المرأة المصرية بين الدستور والقانون… والمجتمع.
إن أوضاع المرأة المصرية قد مرت خلال هذا القرن بتحولات جذرية، لتنتقل المرأة المصرية عبرها من شروط العزلة الكاملة داخل المجتمع إلى المزيد من الاندماج في الآلية الاجتماعية والمشاركة أكثر وأكثر في الحياة الاجتماعية والسياسية، ولتصبح من زوايا عديدة في موقعٍ متقدمٍ داخل المجتمع المصري.
ولكن هذه التطورات نفسها لا تزالُ تحمل العديدَ من المشاكل الناتجة عن النظرة الاجتماعية السائدة لوضع المرأة داخل المجتمع، والتي ترى أن المرأةَ مهما تقدمت لا يمكنُ أن تكون في وضع يؤهلها للمساواة مع الرجل، وبالتالي تُصر على ترسيخ جملةٍ من الفوارق بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات، هذا بخلاف نمو تيارات لا تكتفى بهذا فقط؛ وإنما تدعو إلى المزيد من انتزاع المكاسب التي حصلت عليها المرأة المصرية عبر قرن من الزمن.
والحقيقة أن القوانين التي صيغت في إطار العمل على تطوير أداء المجتمع المصري ودعم احتياجاته لا تزال تحمل في واقع صياغتها العديد من الثغرات الهامة، إما في النصوص الأصلية أو في التطبيق لهذه النصوص، وهي بذلكَ تعبر عن عدم انسجام واضعيها مع دعوتهم الأصلية لمساواة المرأة كما نص عليها الدستور، كما تعبرُ عن عدم الانسجام الدائم الذي يواجهه موضوع مساواة المرأة في المحكمات العملية اليومية. وسأحاولُ في هذه القراءة السريعة أن أبرز بعض عناصر التناقض في الصياغات القانونية مكتفية ببعض الأمثلة لأن الدراسة الشاملة لمثل هذه القوانين تحتاجُ إلى بحث من نوعٍ آخر.
كان الدستور المصري القديم الصادر سنة ١٩٢٣ ينص في مادته الثالثة على أن: المصريين لدى القانون سواء، وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين.
وهو بذلك كان يسقط من رؤيته للمساواة حق المرأة كجنسٍ آخر يعبرُ عن نصف المجتمع المصري في التمتع بحقوقها السياسية والاجتماعية.
وقد جاء الدستور المصري الحديث الصادر في 16 يناير ليقولَ في المادة (٣١) بأن “المصريون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة“. ولقد كان لإضافة كلمة “الجنس” على النص الدستوري الجديد فعل السحر فيما يتعلق بالقوانين المنظمة لأوضاع المرأة المصرية، فلقد اصطدمت مطالبُ الحركة النسائية المصرية طوال 30 سنة من الكفاح مع النص الدستوري القديم، واعتبرت أي دعوة منافية صراحة للنص الدستوري.
ولذلك فقد جاء النص الدستوري الجديد من ناحيةٍ ليعطى لهذه المطالب شرعية تحققها، ومن ناحيةٍ أخرى ليكون إنجازه نفسه تعبيرًا موضوعيًا عن مدى تغلغل نفوذ هذه الأفكار في صفوف القوى الاجتماعية المسيطرة في تلك الفترة، وذلك بعد نضال طويل للعديد من نساء مصر في هذا المجال. فلقد برز بشكلٍ أكثر مما مضى، ومع تغير النظام السياسي، الاحتياج الفعلى إلى إشراك كل القوى القادرة على الإنتاج للمساهمة في البناء الاجتماعي من كافة الطبقات الاجتماعية، ومن العناصر المثقفة وغير المثقفة.
وبالتالي برزَ الاحتياج بشكلٍ أعلى إلى دفع المرأة المصرية كجزء أساسي لا يتجزأ من الهيكل الاجتماعي إلى صفوف العمل المنتج وخصوصًا في صفوف الفئات المتعلمة (وذلك لأن المرأة المصرية في صفوف الفلاحين والعمال كانت متواجدةً في ساحة العمل اليومي بنسبة أعلى عن الفئات المتعلمة).
فكان عليهم لتلبية متطلبات هذا الاحتياج؛ أن يعيدوا النظر في جملة من القوانين المنظمة لأوضاع المرأة في المجتمع، والتي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على فعالية المرأة في المشاركة الاجتماعية، وكان عليهم أيضًا بناءً على ذلك أن يعيدوا النظرَ في النص الدستوري نفسه لكونه سيشكلُ عائقًا أساسيًا أمام تغيير هذه القوانين، فكان صدور الدستور السابق الذكر في 16 يناير ١٩٥٦، ليتبعه بعد ذلك جملة من القوانين الخاصة بحقوق المرأة السياسية والاجتماعية.
وسأقدمُ هنا مناقشةً سريعةً لبعض هذه القوانين، محاولةً رصد مدى انسجامها مع النص الدستوري الجديد .
في الحقوق السياسية
صدر قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية رقم 73/ 1956 في 3 مارس 1956، وقانون عضوية مجلس الأمة رقم 246/ 1956 في 11/ 6/ 1956. والأول يقضى بمنح المرأة حقها في القيد بجداول الانتخاب، والثاني يمنحها الترشيح لعضوية مجلس الأمة مشترطًا وجود اسمها مسجلاً في الجداول الانتخابية.
فبذلك يكون قد أعطى القانون المرأة المصرية حق المشاركة، ولكن كحقٍ اختياري. أي أن يتسم بصفة الحق والواجب، فكان بذلك تدعيمًا لموقف الفئة النسائية المهتمة بالمشاركة السياسية ولكنه لم يكن دعوةً إلزاميةً للفئات النسائية الأخرى بما يعنيه ذلك من إهدار جزءٍ هام من إلزامية انتمائهن كمواطناتٍ في المجتمع المصري. ولقد تلا هذا القانون بعد ذلك جملة من القوانين المنظمة لأوضاع المرأة في العمل والمعاشات والجنسية والأحوال الشخصية…. إلخ من القوانين التي تتسمُ جميعها برؤية أكثر تطورًا عن الصياغات القديمة القوانين المنظمة لأوضاع المرأة. إلا أننا سنلاحظُ عند قراءة هذه القوانين مفارقةً شديدةً في كتابتها فمثلاً (قانون العمل المصري) يُطلق مساواة المرأة العاملة مع الرجل العامل في كافة الصياغات المنظمة لأوضاع العاملين في الأجور والعقود والمكافآت العائلية … إلخ، كما سنلاحظُ وجود صياغاتٍ خاصة لتنظيم أوضاع المرأة العاملة في الإجازات الخاصةً وفي حماية الأمومة. فسنجدُ أن قانون العمل يُعطى المرأة الحق في إجازة وضعٍ مدفوعة الراتب لثلاثة أشهر، كما يُقر قانونُ العمل حق العاملة أو الموظفةَ في وجود حضانةٍ تتبع موقع العمل، ملزمةً لرب العمل، أو في حالة عدم توفرها دفع بدل حضانة تُضاف مباشرة على المرتب.
والحقيقة أن المشاكل التي تُواجه المرأة في قوانين العمل هي مشاكل مشتركة مع الرجل، أما فيما يتعلقُ بالبنود التي تخصها كامرأة؛ فمشاكلها تنبعُ من أشكال تطبيقها، من ناحية حيثُ يتم الاحتيال على هذا التطبيق من قبل أرباب العمل بطرقٍ متعددة تُفرغها من مضمونها، ومن ناحية أخرى تنبعُ من ضعف وعى العاملات والموظفات بحقوقهن القانونية والمطالبة بتطبيقها تطبيقًا حقيقيًا وعادلاً لينسجم مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية الحاصلة (هذا عدا الانتهاكات الواضحة لأسس المساواة بالقانون كما في التعيين والحوافز).
أما بالنسبة لقانون الجنسية، فبالرغم من تقديمه لوضع المرأة خطوةً هامة، إلا أنه لايزالُ يحمل صفةَ عدم المساواة في جوهره. فلقد ألغى القانون الجديد تبعيةَ المرأة المطلقة وأصبحت التبعية اختيارية. حيث كان القانون القديم يُسقط عن المرأة المصرية جنسيتها مباشرةً فور زواجها من غير المصري – كما يُلحق الزوجة غير المصرية بزوجها المصري فورًا. أصبح يحق للمرأة المصرية عند زواجها من غير المصري أن تحتفظ بجنسيتها المصرية لو أرادات ذلك، كما يحق ذلك لغير المصرية عند زواجها من الرجل المصري. وكان هذا تقدمًا في صياغة القانون. إلا أنه بالرغم من ذلك مازال في جوهره يفرق بين المرأة المصرية
والرجل المصري كمواطنين في حق كل منهما بإلحاق الزوج والأولاد لجنسيته. فبالرغم من حق المواطن المصري أن يطلبَ لزوجته حق الجنسية على أن يتم الفصل به بعد سنتين من تقديم الطلب، وبالرغم من حقه في إعطاء أولاده مباشرةً الجنسية المصرية كحقٍ مُطلق، لا تزالُ المواطنة المصرية مواجهة بمشكلة عدم استطاعتها تأمين هذا الوضع لأسرتها.
فعليها أن تختار بين حقها في الإقامة داخل حدود وطنها مع أسرة غير مستقرة الوضع الاجتماعي لكونهم لا يحملون جنسية الوالدة أو الزوجة. أو الحياة خارج حدود بلادها في وطن زوجها وأولادها في تبعيتهم لجنسية الأب.
وسنلاحظُ مدى صعوبة هذا الوضع للمرأة المصرية المتزوجة من غير المصري في حالات عديدة. خصوصًا فيما يتعلقُ باستقرار أسرتها. فستجدُ نفسها في حالة زواجها من غير المصري أمامَ مصاعب مالية عالية لتأمين استقرار أولادها في الدراسة والعمل في وطن أمهم، الذي يجب أن يكون أيضًا وطنهم الثاني، والذي قد يكون في حالاتٍ عديدة وطنهم الأول. هذا عدا مشاكل الإقامة والملكية، وعدا مصادرة حقهم في اختيار حق الانتماء لوطنِ الأم تحديدًا.
وهذا الوضع غير المتساوي يضعُ المرأة المصرية المتزوجة من غير المصري في تناقض بين حقها في حياة أسرية مستقرة وبين حقها في الحياة داخل أرض الوطن (لو أرادت هي وزوجها ذلك). وهو تناقضٌ مجحفٌ لحقها الدستوري في المساواة كمواطنة.
أما بالنسبة لقوانين الأحوال الشخصية، وهي من أكثر القوانين التي يتم فيها معالجة قضايا المرأة بعلاقتها بأحكام الشريعة الاسلامية. فسنلاحظُ أن الأسس القانونية لصياغة هذه الحقوق قد اختلفت وتنوعت في صياغاتها المختلفة منذ عام ۱۹۲۱ حتى الآن.
وكان أصحاب الصياغات في كل مرحلةٍ يعتمدون على الشريعة الإسلامية كمرجع أساسي لهم في الحكم، ولو اعتمدنا قراءة القوانين المختلفة في كل مرحلةٍ من هذه المراحل، فسندهش من كمية الفوارق الكيفية في التفسير لحقوق المرأة. وفي رأيي أن المحك الحقيقي والفعلي لصياغة هذه – القوانين وظلمها أو عدالتها كان ينبعُ أساسًا من القيم المهيمنة على أذهان كُتابها.
ولذلك فسنجد أن أي محاسبة دقيقة لتطور هذه القوانين يجبُ أن تنبع أولاً من حكم العقل، وثانيًا من ضرورة حق المرأة – كمواطن – في المساواة مع تطور المجتمع الإنساني نفسه.
كما سنلاحظُ عند دراسة تطبيق قوانين الأحوال الشخصية وجود جملةٍ من التناقضات والمشاكل المتعلقة بطريقة تطبيق هذه القوانين، ففي نفس الوقت الذي يتم فيه الاهتمام بصياغة قوانين الأسرة والمرأة على أساس عملية التقدم الاجتماعي الذي طرأ في القرن الأخير، نجدُ أن هنالك إصرارٌ على الاستمرار في ترسيخ جملة من القيم التي لم تعد تنسجمُ مع التطور الإنساني والقيمي، لا للمرأة المصرية فقط، بل وللرجل المصري أيضًا. وفي أن هنالكَ درجة من القصدية في التعسف في فهم الشريعة والإمكانيات المتاحة بداخلها في التفسير. وسأعطي هنا بعض الأمثلة الجزئية للتدليل على المنطق في هذا الجانب. فعلى سبيل المثال لا الحصر، سنجدُ أن الشريعة الإسلامية تعطى للمرأة حقًا باشتراط العصمة في يدها أثناءَ توقيع عقد الزواج، بما يستتبعُ ذلك من إعطاء المرأة حقًا مساويًا للرجل في الطلاق في حالة استمرار الزواج. كما أنه يُعطى للمرأة القدرة على مواجهة أي ظروفٍ تعسفيةٍ يُمارسها الرجلُ على حياتها. وأعتقدُ أن هذا الحق المعطى شرعًا ومع تطور ونمو الوعى النسائي بالتساوي في الواقع الفعلي للحياة. أصبح هو الحق المنسجم فعليًا مع معطيات هذا العصر عن الشكل السائد سابقًا.
وبالرغم من شرعية هذا الحق، فإنه يتم في الصياغات القانونية طمسه بدلاً من التأكيد عليه وتثبيته، وبدلاً من دعوة النساء للتمسك به كحقٍ منصفٍ لهن.
وأعتقدُ أنه لترسيخ مثل هذا الحق في الصياغة القانونية تبعاتٌ هامة في حل جملةٍ من المعضلات التي تواجه المحاكم الشرعية يوميًا للحكم فيها حول أشكال العسف التي تواجهها المرأة المصرية في العلاقة الزوجية، كما أنها ستدفعُ بالمرأة لتحمل مسؤولية وتبعات موقفها. وهذا يساعدُ على خلق نساءٍ ذوي إرادة مستقلة. ومن الأجدى لحل مشاكلَ الأسرة المصرية أن توضع أسسٌ ديمقراطية لحل قضايا العائلة بدلاً من الاعتقاد السائد بأن وجود طرفين ذوي رأي في العلاقة سيؤدي إلى تفكك العائلة، خصوصًا أن الواقع اليومي للمشاكل العائلية في مصر يُثبتُ أن النسبة الأعلى للمشاكل متواجدة بين الفئات الأقل وعيًا بالأسس الديمقراطية في بناء الأسرة، والتي تعتمدُ على القيم البالية في فهم حكم الرجل داخل العائلة، وحقه في الطلاق وفي الزواج من أربعٍ، وحقه في تأديب الزوجة وغيرها من القيم التي يأبى مطلقًا أي إنسان متفتحٍ، رجلاً كان أم امرأة، أن ينحازَ لها. لكونها قيمًا ظالمةً لإنسانية الطرفين في العلاقة.
وكمثال آخر في قوانين عقود الزواج، سنجدُ أن الزواج يُعتبر شرعًا عقدًا، والعقدُ شريعة المتعاقدين بما يعنيه من إمكانية وجود شروطٍ للعقد، تكونُ شريعةً يقومُ عليها هذا العقد من قبل الزوجة والزوج. وفي هذا الظرف يحق للزوجة وضع أي شروط تعتبرها ملزمة لاستمرار العقد، على أن لا تتعارض هذه الشروط مع النص القرآني الصريح. وفي حالة تخلى الزوج عن أي من هذه الشروط يحق للزوجة طلب الطلاق على اعتبارها ضررًا واقعًا عليها.
وتواجهنا نفس المشكلة فيما يتعلق بحق الخلعة الذي يُعطى المرأةَ المسلمة حق الطلاق في حالة إقرارها بالتخلي عما لها من مالٍ لزوجها في مؤخر الصداق وكافة الحقوق المكملة.
وبعد ذلك.. هنالك العديد من القوانين التي لم أتطرق إليها في هذه القراءة السريعة. خصوصًا أن هذا الطموح يحتاجُ إلى دراسة شاملة ووافية لا تحتملها هذه الصفحات. والقصدُ من كتابتي لهذه الصفحات هو محاولة التعرف على بعض المشاكل المنهجية في تعامل القوانين مع أوضاع المرأة المصرية ضمن إطار الدستور المصري الحديث.
وسنجدُ أنه حتى في هذا الحق الجزئي لإمكانية إعطاء الزوجة حق وضع الشروط، يتم طمسه إلى الدرجة التي أصبحت فيها هذه المحللات شرعًا في حكم المحرم على المرأة المسلمة عرفًا.
وذلك بالرغم من أن الشريعة قد أعطتها للمرأة كحقوقٍ مطلقةٍ في حالة الاتفاق مع الزوج.