اكتشفنا سوقًا للتجارة في المواليد

رأيتهن نائمات وجالسات كمجموعات يتشاركن في المساحة نفسها مع أولاد الشوارع منهم من هو أصغر ومنهم من هو أكبر وبينهم الكبير والكبيرة وبلغة أخرى المعلم والمعلمة“..رأيتهم في حدائق تمثل مقارهم الدائمة وهي في معظمها حدائق عامة ربما يكون للاختيار مغزى أو معنى، منها حدائق شارع أحمد عرابي بالمهندسين، وحدائق ميدان الجيزة، وحدائق مصر الجديدة تحديدًا في تريومف وأمام كنيسة البارون.

مش مهم الأسامي اكتبوا أي اسم..

هن قد اعتدن حياة الشارع وتكيفن معها ويفضلنها عن دور الرعاية التي ألحقن بها مرات وهربن منها مرات، ولا يتصورن العيش فيها، لذا كان لابد أن نعرف وأن نسمع ونقدم ما سمعناه بصدق عله يكون دليلاً لمن يسعى بجدية لاحتواء هذه الظاهرة.

الاقتراب من عالمهن محفوف بالخطر وعلى من يريد أن يقترب عليه أولاً كسب ثقتهن، وكان لقائي الأول مع أوسةعمرها لا يتعدى الستة عشر عامًا، نحيفة ورغم البؤس إلا أن عينيها مازالتا تحملان شقاوة الطفولةوهي التي فتحت لي الأبواب لدخول عالمهن، وللمزيد من المعرفة، وكان مدخلي لهذا العالم هي، أولاً عندما لمحت في يدي حافظة بها أوراق قالت لي : ” إديني ورقة وقلم أنا بحب الرسم قوي وبعرف أرسم، أعطيتها الورقة والقلم وطلبت منها أن ترسم فرسمت عربة كارو يركبها بنات كثيرات ومعهن ولد يشهر مطواة في وجوههن. سألتها عن معنى ما رسمته، قالت : “العربية الكارو دي الصبح بيتجمع فيها الزبالة وبالليل بتيجي فيها شوية شبان ومعاهم الواد ده إللي في إيده مطواة ده اسمه الكبير وياخدوا واحدة من البنات علشان يعملوا عليها حفلة وما تقدرش تقول لأ، والمكان المفضل للحفلة على طريق المحور حتة اسمها الطريق الأبيض، فيها عشة في الزراعات ويعملوا فيها الويزةيعني يناموا كلهم مع البنت وممكن يبقوا خمستاشر راجل.

الويزة: هي الحفلة اللي بياخدوا فيها البنت علشان عشر ولاد

عرفت منها أن معنى كلمة الويزةهي العشة التي يمارس فيها الجنس مع البنت، ودون أدنى اهتمام أو دهشة ألقت بجملة كأنها جملة عابرة : “دايمًا البنت بترجع من الحفلة وهي حامل“.

ومن هنا يبدأ فصل آخر من فصول القصةقصة سامية أو منال أو هدى لا أعتقد أن الاسم مهم وربما يكون اسمًا حقيقيًا أو مستعارًا، سألتها : “أعرف أنكن لا تتحركن إلا داخل مجموعات وتعشن معًا ومعكن رجل يوفر لكن الحماية“.

أوسة: بييجي لنا رجالة كتير سواقين ميكروباص وبياعين.

منال: البنت عفاف خلفت واد شعره أحمر ووشه أبيض

قالت: “ممكن يكون راجل وممكن تكون واحدة ست لأن بيجي هنا رجالة كتير ياخدوا واحدة مننا سواقين ميكروباص وبياعين سريحة ويروحوا للكبيرة وهي تحدد تبعت مين معاهم، وفي واحدة بتروح بمزاجها مع أصحاب العربيات الكبيرة، بهوات يعني والبت عفاف أكتر واحدة بتركب عربيات وبتأخذ تلاتين جنيه في المرة وساعات خمسين جنيه، ومرة رجعت وكانت حامل وجابت ولد غريب جدًا وشه أبيض زى اللبن الحليب وشعره أحمر، كان ولد جميل جدًا وبعد ثلاثة أيام أخذته منها بياعة خضار في السوق واديتها تمنه دبلة دهب.

الشارع يا أبلة أرحم من الملجأ.

سألتها إن كانت تحب أن تعيش في دار من دور الرعاية فقالت : “لا يا أبلة محبش خالص أنا بحب الشارع أكتر، أنا رحت مرة دار الرعاية وهربت كانوا بيعاملونا زي ما نكون في سجن وكنا بنتضرب ونتشتم شتيمه وحشه أوي، ومفيش أكل ولا لبس، والله العظيم والله العظيم في بنات كانوا بيشغلوهم في دار من دول زي ما إنتي عارفة وهمه يقبضوا الفلوس، وفي رجالة بيعملوا فيهم وما يدهمش حاجة، طيب ما الواحدة تعيش بحرية، والشارع بقى حته مننا وإحنا حته منه“. حكاية منال لا تختلف عن كل الحكايات سوى بعض التفاصيل، فمنال عمرها ۱۸ سنة تعيش في الشارع منذ 9 سنوات، لها أم تعيش في قرية من قرى محافظة الجيزة، آخر مرة رأتها كانت منذ ثلاث سنوات، اطمأنت لي بعد أن تابعت عن بعد جلستي مع أوسةاقتربت منها وسألتها لو تصورت أنها تحلم بالإقامة في بيت أو دار الرعاية فقاطعتني قائلة : “أنا خرجت من دار الرعاية من تلات سنين ومقدرتش أرجع لأمي هي أصلها فقيرة أوي وأنا أخذت على الشارع وعلى نظامه، طبعًا بأروح الحفلة لما ييجي الدور عليّ أو لما الكبيرة بتاعتنا تقول لي روحي بأروح حتى لو غصب عني ! بس لعلمك أنا مش زي البنات الثانية إللي بتروح شقق لا أنا لا يمكن أشتغل الشغلة دي وأروح مع أي حد الشقة بتاعته ومش ممكن أركب عربيات.. سكتت قليلاً وقبل أن أسألها وكأنها في حاجة للفضفضة ولمن يشاركها الاهتمام قالت: “مش فاكرة كام مرة حملت بس فاكرة كويس إني.خلفت مرتين، مرة كانت بنت وكانت بتعيط كتير أوي يمكن كانت جعانة ولا عيانة معرفش، المهم أخدها مني سواق تاكسي وقال لي البنت هتموت منك هاتيها في ناس عايزينها وأداني فيها ١٢٠ جنيه ومش عارفة هي فين دلوقتي ومعرفش عنها حاجة ومش عارفة اسمها إيه، ولا حتى فاكرة شكلها، والمرة الثانية كان ولد خرجت به من المستشفى وفي يوم كان معايا في شبرا عند واحدة أعرفها أخدته مني وأدتني 300 جنيه، وقالت لي ما تخافيش عليه ده هيبقى باشا.. ومن يومها عرفت طريقة أسقط بيها العيل أنا مش ناقصة كل يوم قلبي يتمزق على عيل من عيالي، وتركتني بنفس البساطة وراحت قائلة : “أحسن الكبيرة تيجي وأنا بخاف منها مقدرش أخالفها هي إللي بتحميني ولولاها كنت مت من الجوع“.

نبهتني أوسةإلى بعض من قوانين الشارع ومنها أن البنت اللي بتعمل في الدعارة وبتركب عربياتمش كويسة بس أهي قاعدة معانا وخلاص ومتقدرش تخرج عن طوع الكبير والكبيرة وبتدفع لهم وبتعمل اللي هم يطلبوه، أما إللي بتروح الحفلة فدي مغلوبة على أمرها ولازم تروح!

فهن مطلوبات في أعمال أخرى وليس مجالها الآن وإن كان الجميع يعرف ويصمت.

أردت أن أعرف أكثر فتوجهت إلى حديقة أمام كنيسة في حي مصر الجديدة، ووجدتهن ثلاث فتيات في سن المراهقة وولدين لا تتجاوز أعمارهم السنوات العشر كانوا يتشاجرون ويتشابكون وفي أيديهم علبة كولةكل منهم يصارع من أجل شمةوبعد أن حصل كل منهم على حصته في الشم، جلسوا على النجيلة في هدوء مما شجعنا على الاقتراب منهم والجلوس بجوارهم على النجيلة، كانوا أقرب للمخدرين فلم أخافهم فلم يكن لديهم أي قوة أو قدرة على فعل أي سلوك عدواني ضدي، بل شعرت أنهم يسبحون في خيالات ويعيشون في عالم جميل ولا يتصورون الخروج منه، ولكنني قررت أن أفتح حوارًا معهم وكلمة مني وكلمة غير مفهومة أو تحمل ألغازًا منهم بدأنا في التواصل وعرفت قصتهم التي حكتها لي منىأكبرهم سنًا وريما أقلهم تأثرًا بالكولةقالت: “شوفي يا أبلة أنا والبنات دول هربانين من ملجأ والولاد برضه هربانين من ملجأ وهربنا من المعاملة يا أبلة، العيشة في الملجأ صعبة فيها كل حاجة وحشة ده حتى الرجالة ممكن يعملوا أي حاجة في أي طفلة أو طفل لما العيال بتتهري وبيموتوا، الشارع أرحم“.

ليلى اتفقت على بيع إللي في بطنها بعد ما يتولد

نبيلة: تؤجر ابنها لأم سيد بعشرة جنيهات في اليوم.

ودون أن أسأل عن الفتاة الغارقة في النوم على بعد خطوات لمحت منىنظراتي المتجهة إليها فقالت : “دي ليلىحامل تعبانة وهي معانا، من خمس سنين لقيناها في وسطنا، أخوها دخل السجن وملهاش حد بس هي خايفة يخرج من السجن ويلاقيها حامل يقتلها، هي حاولت تسقط نفسها معرفتش بس في واحدة شغالة عند ناس مبسوطين أوي بتعدي عليها كل يوم وبتجيب لها أكل، وقالت لها ما تخافيش هي هتاخد منها العيل لما تولده وتديها قرشين، وده كويس يعني هي تعمل بالعيل إيه مش أحسن ما أهلها يعرفوا ويقتلوها، ولا تعمل زي البت نبيلة زميلتنا إللي بتأجر عيلها إللي عمره سنتين بعشرة جنيه في اليوم لأم سيدويرجع لها عيان ومتبهدل؟!

انتهى الكلام، وقد أكدن جميعًا رفضهن للحياة فيما أسموه بالملاجيء المعروفة بدور الرعاية، ليتركن خلفهن سؤالاً وهو لماذا؟وما الحل؟“.. علنا نجد عند المسئولين إجابة.

وعلنًا لا ننتظر الإجابة كثيرًا.

شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات