويل هنتنجتون (Samuel Huntington) إحدى المحاولات المبكرة لتناول الديناميات الثقافية والسياسية للعولمة. في عرضه الأولي لموضوع “صراع الحضارات“، جادل هنتنجتون أن الدول القومية لم تعد أدوات مناسبة للتحليل في عالم العولمة فيما بعد الحرب الباردة. لقد ظهرت الحضارات بوصفها أكبر الكيانات السياسية – الثقافية وأهمها من حيث الإسهام بمصدر جديد للصراع. لم يطرح هنتنجتون أن الصراع رد فعل لشكل جديد لسيطرة الرأسمالية التي يسرتها مرحلة الانتقال العالمية إلى أسواق جديدة وانتشار تلك الأسواق بما يزيد من انفتاحها أمام الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات، فضلاً عن الوجبات السريعة، والأفلام والموسيقى، واللغة، وتكنولوجيا المعلومات، والأزياء – وكلها أمريكية. وفي المقابل، ركز هنتنجتون على قواعد النزاع الثقافية في هذا العالم المعولم: “تتبنى شعوب الحضارات المختلفة آراء مختلفة حول العلاقات بين الله والإنسان، والفرد والجماعة، والمواطن والدولة، والآباء والأطفال، والزوج والزوجة، فضلاً عن تبنيهم لآراء مختلفة حول الأهمية النسبية للحقوق والمسؤوليات، للحرية والسلطة، والتراتبية. وهذه الاختلافات نتاج قرون، ولن تزول بسرعة. إنها اختلافات أساسية أكبر من الاختلافات بين الأيديولوجيات السياسية والنظم السياسية“.2
إن النقاش حول الاختلافات الحضارية بوصفها مصادر للصراع العالمي قد افترض وجود اختلافات وجوهرية قديمة بين تلك التجمعات الثقافية الكبيرة. ويشير الاقتباس إلي التعارض الثنائي المألوف بين الغرب والشرق، حتى على الرغم من أن هنتنجتون لم يستخدم هذه التصنيفات بعينها. وفي رد الفعل لنقد إدوارد سعيد للاستشراق، أعلن هنتنجتون أن التشعب الثقافي للعالم إلى غرب وشرق ليس مفيدًا؛ فبينما كان الغرب كيانًا متماسكًا، لم يكن الشرق كذلك. وطرح، في المقابل، أن “المناسب أكثر هو الحديث عن ’الغرب والباقي‘، بما يقضي ضمنًا على الأقل وجود العديد من المجتمعات غير الغربية.” 3 إن فكرة ’الغرب والباقي‘ ، وتصنيفات ’غير الغرب‘، أو ’المجتمعات غير الغربية‘، تؤكد استمرار إضفاء امتياز على “الغرب” في تعريف “الآخر“. وبينما كانت سمات المجتمعات الغربية / الحديثة تتحدد بوجه خاص من خلال التشديد على الحقوق والحريات الفردية، والمجتمعات العلمانية والعلاقات الأقل ترابية بين الله والإنسان، والفرد والجماعة، والمواطن والدولة، والآباء والأطفال، والزوج وزوجته، فقد كان الباقي يتجمع تحليليًّا باعتباره يمثل العكس على نحو سلبي، بما يعزز بدوره تفوق الغرب.
وأخيرًا، يجادل هنتنجتون أن الحضارة الغربية استمدت امتيازًا إضافيًّا من وضعها بوصفها الحضارة العالمية الوحيدة، على أن يعمل الباقين على القبول بهذا الواقع باعتبارهم يتسمون بطبيعة خاصة. “إن العالمية هي إيديولوجية الغرب لمواجهة الثقافات غير الغربية” (66)، وخاصة التهديدات من جانب حضارات المسلمين والكونفوشيوسيين والهندوس والبوذيين. وقد كان التعارض بين الحضارتين الغربية والإسلامية مصدر أخطر التحديات، وتحقق عبر خطوط حضارية قديمة. وما يلي يفسر مصادر صراعهم الحالية:
لا تكمن مشكلة الغرب الأساسية في الأصولية الإسلامية. بل في الإسلام – حضارة مختلفة، يؤمن أناسها بتفوق ثقافتهم ويتملكهم شعور بتدني قواهم. المشكلة بالنسبة للإسلام ليست المخابرات المركزية الأمريكية أو وزارة الدفاع الأمريكية. بل الغرب – حضارة مختلفة، يؤمن إناسها بعالمية ثقافتهم وأن تفوق قواهم، وإن كانت في انحدار، يفرض عليهم الالتزام بتوسيع تلك الثقافة عبر أنحاء العالم كافة. هذه هي المكونات الرئيسية التي تغذي الصراع بين الإسلام والغرب (217- 218)
لقد كانت مشكلة الغرب مع الحضارة الإسلامية أكثر أساسية من نهوض الإسلام السياسي المعادي مؤخرًا. لقد أرسي في اعتقاد الحضارة الإسلامية عالميتها وتفوقها. بينما أسهم تدني قوة الحضارة الإسلامية الحديث بدون الالتزام في اتخاذها موقفًا دفاعيَّا في مواجهة الغرب، واستسلامها لوجود حضارة غربية تمتلك القدرة على السيطرة العالمية بالتكيف معها. ومما أدى إلى زيادة سوء الوضع أن الانبعاث الإسلامي سعى إلى منح هذه المجتمعات الحديثة مضمون اجتماعي ثقافي إسلامي: أي “الرموز، والمعتقدات، والممارسات، والمؤسسات، والسياسات، والمنظمات” (111). لقد نجح برنامج الإسلاميين في اجتذاب قطاعات كبيرة داخل الطبقة الوسطى وبين النساء المسلمات، وهي الدوائر التي كانت تاريخيًا حليفة للغرب في النصف الأول من القرن العشرين (113).
وإذا لم تكن نزعة التعددية الثقافية مقبولة كمثال عالمي، فلم يكن ممكنًا أيضًا التسامح معها على الصعيد الوطني. لقد انتقد هنتنجتون، بوجه خاص، سياسات الهوية في الولايات المتحدة، وكيف أسهمت في نقد المركزية الأوربية التي برزت كتهديد لهيمنة الولايات المتحدة والحضارة الغربية. إن إثبات التعددية الثقافية للتنوع على أساس العنصر والإثنية والنوع الاجتماعي والنوع والجنس كان يمثل خطورة؛ إذ كانت مطابقته لمفهوم الأمم المتحدة المتدني، والذي تسامح مع تحدي الغرب (305 – 307). وتؤكد هذه المناقشة ملمحًا مفارقًا مهمًا لعالم العولمة الجديد – أي تزايد ارتكاز تبادل الاعتماد الاقتصادي على هيمنة الحضارة الغربية والقوة العظمي الواحدة، الولايات المتحدة. أما في الساحة السياسية العالمية، هيمنت الحضارة الغربية على الباقي كله، وهيمنت الولايات المتحدة على الغرب، وأخضع الأورو– أمريكيين أفراد الجماعات الإثنية والعنصرية الأخرى داخل حدودهم الوطنية. وعلى الرغم من الانحدار المفترض للدولة القومية، كانت الولايات المتحدة، باعتبارها الدولة المركزية للحضارة الغربية، مكلفة بوظيفة مهمة: تقويض معارضيها الحضاريين وطنيًا وعالميًا (انظر / ي الفصل السابع).
’الجهاد‘ في مواجهة عالم ماك *
قدم بنیامین باربر (Benjamin Barber) تمثيلاً أقل قطبية لعولمة العالم، وصورة أكثر اضطرابًا لدينامياته القومية والعالمية. إن انتشار رأس المال العالمي– ممثلاً في ماكدونالد، وماكينتوش، وقناة الموسيقى بالتليفزيون – كان تصاحبه قوى البلقنة / التجزئة المقترنة بـ ’الجهاد‘. وكان الديالكتيك الناتج حول “الجهاد في مواجهة عالم ماك” يُفسر مفارقة الاعتماد المتبادل والصراع المقترنين بعولمة العالم، بالإضافة إلي ازدواجية بروز قوى التجانس/ العالمية / الكوزموبوليتانية ومعارضيها أنصار القبيلة / التجزئة / الإبراشية المحلية.4 وبينما تنعدم مساواة السلطة بين القوى العالمية ومعارضيها الوطنيين، فإن كلاً منهما مقيد بالآخر على نحو وثيق، ويسهم في إضعاف الدولة الحديثة ومبادئها الديمقراطية.
وعند استعارة مفهوم “الجهاد” من الإسلام المناضل، بهدف الإشارة إلى “التجزئة الدوجمائية العنيفة” المتأصلة لدى المسيحيين والمسلمين على السواء، يتجنب باربر تطوير صيغة أخرى تقدم الغرب المسيحي الخيري ضد الشرق المسلم الشرير (9). كما طرح باربر أيضًا أن قوى الجهاد المتشظية والديناميات المتكاملة لعالم ماك قد تجلت في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. ويناقش، على سبيل المثال، ما يعتبره “الجهاد الأمريكي” الذي شنه اليمين الراديكالي الديني ضد قوى العولمة في الولايات المتحدة (9)، وأشار إلى وجود قوى قومية أخرى في المجتمعات الغربية تعارض العولمة أيضًا (الفصل 11). وبهذه الطريقة، كان الجهاد يعمل من داخل عالم ماك ومن خلاله أيضًا (155 – 157).
ونظرًا لاقتران الجهاد بسياسات الهوية، التي قوضت دور الدولة القومية التكاملي، أدان باربر هذا النمط من السياسات حيث يتدافع التنوع، [و] تتحول التعددية الثقافية إلى سرطانية” (11). وقد لاحظ أن القوى الوطنية المقترنة بالجهاد والتنوع، على الرغم من أنها يمكن أن تهيمن على المدى القصير، فمن المستحيل وقف القوى العالمية لحضارة عالم ماك / الحضارة الغربية (19-20). ومرة أخرى، لم تتسامح العولمة مع الاختلاف الثقافي، واعتمدت على سيطرة الدولة من أجل تقليص الآثار التدميرية لأي نوع من الخصوصية.
وتتمثل إحدى فوائد صياغة باربر في عدم اعتبار المجتمعات الإسلامية المصدر الوحيد للنزعة المحافظة على المستويين الوطني والعالمي. لقد أكد وجود معارضي العولمة في جميع المجتمعات، وتطابقهم مع ممثلي الأصولية المسيحية والمسلمة واليهودية الذين يتقاسمون السياق العالمي الحديث، والاستيلاء على تكنولوجيته لتلبية احتياجات قاعدتهم الاجتماعية، والاستجابة للتشظي والفوضوية واتجاهات التجانس التي أطلقته (الفصل ۱۰).
وبعد بذل جهود عظيمة للإعلان عن الجهاد صفة لجميع الأصوليات، كان تصنيف باربر للأصولية الإسلامية باعتبارها مثالاً عن “الجهاد الجوهري” غريبًا، وأعلن أن الإسلام والمجتمعات الإسلامية بوجه خاص لا ترحب بالديمقراطية والحداثة، في ظل تلك الاتجاهات التي تلعب دورًا سياسيًّا قياديًا [في تاريخ المجتمعات الإسلامية] منذ القرن الثامن عشر” (206). كما أعلن أنها تتعامل بقسوة مع النساء (294). وبالتالي، بعد بذل جهد كبير للتعامل مع الأصولية الإسلامية باعتبارها إحدى القوى الاجتماعية المحافظة العديدة التي تعارض العولمة، خلص باربر إلى الصياغة الاستشراقية المألوفة التي فصلت الأصولية الإسلامية عن جميع الأصوليات الأخرى.
بينما رفض هنتنجتون الأمم المتحدة بوصفها تُمثل المثل الغربي متدني القيمة للتعددية الثقافية، فقد تغاضي عن كونها مؤسسة من صنع الغرب. لقد تأسست هيئة الأمم المتحدة عام 1945 لخدمة مصالح المنتصرين في الحرب العالمية الثانية. وكانت الأمم المتحدة تعتمد ماليًّا وسياسيًّا على دعم الولايات المتحدة، مما قاد البعض إلى الجدال عن حق بأنها آلية مؤسسية أخرى لهيمنة الولايات المتحدة.5 وقد أوضحت الأمم المتحدة بُعدًا آخر للهيمنة الغربية: انتصار المبادئ والمناهج السياسية الغربية التي هيمنت على الخطابات الدولية التي تطورت خلال النصف الأول من القرن العشرين، عندما كانت أغلب بلدان العالم ترزح تحت نير الحكم الكولونيالي الغربي. ومما يثير المفارقة، أن البعض اعتبر هذه الخطابات تمثل جميع الدول الأعضاء في المجتمع الدولي، من حيث وجهات نظرهم حول أهمية قضايا مثل حل النزاعات الدولية والتنمية، ومؤخرًا حقوق المرأة.
وعلى حين كانت أول ثلاثة مؤتمرات للأمم المتحدة حول المرأة – في المكسيك 1975، وكوبنهاجن ١٩٨٠، ونيروبي 1985 – تعكس المفاهيم الخاصة للعالم الأول والثاني والثالث حول حقوق المرأة وتأكيده على المساواة والسلام والتنمية، فقد كان مؤتمر بيجين ١٩٩٥ وبرنامج عمله يوضح انتصار خطاب عالمي دولي يُضفي امتيازًا على التصورات الليبرالية حول حقوق المرأة في عالم معولم. وقد وفر بيان مهمة برنامج عمل بيجين ملخصًا جيدًا للمبادئ الليبرالية المستخدمة في تأطير تحليل عدم المساواة بين الجنسين على المستوى العالمي.
1- يُعد برنامج العمل بمثابة أجندة لتمكين المرأة. إنه يهدف إلى تعجيل تنفيذ استراتيجيات نيروبي الرامية إلى تحقيق تقدم النساء والقضاء على العقبات التي تحول دون مشاركتهن النشطة في جميع مجالات الحياة العامة والخاصة من خلال منحهن حصة متساوية وكاملة في صنع القرار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي…. وتتعلق المساواة بين النساء والرجال بحقوق الإنسان وتُعد شرطًا من شروط العدالة الاجتماعية، كما تُمثل أيضًا ضرورة وشرطًا أساسيًّا لتحقيق المساواة والتنمية والسلام، وتُعد المشاركة المرتكزة على المساواة بين النساء والرجال شرطًا للتنمية المستدامة التي تتخذ من الناس مركزًا لها.
2- يؤكد برنامج العمل المبادئ الأساسية التي طرحها إعلان فيينا وبرنامج العمل الذي تبناه المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان. وتتمثل هذه المبادئ في حقوق الإنسان للنساء والطفلة لا يمكن التصرف فيها، وهي جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان العالمية. وبوصفه أجندة عمل، يسعى برنامج العمل إلى تعزيز وحماية التوظيف الكامل لجميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية لجميع النساء طوال فترة حياتهن.6
وعلى حين أصبحت المثل العالمية للمساواة والحرية جزءًا من التاريخ الحديث للإنسانية، لا ينكر أحد أنها مشتقة إلى حد كبير من تاريخ الغرب الفكري والسياسي. وعلى الرغم من أن الإعلانات العالمية لحقوق الفرد تثير الإعجاب، فإنها لا تطبق دائمًا على الجميع أو يتمتع بها جميع المواطنين في المجتمعات الغربية بالفعل. وفي واقع الأمر، يحجب مفهوم الحريات الفردية علاقات السيطرة والخضوع في تلك المجتمعات، وذلك عن طريق اعتبار كل شخص “فردًا” وعن طريق تشظيهم كذوات ذرية مُحرضة ضد بعضها البعض. وأسفر ذلك عن إطار يضم المزايا التي تتمتع بها بعض الطبقات والأنواع الاجتماعية والإثنيات، وتستبعد الآخرين. وعندما استخدمت الطبقات العاملة والمجموعات القائمة على النوع الاجتماعي والعنصرية والجنسية المساواة والحرية في النضال من أجل الاندماج، كان عليها دومًا تحويلها من حقوق فردية إلى حقوق مجموعات.
إن التجربة المبكرة التي خاضتها الشعوب المستعمَرة مع الليبرالية تعكس خبرات الطبقات العاملة، والنساء، والأقليات العنصرية في الشمال. ولم يقتصر الأمر على إنكار النفاذ العالمي إلى الحق في الحرية والمساواة والأخوة، بل كانت تلك الحقوق تُعتبر أوروبية على وجه الحصر داخل الوطن وخارجه. وعندما استخدمتها الطبقة الوسطى المستعمرة لتوجيه نضال التحرر الوطني، كان ذلك جزءًا من الوعد بتوفير تلك الحقوق للجميع في مجتمع ما بعد الكولونيالية. على أن دول ما بعد الكولونيالية لم تفي بهذا الوعد إلى حد كبير، لكن الحرية والمساواة كانت جزءًا من جهاز تلك الدول الأيديولوجي،7 بما يعكس فشلها وأيضًا استمرار خضوعها للمثل الغربية.
إن وثائق الأمم المتحدة التي تناقش حرية النساء ومساواتهن تتجاهل هذا التاريخ الإشكالي للمجتمعات والدول الليبرالية الغربية وما بعد الكولونيالية. وفي المقابل، اختار المعلقون التركيز على الأمل بأن تستخدم النساء ومنظماتهن غير الحكومية هذه الوثائق التي أقرتها مختلف الدول للتأثير على سياسات الدولة. وفي حالة النظم الديمقراطية الليبرالية، تتمكن بعض المنظمات غير الحكومية جيدة التمويل، من الطبقتين الوسطى والعليا، على أداء ذلك الدور. وعند الافتقار إلى هذه النظم في كثير من دول الجنوب، نجد صمتًا حول كيفية الاستعانة بهذه البرامج لتحسين الأوضاع.
وبإضافة حقوق الإنسان إلى الخليط، نحصل على تعريف غربي آخر للحقوق الفردية يستهدف توجيه النضال الوطني والدولي نحو حقوق النساء بدلاً من فتحه أمام مفاهيم ومبادئ أخرى للتعددية الثقافية، والتي يمكن أن يسفر عنها العمل من خلال التاريخ الوطني / المحلي والتقاليد الثقافية الأصلية لإعادة تعريف موقع النساء والأدوار التي يرغبن في القيام بها. على أن هذه الاستراتيجية الأخيرة لم تؤخذ أبدًا في الحسبان. وفي المقابل، كانت طاقات الدول والمنظمات غير الحكومية في الجنوب،8 والتمويل المقدم من الهيئات المانحة في الشمال / أو منظماتها غير الحكومية، في خدمة تأطير مبادئ برامج العمل الدولية لنساء الحضر والريف في كل مكان.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة قامت في عام 1994 بتحويل 10% من تمويل التنمية العام و٢٥% من مساعداتها من خلال منظماتها غير الحكومية، والتي كان متوقعًا أن تعمل بدورها مع المنظمات غير الحكومية في الجنوب الشامل.9 وفي هذا السيناريو، قامت المنظمات غير الحكومية في الشمال بحشد طاقات نساء الطبقة الوسطى في الشمال والجنوب لدعم مصالح وأجندات الولايات المتحدة في تنظيم الأسرة والتنمية الموجهة نحو السوق. إن من احتفى بظهور المنظمات غير الحكومية، باعتبارها وسيطًا شرعيًّا بين سياسات الدولة والنساء على مستوى القاعدة،10 ظل صامتًا حول كيف أدت هذه الاستراتيجية المؤسسية إلى تحويل حقوق النساء والمنظمات النسائية غير الحكومية إلى ملحق غير رسمي للدولة. وبينما كان عدد قليل من “مغتربين” العالم الثالث، والذين طرحوا تقييمًا لبرنامج عمل مؤتمر بيجين، على وعي بالتفاوتات الضخمة في السلطة، والتي شكلها الموقع الاجتماعي والثقافة، 11 وكيف حددت تلك التفاوتات المجتمعية على أجندة النساء العالمية وخطاب حقوق النساء،12 فقد تمثل موقف الأغلبية في الاقتناع أو الأمل في أن تسفر نتائج هذه المقاربة الدولية، من القمة إلى القاعدة، من الشمال إلى الجنوب عن تحسين حصة النساء في الجنوب.
ولتأكيد مكمن مصدر وقوة هذا الخطاب النسوي بالأمم المتحدة، سرعان ما عقدت “مؤسسة الأخوات عالميات” (Sisterhood Is Global Institution) مؤتمرًا في الولايات المتحدة عام 1995، ضم متخصصين من الشرق الأوسط – غربيين، ومغتربين، ومن المنطقة – لمناقشة أثر برنامج عمل بيجين على تطوير حقوق النساء في المجتمعات الإسلامية / الشرق أوسطية. وقد وافقت أغلب المشاركات بالمؤتمر على زعم العالمية ببرنامج عمل بيجين، فيما يتعلق بتعريف حقوق النساء باعتبارها من حقوق الإنسان، وما يشكله ذلك من تقدم رئيسي في النقاش السياسي الدائر حول حقوق النساء في المنطقة،13 وتأكيد أهمية التحالفات بين الشمال والجنوب، وهي التحالفات التي تجاهلت معادلة تساوي الفردية والليبرالية مع الغرب. واعتبر الحاضرون “مؤسسة الأخوات عالميات مثالاً على كيان الأخوات الاستراتيجي، وأنفق المؤتمر وقتًا محدودًا لمناقشة الاختلافات بين نساء الشمال والشرق الأوسط. وفي المقابل، رحَب بتشكيل تحالف سياسي بين نساء الشمال والنساء المغتربات والنساء المسلمات في الشرق الأوسط من أجل صد هجمات معارضي حقوق النساء الأصوليين، وبوجه خاص تحالف بعض الحكومات الإسلامية مع الفاتيكان، واعتبروا ذلك التحالف نقطة الضوء الوحيدة في صورة إقليمية شديدة القتامة.
لقد رفضت المشاركات الأطروحات التي ترى في التراث المحلي موضوع حوار، كما رفضن الزعم القائل إن للإسلام مثله القانونية والأخلاقية العالمية بدعوى أن ذلك يطرح النسبية الثقافية.14 وقد توحدت المشاركات في رفضهن الاستخدامات السياسية للإسلام من أجل تقيد حقوق النساء. وبينما اقترحت البعض “احتياج النساء المسلمات إلى استعادة النساء للإسلام والإصلاح الإسلامي من أجل مكافحة الأصولية“، رفضت الغالبية هذا المشروع باعتباره شاقًا على المستويات الفكرية والعاطفية والسياسية (xiii) ومن الأفضل تركه للباحثين الدينيين. وأخيرًا، وجه الجميع تأييدهم للضغوط التي تبذلها الأمم المتحدة على دول الشرق الأوسط المختلفة باسم النساء، كاستراتيجية أكثر فاعلية تسهم في الإسراع بالتحسينات (xiv). ولم تهتم الغالبية بكيفية إسهام الضغط والخطاب الدوليين في “اضطراب التقاليد“: في ظل تأييد بعض المسلمين لذلك، ونظرة البعض الآخر إليه بعداء.15 وهو الأمر الذي يُمثل تطورًا إيجابيًّا أضعف القوى المحافظة التي تقبع خلف تقاليد محافظة ودول سلطوية. وأتاح ذلك للفاعلين الخارجيين الفرصة من أجل إدخال التغيرات المرغوبة.
إنني أحول اهتمامي في هذا القسم إلى مناقشة تفاعل هذه الخطابات العالمية مع البيئات المحلية / الوطنية للحصول على مستخدمين جدد ونتائج غير متوقعة من النساء الناشطات في مصر بوصفها جزءًا من الجنوب الشامل. وأبدأ بدراسة كيفية توظيف الدولة المصرية لمقولة صراع الحضارات لتعزيز قواها السياسية في الحرب ضد الإسلاميين والسيطرة على أجندة النوع الاجتماعي المحلية، وتضيق مجال العمل العام المتاح للنساء الإسلاميات والنساء المستقلات. وقد سعت، من خلال تدويل هذا الخطاب العالمي، إلى تعزيز حلفها مع الولايات المتحدة ووضع معارضيها في موقع الدفاع.
لقد شهدت الثلاثين سنة الأخيرة تغيرات هائلة في العلاقة بين الدولة المصرية والقوى الإسلامية. ففي بداية السبعينيات، شجع الرئيس أنور السادات الإسلاميين والمجموعات الإسلامية كحلفاء سياسيين وثقافيين رئيسيين من أجل تميز نظامه عن نظام سلفه ومؤيديه اليساريين. وعندما تنامت قوة الإسلاميين، تصاعدت حينذاك محاولة السادات للتحول ضدهم وصولاً إلى اغتياله عام ١٩٨١. وحاول خليفته، الرئيس حسني مبارك، التعاون مع الاتجاه الإسلامي خلال سنوات نظامه الأولى بالسماح للإخوان المسلمين – أقدم وأكبر مجموعة إسلامية معتدلة – التمثيل السياسي غير المباشر من خلال التحالفات الانتخابية: أولاً مع الوفد، ثم مع حزب العمل. وفي مواجهة تصاعد العنف من جانب الجماعات الإسلامية الراديكالية في أواخر الثمانينيات، قام النظام بتغيير تكتيكاته، وأعلن حربًا شاملة ضد جميع الإسلاميين، والذين كان يعتبرهم تهديدًا مهمًا للأمن القومي.16
وفي المعارك الدموية، التي قام بها الآلاف من رجال الشرطة ضد معاقل الإسلاميين في أجزاء مختلفة من البلاد من بداية إلى منتصف التسعينيات،17 استعار المثقفون المصريون موضوع صراع الحضارات من هنتنجتون، لإضفاء معنى حضاري على النضال السياسي بين الدولة المصرية ومعارضيها الإسلاميين. لقد كان نضال الدولة ضد التوجه الإسلامي يمثل بوصفه نضالاً بين الإسلام المعتدل القادر على التكيف مع تحديات العالم الحديث، وبين التطرف الديني والتعصب والإرهاب والتقليدية. وهو الأمر الذي أدى، من زاوية الخطاب، إلى تحويل الدولة – التي حكمت بقانون الطوارئ، منذ أواخر السبعينيات، وحافظت على السيطرة السياسة السلطوية على مؤسسات المجتمع المدني – 18 إلى ممثل مؤسسي للعقلانية الحديثة وحتى التنوير. 19وقد اكتسبت هذه المؤهلات من معارضتها للقوى الدينية المحافظة، والتي كانت تستهدف تشكيل دولة ثيوقراطية تحكم بالدين على حساب حرية الفرد والمجتمع.
ويوضح ما سبق أعلاه وضع صراع الحضارات العالمي – الذي طرحة هنتنجتون – في خدمة النضال الداخلي بالمجتمعات الإسلامية المنقسمة. وعلى حين كان هنتنجتون يفرق بين الإسلام المعتدل والإسلام المناضل، فإنه لم يستبعد الإسلام المعتدل من الصدام مع الحضارة الغربية. على أن النخبة غربية الطابع في الدولة المصرية عارضت هذا الزعم، وذلك بتقديم نفسها كنتاج للتحالف بين الإسلام المعتدل والتنوير الغربي. وفي مقابل الصدام العالمي للحضارات، ارتبطت تلك النخبة بفكرة اليونسكو حول “حوار الحضارات“. فقد جادلت بأن فترات التحولات الدولية الكبرى، مثل الفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، شهدت أيضًا ظهور نظام عالمي شامل، أفضى الحوار بين الحضارات فيه إلى توفير وسيلة للتفاوض حول ملامح النظام العالمي الجديد.20 وبوصفهم ممثلين للإسلام المعتدل والدولة العربية الحديثة، فقد اعتبروا أنفسهم شركاء شرعيين في ذلك الحوار. وفي عالم كوكبي، يتسم بزيادة التداخل والارتباط بين ثقافاته المختلفة، لم يكن النزاع سوى نتيجة واحدة فقط من نتائج عديدة ممكنة.21 وعلى نحو خاص استخدم الدبلوماسيون المصريون العلاقة الوثيقة بين الولايات المتحدة ومصر كمثال على قدرة واستعداد دولة كبيرة وأخرى صغيرة على تجاوز الانقسام الحضاري والعمل لتحقيق الاستقرار في المنطقة، ومن أجل المصالح المشتركة.22
في النضال الوطني ضد معارضيها الإسلاميين، وجدت الدولة المصرية من الصعوبة تطوير موقف متماسك حول حقوق المرأة. أولاً، أصدر نظام السادات مراسيم رئاسية عام 1979 كفلت للمرأة عددًا محددًا من المقاعد في البرلمان، مع منحهن الحق في الطلاق إذا تزوج زوجها بامرأة أخرى. وبعد ذلك، ألغت المحكمة الدستورية العليا هذه القوانين في حكمين منفصلين لأنهما لم يصدرا عبر البرلمان، ولأن الحصص الممنوحة للنساء كانت تنتهك الحق الدستوري في المساواة الرسمية بين الرجال والنساء.23 وفي غضون ذلك، أفضى المناخ الاجتماعي المحافظ في مصر خلال الثمانينيات والتسعينيات إلى اندفاع نساء الطبقة الوسطي نحو الحركة الإسلامية وتبني قوانينها الأخلاقية، كوسيلة لكفالة الاحترام بين الرجال المسلمين العاديين تجاههن. وأصبح انتشار الزي الإسلامي رمزًا واضحًا للنزعة المحافظة الاجتماعية الجديدة، التي كفلت للنساء وجودًا محترمًا في الساحة العامة، حيث كانت النساء تواجه قبل ذلك تحرشات جنسية وعدوانية.
وفي مواجهة ارتداد نساء الطبقة الوسطى على نطاق واسع نحو التوجه الإسلامي الاجتماعي والسياسي، بدأت الدولة في منافسة الإسلاميين في مجال تقديم تفسيرات محافظة للحقوق الدستورية للنساء في مجالي العمل العام والتمثيل السياسي. وفي أواخر الثمانينيات وخلال التسعينيات، برز تأييد الدولة لعودة المرأة العاملة إلى البيت، ومنحها حوافز للتقاعد المبكر. لقد جاء هذا التفسير المحافظ للتعريف الإسلامي لأدوار النساء في نفس الوقت الذي حاول فيه الإخوان المسلمين تكييف مصالح المرأة في العمل العام بتقديم تفسيرات ليبرالية. وأخيرًا، أجرى الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم تقليص كبير في عدد النساء اللاتي رشحهن لانتخابات البلديات والبرلمان، معلنًا أن النساء المرشحات أقل تنافسًا ويعرقلن الآفاق الانتخابية للحزب!24
ونظرًا لانسحاب الدولة عن دعم حقوق المرأة، بدأت أقلية نشطة ومرئية من نساء الطبقة الوسطى، اللاتي شكلن المنظمات غير الحكومية، في تطوير أجندات مستقلة وأصوات عامة للنساء. كما قمن بشن حملات عامة لدعم تغيير شكل عقد الزواج بما يجعل النساء واعيات بحقوقهن في ظل الشريعة الإسلامية، ومنح أطفال النساء المصريات المتزوجات من غير المصريين نفس حقوق المواطنة التي يتمتع بها أطفال الرجال المصريين المتزوجين من نساء غير مصريات، وتعيين النساء في مناصب القضاء.
ونظرًا لرغبة الدولة في الحفاظ على سيطرتها على أجندة النوع الاجتماعي، كدليل رسمي عن محتواها الاجتماعي التقدمي، تبنت الدولة موقفًا عدائيًّا وقمعيًّا بوجه خاص تجاه المنظمات النسائية غير الحكومية. ففي عام ١٩٩١، استخدمت الدولة القانون رقم ٣٢ الذي يحكم عمل المنظمات غير الحكومية، لإغلاق “رابطة تضامن المرأة العربية” التي ترأسها نوال السعداوي، مع توجيه الاتهام إليها بأنها تتخذ مواقف سياسية يحظرها القانون. كما أصدرت في عامي ۱۹۹۹ و ۲۰۰۲ قوانين أكثر تقييدًا لتحل محل ذلك القانون، وهو الأمر الذي واجه معارضة واسعة الانتشار من دوائر المنظمات غير الحكومية. وقد وصفت “مراقبة حقوق الإنسان” (Human Rights Watch) في تقريرها العالمي لعام ٢٠٠٠ أول هذين القانونين بأنه يقدم “مثالاً لتدخل الحكومة في جزئيات عمل المنظمات غير الحكومية“. وقد واجه هذا القانون ضربة قاضية علي أساس شكلي إلى حد كبير.25 والثاني هو القانون 84 / 2000, الذي يضم أغلب القواعد التقييدية بالقانون الأول ويضيف إليها اشتراك الجهاز الأمني في عملية التسجيل. وعلى سبيل المثال، كان القانون يطالب جميع المنظمات غير الحكومية الموجودة أن تقوم بتسجيل نفسها حتى تتمكن من ممارسة عملها على نحو قانوني، مع الاحتفاظ بحق حظر المنظمات التي تعتبرها تهديدًا للوحدة الوطنية [إشارة غير مباشرة للإسلاميين]، وتنتهك النظام العام أو الأخلاقيات، أو تشترك في أنشطة سياسية أو نقابية” (المادة 11). 26 كما نص القانون أيضًا على “ضرورة موافقة الهيئات الأمنية على المرشحين إلى مجالس إدارة المنظمات غير الحكومية، مع احتفاظ وزارة الشؤون الاجتماعية بحق حل أي منظمة غير حكومية، فضلاً عن تجميد أرصدتها ومصادرة ممتلكتها دون أمر قضائي“.27 وعلاوة على استبعاد الإسلاميين من المشاركة في هذا القطاع، استُخدم القانون أيضًا لرفض الاعتراف القانوني لمنظمات حقوق الإنسان (بما فيها أولاد الأرض، والرابطة المصرية لمناهضة التعذيب) والمنظمات النسائية النشطة مثل “مركز دراسات المرأة الجديدة” والمجلة النسوية المحترمة “نور“.28
وعلى الرغم من أن الدولة استخدمت موضوع “صدام الحضارات” لإضفاء شرعية على صراعها الدموي ضد معارضيها الإسلاميين، يبدو واضحًا أن سلطويتها السياسية تمتد إلى مؤسسات المجتمع المدني الشرعية. ومع أن هذه المؤسسات تمثل أجندة اجتماعية وسياسية مختلفة تقود المُنظرين لوضعهم في معسكرات سياسية منفصلة، فإن سياسات الاستبعاد التي تمارسها الدولة تستبعد حلفائها الممكنين للنضال السلمي من أجل المقرطة.
اختلفت ردود أفعال النساء الإسلاميات والمسلمات في مصر تجاه العولمة والخطابات النسوية العالمية. فقد أسهمت شعبية الحركة الإسلامية المصرية في الاهتمام العام بالأمة الإسلامية، والتي تتجاوز حدود الدول القومية. وفي التسعينيات، تابع الرجال والنساء المسلمين أخبار محنة مسلمي البوسنة، وحظر غطاء الرأس للبنات المسلمات في المدارس بتركيا وفرنسا، وانتخاب امرأة لموقع نائب الرئيس في جمهورية إيران الإسلامية، ونجاح الحزب الإسلامي في الانتخابات ووصوله إلى السلطة في تركيا، والصدامات بين المسلمين والهندوس في الهند.
وكانت النساء الأعضاء في الأحزاب الإسلامية المعارضة مهتمات بمخاطبة الجمهور الإسلامي في مصر والجمهور الإسلامي الأكبر خارج مصر. وقد وافقت زينب الغزالي، وهي أبرز نساء جماعة الأخوان المسلمين في مصر، والوحيدة التي احتلت منصبًا قياديًّا بينهن، على ترجمة أعمالها المنشورة إلى اللغات الفارسية والتركية والأردية، بهدف واضح يتمثل في مشاركة المجموعات اللغوية الأخرى، داخل الأمة الإسلامية الأكبر، لخبرات الإسلاميات المصريات، فضلاً عن خبراتها الشخصية. وفي الثمانينيات، انشغلت زينب الغزالي بمعارضة الكتابات النسوية الغربية والعلمانية حول الإسلام والنساء المسلمات.
وقد ركزت أحدث تعليقات لزينب الغزالي على النقاشات الداخلية بدوائر الإسلاميين في مصر، وهي النقاشات التي كانت أحيانًا تعيد إنتاج الأطروحات العلمانية فيما يتعلق بوضع خضوع المرأة. واعتبرت زينب الغزالي هذا التطور إشكاليًّا؛ حيث أوضح مدى تأثر الآراء الإسلامية بالمنظور العالمي المهيمن.
وفي رد الفعل، استعملت الغزالي الأحاديث النبوية لإنكار، مرة أخرى، تفوق الرجال على النساء في الإسلام. فإذا كانت “النساء شقيقات الرجال“، كما تقول الأحاديث الشريفة، يصبح إذن الانشغال الإسلامي بمسألة الاختلاف والزعم النسوي بارتكاز اهتمامات النساء المسلمات على النوع الاجتماعي يمثل فهمًا خاطئًا لنقطة مهمة. إن محاولة الرجال الإسلاميين اقتراح أنهم أفضل من النساء لأن جميع الأنبياء من الرجال فقط يتجاهل أن الله منح النساء موقعًا كريمًا على قدم المساواة – أي كونهم أمهات هؤلاء الأنبياء.
لقد خدم هذا النقاش العقيم، كما تقول الغزالي، مصالح أعداء الإسلام التاريخيين، وخاصة اليهود.29 كما حرف الانتباه عن اهتمام المسلمين الأساسي، وهو تخلف الأمة تنمويًّا. وفي النضال من أجل استعادة مجد المجتمع الإسلامي، يتمثل دور المرأة الأساسي في بناء أسرة صحية. وإذا كان بمقدور المرأة أن تضطلع أيضًا بهذه المسؤولية مع مسؤوليات عامة أخرى، عليها إذن أن تخدم احتياجات مجتمعها.30
وفي المقابل، برزت مؤخرًا هبة رؤوف عزت، وهي باحثة شابة في العلوم السياسية، كصوت عام مهم للنساء الإسلاميات في حزب العمل الذي لم يعد له وجود الآن. لقد قدمت تصورًا مختلفًا حول العولمة وتأثيرها على الأجندة الإسلامية. ولا يقتصر جمهورها المستهدف على الجمهور الوطني، فهي تكتب باللغتين العربية والإنجليزية لمواجهة قطاعات كبيرة من المجتمع الإسلامي.
لقد استلهمت مشروعها، حسب وصفها، من الرغبة في “بناء الحداثة [الإسلامية] الخاصة بنا، بعد أن رأينا كيف سارت الأشياء على نحو خاطئ [في الغرب]”.31 وكان نقاشها حول تاريخ الغرب يرتكز على بناء المعارضة الثنائية بين الغرب والإسلام. وعلى نحو نمطي، تبدأ بتمثيل “الغرب” من خلال النصوص الوصفية للمؤلفين الغربيين الذين طرحوا وجهات نظر تتسق ورؤيتها، وفي رؤيتها للغرب كانت تساوي بين العلمانية وعدم التدين؛ فالعلمانية مادية ومتفسخة ومتساهلة جنسيًا، وفردية، وتتسم بالنسبية الأخلاقية وهشاشة البنية الأسرية.32 لقد ألقت اللوم على العلمانية الغربية والدولة الحديثة فيما يتعلق بأزمة القيم الاجتماعية وأزمات المؤسسات المهمة مثل الأسرة والدين.33 وقادها تأكيدها على أهمية الأسرة والدين إلى إدانة المثلية الجنسية بقوة، واعتبرتها مقياسًا لتدهور الغرب الأخلاقي والأزمات الأسرية. وكانت تخشي من أن تُفضي الرغبة واسعة الانتشار في محاكاة الغرب وقيمة إلى أن تصبح المثلية الجنسية تهديدًا للمجتمع الإسلامي.34
لقد أدت النزعة النسوية، كما تجادل، إلى تقويض الأسرة وإن كان بطريقة أخرى؛ إذ تؤكد الحقوق الفردية للنساء وانتقاد البطريركية، متغافلة أن الثقافات البطريركية تُلزم الرجال بالأسرة وتفرض التزامات مهمة عليهم (134-135). إن هبة رؤوف، مثلها مثل زينب الغزالي، تعتبر النسوية بنية علمانية غربية، غريبة عن التقاليد الإسلامية (134-135). ومع ذلك، بينما زعمت هبة رؤوف أنها تستخدم منهاجية إسلامية لتفسير القرآن والأحاديث النبوية، فقد قدمت آراء جديدة تُطبق المبادئ السياسية للشورى على العلاقات الأسرية، وترفض كلاً من الانقسامات الإسلامية والحديثة بين العام والخاص. كما تجادل أن النساء يتمتعن بحق اختيار ورفض الزوج، مثل حقهن كأفراد في مجتمع إسلامي أن يدعمن أو لا يدعمن الخليفة / الحاكم.35
في هذه الرؤية الإسلامية، حول الإسلام في مواجهة الغرب، قدمت هبة رؤوف تصورًا عكسيًّا لعلاقات القوى بين هاتين الحضارتين. وعلى حين كان الغرب يستخدم الاستشراق لافتراض تفوق الغرب ودونية الشرق، فإننا نجد في تقييم هبة رؤوف الاستغراب الذي سعى إلى تمثيل تفسخ / فساد الغرب ويطرح التفوق الأخلاقي والاجتماعي للمجتمعات الإسلامية. وبينما كان الاستغراب يفتقر إلى السلطة الاقتصادية والسياسية التي استخدمها الاستشراق لفرض قبول رؤيته للعالم، ناشدت هبة رؤوف أصحاب العقليات الدينية في كل مكان و/ أو المهتمين بالقيم الأخلاقية دعم منظورها الفكري والسياسي.
شاركت أميمة أبو بكر (وهي مُحجبة) وهدى الصدة (وهي غير محجبة) في النقاش حول تفسير النساء للتراث والتاريخ الديني الإسلامي، وقدمتا وجهتي نظر مختلفتين. أميمة أبو بكر وهدى الصدة هما عضوتان ناشطتان في إحدى المنظمات غير الحكومية، وهي “ملتقى المرأة والذاكرة“، والتي تهتم بإعادة قراءة التاريخ الإسلامي والتاريخ الوطني من منظور نسائي. ونظرًا لكونهما أكاديميات خبيرات في الأدب الإنجليزي والمقارن، فقد قدمتا منظورًا جديدًا حول العلاقة بين الغرب والمجتمعات الإسلامية من خلال عدسة دراسات وخطابات ما بعد الكولونيالية.36 ومثلهما مثل هبة رؤوف، كانتا تكتبان باللغتين العربية والإنجليزية، ولا يقتصر توجههما إلى القطاعات المختلفة من المجتمع الإسلامي والعربي، بل يمتد ليشمل أيضًا المجتمعات الأكاديمية والنسوية في الغرب. وعلى خلاف زينب الغزالي وهبة رؤوف، لم ترفض أيًّا منهما النزعة النسوية أو رؤى النوع الاجتماعي في فهمهما للتراث الإسلامي والتاريخ الإسلامي.
لقد قدمت أميمة أبو بكر مساهمة تتسم بأهمية خاصة في مناقشة “النسوية الإسلامية” الموجودة في الغرب وفي الشرق الأوسط. وكانت تفرق بين النسوية الإسلامية التي تُعتبر جزءًا من التعريف الذاتي للمسلم، والمفهوم الغربي الجديد المهيمن الذي يستهدف احتواء “الآخر“. كما فرقت بين الاستخدامات المختلفة للنسوية الإسلامية: كعبارة فضفاضة تشير بطرق مختلفة إلى الأعمال الفكرية التي قدمتها النساء المسلمات من مختلف الأجيال والتوجهات؛ كأداة تحليلية / منهج؛ كإشارة إلى النساء المُحجبات؛ كوزن مضاد في مواجهة النسوية العلمانية؛ وكبناء تكتيكي تستخدمه الناقدات النسويات العربيات. وحتى يكون للمفهوم معني، كما تطرح أميمة أبو بكر، يتطلب الأمر تطبيقه بطريقة تميز بين من ينتقدون التراث الإسلامي، ومن يعملون على تطوير بدائل وحلول إسلامية نابعة من القيم الإسلامية،37 إن إشكالية عدم المساواة بين الجنسين في سياق الرؤية الإسلامية للعالم، تنبع من أنها تقدم “العدالة الإلهية، والتعاطف، والمساواة، والتحرر من العبودية أو الخضوع لغير الله” (3). كان المعنى الثاني للنسوية الإسلامية يعتبر الدفاع عن حقوق المرأة جزءًا من دفاع الإسلام في مواجهة فساد مثله. هناك صفة أخرى لهذا المشروع الجديد تتمثل في ما أسمته “قلب المنضدة” على الرجال المسلمين، وتحميلهم مهمة الفشل في الامتثال إلى المبادئ والتعاليم الإسلامية (7).
إن التعريف الذي تطرحه أميمة أبو بكر للنسوية الإسلامية يلقي ضوءًا جديدًا على كتابات نوال السعداوي وفاطمة مرنيسي– وهما من الكاتبات القياديات النسويات العربيات، اللاتي توقفت كتاباتهن عند نقد الإسلام. ونظرًا لعدم اعتقادهن في أهمية الحلول المشتقة من المشروع الإسلامي، لم تكن أيًّا منهما جزءًا من المشروع النسوي الإسلامي.
وفي المقابل، بدأت أميمة أبو بكر نمطيًا في كتاباتها المختلفة انطلاقًا من التقاليد الإسلامية، في محاولة للربط بين الجانب الروحي وتنظير النوع الاجتماعي. لقد قامت بفصل المظالم العامة والأسرية والاجتماعية والفردية في الثقافات الذكورية عن التفكير والفهم العقلاني الموجود في الدين. وهل يمكن استخدام هذا المنهج للتساؤل حول علاقة منظور النوع الاجتماعي ومقاربته بفهم النصوص الدينية، فضلاً عن إمكانية دراسة النوع الاجتماعي من منظور المرأة المسلمة. وهي ترد على السؤالين بالإيجاب، مشيرة إلى ثلاثة أحداث موثقة في الأحاديث النبوية وترتبط بالنساء عندما سألن الرسول عليه الصلاة والسلام عن دورهن في المجتمع. في واقعتين منها، كانت القضايا المثارة ذات دلالة كافية لكي تصبح “مناسبات للإلهام“. وهو ما يقودها إلى الجدل بأن “الله نفسه والرسول عليه الصلاة والسلام يستمعان إلى تساؤلات النساء المسلمات، فلماذا لا نعيد إنتاج نفس الموقف عندما نحتاج إليه في لحظة أخرى من تاريخنا؟” ۳۸
لقد كانت كتابات أميمة أبو بكر المبكرة تفتقد الدفاعية التي اتصفت بها العديد من نصوص الإسلاميات اللاتي رفضن جدلاً كل شيء غربي و/ أو استخدمن المعارضة المفترضة بين المفاهيم والمقاربات الغربية والتقاليد الدينية الإسلامية، بغية إحراز نقاط ضد معارضيهن العلمانيين / السياسيين. كما أوضحت أيضًا أن ردود الأفعال الثقافية تجاه العولمة لا يجب أن تتأرجح بين رفض الغرب والخضوع له. ففي الولايات المتحدة توجد أصوات مسلمة – مثل رفعت حسن (باكستانية)، وأمينة ودود (أفرو– أمريكية)، وعزيزة الحبري (لبنانية) – وقد دعمت كتاباتهن هذا المشروع وأضفت عليه ثقة. وقد سعت هذه المجموعة، بما فيها أميمة أبو بكر، إلى خلق فضاء مستقل، حيث تزداد إمكانات الوصول إلى البنى الفكرية ونقدها البنّاء، والتي تطورت في الولايات المتحدة (مثل “النوع الاجتماعي“)، ويصبح بالإمكان وضعها في خدمة فهم الرسالة الإسلامية وإعادة تفسيرها من وجه نظر النساء المسلمات. وفي قراءة أميمة أبو بكر، إذا استجاب الله لاهتمامات النساء من خلال الوحي والإلهام، فإن استخدام منظور النوع الاجتماعي لا يمكن أن يكون غريبًا عن التقاليد الإسلامية. والهدف هنا لم يكن معالجة النظريات التي تطورت في الغرب، باعتبارها عالمية الانطباق، وإنما تطوير تحليل خاص بالتقاليد الإسلامية.
وفي مقاربة مشابهة، وإن كانت متمايزة، تناولت كتابات هدى الصدة تمثيلات النساء العربيات المسلمات اللاتي شغلن موقعًا مركزيًا في النقاشات الوطنية والعالمية الساخنة حول الخصوصية الثقافية.39 لقد اهتمت هدى الصدة بكيفية تأثير الخطاب على إنتاج هويات وطنية / ثقافية كتجليات لعلاقات القوى. لقد أنتجت القوى القومية الليبرالية والإسلامية تمثيلات محلية نمطية للنساء العربيات بهدف السيطرة عليهن، وفي الوقت نفسه أنتجت قوى الغرب الخارجية تمثيلات مماثلة بهدف تبرير التدخل في المجتمعات العربية غير الديمقراطية والتي تميز بين الجنسين (39).
وكمثال على ذلك، اختبرت هدى الصدة الخطابات الغربية والمحلية المستخدمة لبناء سيرة عائشة بنت أبو بكر، زوجة الرسول المُفضلة وابنة أول خليفة، أبو بكر، كما أنها أهم من نقل الأحاديث النبوية، فضلاً عن مشاركتها السياسية الرئيسية في معركة الجمل في أول حرب أهلية في المجتمع الإسلامي المُبكر. وهناك نادية أبوت، وبنيتها النسوية الاستشراقية التي طرحت تساؤلات حول الصورة الاستشراقية للمرأة المسلمة الضعيفة، وإن كان مع إضفاء أمتياز على الرؤية الاستشراقية التي أكدت الطبيعة السياسية للدين والرسول وعائشة. وفي المقابل، طرحت زاهية قدورة بنية قومية معادية للاستشراق وتؤكد الصفات الإيجابية لعائشة، وإن ظلت صامتة تجاه الانتقادات التي أثارها أنصار شيعة عليّ، الخليفة الرابع، لعائشة. وقد قدم عباس محمود العقاد خطابًا اعتذاريًّا حداثيًّا، مستخدمًا تفاصيل حياة عائشة للدفاع عن التراث الإسلامي في مواجهة الانتقادات الكولونيالية والحداثية. وفي الوقت نفسه، أكد خطاب عائشة عبد الرحمن، وهو خطاب حداثي ليبرالي، مكانة عائشة بنت أبي بكر الخاصة لدى الرسول، لكنها قللت من أهمية دورها العام كناقلة للأحاديث النبوية. وأخيرًا، قدمت كل من فاطمة مرنيسي وغسان عشا قراءات ما بعد حداثية لحياة عائشة. وعلى حين ناقشت فاطمة مرنيسي الأدوار المتعددة التي لعبتها السيدة عائشة، فإن أطروحة غسان عشا تؤكد وجود عدد كبير من القراءات المختلفة لحياة السيدة عائشة وجميعها قراءات غير دقيقة.
بالنسبة إلى هدى الصدة، كان استعراض مختلف الخطابات المستخدمة في تمثيل سيرة هذه الشخصية الإسلامية البارزة يمثل جزءًا من مناقشات تاريخية ساخنة حول الأدوار المناسبة للنساء. وبالنسبة إلى النسويات، فقد كانت حياة عائشة جزءًا من عملية تفكيك التمثيلات الحالية ثم بناء تعريفات بديلة للأدوار التي لعبتها النساء العربيات في التاريخ الإسلامي والوطني. لقد أتاح هذا استعراض شكلاً من أشكال التأمل الذاتي الثقافي الذي أثر على النضالات الحالية (58). إن أهمية هذه النقاشات لا يمكن أن تحل محلها وثائق الأمم المتحدة كأساس للتعريفات العالمية / المحايدة لأدوار النساء وحقوقهن. وفي واقع الأمر، ازدادت شدة النقاشات حول الهوية الثقافية عندما فشلت، بوجه خاص، مزاعم الحقوق العالمية في تقديم وعودها إلى ثقافات بعينها و / أو إدراكها كتعبيرات عن أشكال جديدة من الهيمنة (58-59).
وقد طرحت هدى الصدة، نظرًا لوعيها بالتأثير الإسلامي على النقاشات الدائرة حول النوع الاجتماعي، ضرورة توسيع مناقشة الأدوار التاريخية للنساء بما يتجاوز العصر الذهبي للإسلام، وبالتالي إدراج عدد كبير من النساء اللاتي ينتمين إلى مختلف الطبقات والجماعات الإثنية والفترات التاريخية (58-59). وكجزء من هذا الجهد، درست هدى الصدة التمثيل القومي الليبرالي الإشكالي لكتابات ملك حفني ناصف، وهي شخصية نسوية بارزة نالها سوء الفهم على نطاق واسع. فمع بداية القرن العشرين، اختلفت ملك حفني ناصف مع وجهات نظر عمالقة الرجال في التنوير المصري – مثل قاسم أمين ولطفي السيد. ونتيجة لذلك، اعتبرها كثيرون شخصية نسوية مساومة. لكن هدى الصدة اختلفت مع هذا التمثيل القومي الليبرالي لملك حفني ناصف؛ حيث كانت معارضتها للإلغاء الفوري للحجاب ترجع إلى عدم استعداد المجتمع و / أو الرجال العاديين لهذه الخطوة بعد، كما وضح ذلك من تحرش الذكور بالنساء في الشارع. لقد انتقدت بوجه خاص رجال النخبة الذين دافعوا عن إلغاء الحجاب وتوقعوا بصلف أن توافق النساء، دون أخذ آرائهن في الحسبان. لقد أدركت ملك حفني ناصف إشكالية رؤية هؤلاء الرجال الذين زعموا أنهم يدعمون تحرير المرأة.
يجب أن يترك لنا الرجل تقييم آرائه، بحيث نختار ما نراه عقلانيًّا من بينها. ولا يجب أن يقوم بتحريرنا على نحو استبدادي، بمثل ما يستعبدنا على نحو استبدادي. لقد تعبنا من استبداده. نحن لا نخشى الهواء أو الشمس، لكننا نخشى من عينيه ولسانه. فإذا وعد بغض البصر، كما أمره دينه، وصون لسانه كما تتطلب السلوكيات القويمة، عندئذ يمكننا دراسة قضايانا وقضاياه.40
وعلى حين ألقى أغلب المحللين اللوم على الإسلام و / أو الثقافة الإسلامية، فيما يتعلق بالمشكلات التي تواجه النساء، طرحت ملك حفني ناصف أن الحداثة جلبت أشكالها الخاصة من هيمنة الخطاب الذكوري. وهو ما جعل ملك حفني ناصف ناقدة للحداثة منذ فترة مبكرة، في وقت لم يجرؤ فيه أحد على التشكك في الحداثة. وقد استخدمت هدى الصدة هذه القراءة الخاصة لملك حفني ناصف للإشارة إلى أن العالم الكوكبي الجديد يضم أكثر من منظور وخطاب يجب انتقادهم في وقت واحد. إننا نحتاج إلى نقد المنظور المحلي والمنظور الدولي، وكذا المنظورين الإسلامي والقومي، والتي تتنافس في زعمها تمثيل حقوق المرأة بصورة أفضل. وتستهدف هذه الانتقادات المتعددة تحسين شروط الجدال من أجل حقوق المرأة داخل هذه الخطابات المختلفة.
إن ديناميات النوع الاجتماعي الثقافية والسياسية في مجال العولمة، وأنتجها الشمال، قامت بتوظيف استراتيجيتين خطابيتين مختلفتين للتعامل مع الجنوب بوصفه “الآخر” في العالم الكوكبي الجديد. هاجمت الاستراتيجية الأولى صراحة الحضارات والثقافات غير الأوربية وأساءت إليها باعتبارها أدني و / أو تمثل تهديدًا للحضارة الغربية التي تُعتبر أنسب إطار ثقافي للعولمة. وأضفت الاستراتيجية الثانية امتيازًا على القيم والخطابات الغربية باعتبارها متفوقة وتمثل أساسًا عالميًّا صحيحًا لحقوق النساء في كل مكان. إن أصوات الجنوب التي انسجمت مع هذه الصفات الغربية للجنوب والآخر أعطت مكانًا متميزًا في نقاشها لأصوات الإسلاميين الذين يدافعون عن العنف ضد الغرب، أو ضد النساء المسلمات. أما الرؤى المسلمة والإسلامية، فقد لعبت أدوارًا ثانوية في الخطابات المهيمنة التي تثبت تفوق الغرب ورغباته الثقافية كإطار للعولمة.
إن الاهتمام بأصوات الجنوب قليل، وخاصة أصوات النساء الإسلاميات والمسلمات اللاتي يتناقضن مع تمثيلات الطرفين المهيمنة. لقد استخدمت بعض كتابات الإسلاميات التعارضات الثنائية، المُستخدمة في الكتابات الاستشراقية، من أجل قلب علاقات القوي بين الإسلام والغرب فيما يمكن وصفة بالاستغراب. وأسفرت النتيجة عن آراء دفاعية واستبعادية للعولمة. وهناك نساء مسلمات أخريات قمن بتطوير كتابات أكثر انتقادًا حول التقاليد / التاريخ الإسلامي والغرب، كجزء من الجهد الرامي إلى تطوير صوت ثقافي خاص بهن. وبتوسيع النقد بحيث يتضمن العلماني والديني، فضلاً عن الوطني والدولي، قدمن إطارًا فكريًا مركبًا يمثل اهتماماتهن الخاصة ويواجه في الوقت نفسه الهيمنات المترابطة، وإن كانت متفرقة، للعالم الكوكبي الجديد.
*Mervat Hatem, “In the Eye of the Storm: Islamic Societies and Muslim Women in Globalization Discourses”, Comparative Studies of South Asia, Africa and the Middle East, Volume 26, number 1 (2006), pp.22-35.
* عالم ماك يشير إلى هيمنة الشركات الأمريكية العابرة للحدود القومية مثل ماكدونالد وماكينتوش.
1- انظر/ ي:
James Mittelman, ed., Globalization: Critical Reflection (Boulder, CO: Lynne Rienner, 1997); Rita Mae Kelley, Jane H. Bayes, Mary E. Hawkesworth, and Brigitte Young, Gender, Globalization and Democratization (Lanham, MD: Rowman and Littlefield, 2001)Manfred B. Steger, Globalism (Lanham, MD: Rowman and Littlefield, 2002).
2- انظر/ي:
Samuel P. Huntington, “The Clash of Civilizations?” Agenda 1994: Critical Issues in Foreign Policy (New York: Council on Foreign Relations, 1994), 123.
3- انظر/ ي:
Samuel P. Huntington, “The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order (New York: Touchstone, 1996), 33.
4- انظر/ ي:
Benjamin Barber, “introduction” to, Jihad vs. McWorld (New York: Ballantine, 1996).
5- أنظر/ ي:
Robert Cox with Timothy Sinclair, Approaches to World Order (Cambridge: Cambridge University Press, 1996), chaps. 8, 21; Robert Gregg, About Face? The United States and the United Nations (Boulder, CO: Lynne Reinner, 1993).
6- مقتبس في:
Mahnaz Afkhami and Erika Friedl, “Introduction,” in Muslim Women and the Politics of Participation: Implementing the Beijing Platform, ed. Mahnaz Afkhami and Erika Friedl (Syracuse, NY: Syracuse University Press, 1997), ix-x.
7- إن التحليل الذي قدمه فرانز فانون حول طبيعة مجتمعات ما بعد الكولونيالية بعد التحرر مباشرة من الكولونيالية لا يزال مهمًا اليوم. انظر/ي:
Frantz Fanon, “Pitfalls of National Consciousness,” in The Wretched of the Earth (New York: Grove, 1963), 148-205.
8- حديث مع د. عفاف محفوظ، نائب الرئيس سابقًا لمؤتمر الأمم المتحدة للمنظمات غير الحكومية ذات الصفة الاستشارية، ومشاركة ومدافعة نشطة عن حقوق المرأة خلال
التسعينيات.
9- انظر/ ي:
Leon Gordenker and Thomas G. Weiss, “Pluralizing Global Governance: Analytical Approaches and Dimensions,” in NGO’s, the UN, and Global Governance, ed. Thomas G. Weiss and Leon Gordenker (Boulder, CO: Lynne Rienner, 1996), 25.
10- انظر/ ي:
Charlotte Bunch and Susana Fried, “Beijing’95: Moving Women’s Human Rights from Margin to Center,” Signs 22 (1996): 200; Esther Ngan-Ling Chow, “Making Waves, Moving Mountains: Reflections on Beijing’95 and Beyond,” Signs 22 (1996): 185.
11- المرجع السابق.
12- انظر/ ي:Bunch and Fried, “Beijing ‘95” 201 .
13- في Afkhami and Friedl, Muslim Women and the Politics of Participation. انظر/ ي: Afkhami and Friedl, “Introduction,” xiv; Deniz Kandiyoti, “Beyond Beijing: Obstacles and Prospects for the Middle East,” 4; and Elizabeth Ann Mayer. “Aberrant “Islams’ and Errant Daughters: The Turbulent Legacy of Beijing.” 29.
14- انظر/ ي:Afkhami and Friedl, “Introduction,” xi, xii.
15- انظر/ ي: Mayer, “Aberrant Islams’ and Errant Daughters,”30
16- “اتجاهات الصحافة المصرية عام ١٩٩٢“، في التقرير الاستراتيجي العربي لعام ١٩٩٢.
17- مركز الدراسات الحضارية، الأمة في عام: تقرير حولي عن الشؤون السياسية والاقتصادية والإسلامية.
18- “اتجاهات الصحافة المصرية عام ۱۹٩٢“، ۳۰۱، 304.
19- جابر عصفور، ضد التعصب (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب).
20- السيد ياسين، “حوار الحضارات في عالم متغير“، في التقرير الاستراتيجي العربي، 10-19
21- السيد ياسين، “قراءات استشرافية لخريطة المجتمع الكوني“، في التقرير الاستراتيجي العربي، ۱۲.
22- حديث مع السفير حمدي صالح، القاهرة، ديسمبر 1995.
23 انظر/ ي:
Mervat F. Hatem, “Egyptian Discourses on Gender and Political Liberalization: Do the Secularist and Islamist Views Really Differ?” Middle East Journal 48 (1994): 667-68.
24- المرجع السابق، ص 669
25- انظر/ي:
Human Rights Watch. World Report 2000 (New York: Human Rights Watch, 1999), 347.
26- المرجع السابق.
27-انظر/ي: Human Rights Watch press release, New York, 21 June 2003
28- المرجع السابق
29- الهاشمي، هموم المرأة، 60، ٦٢.
30-المرجع السابق، ص 57-58
31- انظر/ ي:
Heba Raouf Ezzat, “Secularism, the State, and the Social Bond: The Withering Away of the Family.” in Islam and Secularism in the Middle East, ed., John L. Esposito and Azzam Tamimi (New York: New York University Press, 2000), 136.
32- هبة رؤوف عزت، “المرأة والدين والأخلاق: من هنا نبدأ“، في المرأة والدين والأخلاق، نوال السعداوي وهبة رؤوف عزت (بیروت: دار الفكر المعاصر، ۲۰۰۰) ص 143- ٢٠٤
33- المرجع السابق، 134.
34- انظر/ي:
Azza Karam, Women, Islamism, and the State (New York: St. Martin’s, 1998), 222
35- انظر/ي:
Heba Raouf Ezzat, “It Is Time to Launch a New Women’s Liberation Movement – an Islamic One,” Middle East Report, November-December 1994, 26-27.
36- أستاذتان وزميلتان في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة.
37- انظر/ ي:
Omaima Abou Bakr, “Islamic Feminism: What’s in a Name? Preliminary Reflections,” Middle East Women’s Studies Review 15-16 (2001): 1-2.
38- المرجع السابق، ۱– ۲
39- انظر/ ي:
Hoda Elsadda, “Discourses on Women’s Biographies and Cultural Identity: Twentieth Century Representations of the Life of ‘A’isha Bint Abi Bakr,” Feminist Studies 27 (2001): 37.
40- هدى الصدة، “مقدمة“، في كتاب النسائيات، تحریر: ملك حفني ناصف (القاهرة: المرأة والذاكرة، ۱۹۸۸)، ص ۲۸.