المشاركة الاقتصادية للنساء
في ظل السياسات النيوليبرالية
ملخص
ظلت البلدان النامية أو ما يسمى بدول “الجنوب” تدعو وعلى مدى العقود الأخيرة إلى إقامة نظام اقتصادی دولى جديد يحفظ التوازن بينها وما يسمى بدول “الشمال” وفق قاعدة المصالح المتبادلة. وكان من بين أهم المطالب التي ظلت تنادي بها الدول النامية “دول الجنوب” ضرورة إجراء تغييرات جوهرية في سياسات النظام الاقتصادي العالمي الجديد “النيوليبرالي” وأهمية أن تمتد لتشمل هياكله ومؤسساته، خاصة تلك التي تتعلق بنظام التجارة الدولية وضرورة توفير الموارد لتمويل التنمية وتغيرات أساسية لابد أن تطال النظام النقدي الدولي مع إتاحة العلوم والتكنولوجيا والصناعة والأمن الغذائي. ومن هنا كان من الضروري الوقوف على الآثار المترتبة لسيادة مفاهيم وسياسات الليبرالية الجديدة على المساهمة الاقتصادية للمرأة عامة والعاملات خاصة لأن هذه السياسات تشكل في جوهرها انتصارًا جديدًا للرأسمالية العالمية وفتحًا مبينًا لمزيد من الاختلالات الهيكلية التي أدت بدورها إلى تغيرات في موازين القوى بين الدول النامية والدول الرأسمالية عامة.
تشكل المساهمة الاقتصادية للمرأة عاملاً مهمًا في الاقتصاد العالمي، ومجالاً مهمًا واستراتيجيًا لا يمكن التغاضي عنه في إطار الإنتاج وتطوير القوى المنتجة وتراكم الفائض الاقتصادي الذي أدى إلى مزيد من تمركز رأس المال في دول محددة على مستوى العالم، وفى أيدي طبقة اجتماعية محددة على المستوى الوطني، وهذا بدوره أدى إلى عدد من المتغيرات ذات الارتباط بتراجع مشروع “المساواة” ومن هنا جاءت ضرورة الانتباه إلى هذه العلاقات غير المتوازنة وإفرازاتها وانعكاسات سياساتها في المجالات الحاسمة ذات العلاقة الوثيقة بأوضاع المرأة خاصة على مستوى المساهمة الاقتصادية.
تبدأ الدراسة بشرح أهم المفاهيم والسياسات والبرامج ذات الصلة والتي أدت إلى تأثيرات واضحة في المساهمة الاقتصادية، ومن ثم تراجع الخريطة الاجتماعية للمرأة في أغلب البلدان العربية في ظل سيادة وهيمنة مبادئ وسياسات الاقتصاد العالمي الجديد أو ما يسمى الاقتصاد الحر “الليبرالية الجديدة“. ومن ثم ظهور الحاجة إلى سياسات تنموية بديلة تسهم في خلق مجتمع العدالة والمساواة.
تحتوى الورقة على 3 أجزاء كالآتى:
الجزء الأول: المفاهيم
الجزء الثاني: تداعيات النظام العالمي الجديد
الجزء الثالث: نحو سياسات بديلة
1 – 1 المشاركة الاقتصادية للمرأة
1- 1- 1 العمل الرسمي
تشير الاحصاءات الرسمية العالمية الى أن النساء يشكلن 33% من القوة العاملة في العالم وتبين تقديرات قوة العمل التي وضعتها منظمة العمل الدولية أن نسبة النساء المصنفات باعتبارهن ناشطات اقتصاديًا تصل إلى 35% وأكثر في بلدان أفريقيا وآسيا، بينما تنخفض هذه النسبة إلى نحو 20% في بلدان أمريكا اللاتينية. أما في البلدان العربية الأخرى والتي توجد فيها موانع اجتماعية – ثقافية قوية ضد عمل المرأة خارج البيت فإن النسبة تنخفض إلى أقل من 10%(1). كما تشير بعض البيانات إلى أن مساهمة المرأة العربية في سوق العمل على مستوى الإقليم لا تتجاوز نسبة الـ 29% حتى عام 2010 م، ويجعلها هذا الأدنى وضعًا في العالم مقارنة بـ 65% في شرق آسيا التي تعتبر الأعلى و 59% في دول منظمة التعاون الاقتصادي(2). كما يورد تقرير التنمية البشرية لعام 2003م أن معدل إسهام المرأة في النشاط الاقتصادي لمن هن فوق 15 عامًا كنسبة مئوية يصل إلى 32.7% في متوسط البلدان العربية (3). كما تبلغ تلك المساهمة في ساعات العمل في المتوسط حوالي 20%(4).
1- 1– 2 العمل غير الرسمي
لا تعكس الإحصاءات الرسمية العمل الذي تقوم به المرأة فعليا، فالتقارير والإحصاءات لا تعترف بالأعمال المنزلية الروتينية التي تقوم بها المرأة يوميا ولا يوجد لها معيار أو مؤشرات اقتصادية، ولا الأعمال الأخرى غير مدفوعة الأجر مما جعل تسميته بالقطاع غير المنظم أو “الهامشي” أحيانًا بالرغم من أنه ليس هامشيًا والدليل على ذلك أنه يعول أعدادًا مهوولة من الأسر، خاصة تلك التي تكون على رأس مسئوليتها المرأة “Women Headed Households”، وهنا تشير بعض الدراسات أن 80% منهن ينتمين إلى الطبقات ذات الدخل المنخفض والتي ترتفع فيها نسبة الأمية(5). ووفقًا لدراسة أجرتها منظمة العمل العربية على حوالي 13 مدينة عربية تبين أنّ نسبة عمل المرأة في الاقتصاد غير المنظم بلغت 1.30% في تونس، و56 % في المغرب، و25 % في الجزائر، و43 % في مصر(6)، كما تشير بعض البيانات إلى ارتفاع هذه النسبة في السودان لتصل إلى 65 % بسبب الحروب والنزاعات والنزوح إلى أطراف المدن(7).
وفي ظل الأزمات الاقتصادية وتفشي ظاهرة الفقر بدأت المرأة بالإضافة إلى عملها اليومي في المنزل تتجه لإنتاج بعض السلع الغذائية بمختلف الأنواع للدعم المادي والاقتصادي للأسرة، وهي كذلك غير مدرجة في الإحصاءات الرسمية. ومن الأعمال الأخرى التي تقوم بها المرأة ولا تسجل العمل غير مدفوع الأجر في المزارع والحقول الصغيرة إذ أن هناك حوالي 60% من إجمالي الأيدي العاملة النسائية في ريف البلدان العربية يعملن في الزراعة لحساب أسرهن بدون أجر، وأن هذه النسبة ترتفع في دول مثل المغرب لتصل إلى 84%، وفي تونس إلى 74%(8)، أما في السودان فإن ما يقرب من 80% من النساء العاملات في القطاعين الريفي والزراعي عاملات بدون أجر مباشر(9). وإذا أخذنا في الحسبان كل الأعمال التي تقوم بها المرأة في البلدان العربية سواء بأجر مباشر أو بأجر غير مباشر يذهب لصالح الأسرة كلها سنجد أن معدَّل مشاركتها في النشاط الاقتصادي، وخاصة في الريف، تصل إلى حوالي 70% (10).
2 – الاقتصاد الحر “الليبرالي/ النيوليبرالي“
اتبعت غالبية الدول العربية سياسات الانفتاح الاقتصادي وتحرير السوق وخصخصة مؤسسات الدولة الإنتاجية بهدف تحقيق تنمية اقتصادية متكاملة وتسريع وتيرة الإنتاج بهدف زيادة معدل النمو الاقتصادي مما يتيح لها سرعة الاندماج في سوق رأس المال العالمي، ولذلك قامت بسن عدد من التشريعات الاقتصادية، خاصة في مجال الاستثمار بدعوى تهيئة المناخ الجاذب للاستثمارات الأجنبية لخلق مزيد من فرص العمل عن طريق تشجيع القطاع الخاص، إلا أن الشواهد تعكس جملة من تفاقم الاختلالات في سوق العمل مما زاد من نسبة البطالة، خاصة وسط النساء إذ سجلت الدول العربية أكبر نسبة بطالة بين النساء في العالم، إذ يمثّلن 40% من مجموع العاطلين من العمل، مقابل 29% من القوى العاملة، وذلك على الرغم من انخفاض مستوى مشاركتهن الاقتصادية(11). وهذا يطرح السؤال المحوري حول انحياز هذه السياسات إلى طبقة من الطبقات الاجتماعية؟ حيث تعكس هذه السياسات الطبيعة الاجتماعية – الطبقية للدولة وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية، خاصة ما له من علاقة بالإنتاج الاجتماعي وعلاقات الإنتاج وتملك وسائل الإنتاج ومدى استهلاك جميع أفراد المجتمع لهذا الإنتاج، لأن كل هذه المطلوبات لها علاقة مباشرة بموضوع المساواة والعدالة الاجتماعية، ومن ثم الاعتبار الكافي للمساواة في المجتمع والمساواة بين الرجل والمرأة.
مدرسة أخرى تنظر إلى سياسات الاقتصاد العالمي الجديد “النيوليبرالي” بمزيد من الشك والريبة، خاصة في بعدها الاجتماعي حيث ترى بعض الاتجاهات الحديثة في العلوم الاجتماعية أن الاتجاه الأيديولوجي للنموذج الليبرالي الرأسمالي الجديد إنما ينتهي في آخر المطاف بالدفاع عن النظم الليبرالية الرأسمالية غاية التطور وهدفه النهائي هو النظام الاقتصادي الرأسمالي، وهو النظام الأفضل حتى بمدرسته السياسية “الديمقراطية الليبرالية“، وهي كذلك التطور النهائي للعملية السياسية مع افتراض وجود حدود بين المجالات الاقتصادية والاجتماعية. كما أن الواقع يؤكد أن تبني النظام الليبرالي الجديد إنها يعتمد على الاقتصاد الرأسمالي كقاعدة للتحليل وكأساس لفهم عمليات التغير الاقتصادي في البلدان النامية، وهذا ما ذكره “کارل ماركس” عندما كتب في “رأس المال” أن الدول المتقدمة في ميدان الصناعة ترسم الطريق والمستقبل للدول الأقل تقدمًا، وهذا بالضبط ما يعكس وجود هذا المفهوم في إطار تبني سياسات الاقتصاد الحر المطبقة في النظام الرأسمالي العالمي الغربي باعتباره قمة التطور الإنساني وعلى الدول المتخلفة الاقتراب من هذا النموذج الحضاري بغض النظر عن السياق المحلى ومستوى تطور القوى المنتجة وشكل علاقات الإنتاج السائدة التي تعكس مقاربة الوصول إلى الموارد والتوزيع العادل للثروة.
3 – المساواة النوعية
تمثل المساواة النوعية أحد أبرز مفاهيم “النوع الاجتماعي – الجندر” الذي يهدف كإطار تحليلي لإعادة النظر في توزيع الأدوار بين الرجل والمرأة من خلال إعادة توزيع (القوة) بينهما في سبيل خلق (الفرص المتساوية) والمتكافئة للرجل والمرأة علي حد سواء من خلال مفهوم المشاركة والمساواة بين الجنسين وتحقيق العدالة الاجتماعية وبناء دولة المؤسسات، وبذلك يتم تمهيد الطريق لتحقيق المساواة الكاملة القائمة على الحقوق المتساوية في الفرص المتاحة لكل من الرجل والمرأة في الوصول إلى الموارد وإدارتها والتحكم فيها.
كانت أولى الوثائق العالمية التي أقرت الحق في المساواة بين البشر غض النظر عن العرق، الانتماء الاجتماعي أو الوضع الاقتصادي، الجنس، العقيدة المولد أو الرأى السياسي هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 ورغم التقدم التاريخي والحقوق المهمة التي وفرها مبدأ المساواة الرسمية Formal Equality للمرأة، إلا أن هناك بعض السلبيات التي تم اكتشافها من خلال التطبيقات العملية في الدول التي تضمنت تشريعاتها منع التمييز على أساس العرق واللون أو النوع الاجتماعي منذ سبعينيات القرن الماضي(12).
ثم توالت الانتقادات لمبدأ المساواة في صيغته الرسمية التي أوضحت أنه لا يقود إلى النتائج المرجوة في تجسير الفجوة النوعية بين النساء والرجال ولا يعني بإزالة الغبن والعوائق التاريخية التي تمنع النساء من التمتع بالحقوق المتساوية إذ أن جل اهتمامه أي المبدأ الرسمي هو إقرار المعاملة المتساوية غض النظر عن نتائجها وعليه فقد برز المدخل المعاصر Substantive Equality(13)، وهو مدخل جديد يعالج سلبيات تطبيقات مفهوم المساواة الرسمية.
يركز هذا المدخل الجديد على الوصول إلى المساواة الموضوعية أو الفعلية عن طريق:
1 – مساواة الفرص أو الفرص المتساوية Equality of opportunities وهي تعنى تدابير المساواة في الفرص وتركز كثيرًا على إنهاء المظالم وانعدام العدالة والإنصاف في إتاحة فرص العمل وتولى الوظيفة ولذلك تمنح أفضلية للمستهدفين بالتمييز الإيجابي في مجالات العمل، التعليم والتدريب وفرض العمل.
2 – مساواة النتائج Equality of results ومن أبرز الأهداف التي تحكم هذا المدخل تحقيق المشاركة Participation في جميع مستويات وضع السياسات واتخاذ القرارات.
3 – ما بعد مساواة الفرص والنتائج: إدماج النوع (الجندر) في السياسات Mainstreaming ويقتضى هذا المدخل المتقدم اعتماد حزم من التدابير تستهدف كل السياسات التي لها مردود وذات علاقة مباشرة بحياة النساء أيًا كان وضعهن الاجتماعي والاقتصادي وتعمل على مستويات متعددة لتحقيق أهداف متنوعة تكون محصلتها النهائية العمل في تجسير الفجوة النوعية وصولا لتحقيق المساواة الفعلية الكاملة.
وعليه يصبح غياب التحليل القائم على النوع الاجتماعي وعدم تحقيق المساواة النوعية من أهم العوامل التي تقف معيقا بل توقف عملية التنمية لأن إتاحة الفرص الاقتصادية المتساوية للمرأة يقود إلي تطوير المجتمع وخلق وإتاحة الفرص المتساوية في القوة العاملة يؤدي إلى نتائج تنموية إيجابية ذات مردود أفضل يسهم في إمكانية التحول في السياسة العامة على المستوى المحلي والقومي والعالمي(14)
2 – 1 غياب التنمية
إن تجاهل البعد الاقتصادي– التنموي أدى إلى عدم التركيز على الدور الحاسم للتنمية ودورها في التقدم الاقتصادي الاجتماعي خاصة قضايا توزيع الموارد والعدالة الاجتماعية. فإذا اعتبرنا أن السياسة هي علم التوزيع السلطوي للموارد فلابد من الانتباه إلى من يحصل على ماذا؟ ولماذا؟ وعلى حساب من؟ ولذلك فان تجاهل البعد التنموي يعكس انحيازًا أيديولوجيا للسلطة وهذا ما تحاول المدرسة الاقتصادية الناشئة على الليبرالية والنيوليبرالية تجاهله وغض الطرف عنه. فالتنمية هي عملية “Process” تعمل من أجل التغيير الاقتصادي الاجتماعي من خلال تجديد علاقات الإنتاج وتطوير القوى المنتجة وخلق علاقات إنتاج اجتماعية تهدف إلى العدالة بين جميع أفراد المجتمع، وحيث يجب أن تضع في حسابها أن الوصول إلى الموارد والتحكم فيها هو المحدد الرئيسي في كيفية استفادة المرأة منها والمشاركة في صنع سياساتها وخياراتها الاجتماعية ومن ثم تحقيق العدالة والمساواة النوعية.
إن غياب التنمية بهذا المفهوم من سياسات الدول، التي تتبنى الاقتصاد الحر ومناهج عمله في إطار الليبرالية الجديدة تهدف إلى الاهتمام بمخرجات النمو الاقتصادي في أرقام وجداول إحصائية دون اعتبار مؤشرات التنمية ذات الصلة ببعض الاحتياجات الأساسية المرتبطة بالمساواة النوعية، مثل: التعليم والصحة والحصول على المياه النظيفة والسكن اللائق بكرامة الإنسان، بل إن التركيز على المؤشرات المرتبطة بمخرجات اقتصادات السوق الحر في مستواه “الماكرو” يهمل مؤشرات أساسية مرتبطة بالتنمية البشرية كما حددتها الأمم المتحدة “Human Development Index” وهذا ما أدى وسوف يؤدى إلى عدم الاهتمام والتركيز على مصادر عدم المساواة في المجتمع، وجذورها في تقسيم العمل الناتج من علاقات الإنتاج الاجتماعية وعلاقتها الجدلية بطبيعة الدولة ومصالح الطبقة الاجتماعية المسيطرة والحاكمة التي تعبر في الحقيقة عن استمرار الانحياز الأيديولوجي والفكري ولا يمكن تحليله خارج المدرسة الليبرالية الجديدة وتوجهاتها الحديثة في تحرير السوق وخصخصة أصول الدولة والتحكم في مواردها رغم ما تواجهه من صعوبات حقيقية في حالات التطبيق المتعسف في الدول النامية ومنها أغلب دول المنطقة العربية.
إن غياب التخطيط التنموي وعدم التزام الدول بتمويل مشاريع التنمية أدى إلى تراجع الخريطة الاجتماعية للمرأة، سواء على مستوى المؤشرات الأساسية من تعليم وصحة وازدياد معدلات الأمية وحق الحصول على العمل، أو على مستوى الاحتياجات الاستراتيجية، خاصة الوصول إلى الموارد الإنتاجية وإدارتها والتحكم فيها والقدرة على التنظيم والمشاركة في وضع السياسات واتخاذ القرارات ولو على المستوى الشخصي، وما تراجع معدل المشاركة السياسية إلا دليلاً ساطعًا على تراجع وضعها الاجتماعي وثيق الصلة بقدراتها في المشاركة الاقتصادية.
2- 2 تراجع الدور الاجتماعي للدولة
من الشروط الأساسية لتبني وتطبيق سياسات الليبرالية الجديدة ولتسهيل الاندماج في السوق العالمي بتوازناته المختلفة أن تحصر الدولة نشاطها في توفير البيئة الجاذبة للاستثمار وتيسير نشاط عمل رأس المال سواء المحلى أو الإقليمي أو العالمي، وهذا ما يعطى الدول الميزة التفضيلية فيما يسمى الاستقرار الاقتصادي وتوفر البنية التحتية للقاعدة الإنتاجية غض النظر عن من يملك ماذا؟ وبمعنى آخر على الدول أن تتفرغ فقط لتهيئة الظروف المواتية للاستثمار والإنتاج الذي يساعدها في الوصول إلى السوق العالمي والاندماج في علاقات القوى الرأسمالية، وأول هذه الشروط أن توقف الدولة ومؤسساتها تمويل كل ما يتعلق بالقطاعات الخدمية من تعليم وصحة وبيئة….إلخ كما يجب أن تتحول هذه الخدمات إلى “سلع” تجارية تخضع لعلاقات العرض والطلب، ولذلك نجد أن الخصخصة وتحويل هذه المؤسسات إلى مؤسسات “ربحية” طالت مؤسسات التعليم والصحة التي تم بناؤها عبر التاريخ وعلى حساب الكادحين والفقراء ودافعي الضرائب من عامة المواطنين.
وفي هذا الإطار فان المتأثر الأول من هذه البنية الاقتصادية الجديدة هم الفقراء والذين تزداد في أعدادهم النساء، وما ظاهرة “الفقر المؤنث” إلا دليلاً وعلامة فارقة في مردود سياسات الليبرالية الجديدة، إذ يصعب الوصول إلى فرص التعليم وسط النساء، خاصة في الطبقات الكادحة وهذا بدوره يؤدي إلى تفشى جملة من الأمراض وتراجع الوضع الصحي وبالتالي عدم القدرة في أن يكونوا جزءًا من علاقات الإنتاج السائدة المتحكمة والتي تهدف إلى “الريح” وفى سبيل ذلك تلجأ مدرسة النيوليبرالبية إلى تطوير القوى المنتجة بأحدث أنواع التكنولوجيا ولو أدت إلى إحلالها لهذه العمالة غير المتعلمة/ المتدربة خاصة المرأة مما ينعكس سلبا على مستوى مشاركتها الاقتصادية ودخولها سوق العمل.
إن تجاهل هذا البعد الاجتماعي يتعامل مع “الدولة” وكأنها في حل عن التزاماتها ودورها المحلى على “المستوى الوطني” ويتم دفعها بأثر شروط وسياسات السوق العالمي والرضوخ الى الضغوط الخارجية الاقتصادية إلى البحث عن المحيط الإقليمي والدولي وتجاهل أثر أيدلوجية وهياكل النظام العالمي الجديد بما يتضمنه من تقسيم دولى للعمل وشروط السوق والآثار المترتبة على ذلك وبالتحديد تلك المتعلقة بالبطالة وضيق سوق العمل. وهذا بدوره أدى إلى تركز البطالة وسط النساء والشباب، حيث أفادت منظمة العمل الدولية أن متوسط معدل البطالة في عام 2010 م بلغ 21.5 % في أوساط الشباب بالبلدان العربية ووصل إلى 33% في أوساط النساء الشابات(15).
2 – 3 توسع السوق الاستهلاكي
من نتائج السياسات الاقتصادية في ظل الليبرالية الجديدة العلاقات غير المتكافئة بين اقتصادات كثير من الدول النامية والدول الرأسمالية الكبرى، حيث يتم التركيز على المحاصيل النقدية التي تساعد في الوصول إلى السوق العالمي ومن ثم أدى ذلك في كثير من الأحيان إلى تناقص الإنتاج اللازم للاستهلاك المحلى “السوق الداخلي” وهذا بدوره جعل من الضروري للدول النامية أن تسد احتياجاتها المحلية عن طريق الاستيراد مما جعلها سوقًا استهلاكيًا في ظل توازنات القوى غير المتكافئة وبذلك أصبحت المحاصيل النقدية المرتبطة أكثر “بإنتاج الرجل” هي نمط الإنتاج السائد لأنها الأوفر حظًا في سوق التصدير الأكثر ربحًا وجاء هذا على حساب الدور الإنتاجي للمرأة المتمركز في إنتاج السلع الغذائية سواء لأسرتها أو للمجتمعات المحلية من حولها. وبذلك فقدت المرأة مواردها الإنتاجية إذ أن زيادة الإنتاج لا تعنى بالضرورة تطورًا ايجابيًا في القوى المنتجة، ناهيك عن تحسن أحوال صغار المنتجين الذين لا قدرة لهم على المنافسة في سوق يحكمه العرض والطلب، وخاصة المرأة الريفية مهما أنتجت ومهما كانت دعاوى المشروعات الصغيرة أو المدرة للدخل. ولذلك فان القضية المركزية في النظام الاقتصادي الدولي الجديد ليست مجرد “الإنتاج” والوصول إلى “السوق العالمي” والاندماج فيه بل ماذا ننتج؟ وكيف ننتج؟ ولمن ننتج؟ حيث إن الأشكال المختلفة من علاقات الإنتاج وتطور القوى المنتجة ذو مردود مختلف على قطاعات المجتمع وطبقاته الاجتماعية المختلفة.
إن تراجع الدور الإنتاجي للمرأة في ظل سياسات الاقتصاد الحر لم يحرمها من موارد الإنتاج فقط بل أدى إلى تراجع مشاركتها الاقتصادية ومن كونها منتجة مستقلة إلى “عامل مستغل وهامشي” في ثقافة السوق السائدة بل حولها في بعض الأحيان إلى “سلعة” تباع وتشترى حتى في السوق العالمي وما “ظاهرة الاتجار بالبشر” وتركيزها على المرأة إلا دليلاً يقف ساطعًا بلا مواربة يعكس شراسة النظام الاقتصادي الجديد في تراكم الأرباح.
2 – 4 نظام التجارة الدولية
إن الفكرة الأساسية وراء خلق نظام للتجارة الدولية هو دعم التحول إلى اقتصادات وقوانين السوق العالمي وارتباطه بجملة من السياسات التي تهدف إلى دعم الاقتصادات الحرة والأسواق الناشئة التي تعمل جيدًا وبكفاءة عالية حيث التنافس ومن ثم الوصول إلى السوق الرأسمالي مما يؤدى إلى زيادة النمو الاقتصادي وحرية تبادل السلع التجارية غض النظر عن انعكاسات ذلك على دخل الأسر والأفراد وحاجاتهم الاجتماعية، كما يهدف النظام التجاري العالمي الجديد إلى سد الفجوات التجارية ومعالجة العلل المرتبطة بتطبيق الإصلاحات الاقتصادية حيث ضعف الإنتاج وقلة “العرض” عن طريق انسياب التجارة الحرة من خلال السوق العالمي بدلاً من المقاربة مع أهداف التنمية الاقتصادية على المستوى الوطني وتطوير الإنتاج لسد “الطلب” في الاحتياجات الاستهلاكية المحلية، كما أن ضعف البنية الاقتصادية والتجارية لأسواق الدول النامية ومنها أغلب الدول العربية كشف عن عدم ملاءمة هذه السياسات كنموذج اقتصادی تنموی. ومن بين المقترحات المقدمة لإعادة تشكيل الاقتصاد العالمي الجديد تصحيح الاختلالات الهيكلية في النظام التجاري العالمي عن طريق توسيع وتنويع التجارة لتمكين البلدان النامية من الحصول على أسعار منصفة ومستقرة لسلعها الأساسية ولزيادة حصتها من السلع المتبادلة في العالم، وهذا ما عرف حديثًا بنظام التجارة العادلة والتي تهدف إلى تحدى الأنماط التقليدية للنماذج والسياسات التجارية الرأسمالية، حيث تسعى إلى تحقيق المزيد من الإنصاف في التجارة الدولية وتقديم ظروف تجارية أفضل للمنتجين(16).
إن تطور نظام التجارة الدولى إلى التجارة العادلة “Fair Trade” يسعى لعل وعسى أن يخفف من الآثار السالبة لنظام التبعية الرأسمالية إلى عدالة تجارية في ظل هيمنة سياسات وآليات الاقتصاد العالمي الجديد وسيادة القطب الواحد حيث لا بديل إلا الرضوخ لشروطه، كما أن التساؤلات ما زالت قائمة حول مدى فعالية التجارة العادلة في تحقيق الفائدة بالنسبة إلى صغار المنتجين في البلدان النامية ذات الدخل المتدني، رجالاً كانوا أم نساء والذين هم عرضة لتدني أسعار السلع المنتجة وارتفاع تكاليف الإنتاج مما يحرمهم من فرص المنافسة العادلة ويستمر المزيد من الجدل حول أثر النظام العالمي للتجارة على تمكين المرأة الريفية وزيادة نشاطها الاقتصادي لتصبح جزءًا من دائرة النشاط الاقتصادي التجاري العالمي في ظل هذه العلاقات غير المتكافئة من حيث توفر وسائل الإنتاج المتطورة التي تسهم في زيادة الإنتاج وتقليل التكلفة.
2 – 5 تدهور القطاع الصناعي
تعتبر الصناعة والتصنيع ركنًا أساسًا في الاقتصاد المتطور وتجعل البلدان النامية أقل اعتمادًا على العالم الخارجي خاصة إذا ما كان الإنتاج الصناعي قائمًا على قاعدة الاكتفاء الذاتي والتوجه نحو تغطية الاستهلاك المحلي، أي بمعنى آخر أن يكون الإنتاج من أجل السوق المحلي أولاً ومن ثم تصدير الفائض وهي القاعدة التي بني عليها اقتصاد الصين وكوريا وكان من أسباب نهضتهما الاقتصادية الصناعية، والمطلوب هو إعادة توزيع الثروات الصناعية وتعزيز المنافسة على صعيد السوق العالمي وبعض الدراسات تؤكد أن حصة البلدان النامية من الناتج الصناعي العالمي ما زالت تقل عن 10%.
إن بناء قاعدة صناعية متنوعة حسب الموارد المتاحة في كل بلد من المؤكد سيوفر فرص عمل سواء مؤقتة أم مستدامة للمرأة بمختلف القدرات المهنية المتاحة والكفاءة المتوفرة مما يجعل استقلالها الاقتصادي أمرًا واقعًا وقدرتها على المشاركة في اتخاذ القرار ذات فرصٍ أوسع رغم سيادة المؤسسة الأبوية التي ما زالت تهيمن ثقافيا واجتماعيا، والشاهد وفي ظل اقتصادات العولمة وسياسات الليبرالية الجديدة التي وتحت دعاوى إزاحة القيود والحدود من طريق تحرير الاقتصاد وحرية السوق والتجارة، لم يصمد القطاع الصناعي في أغلب اقتصادات الدول النامية ومن ثم ظهرت الانهيارات المتتالية وخروج العاملين “نساء ورجال” من سوق العمل خاصة الصناعات المتوسطة وتأثرت المرأة أكثر من الرجل. في السودان مثلا 65% من العاملين في القطاع غير المنظم من العاملات من مصانع النسيج التي توقفت“(17) ولأن الرجال أمامهم فرص الهجرة واللجوء للخارج. وثمة ملاحظة عامة أن عمل المرأة في الصناعات المتوسطة يزداد أحيانًا خاصة مصانع التعبئة لأنها وظائف لا تتطلب قدرات مهنية ولا هي مرضية ماديًا، إلا أن الحوجة لها دفعت كثيرًا من النساء إلى ولوج هذا النمط من الإنتاج، أكثر من 60% من عاملات مصانع التعبئة في السودان خريجات جامعيات(18).
كما أن المؤسسات الصناعية القائمة على التصنيع الزراعي تستفيد من الطبيعة المزدوجة لسوق العمل للحصول على الأيدي العاملة الرخيصة وتعتمد على المرأة بوجه عام لأنها غير مدربة وتفتقر إلى الوعي بأهمية التنظيم النقابي، خاصة في المناطق الزراعية الريفية، كما أن احتياجات البناء الأسري تفرض عليها بيع قوة عملها مقابل أقل أجر ممكن وبالتالي تخفيض تكاليف الإنتاج وزيادة فائض القيمة ومن ثم تراكم رأس المال، وبالتالى تسقط نظرية تحرير سوق العمل وعدالة التوزيع للدخل بفرضية الليبرالية الجديدة.
2 – 6 استخدامات التكنولوجيا
يفترض منظرو النظام الاقتصادي العالمي الجديد أن فرصة اختيار وتطوير أحدث أنواع التكنولوجيا سوف توسع القدرات الفنية والإنتاجية للدول النامية ومن ثم القدرة على المنافسة في السوق العالمي.
ومن المؤكد أن التقدم التكنولوجي له مزاياه ويسهم في تطوير القوى المنتجة، ويصبح السؤال المحوري هل التكنولوجيا محايدة؟ أي من الذي كسب؟ ومن الذي خسر؟ من هذا التقدم العلمي والتكنولوجي الذي اجتاح العالم. لقد دلت التجارب المماثلة أن الاتجاه عكس ذلك فالآلات والتقنية الحديثة أينما حلت كانت بديلاً للأيدي العاملة المنتجة وكان الرابح منها تطور الإنتاج وقلة التكلفة وتراكم رأس المال والخاسر منها القوى المنتجة الحقيقية وهي الإنسان رجلاً كان أم امرأة، مثال لذلك استخدام آلات الميكنة الزراعية كبديل للأيدي العاملة، خاصة المرأة التي كانت تنتج أكثر من 75% من الإنتاج الزراعي(19). وعادة ما تفقد المرأة فرص العمل ويتراجع نشاطها الاقتصادي كلما تم استخدام أحدث وسائل التكنولوجيا وهذا بدوره يؤدي إلى حرمان المرأة من الدخل ومن فرص الاستقلال الاقتصادي والقدرة على التنظيم كأحد مؤشرات التمكين الاقتصادي، وفي جميع الحالات ومهما كان مستوى التكنولوجيا المستخدمة فإنه يبقي المرأة العاملة بشكل رئيسي في نطاق العمالة غير الماهرة وشبه الماهرة وتفتقد التدريب والاستفادة من التطور التكنولوجي ولهذا يتراجع وضعها الاقتصادي – الاجتماعي وبذلك تصبح خارج دائرة المشاركة الاقتصادية ومن ثم الفعل الإيجابي في الحياة عامة والسياسية خاصة.
في الهند مثلاً فإن النتائج المباشرة لاستراتيجية زيادة الإنتاجية الزراعية عن طريق التكنولوجيا واستخدام الميكنة في ظل “الثورة الخضراء” قد عادت بالفائدة الكبرى على كبار المزارعين وأدت إلى خسارة فرص العمال الريفية خاصة فرص النساء(20). كما أن استخدام التكنولوجيا في تطوير الإنتاج وزيادة الإنتاجية لا يعني بالضرورة تطور القوى المنتجة خاصة الجانب “البشري” فيها حيث تم تسريح ما لا يقل عن 3 ألف عامل من مصنع سكر كنانة بالسودان مثلاً(21).
إلا أن هذا لا يعني أن استخدام التكنولوجيا ليست ذات أثر ايجابي على النشاط الاقتصادي للمرأة خاصة التكنولوجيا الوسيطة وإذا ما استخدمت لتخفيف العبء المنزلي وساعات العمل الطويلة في المناطق الريفية خاصة تكنولوجيا المياه ومدخلات الزراعة وكل الوسائل التي تساعد على الإنتاج وزيادة الإنتاجية وتحسينها وتطوير القدرة التنافسية لها في السوق لأن زيادة الدخل تعزز من استقلالها الاقتصادي وتطور وضعها الاجتماعي وتتيح لها فرص المشاركة المجتمعية والسياسية.
2 – 7 الأمن الغذائي:
يستلزم الأمن الغذائي الذي تنتج المرأة أكثر من 75% منه في البلدان النامية، خاصة أغلب الدول في المنطقة العربية أن يكون ذا مردود إيجابي على وضعها الاقتصادي والاجتماعي. إلا أن الشواهد كثيرًا ما تعكس أن تراجع أوضاع المرأة الاقتصادية والاجتماعية مرتبط إلى حد كبير بما تم من تبني سياسات الاقتصاد الحر وانتصار قيم الليبرالية الجديدة التي تسعى إلى تحويل سوق الدول النامية إلى مستورد أكثر من كونه منتجًا لغذائه (ومن يملك قوته يملك قراره).
إن التكلفة العالية للإنتاج الغذائي والتغيرات المناخية التي ضربت العالم عصفت بالتنوع في الموارد وإنتاج الغذاء ومن ثم ضمان الأمن الغذائي. لقد كان لكارثة تدهور القاعدة الإنتاجية الزراعية مردود سالب على النشاط الاقتصادي للمرأة حيث فقدت الموارد ووسائل الإنتاج من حيث الأرض والتمويل والتكنولوجيا بهدف تطوير الإنتاج والإنتاجية، ويظهر المردود السالب أكثر وضوحًا في تغير الخريطة الاجتماعية لأغلب نساء المنطقة العربية، خاصة الزراعية منها مثل فقدان فرص العمل في المشاريع وفي المصانع الغذائية ومن ثم تم التوجه إلى قطاع العمل غير المنظم حيث لا قانون يحمي المرأة ولا تنظيم يجمعها مع الآخرين ولا تدريب وبناء للقدرات خلال العمل. ومن هنا جاءت كل الظواهر السالية التي تحدث للمرأة، خاصة الاستغلال الجنسي، الهجرة غير المقننة ودخولها كسلعة في سوق الاتجار بالبشر. إن تراجع الأمن الغذائي وتدهور أوضاع المرأة الريفية مع قلة الدخل المتوقع كثيرًا ما يجبرها لقضاء ساعات أطول خارج المنزل وتبقى الحقيقة أن الغالبية العظمى من النساء يفتقدن فرص العمل الذي يعزز من نشاطهن الاقتصادي والمردود الإيجابي، ولهذا كان المردود السلبي ذو أثر غير منظور على صحة المرأة وعلى أسرتها ومن ثم على المجتمع ككل ويتجلى ذلك في انتشار أمراض سوء التغذية وزيادة نسبة الوفيات أثناء الحمل وعدم الحصول على المعرفة والمهارات المطلوبة التي تمكنها من المنافسة في هذا السوق الحر الذي أثر على وضعها الاقتصادي والاجتماعي وقلل من فرص مشاركتها المجتمعية وهما مرتبطتان جدليا بوضعها الاقتصادي، ومن ثم فإن تراجع النشاط الاقتصادي للمرأة أصبح يشكل حلقة مفرغة يحول دون إعطائها الفرص المتكافئة للمشاركة في الأدوار الإنتاجية ذات المردود المباشر وغير المباشر على أوضاعها الاجتماعية، وهذا ما قصدته بالمتغيرات في الخريطة الاجتماعية للمرأة عمومًا.
إن الأوضاع العامة للمرأة في المنطقة العربية والتي تعكس التدني الواضح في وضعها الاجتماعي غض النظر عن مساهماتها الاقتصادية المنظورة وغير المنظورة تفرض ضرورة إعادة النظر في تبنى سياسات الليبرالية الجديدة والهرولة نحو الاندماج في السوق الرأسمالي العالمي غير المتكافئ من حيث الفرص والتحديات. إن البحث عن الطريق المستقل وتطوير المشروع الوطني الاقتصادي التنموى يعكس التحدى الحقيقي الذي يواجه المنطقة العربية على مختلف مستويات الوضع الاقتصادي المتمايز بها، وهذا بدوره سوف يؤدى إلى تحسين وتطوير قدرات المرأة الاقتصادية ويتيح لها الحصول على الفرص المتكافئة كمدخل مهم لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة في المجتمع مما يمهد الطريق لتحقيق المساواة بين المرأة والرجل.
لقد برزت بشكل واضح الحاجة إلى نموذج تنموى جديد من خلال البحوث والدراسات النقدية المقدرة لعدد من الباحثين/ت والأكاديميين/ ت خاصة الذين يرفضون المدرسة الاقتصادية الليبرالية وسياساتها المتجددة في سبيل الحفاظ على توازن القوى لصالح السوق الرأسمالى العالمي واستنزاف موارد الدول النامية والاستمرار في تراكم الفائض الاقتصادي حتى ولو كان هذا على حساب تدهور وتراجع الظروف البيئية، وليس بعيدًا عن ذلك برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي أنهى 15 عامًا من مشروع أهداف الألفية وأجازت قمة الأمم المتحدة في سبتمبر 2015 أهدافًا جديدة للتنمية المستدامة بلغت 17 هدفًا بما فيها هدف تمكين النساء والفتيات وتحقيق المساواة النوعية. إلا أن نظرة نقدية ترى أن هذه الأهداف غير الملزمة للحكومات الوطنية تقابلها أجندات ملزمة في المفاوضات التجارية الدولية التي تقدم مصالح الشركاء التجاريين الدوليين والشركات التجارية على المصالح والأولويات الوطنية وتعمل على تضييق مجالات وضع السياسات الوطنية، وأن هذا التناقض يهدد إمكانية تنفيذ أهداف التنمية المستدامة على المستوى الوطني ولا تتضمن الخطة آليات واضحة لمراجعة مدى التزام مختلف الشركاء التنمويين ببنودها، على أن تكون ملزمة ودورية(22).
وبالرغم من أن أجندة التنمية المستدامة لعام 2030 م قد تضمنت التزامات مهمة ترتبط بتنفيذ العديد من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية، لكنها لم تنطلق من مقاربة شاملة إلى حقوق الإنسان ولم تستند إلى الالتزامات الدولية عند تحديد الأهداف، وهذا التوجه يعكس حقيقة تزايد تأثير قطاع الأعمال على حوكمة منظمات الأمم المتحدة وآليات صنع القرار الدولية مما يؤدي إلى تراجع اللغة الحقوقية في المؤسسة الدولية المعنية أساسًا بحماية حقوق الإنسان باتجاه التركيز على أهداف محددة وأقل تضمينًا، ومثال لذلك الهدف الثامن من الخطة الذي يربط بشكل واضح بين التشغيل والعمل اللائق والنمو الاقتصادي، وهي مقاربة اقتصادية نيوليبيريالية بعيدة عن المقاربة الحقوقية التي تعتبر الحق في التشغيل والعمل اللائق هو حق للإنسان بغض النظر عن الوضع الاقتصادي(23).
أخيرًا: وفي إطار بلورة وتبنى سياسات تنموية بديلة ترى الباحثة أن هناك قضايا استراتيجية لابد من التعامل معها بجدية واهتمام يليق بحجم المشكلة التي تواجه تعزيز المشاركة الاقتصادية للمرأة، والتي يجب أن تأخذ في الاعتبار الأدوار المختلفة للمرأة وموقعها في التقسيم الاجتماعي للعمل الذي فرض عليها عبر التاريخ، لأن المشاركة الفعلية في الاقتصاد وضرورة حصولها على دخل مجزٍ متمثلاً بالأجر المباشر أو غير المباشر هو بمثابة الأساس المادي لاستقلالها الاقتصادي ويهيئ لها الأرضية الاجتماعية لانطلاقها نحو التحرر الشامل من الاستغلال بكل أشكاله، وهذا بدوره يمثل النقطة الحاسمة لخلق الشروط الموضوعية لتنمية كل ما يتعلق بالقدرات الذاتية والتقدم خطوات ثابتة نحو المساواة وذلك من خلال 3 محاور أساسية ذات ارتباطات جدلية هي:
أولاً: التأكيد على الدور الاجتماعي للدولة من حيث الالتزام السياسي وتوفير الموارد المادية والبشرية لتطوير القطاعات الخدمية من صحة وتعليم وتدريب على مختلف المستويات، إذ يشكل هذا المحور المدخل الأساسي للتنمية البديلة وللتغيير الاجتماعي والثقافي. ولابد أن تشكل هذه الخدمات الاجتماعية منظومة حقوقية متكاملة تعتمد المعايير الدولية المتفق عليها.
ثانيًا: ضرورة خلق وبلورة مشروع وطني للتنمية يعتمد على الدور الفاعل لمؤسسات الدولة في التخطيط الاقتصادي – التنموي ويعمل على خلق الظروف المؤاتية لقيام قاعدة إنتاجية متنوعة الأنماط وتطوير القوى المنتجة بهدف المزيد من الاكتفاء الذاتي وتوسيع قاعدة السوق المحلى بتعدد الهياكل الإنتاجية وتطوير علاقات الإنتاج المشترك التي تمكن العاملين من الاستفادة من الفائض الاقتصادي بزيادة الدخل، حتى تتمكن شرائح المجتمع المختلفة خاصة الضعيفة منها من سد احتياجاتها الأساسية، وذلك برد الاعتبار الكافي إلى الحق في التنمية والعمل على الالتزام به منهجا يقوم على Rights – Based Approach وهذا يسهم في تعزيز مفهوم ديمقراطية التنمية ويضمن فعاليتها.
ثالثًا: الالتزام والعمل على قيام وتطوير الأطر والبنية السياسية – القانونية التي تتيح ممارسة الديمقراطية وتوسيع قاعدة المشاركة في وضع السياسات الكلية واتخاذ القرارات، خاصة التي تتعلق بتطبيق مناهج التدابير الإيجابية لإنصاف أكبر قاعدة من النساء خارج دائرة النشاط الاقتصادي، وهذا يتطلب عدم التعامل مع الديمقراطية كآلية للانتخاب والتمثيل فقط والتي فرضتها ظروف هيمنة المدرسة الليبرالية ونظامها الاقتصادي الرأسمالي، بل إن التأكيد على المحتوى الاجتماعي للديمقراطية يعزز من الحقوق التي تؤطر للمرأة واقعًا جديدًا يسهم في تفجير قدراتها والعمل على حماية كرامتها. ويصبح من الضروري مراجعة وتنقية المنظومة التشريعية في مختلف المستويات لضمان تنفيذ إصلاحات قانونية تدعم الجهود المبذولة من أجل تغيير الواقع المأساوي الذي يتجذر في هيمنة ثقافة المؤسسة الأبوية وصولاً لتغيير اجتماعي يحرر المرأة من جميع القيود الاجتماعية والثقافية والدينية.
(1) تقرير منظمة العمل الدولية 2012 م.
(2) تقارير البنك الدولى 2010 م.
(3) تقرير التنمية البشرية 2013 م.
(4) مصدر سابق، منظمة العمل الدولية 2012 م.
(5) منظمة العمل العربية 2012 م.
(6) المصدر السابق.
(7) بائعات الأطعمة والشاي – الخرطوم 2013 م.
(8) منظمة العمل العربية 2012 م.
(9) دور المرأة في الأمن الغذائي – السودان.
(10) منظمة العمل العربية – مصدر سابق.
(11) تقرير منظمة العمل العربية 2012 م.
(12) نحو إطار مفاهيمي للمساواة النوعية – مركز الجندر للبحوث والتدريب 2009 م.
(13) المصدر السابق.
(14) الدستور وقضايا النوع الاجتماعي، مركز الجندر للبحوث والتدريب 2012 م.
(15) أفكار في ظل ثورات الشعوب – الشبكة العربية للتنمية 2012م.
(16) التجارة العادلة: دروس مستفادة وممارسات أفضل – 2013.
(17) القطاع غير الرسمي في السودان – ورقة غير منشورة 2007 م.
(18) مقابلة جرتها الباحثة 2006 م.
(19) دور المرأة في الأمن الغذائي – جنوب كردفان 2008 م.
(20) محاضرة للباحثة فاندانا شيفا 2003 م.
(21) تقارير صحفية – السودان 2011 م.
(22) لمزيد من التفاصيل راجع ورقة موقف الشبكة العربية للتنمية 2015 م.
(23) المصدر السابق.
(1) تقرير منظمة العمل الدولية – 2012.
(2) تقرير البنك الدولى – 2010.
(3) تقرير التنمية البشرية – 2003 برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
(4) التقرير العربي الثاني للتشغيل والبطالة في الدول العربية منظمة العمل العربية – 2010.
(5) دراسة عن بائعات الأطعمة والشاي – الخرطوم وزارة الشئون الاجتماعية، ولاية الخرطوم 2013م.
(6) غادة شوقي عوض. نحو تأطير مفاهيمي للمساواة النوعية مركز الجندر للبحوث والتدريب 2009م – الخرطوم/ السودان.
(7) نعمات كوكو محمد. الدستور وقضايا النوع الاجتماعي – 2012 مركز الجندر للبحوث التدريب – الخرطوم/ السودان.
(8) کنده محمدية. نصوص حول حقوق المرأة والعدالة الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية الشبكة العربية للتنمية 2012 – بيروت/ لبنان.
(9) دراسة التجارة العادلة: دروس مستفادة وممارسات أفضل المشروع الإقليمي لتمكين المرأة اقتصاديًا – 2012، بيروت/ لبنان
(10) دراسة دور المرأة في الأمن الغذائي – جنوب كردفان مركز الجندر للبحوث والتدريب 2008 م.
(11) صحف الخرطوم الصادرة في 13/ نوفمبر 2013م.
(12) ورقة موقف عن أهداف التنمية المستدامة لما بعد 2015 الشبكة العربية للتنمية 2015 – بيروت/ لبنان.