المرأة المصرية في عهد محمد علي
تاريخ النشر:
2010
عرض:
المرأة المصرية في عهد محمد علي
“المرأة المصرية في عهـد محمـد عـلى – رسـائـل صـوفيـا لـيـن بـول مـن القـاهرة” أو كتاب“المـرأة الإنجليزية في مصر“، هـو كـتـاب مـن الحـجـم المتوسط، يقع في 272 صفحة، ومزود بمجموعـة مـن الرسومات حول أزيـاء النـساء المصريات، أصدرت دار“عـين” للدراسات والبحـوث الإنسانية والاجتماعيـة، الطبعـة الأولى منـه عـام 2009، والكتاب يتفوق على غيره من المصادر الأخـرى نـظـرًا لغزارة معلوماتـه التـي جمعت نتيجـة مـشاهدات الكاتبة الشخصية، فحاز على قبـول القارئ الإنجليزي، حين طبع للمرة الأولى في لنـدن عـام 1884. وقد نجحـت“عـزة كـرارة” في هـذه الطبعة الجديدة في أن تخوض بنـا بـحـمـاس وشغف وصبر مترجمة محترفة، في جزء مـن التـاريخ الاجتماعـي المـصـرى في القرن التاسـع عـشر، وهـو جـزء أوشك أن يندثر، حيـث لم تكتف“عزة كرارة” بترجمتهـا للكتاب، بـل بتنقيحـه أيـضًا، والمقصود بتنقيحـه هـنـا هـو اهتمامها بكل مفرد لغـوى وبأحـداث نقلتهـا لـنـا صـوفيا، مثـل إشـارة صوفيا إلى“مسجد الحسنين“،وتشير في الحاشية إلى أن الحسنين همـا الحسن والحسين، فلجأت“كـرارة” إلى الجبرتي والمقريزي اللـذيـن يـشـيران دائمًا إلى“مسجد الحسين“، ثـم طـرحـت“كـرارة” تساؤلها عـلى المتخصصين، وهكـذا، فقـد اهتمـت بـالحواشي، والرجوع إلى مؤرخين معاصرين للفترة الزمنيـة المرصـودة بالكتاب، واستشهادها بـآرائهم وعلى رأسـهـم الجـبرتي، والمقريزي، وكذلك المهتمون بتلك الحقبـة، فـضـلاً عـن محاولتهـا طـلـب المساعدة مـن أسرة“صـوفـيـا بـول” والسفر إليهم، اهتمامـًا منهـا بكـل حـدث تناولته رسائل“صوفيا بول“.
في بدايات القرن التاسـع عـشـر كـان وما زال“الحريم” خاصة،والشرق عامة، محط اهتمام الرحالة الأوروبيين، من أمثال المستشرق المعروف“ادوارد لين“، الذي تعلم العربية وتحدث العامية المصرية بطلاقة، مما ساعده على التقـرب مـن الباب العالى ورجـال الطبقـة العليـا والمتوسطة، ومعرفـة مـا عـجـز عـن معرفتـه غـيـره مـن المستشرقين،الذين زاروا مصر، وكتبوا عن حياتها الاجتماعية.
مـن المعـروف عـن“ادوارد وليـام لــين“، أنـه ولـد عـام 1801، في هيرفورد، إنجلترا، كان أبـوه مـن رجـال الـدين، التحـق عـام 1814 بإحـدى مـدارس مدينـة بـاث، تفوق في الرياضيات، ودرس النحـت،ثم انتقل للعيش مع أخيـه ريتشارد في لندن، ثـم اعتلـت صحته، فسافر إلى مصر للمرة الاولى 1825،للبحـث عـن الـشمس ودفئهـا، وظـل لمدة عامين ونصف العـام، عـاش في الإسكندرية والقاهرة، واختلط بالمصريين، وتعلم العربية عـلى يـد الـشيخ محمود عيـاد الطنطاوي، دون عادات وتقاليد المصريين، وكـل مـا لاحظـه، ورجع إلى بلده إنجلترا عـام 1828، وكانـت كـل أمنيتـه نشر كتاب“وصـف مـصـر“، الـذي كتبـه علمـاء الحملة الفرنسية عـن مـصر، وبعـد أن وافـق الـنـاشر“جـون مـوراي“، تراجـع ونـصـح” لين” بـأن يتوسـع في أحـد فـصـول الكتـاب، ويـزود عليـه،فأخـذ” لين” باقتراحـه وعـاد إلى مـصـر لجمـع مـزيـد مـن المعلومات، وفي عام 1836، نشر كتابـه“أخـلاق المصريين المعاصرين وعـاداتهم“، ورغـم كـتـابـات“ادوارد لين” وتخصيـصـه فـصـلاً مـن كـتابـه عـن حـيـاة المـرأة في منزلهـا وملابسها، وزينتهـا، فـإن معلوماتـه كـانـت غـيـر وافيـة،“لأنها مستقاة مـن غـيـره مـن الرجـال وليست مشاهداته الشخصية” (ص4)، فقـد كـان“الحـريـم الـعـالي“، المتخم بالنساء المترفات محظورًا على أي أجنبي أو حتى رجـل لـيـس مـن ذوى القـربي، وبالتالى ظلت أسـوار الحـريـم عاليـة وصعبة الاختراق أمـام” لين“، وفي رحلته الثالثة إلى مصر في عـام 1842،اصطحب معـه أختـه“صوفيا” وولديها؛ بالإضافة إلى زوجتـه“نفيسة“، وهي جاريـة مـن سـبايـا حـرب“المـورة“، نشأت في مـصـر أهـداهـا إلـيـه أحـد أصدقائه،وعهد إلى أخته بـاختراق عـالم الحـريم المجهول، لكي تملأ الفراغ الذي ظهـر في كتابه، وتسجل كـل مـا تقـع عـلـيـه عيناهـا في كـل مـرة يسمح لها بدخول الحرملك، والاختلاط بتلك الكائنات الأسيرة وراء أسواره.
ولما كانت“صوفيا” كاتبة غير محترفة ولم تتعـود هـذا النـوع مـن الكتابـة الفنية، فقد اقترح عليهـا أخوهـا أن تتخيـل نفـسها تكتـب خـطـابـات شخصية إلى صديقة لهـا في إنجلترا تصف لهـا حياتها في القاهرة، وحيـاة نسائها في أماكن تجمعهـا مـن حرملك وحمامات عامة، وحفلات الزفاف، وحين زالت رهبـة الكتابـة عـن“صوفيا” وبدأت تدون مشاهداتها في سلسلة مـن الرسائل إلى صديقة“وهمية” نشر” لين” مشاهدات أختـه تحـت عنــوان“ســـــــيدة إنجليزيــــة في مـصـر: رسائل مـن القـــاهرة“. لم تكـن“صوفيا بـول” أولى النساء الرحالات اللاتي أتين إلى الشرق وكتـبـن عنـه، بـل سبقنها الكثيرات، مـن الثـائرات عـلى مجتمعهن ومثلن“روح التجديـد” التـي طـغـت على المجتمع الأوربي مـع الثورة الصناعية الكبري، و تأثر بها المجتمع الإنجليزى إجتماعيًا، حين اكتسبت“المرأة العاملة” استقلالاً ماديًا لم تحظ به“سيدة” الأوساط العليا، التـي لـيـس لديها سـوى الـعـيش في ظـل رجـل يـعـولهـا في مقابـل أن تبلغ الكمال الـذي يريده، ليس عليهـا أن تعمـل أو حتى تمارس رياضـة بدنية، بـل قـراءة الأدب وزيارة الصالونات، حتى أنه لم يكـن لهـا الحـق في الملكيـة الخاصـة؛ زوجهـا فـحـسـب مـن لـه حق التصرف المطلق فيها وفى ميراثها، فـكـان مـن الطبيعي ظهور تلك الفئة من النساء الرحالات الثائرات عـلى حـيـاة الرفاهية، والتبعية، فانتقـدن مجتمعهن الـذي لم يختلف فيـه وضـع النساء عنـه في“الحـريم الـشـرقي“، وحاولن البحـث عـن ذواتهـن، فكانـت الكاتبة“هاريـت مـارتنو“، التي اهتمت في كتاباتها بالاقتصاد السياسي والاجتماعي،“ترى في“الحريم“، نوعًـا مـن العبودية، وأن تعـدد الزوجـات مـهـين لكرامـة المـرأة. وأن مثـل هـذه الحيـاة تبعـث عـلى الـكـسـل الجــسمـاني والعقـلي“. (ص 9)، و” فلورنس نايتنجيل” التي كرست حياتهـا للتمريض والرفـع مـن شـأن تلك المهنة المحتقـرة آنذاك، أمـا الكاتبة“ايميليا ادواردز“، فقد رأت في الآثـار المصرية تراثًا للبشرية، ونجحت في تأسيس أول كرسـى لـتـدريس علـم المصريات في بريطانيا. أمـا“صـوفـيـا بـول“،فلـم تـكـن مـن هـذه النوعية مـن النساء، بـل مثـالاً للمرأة الإنجليزية العادية، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، خاضعة لـ“أصـول اللياقة التي يفرضها المجتمـع عـلى المرأة المهذبة الصالحة“. (ص 10)
اعتمدت“صوفيا” بعـد كتابـة مـشـاهداتها عـن مـصـر و“الحـريـم الـعـالي” في كتابهـا“سيدة إنجليزية في مصر“، على اسـم أخيهـا حـين ذكـرت عـلى الغلاف أنـه بـقـلـم“أخـت أدوارد لين“. تعلمت“صوفيا” مـن أخيهـا أن ترصـد وتلاحظ كـل مـا هـو مـهـم وطريف وعجيب، تطـوف القاهرة فوق حمارهـا، ملتفحـة بـ“التزييره“، التي لا يظهـر منهـا سـوى عينيهـا، ترصـد وتـسجل في ذاكرتهـا ثـم عـلى الـورق، في رسائلها إلى صديقتها الوهمية، فوصفت“صوفيا” القاهرة في أربعينيات القرن التاسـع عـشـر مـن وجهـة نظـر امـرأة غربيـة، الشوارع بمــا تحتويـه، الأسواق، والمساجد، والمارستان، والقلعة، حتـى المقابر، والمواكـب العـامـة والخاصـة التـي تـطـوف بالعاصمة، وأهمهـا موكب المحمل.
في القاهرة انطلقت“صوفيا“، ترصـد وتنقـب حـول كـل مـا رأتـه طـريفـًا غـريبًـا مـن: عـادات، تقاليد، أماكن، مبـان، واحتفالات، لم تكتف برصـد الحـدث، وتسجيله، بـل بحثت في العـلـل والأسباب، وأصـل الأحـداث، والحكايـات، معتمـدة عـلى كـتـاب أخيها“ادوارد لين“، تـارة، وتحقيـق روايـات أهـل الثقـة، تـارة أخـري، فهـا هـى تـرى في موكب المحمل“رمزًا للملك، ولا يحتـوي عـلى شـيء“، لا غطاء ولا كسوة جديـدة مـن أجل الكعبة، وأن أصـل الحكاية، هو أن“شجرة الـدر“، قامـت بـأداء فريضة الحج في هودج يحملـه جمـل،“ولعـدة أعـوام بعـد ذلـك كـان هودجهـا الخـالى يرافـق قافلـة الحـج كرمز للدولة” (ص 63)، وتبعهـا بعـد ذلـك أمـراء ومـلـوك مـصر، إرسال الهودج كرمـز للسلطة.
أمـا في شوارع القاهرة، فقـد امتطـت“صوفيا” حمارهـا، لتـصـف الشوارع والمباني والمحال التجارية، ووسائل المواصلات والدروب، ولا تنسى المقاهي، التي زادت على الألف، ولا تقـدم بـهـا سـوى القهـوة، ويحـضـر الـرواد معهـم النرجيلـة والطبـاق، فضلاً عن حركـة النـاس، خاصـة النساء، وملابسهن عنـد الخـروج مـن البـيـوت، فقد ارتـدى الفقـراء سـواء الـرجـال أو النساء“الجلباب الواسع المصنوع مـن القـطـن أو التيـل“، والبرقع الأسـود للنساء، مزينًـا أحيانًا بالعملات وحيبات الحـرز، فـيمـا نـسـاء الطبقة الراقية، يرتدين خمارًا فضفاضًا من الحرير فوق الفساتين الفاخرة، فضلاً عـن الحبرة،والبرقـع مـن القــاش الرقيـق الابيض، الـذي يـصـل مـن العينين إلى قـرب القدمين، ممتطيات الحمير لصعوبة التجول سيرًا على الأقدام.
تحدت“صوفيا” مخاطر زيارة المساجد، كونهـا أمـرأة أجنبيـة مسيحية، وتجولت بمساعدة صـديـق قـديـم لأخيهـا، وطافت بمساجد القاهرة، نصف معـمارهـا، وخشوع المصلين بها، مسجد الحسين، وابـن طـولـون، وكذلك السلطان قلاوون، والجامع الأزهر، متجولة بين الأروقة، بين الرواد مـن الطلبـة المصريين، وغيرهـم مـن طلبـة العلم مـن شـتى بقاع الأرض، شاعرة بالفخر،“حينما أفكـر في كثرة الحوائل الجسيمة التـي تقابـل الـشخص المسيحي، وبالذات السيدة المسيحية لـدخـول هـذا المسجد الشهير، أشـعـر بـالفخر لأننـي تمتعـت بـميـزة التجـول المتمهـل بـيـن أروقته المديـدة وملاحظة طلبته من مختلف الأجناس وهم يتلقون الدرس على أيدى أساتذتهم“.
مـن مغامرات“صوفيا” كانت زيارتها للمارستان، أي المستشفي، التي أسسها السلطان قلاوون، ضمن مجمـع ثلاثـي مكـون مـن ضـريـح، ومسجد عـام 683 هجرية، وتم وقف الكثير من الأموال عليهـا. كـان المستشفى لعلاج المرضى وكذلك لاحتجاز المرضى العقليين، وفـيمـا سبق زيارة صوفيا بوقت طويـل كـانـت هناك فرقة موسيقية، ومجموعة من رواة القصص للمرضى وتسلية المصابين بالاكتئاب والقلق.
کما اهتمـت صـوفيا برصـد طـبـاع المصريين خاصـة في الطبقـات الـدنيا، رغـم فقـرهـم فـهـم مبـذرون، ويتجلى ذكـاؤهم عنـد إقامة حفلات الزفاف، يقترضـون المال ويقيمون الولائم، على أمل تسديد ديونهم من هدايا المدعووين.
بالنسبة لـ“صوفيا” كانـت زيارة الحـريـم، هـي مغامراتهـا الكـبري، وأمنيتها المفضلة،“إننـي فعـلاً مهتمـة جـدًا بملاحظـة سـلوك سيدات هـذا البلد” (ص 101). وبالفعـل تسـاعدها صـديقة في زيارة حـريم أسرة حبيب أفنــدي،حـاكـم القـاهرة السابق.
كان هدف“صوفيا” الأول هو رصـد كـل مـا يخص الحـريـم كـنظـام حـيـاة اجتماعي، وتقاليد متبعـة، وأيضًـا مـشـاكل. وحتـى تـتـم إنجاز مهمتهـا التزمت“صوفيا” التزامًـا صارمًا بتقاليـد مـضيفيها، لا مجال للنقـد، بـل استفسار مهـذب مـن أجـل المعرفة، ومراعـاة لمشاعر مستضيفيها، دون التفريط في حقوقهـا، كسيدة إنجليزيـة خــلال زيارتها للحـريـم العـالي كانت صوفيا ترتـدى الـزي الأفرنجي بدلاً من التركي الـذي ترتديـه عـادة في المنـزل وخارجه، حتى” تحظى باحترام أكثـر“، وتتحـرر مـن قـيـود الامتثال لـعـادات لا تتفـق معهـا، وهـي ظـاهرة لاحظهـا غيرهـا مـن الرحالة، وتبين تغييرًا واضحًا في النظـرة التي طرأت على المجتمع المصري، بالنسبة للأجانب، كمـا أنها تعكـس وجهة نظر“محمـد عـلى” وسياسته الخارجيـة، مـن انفتاح عـلى الغـرب؛ فحظت“صوفيا” بـاحترام بالغ حينها زارت“«الحـريـم الـعـالي” بملابس أوربيـة، على عکـس“نفيسة” زوجة“ادوارد لين” فهـي لا ترافـق“صوفيا” في زياراتهـا، فـرغـم مكانتهـا، آنذاك، لا تعـدو أن تكـون الجاريـة السابقة التـي تبـاع وتشترى في سـوق العبيد، وعلى هذا فمن غير اللائق أن تجلس مع الأسياد.
رغم صرامة وعزلـة النساء في الحريم، عبرت“صوفيا” عـن ارتياحهـا تجـاه نـظـام الحريم لما وجدتـه مـن رضـا النساء الشرقيات بـه، مع اعترافهـا بوجود حالات نادرة في مؤسسات الـزواج تسمح بتحويـل الزوجـة إلى جاريـة لزوجهـا إذا كـان طاغيـة،” لكنى مرتاحـة لما أراه مـن أن السيدات الشرقيات راضيات، وأجـدهـن بـدون استثناء واحـد في نطـاق مـعـارفي، مرحـات، منشرحات الصدر مما يؤكد لى أنهـن يعاملن معاملة حسنة” (ص 111)، صحيح أن آبـاء وأزواج نساء الطبقـة الـوسـطي، يتذمرون مـن خروجهن للتسوق لكـن لهـن مـطلـق الحرية في الزيارات المتبادلة والذهاب إلى الحمام، وأن“الحصار أشـد” عـلى نساء الطبقـة العليـا، اللاتي يتبـاهين بـذلك الحصار ويرونه دليلاً على الحب.
تحدثنا“صوفيا” في إحـدى رسائلها عـن التقاليد المتبعـة في الحـريم، عـن المعاملة الحسنة التي يتلقاهـا العبيد والجـواري مـن أسيادهم، واعتبـارهـم جـزءًا مـن العائلة، وكـان مـن المتعارف عليـه أن حـسـن سـلوك الجارية، يجعـل سـيـدها يختـار لهـا زوجًا محترمـًا، ويكـون هـذا الـزواج مـدعاة فخـر للجاريـة وامتنان. وفي الحـريـم يـقـام لهـا الزفاف، وتفـرش لهـا أرض الحرملك بالكشمير لتسير عليهـا كــما تـستأجر المغنيـات والراقصات،“وتحيط بـالعروس فتيات يحملـن المبـاخر وينثـرن العطـور” (ص 113). کما تروى صـوفـيـا عـن الـزواج والطلاق، وأن في الـزواج لا فرق بين جاريـة وحـرة، وفى كل الطبقات لا يؤخـذ رأى الفتـاة عنـد تزويجها، وتربى طوال حياتهـا في بيـت في انتظار أن يسلمها أبوهـا إلى زوجهـا الـذي لم تكـن تعـرفـه مـن قبـل، كــما أن الفتـاة تـثـق في هـذا الاختيار، وفي بعـض الأحيان لم يكـن الرجـل يـتـخـذ زوجـة ثانيـة، واكتفـى بالمحظيات!! لكـن صـوفـيـا تـرى حـال الجـواري أفـضـل مـن الزوجات اللاتي يعشن في خوف دائم من الطلاق، فمـن الـعـار بـيـع الجارية، ويعتبر دليلاً على ضائقة مالية، وإذا أنجبـت فـلا يجوز بيعهـا بـحكـم القـانون، کما روت“صوفيا” عـن بعـض المشكلات الاجتماعيـة مـثـل الـعنـف والقسوة تجـاه الزوجـات أو الجـواري، خاصـة بـيـن أفـراد الطبقات الوسطى والدنيا،” فإن معاملـة الزوجات والجواري،يتـسـم عـادة بالوحشية المتناهية، فكثيرًا مـا تتعرض الزوجـات للضرب المبرح، بيـنما قـد يـؤدى الضرب في حالات ليست بالقليلـة، إلى مـوت الجارية!” (ص 149). فضلاً عـن مـساوئ الـزواج المبكر خاصة بين أفراد الطبقـات الـدنيا، ومـا يـسببه مـن مشكلات خاصـة عنـدمـا يكـون الفارق في السن بين الزوجين شاسعًا، فيتحول الأزواج إلى طغاة مستبدين.
بالإضافة إلى ذلـك اهتمـت“صوفيا” بالحجـاب وأكـدت انـه ليس مقصورًا عـلى النساء المسلمات فحسب، بـل المسيحيات أيضًا، مما يدل عـلـى أنـه مـرتبط بالثقافة الاجتماعيـة السائدة، آنذاك، التـي تـرى في الحجـاب نـوعًـا مـن العـفـة أكثـر منـه فـرض ديني، فنساء البـدو لا يهتممن بتغطيـة وجـوهـهـن أمـام الخـدم وذوي القربى، كما أن كثيرات منهن“لا يتحـرجـن مـن مقابلـة الغربـاء دون حجـاب” (ص 178)، حيـث أكـدت صوفيا“النساء العفيفـات أعـم بكثير في أوربا المسيحية منهن في الحريم الشرقي” (ص 178)، وعـابـت عـلى الحـريـم انتشار الابتذال،والميل إلى الخلاعـة في الملفظ أو المسلك، ولكنهن تعـودن فيما بينهن استخدام أسلوب في الحديث يبدو لنا غاية في الابتذال يستعملنه بكـل بـساطة في حضرة الرجال، وهـذا في اعتقادي هـو مـن أسوأ آثار نظام الحريم” (ص 178).
رغـم حـيـاة الـكـسـل والرفاهيـة للنساء في الحـريـم، فإنهن سـعين لشغل وقتهن ببعض الأعـمال مـن بـاب الرفاهية، مثـل الإشراف عـلى الخـدم والمطبخ، والتطريز، فضلاً عـن صـنـع أنـواع مختلفـة مـن الـشراب، المصنوع مـن الـسـكـر وأنـواع مختلفـة مـن الورود والأزهـار، كما أن بعضهن تعلمـن الـقـراءة والكتابة، بـل اهتممن بالسياسة، والصراع الدائر بين امبراطور روسيا والسلطان العثماني، أو العلاقة بين“محمـد عـلى” وإنجلترا وفرنسا.
في وصـفها لنظـام الحـريـم شـبهته“صوفيا“، بالدويلـة الـصغيرة تحكمهـا الـسيدة الأولي، التـي لهـا مساعدات، وموظفات، في سلطة تراتبية، تبـدأ بالسيدة الأولي، وهـى أم رب الأسرة، وان كانت متوفـاة،تكـون الأخـت،أو الزوجـة، فضلاً عـن ترتيـب الزوجـات حـسـب“إيثـار الـزوج لهـن“، أمـا الجـواري فـكـن يـصنفن إلى مساعدات وموظفات، وخادمـات وطـهـاة، حسب اللون والعرق، فكانـت الجـواري الـسـود يقمـن بالأعمال الدنيا، في ظـل نـظـام مراقبة صارمة، كمــا خضعت الفتيات الصغيرات لنظـام أشـد صـرامـة مـن نـظـام الأديرة، والموت في الغالـب هـو عاقبـة الخـروج عـن تقاليـد الحشمة.
بعـد أن تجولت“صوفيا” في الحـريـم الـعـالي سـواء في القلعـة أو في قصر الدوبارة، دعيت إلى الاحتفال بـزفـاف“زينب” صغرى كـريمـات محمـد عـلي، وسمح لهـا بمفردها أن تتأمـل المجوهرات والتحـف الثمينـة التـي أهـديت للعـروس، أمـا سبب هذه الحظوة، فلأنها أخت الكاتب الكبير الـذي قابـل البـاشـا مـرات عـدة ليكتـب عنـه، وكـان“محمد عـلى” يحرص على أن يبـدو في أعـيـن الغـرب بـصـورة مبهـرة تظهـره مجددًا وعصريًا، في حين حرصت“صوفيا” على أن يكون وصفها لأسرة الباشا مجمـلاً دون تفصيل دقيق، وذلك مراعاة لأصـول اللياقة، كما تشيد دائمًا بفضل محمـد عـلى وتمتدح تسامحه الديني واستتباب الأمـن تحـت ولايتـه. شـاء حـظ الـسيدة“صوفيا لين” أن تشهد احتفالات عرس صغرى بناتـه“زينـب هـانم“، التي استمرت ثمانيـة أيـام وليـال، فقد تلقت“صوفيا” الدعوة إلى العرس قبـل يـومين مـن الموعـد لـبـدء الاحتفالات وهى الثامن عـشـر مـن ديسمبر 1845 فتوجهت بصحبة صديقتها“ميسز ليـدر“، وسارتا في الطريق إلى القلعـة وقـد زيـنـت بعـدد لا حـصـر لـه مـن الـزينـات الزجاجيـة الجديـدة المعلقة في فروع الأشجار وكأنهـا فاكهة. حتى إذا صعدت التـل ووصلت إلى مـدخل القصر: وجـدت سـائـر الحـريـم الـذي لا يتخطـاه أي رجـل سـوى سـيـد القلعـة. واستقبلهـا جـيـش مـن الأغـوات والجـواري السود، فلمـا دلـفـت وجـدت سربـًا مـن الجـواري البيض صـحبنها إلى الصالون العلـوى الكبير حيـث كـانـت العـروس جالسة فوق مجموعـة مـن الـوسـائد المطرزة بالذهب. وبجوارهـا أخوهـا الأميــر محـمـد عـلى أصغر أولاد الباشـا وهـي في سن الثانيـة عـشرة، وعـن يـسـارها وقفت أختهـا الأميرة“نظلة” زوجة محمد بك الـدفتردار، وأكـبـر بـنـات الـوالي، وهـي تبـذر وابـلاً مـن العملات الذهبية والفضية المخلوطة بحبات الملح والشعير لدرء عين الحسود. وتزاحم النسوة لالتقاط العملات الذهبية، وبعـدهـا غـادرت العروس الصالون مثقلـة بـما ترتديـه مـن ذهب ومجوهرات. وصاحبتها الجـواري بالدفوف وصيحات الزغاريد. ولاحظت“صوفيا” مسحة مـن الحـزن العميـق تـكـسـو وجـه الـعـروس، وقيل إنهـا أرغـمـت عـلى الزواج من رجل لا تعرفه وهو“أحمـد كـامـل بـاشـا” سكرتير الـوالي، وقد خصص لهـما الأب قصر الأزبكية ليكـون مـسكنًـا لهـما بعـد أن زوده بكـل وسـائل المتعـة والبـذخ. ولكن كل ذلك لم يزل الحزن من نفس الأميرة.
إن أهم ما تضمنته تقارير صـوفـيـا عـن الـزفـاف هـو وصفها لكنـز المجوهرات التي أهـديت إلى زينـب هـانـم. ويبدو أن أم العـروس كـانـت تـشـعـر بـشغف تلـك الـضيفة الأجنبية لرؤية مجوهرات ابنتها، وبدأت بالهدايا التي قدمت إليهـا مـن عنـد العـريس، وفي غرفـة مجـاورة رأت صوفيا أشياء كثيرة نفيسة وجميلة، مـن مجوهرات وملابس وأطقم فضية، وبعد أن أبدت صوفيا إعجابها بهذه الهدايا النفيسة، قيـل هـا إن“نظلة هانم” قـد أمـرت بأن يـكـون لها شرف رؤية مقتنيات العروس الشخصية المحفوظة في غرفة أخري، حيث أمكنها أن تمسكها في يدها وتمعن النظر في الحزام الماسي الذي أهداه الباشا لابته،” كانت الجواري يتبارين في تقديم جميع الأشياء لأتطلع إليهـا وكان السؤال دائمًا:”هل رأيـت هـذا؟” و“وهـل تفحصت ذاك“. وكان كل شيء في الواقع رائعًا بدرجة تفوق أكثر تطلعاتي“. ووجدتهن يحطـن بنـظـلـة هـانـم التـي جـلـست في منتصف الـديوان العلـوى تهيمن عـلى المراسـم وبعـد قـلـيـل قـامـت سـموها وتبعتهـا جاريتان تحملان ذيل فستانها وقادتنـا إلى صالون آخـر لتناول طعـام العـشـاء لمائتي شخص بطريقة أوربيـة كـاملـة، وليس فيها شيء يوميء لنـا بالشرق سـوى ثـمار المـوز، فالأطبـاق والـشـوك والسكاكين وفوط المائدة منسقة على الطريقـة الأوربيـة، بداخل كـل منهـا الخبـز كمــا نفـعـل في أوربا، وكـان الـعـشاء يتكـون مـن وجبـات بـاردة“. تلا العشاء الموسيقى والمقطوعـات المرحـة، ثـم شـاهـدن عــددًا مـن الـعـروض الراقـصـة مـن فتيات تركيات وأوربيـات، ثـم دخـلـت امرأتـان مـن” العوالم” المصريات وتعتبران أحـسـن مطـربتين في مصر.. وعزفت الجوقة بعـض الألحـان العربيـة الجميلة ولكـن العالمتين لم تصاحباها بالغناء، بل قامتـا بـالرقص على الطريقة العربية.”إن الحـريـم عـالم النساء تقضى فيـه الكثيرات حيـاتهن منـذ نعومة أظفـارهن، إنـه مـسـرح لأفراحهن وأحزانهن، لسعادتهن وهمومهن، وليس لديهن فـكـرة عـن عـالـم آخـر أوسع خارجه ولا يتوقعن سوى الانتقال إلى حريم أزواجهن“. (ص 123 ).
سواء اتفقنـا أو اختلفنا مع“سيدة إنجليزية في مصر“، يكفينـا أنهـا أسست كتابهـا على مشاهداتها الشخصية، وأنهـا شـاهـد عـيـان لأحـوال المجتمع المصرى في منتصف القرن التاسـع عـشـر مـع الاعتراف بغيـاب مـوضـوعيتها في بعض الأحيان، وتعاليهـا على نساء“الحريم” والمجتمع الشرقى عامـة، وكانـت تـرى الحـل في التبشير المسيحي الأوربي، حيث إنهـا انتقـدت المسيحيين المصريين، واتهمـتـهـم بـالتخلف، مثلهـا مثـل غيرهـا مـن الرحالـة الـذين ربطـوا رغبتهم في التعرف إلى شـعـوب أخـرى في الشرق، وضرورة استعـمار هـذه الشعوب، لكنهـا كـانـت عـلى عـكـس كثـيـر مـن الرحالـة الـذكـور في بدايات القرن التاسع عشر والذين انهمرت كتاباتهم على المطابع الأوربية، بحثًا عن الشهرة فكـان مـن السهل الانتحـال والتكرار، واستغلال جهل الأوربيين بالمنطقة العربية وعاداتها وتقاليدها، ومحاولة محاكاة“ألف ليلة وليلة“، المسكونة بالحجاب والحريم، والنساء السجينات. والحال أنّ الرحالة الغربيين، بتركيزهم على الحجاب والحريم، غالبًا ما أخفقوا في فهـم أوجـه حـيـاة النساء الشرقيات، خاصـة اللواتي عـشن في مناطق ريفية، وعـانيـن مـن الفقر، وكـن ينهـضـن بقسط وافـر مـن أعباء العمـل الزراعي، وهو ما يصحّ أيـضًـا عـلى المدن التي اضـطـر فيهـا كثـير مـن النساء إلى العمل بغية المساهمة في زيادة دخـل العائلة. ومـن ثـم، فإن مـا افترضـه الرحّالة الغربيـون مـن أن النساء المحجبات والموجـودات في الحـريـم هـنّ بالضرورة أشـد اضطهادًا وسلبيًة وجهـلاً مـن الـسافرات، قـد أفـضـى بالضرورة إلى أقـوال تنطـوى عـلى مبالغـة وإفراط، مفادها أن النساء الشرقيات أشبه بالسجينات قياسـًا بمـا تتمتع بـه النساء في أوربـا مـن تحرر كـامـل. ولا شـكّ بالطبع أن النساء في كلا المجتمعين كـنَّ يـعـانيـن مـن الاضطهاد بقدر يزيد أو ينقص، لكـن مـا فـات الرحّالـة أن يدركوه هـو مـا تنـطـوى عليـه أوضـاع النساء في هـذين المجتمعـين مـن ضروب التشابه، وذلـك لانطلاقهـم مـن افتراضـات مسبقة مفادها أن أسلوب الحياة الغربي هو أسلوب أرقى بالضرورة.
يعاب على“صوفيا بول” أنها وضعت رسائلها تحت تصرف أخيها، وتركـت لـه تحديـد مـا يـراه صالحًا للنـشـر مـن رسـائلها، وان لم يكـن هـذا مستبعدًا عن شخصية“صوفيا بول“،“وهذه المجموعـة مـن الخطابات المقدمـة مـن اختياره وأخشى أن يظـن القارئ أن عاطفته نحوي قد أثرت في حكمه” (ص25)