المغرب القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن العشرين
ترجمة:
بقلم:
المنهجيات والمنظومات والمصادر
لدراسة النساء والثقافات الإسلامية المداخلات تبعا للموضوع
المغرب
القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن العشرين
ما زال البحث في تاريخ النساء في مغرب ما قبل الحداثة مجالاً جديدًا مقتصرًا على بعض الباحثات والباحثين المغاربة. إن عملية إعادة بناء حياة النساء في الماضي تحتاج إلى خبرة باللغة العربية الفصحى وبأسلوب كتابة “المخزني” المستخدم في البلاط وإلى قدرة على فك شفرة المخطوطات ومعرفة بأساليب البحث المحلي. لم تكن التقاليد البيروقراطية متبلورة تمامًا كما أن سبل حفظ الوثائق الرسمية كانت عشوائية. كذلك فإن سجلات المحاكم والوثائق الرسمية والتعداد والوثائق الإحصائية الأخرى التي تكون المادة اللازمة للبحث التاريخي في المناطق العثمانية السابقة قليلة ومتباعدة. بالنسبة للقرن الثامن عشر نجد نقصًا لا حل له. وتتحسن الحالة بعض الشيء في القرن التاسع عشر، خاصة بعد عام ۱۸۳۰م مع تحسن عملية التوثيق. هذا وتساعد أرشيفات القنصليات والإثنوغرافيا الأجنبية وأدب الرحلات على ملء تلك الفجوات، لكن تلك المصادر تمثل إشكاليات منهجية خاصة بها وتحتاج إلى معاملة خاصة بما يعوض انحيازها الداخلي.
بالإضافة إلى كتابات الحوليات والمراسلات والنصوص الأدبية، تعتبر مصادر مثل التاريخ الشفهي والشعر والروايات وحتى الأقوال المأثورة عناصر مساعدة في وضع تصور للعقليات وإطار السرد. ويجب على مؤرخي ومؤرخات النساء أن يكونوا مستعدين لأن يصبحوا “عاملين ميدانيين” يعقدون المقابلات مع المستجيبين ويزورون المواقع ويلاحظون بكثير من الانتباه. إن منهج غيرتز (Gcertzian method) في إعادة بناء السياق المحلي من خلال “الوصف الكثيف” هو المنهج المعمول به اليوم.
هناك دراسة حديثة تقدم مثالاً على هذا التوجه، وهي الدراسة التي قام بها المؤرخ الاجتماعي محمد الناجي بعنوان في خدمة السيد: العبودية والمجتمع في المغرب في القرن التاسع عشر (Ennaji, Serving the Master: Slavery and Society in Nineteenth- Century Morocco)، فقد استخدم الناجي تقنيات مستعارة من علم الأنثروبولوجيا والنقد الأدبي وجمع أجزاء من المعلومات المدفونة في مصادر مختلفة ثم نسج منها تقريرًا عن خبرة النساء المستعبدات. وقد استخدم المراسلات الرسمية والسجلات (كنانيش) والنصوص القانونية (النوازل والأجوبة) ليعيد بناء عالم هؤلاء النساء، كاشفا أدوارهن المتعددة والمحورية في الاقتصاد المنزلي. وتوضح دراسة الناجي إمكانية العمل الخلاق حول تاريخ نساء المغرب حين يتم استخدام المصادر بشكل مبدع ومع توجيه الانتباه إلى الوسط الثقافي والسياسي الأوسع.
بعض أهم أدوات البحث المتوفرة للمؤرخ والمؤرخة تشمل الآتي:
1 – الحوليات. كما يوضح المؤرخ محمد المنصور، لم يكن هناك مؤرخون مهنيون في المغرب في فترة ما قبل الاستعمار، لكن الرجال المتعلمين كانوا يتبنون التخصص كامتداد لاهتمامهم بالأدب. وكان المؤرخون الأكثر أهمية هم من “الكتاب” المعينين من قبل السلطان الحاكم لكي يسجلوا أحداث الحكم. وكان هؤلاء يركزون على الحروب والكوارث التي شكلت الخلفية لعصورهم، فيكتبون التقارير المتمركزة حول البلاط وفي المدح والإطراء، والتي نادرًا ما كانت تهتم بحياة البشر العاديين. كذلك فقد كان هؤلاء المدونين للتاريخ عادة من “علماء” المدينة، ومهتمين بإظهار الولاء للأعيان من نفس طبقتهم الاجتماعية. ومع ذلك فإن القراءة المتعمقة لتلك الحوليات هي مقدمة ضرورية لأي إقدام على دراسة تاريخ المغرب. وتبعا لمهارة وموضوعية المؤلف، تقوم تلك الحوليات بإعادة صياغة البيئة الاجتماعية والسياسية التي عبر فيها تاريخ النساء عن نفسه. وأهم كتب الحوليات التي تتناول القرن الثامن عشر هو نشر المثاني الذي كتبه محمد بن الطيب القادري (المتوفى عام ۱۱۸۷هـ./ ۱۷۷۳م)، والذي صدر مؤخرًا في طبعة بحثية بواسطة أ. توفيق وم. حجي. وقد قام نورمان سيغار بترجمة وتحقيق الجزء الخاص بالسنوات ١٦٦٥ – ١٧٥٦م بشكل جيد. وقد كانت والدة القادري تحتل موقعًا هامًا في هذا العمل، كما تظهر فيه نساء أخريات من حين لآخر مثل الحاجة ملوانية، المتعلمة والفاضلة التي قامت بالحج ۲۷ مرة. أما العمل المميز في القرن التاسع عشر فهو كتاب الاستقصاء لمؤلفه أحمد بن خالد النصيري (المتوفى عام (۱315هـ /۱۸۹۷م).
2 – المراسلات الرسمية، ونجدها محفوظة في ثلاثة أماكن في المغرب: في مكتبة الحسنية (الملكية)، والأرشيف الملكي، وأرشيف “المكتبة العامة“. وتتضمن هذه المجموعات المراسلات وسجلات الضرائب وقوائم الملكية والرسوم الجمركية وبيانات أخرى. كذلك تمدنا الخطابات المرسلة من الموظفين المحليين إلى البلاط على وجه الخصوص بمعرفة غنية عن السلوك في الحياة اليومية، فتشمل معلومات عن العنف المنزلي والمجاعات والأوبئة والاقتصاديات المنزلية. ومع ذلك كان للموظفين المحليين همومهم الخاصة والخوف من عدم الرضا الملكي عنهم، مما أثر على دقة وموضوعية تلك التقارير. إن المعرفة بالسياق المحلي والحس الجغرافي والألفة مع شبكات العلاقات الأسرية، كلها أمور ضرورية لفهم هذا النوع من المادة.
3 – الأرشيفات الأوروبية تعتبر مصدرًا غنيًا للتاريخ الاجتماعي للمغرب في فترة ما قبل الحداثة وحتى عام ١٩١٢م. وقد اقتصر وجود الممثلين الأجانب بالأساس على مدينة طنجة، ومنهم من ظل في منصبه لعدة سنوات، فتعلموا العربية واكتسبوا فهما عميقًا للمجتمع المغربي. وقد خدم جون درموند هاي كممثل لبريطانيا في المغرب طوال الجزء الأعظم من القرن التاسع عشر وتعكس رسائله عقلية تلك الفترة، كما أنها أيضًا كنز نفيس فيما يخص تاريخ النساء، خاصة حين يكتب عن أمور مثل إصلاح السجون. إلى أي مدى يمكن اعتبار التقارير الأوروبية مصدرًا يعتمد عليه في التعرف على الأحوال المحلية؟ من الواضح أن الهدف الرئيسي لشخصيات مثل درموند هاي كان المتابعة الدؤوبة للأهداف السياسية الوطنية، في نفس الوقت الذي يسعى فيه إلى تجنب هجوم منافسيه الأوروبيين. وبالتالي يجب استخدام تلك التقارير الدبلوماسية بشكل انتقائي، لكنها مع المصادر المحلية يمكن أن تصبح عنصرًا قويًا في البحث.
4 – وثائق الأوقاف. رغم قلة عدد سجلات المحاكم في الفترة السابقة على الاستعمار، حيث أنها اختفت لتصل إلى أياد خاصة منذ زمن طويل، إلا أنه تم الحفاظ على وثائق الوقف، المعروفة بـ “الحبوس” في المذهب المالكي، التي تحوي تفاصيل حيوية حول أمور نقل الملكية. لقد كانت النساء حاضرات في كثير من الأحيان في تلك المعاملات مما يمكننا من تكوين انطباع عن أنماط الملكية النسائية. إن سجلات الحبوس أو الحوالات المحفوظة في المكتبة العامة تبعًا لاسم المدينة وتحمل الكثير من المعلومات الخاصة بالجزء الأول من القرن العشرين، لكن بعضها يعود أيضًا إلى ما قبل ذلك في القرن الثامن عشر. وأحيانًا تشمل تلك السجلات أيضًا عقود الزواج، مضيفة بذلك عنصرًا حيويًا آخر إلى تاريخ النساء.
٥ – الوثائق القانونية، وخاصة “النوازل“، تعتبر مصدرًا لا يقدر بثمن للتاريخ الاجتماعي وتاريخ النساء. و“النوازل” هي عبارة عن مجموعة من المذكرات القانونية بشأن قضايا أو أسئلة ذات طبيعة عملية. ويتم تقديم النازلة أو القضية إلى قانوني أو محام، وفي إطار تحضيره للمذكرة أو الإجابة الخاصة بها يمنح المحامي فرصة للبحث في النصوص السابقة كي تأتي إجابته بما يحقق التصالح ما بين السلوك الاجتماعي موضوع السؤال من ناحية والسوابق القانونية ذات الصلة من ناحية أخرى. إن انتشار هذا النوع من الكتابة في المغرب يعكس اهتمامًا من جانب المجتمع القانوني بإدماج الممارسات العرفية ضمن القانون الرسمي. وتتناول هذه النصوص أكثر المناطق حساسية في الحياة الخاصة فتكشف أمورًا ذات صلة بالحياة الجنسية والعلاقات بين الرجال والنساء. فعلى سبيل المثال، سئل الوزاني، وهو محام من القرن التاسع عشر أسئلة من نوع: كم مرة في اليوم يجوز للزوج أن يطلب جماع زوجته؟ (أليس أكثر من ثمانية مرات). ما هي أنواع منع الحمل المقبولة؟ هل يمكن للزوجين أن يمارسا الحب وهما عاريان؟ وتوضح الإجابات على تلك الأسئلة أن المتخصصين في القانون كانوا يمثلون خط الدفاع الأول لحماية النساء من قسوة الرجاَِّّل التي كانت منتشرة في أوقات الظروف الصعبة. حيث كان يمكن للرجال أن يضربوا بل وأحيانًا يقتلوا زوجاتهم مع التمتع رغم ذلك بالحصانة، وكان القيد الوحيد على ذلك هو قيد أخلاقي تفرضه الآراء المكتوبة للباحثين البعيدين في أغلب الأحيان عن موقع الحدث سواء من حيث الزمان أو المكان. وقد أعيد اكتشاف أدبيات النوازل في السنوات الأخيرة بواسطة المؤرخات النسويات وعلماء اجتماع آخرين الذين رأوا فيه انعكاسًا دقيقًا للواقع الاجتماعي. ومن أهم مجموعات النوازل المنشورة عن تلك الفترة هي تلك الخاصة بالمسناوي (المتوفى عام ۱۲٥٩هـ. / ۱۸٤٣م) والوزاني (١٣٤١هـ./ ١٩٢٣م).
6- التعدادات والمسوح الأخرى كانت نادرة في المغرب في القرن التاسع عشر، ولم يصبح الجمع المنهجي للمعلومات ممارسة دورية حتى وقت فرض الحماية في عام ۱۹۱۲م. ومع ذلك فالأمثلة من أواخر القرن التاسع عشر التي بدأت في داخل المجتمع اليهودي المغربي تشير إلى أن التعداد لم يكن غريبًا تمامًا على الخبرة المغربية. فقد كان هناك تعداد تفصيلي، يتم من منزل إلى منزل، للحي اليهودي (ملاح) في مراكش، تم عمله في عام ۱۸۹۰م بواسطة موظفي “المخزن” ربما استجابة للمطالب بتوفير المزيد من المساكن. ويمدنا هذا التعداد بتفاصيل عن حجم وتكوين الأسرة والعلاقات بين أفراد المنزل الواحد وتوزيع المساحة داخل المنزل. هذا والعدد المرتفع للنساء البالغات غير المرتبطات والمصنفات كـ “أرامل” (أيمات) في التعداد يثير الأسئلة بخصوص وضعهن في الأسرة وسبلهن للعيش.
ويعتبر السجل الرسمي أو “الكوناش” (وجمعها “كنانيش“) هو المورد الإحصائي الأكثر انتشارًا. كانت هذه عبارة عن كراسات لكتابة الملاحظات يحتفظ بها الموظفون ويدونون بها ما يخص أمور مثل دخول الضرائب والرسوم الجمركية وقوائم الملكية، أو المصروفات مثل تكاليف إعادة بناء وترميم الجدران والحصون. وحيث أنها في كثير من الأحوال تسجل البيانات على مدى فترة من الوقت، فإن للكنانيش أهمية خاصة في التعرف على أنماط السلوك. فهناك على سبيل المثال كناش للإحصائيات ذات الصلة بسجن النساء في مراكش في الفترة ۱۹۱٦ – ۱۹۱۹م والذي قام بدراسته المؤرخ محمد الناجي، ويقدم هذا الكراس وصفًا لنزيلات سجن النساء من حيث أعمارهن ومنشأهن الأصلي وطبيعة الجرائم التي أود عن السجن بسببها. وكانت غالبية هؤلاء النساء (٧٥%) قد تجاوزن سن الزواج وتم حبسهن في جرائم تتراوح ما بين الدعارة والقتل. ويعتقد الناجي أن الاضطراب الناجم عن الاحتلال الفرنسي في عام ۱۹۱۲م كان له أثر ضخم على الحياة الأسرية ويرى أن كناش السجن يقدم دليلاً ملموسًا على أن النساء هن ضحايا الظروف القاسية.
7 – أدب الرحلات، يقع المغربي والأوروبي منه كلاهما في المجال الأنثوي. فقد شاركت النساء في الحج ورحلات دينية أخرى، على الرغم أنه نادرًا ما تم توثيق خبراتهن. والرحلات الأكثر شيوعًا كانت سفر المغاربة إلى الغرب في سياق بعثات مرسلة من قبل الحكومة، ومن هؤلاء الرحالة، الباحث محمد الصفار، الذي كتب تقريرًا حيًا عن رحلته إلى باريس في ١٨٤٥ – ١٨٤٦م، حيث أصبحت حساسيته الحادة نحو “الآخر” النسائي موضوعًا مركزيًا في رحلته. وعلى أساس بعض اللقاءات القصيرة وصل الباحث إلى استنتاجات قاطعة بشأن وضع النساء في المجتمع الفرنسي وطبيعة العلاقات بين الإناث والذكور بين الأوروبيين. وترسم ملاحظاته خطوط الوعي الذكوري المغربي في الأمور ذات الصلة بالحياة الجنسية، وتوضح أن قراءة أدب الترحال ببعض من الخيال يمكن أن تكشف زوايا جديدة في العلاقات بين الجنسين في السياق المحلي.
لقد انبهر الزوار الأجانب بالنساء المغربيات، وتعتبر كتب الرحلات الأوروبية من القرن الثامن عشر والتاسع عشر مصدرًا أوليًا لتصويرهن. وقد كانت النية من وراء كتابة الكثير من تلك الكتب هو إثبات النفوق الأخلاقي للمسيحيين على المسلمين، وكثيرًا ما كانت تلك التقارير ناقصة من حيث معرفتها بالبلد ومع ذلك فإن بعض الملاحظين كتبوا تقارير تحمل بعض المصداقية. فلقد دار الأسير الإنجليزي توماس بيلو في جميع أنحاء المغرب كعضو في جيش السلطان مولاي إسماعيل في القرن الثامن عشر. ورواياته عن النساء ذوات السلطة في البلاط وعن الضغوط التي تسببها الخدمة العسكرية للحياة الأسرية توفر نظرة إلى داخل حياة النساء في المستويات الاجتماعية لكل من النخبة والناس العاديين.
وهناك كتابان اثنان من أدب الرحلات كتبًا بشكل جيد في القرن التاسع عشر جديران بالذكر في هذا السياق الأول كتبه أوجين أوبين (Eugéne Aubin) وهو الاسم المستعار لدبلوماسي فرنسي كان يلاحظ المجتمع المغربي بحساسية نادرة، والثاني كتبه أو جوست مولييرا (Auguste, Mouliéras)، وهو باحث فرنسي يتميز ذوقه بالانتباه الشديد للتفاصيل. وتمتعت الرحالات من النساء بميزة في سهولة الوصول إلى الحيز النسائي، ومع ذلك فإن كتاباتهن لا تقدم إلا القليل من المعلومات الجديدة. كانت أميليا بيريير (Amelia Perrier) استثناء بين هؤلاء الرحالات، وهي سيدة بريطانية كتبت تقريرًا ذكيًا وإن كان مشحونا عن المجتمع المحلي خلال الشتاء الذي أمضته في طنجة في بدايات سبعينات القرن التاسع عشر.
8 – السير والتراجم. تمتعت الأدبيات عن الأولياء والقديسين المعروفة باسم “المناقب” بشعبية كبيرة في المغرب، حيث قدمت الحكايات حول الأفراد المهمشين الذين عادة ما يتم تجاهلهم في الكتابات الرسمية. وتبرز شخصيات العابدات بشكل واضح في مجموعة التادلي من القرون الوسطى المعنونة التشوف إلى رجال التصوف (تم تجميعها عام ٦١٧هـ. /١٢٢٠م)، لكن ذكرهن يختفي بشكل غامض في قواميس التراجم اللاحقة. وتفسر حليمة فرحات، وهي مؤرخة اجتماعية مغربية عن فترة العصور الوسطى، هذا الاختفاء باحتمال أن تكون النساء الورعات التقيات قد فقدن وضعهن الاجتماعي حين بدأت الأسئلة تتراكم على الممارسة الصوفية من حيث الانتماء إلى الأصول النبيلة عبر النسب الأبوي في القرن السادس عشر. وينقل أدب الأولياء والقديسين صورة إيجابية للنساء، رغم أنه يعبر في نفس الوقت عن رأي عميق في تحامله على النساء. وتدعي حليمة فرحات أن جذور الصورة النمطية الرائجة عن النساء باعتبارهن سيئات المزاج وقاسيات وسليطات اللسان موجودة في هذه الكتابات بما يساهم في التصور متعدد الجوانب للنساء الذي ما زال منتشرًا إلى يومنا هذا.
في القرون التالية سوف تصبح المصادر الشفهية أكثر أهمية في النقاط شخصية القديسة. وقد ساعد العمل الميداني الذي قام به عالم الأنثروبولوجيا إدوارد ويستر مارك، الذي قام به في العقود الأولى من القرن العشرين، بالحفاظ على بعض من ذلك التراث الشفهي فقد ساهمت رؤى ويستر مارك بشكل أساسي في التأثير على صيغة الإثنوغرافيا الاستعمارية فيما بعد، وما زالت تؤثر في العلوم الاجتماعية المغربية. وما زلنا في حاجة إلى قيام دراسة مطولة عن تأثير أعماله على الدراسات النسائية.
9 – المصادر البصرية. أخيرًا يجب أن نذكر أهمية المصادر البصرية في دراسة النساء في المغرب، خاصة في القرن التاسع عشر. فمع نمو الفضول الأجنبي عن المغرب، نما كذلك الاهتمام بتصوير النساء في مختلف الثياب المحلية. وتأسست ستوديوهات التصوير في طنجة حوالي نهايات القرن التاسع عشر ومن بينها كان ستوديو “كافيللا” الأسباني وستوديو المواطن البريطاني ويلسون. وقد جمع الاثنان ألبومات للمناظر المغربية كانت تباع للسائحين في شوارع طنجة. إن التصوير المبهرج الذي مارسه المصورون في الجزائر، حيث كانوا يصورون النساء وهن مرتديات بعضا من ملابسهن، لم يكن معروفًا في المغرب حيث كان يتم تصوير النساء في أوضاع محتشمة ومستورة. وقد استخدمت الصور كرسوم توضيحية في كتب الرحلات والأدلة الإرشادية للسائحين. ونجد مثالاً جيدًا على ذلك في كتاب إدموندو دي أميتشيز عن المغرب: شعبه وأماكنه (Edmondo de Amicis, Morocco: Its People and Places) والذي صدر في البداية بالإيطالية، وكان مليئا بالصور بما في ذلك صور نادرة لنساء ريفيات. ثم كان اختراع صندوق الكاميرا واعتماده من قبل السائحين يعني أن عدسة الكاميرا كانت كثيرًا ما تلتقط صورًا للنساء بدون أن يلحظن ذلك كما هو واضح في ألبومات المغرب الخاصة بليزلي ويلسون (Leslie N. Wilson) التي عثر عليها في متحف “فوغ” في جامعة هارفارد. إن صورة المرأة المغربية في الفن الغربي يمكن أن تكون في حد ذاتها موضوعًا لدراسة متخصصة ومطولة، فمنذ ديلاكروا إلى سارجنت وماتيس كانت هيئة المرأة موضوعًا يجذب انتباه الرسامين، معبرًا عن الشعر والغموض والغرابة التي شعر بها الفنانون الأجانب خلال خبرتهم بهذا البلد غير المعروف.
إن المطلوب هو تكوين سرد تاريخي متماسك وذي معنى يضع النساء في المحور منه، وفي نفس الوقت يضيف عمقًا إلى وضعنا البحثي الحالي. وتتجمع غالبية مواد المصادر حول ثلاثة موضوعات أساسية: القضايا القانونية والسياسية بما في ذلك الوضع القانوني المتغير للنساء وتأثير الحداثة عليه، والاقتصاد الناشئ والدور الإنتاجي للنساء فيه، وانخراط النساء في الحياة الثقافية والاجتماعية خارج الأسرة.
1 – القضايا القانونية والسياسية. كيف اختلفت حياة النساء الريفيات عن حياة نساء المدن من وجهة النظر القانونية؟ في المناطق الريفية، المأهولة بالأساس من قبل البربر، كان القانون العرفي – سواء المكتوب أو الشفهي – يلعب دورًا أساسيًا في تحديد وضع النساء. وكان الباحثون الدينيون يميلون إلى إصدار أحكام تضع في اعتبارها الظروف المحلية، حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن المصادر الرسمية أهل الثقة المعروفة بدرجة أكبر. وهناك حالة دالة في هذا الشأن وهي الدراسة التي قام بها المؤرخ أحمد توفيق عن الفتوى التي كتبها الباحث الديني من جبال أطلس، محمد الكيكي (المتوفى عام ١١٨٦هـ./ ۱۷۷۲م) بخصوص صحة العقود التي تقدم بها النساء الأرض هبة لأقاربهن من الرجال. وتتمثل المعضلة هنا في أن تلك العقود كانت أحيانًا تبرم بإجبار المرأة عليها وعلى غير رغبتها، ومن ثم يبطل المقصود منها من وجهة النظر القانونية. ويقول أحمد توفيق في تحليله أن فتوى الكيكي توضح الحساسية المفرطة للقانونيين الريفيين إزاء خصوصيات السياق المحلي.
وعلى المستوى السياسي شهدت أواخر القرن التاسع عشر إسراعًا في عملية تكوين الدولة ومركزية السلطة، وتنامي دور “المخزن” في الشؤون اليومية، ودخول السلع الأوروبية. لكننا لا نملك سوى القليل من الدراسات التي تبحث في تأثير تلك التغيرات الهامة على حياة النساء. كيف أثر دخول التكنولوجيا الجديدة على النساء والأسرة؟ إن المصادر تقدم توثيقًا للمنتجات الجديدة وأساليب الإنتاج الجديدة والأذواق المتغيرة، حيث يعدد الرحالة الفرنسي شارل رينيه ليكليرك قوائم المنتجات المصنوعة في أوروبا المعروضة للبيع في فاس في عام 1905م، بما فيها أواني طهي معدنية ومصافي ومدي، ويمكننا أن نتصور مدى تأثير تلك الأدوات على الروتين المنزلي. وفي الموانئ على وجه الخصوص نشأت مستويات جديدة من العادات المحافظة على الصحة، وأصبحت المساعدة الطبية متوفرة للنساء حتى من الطبقات الأفقر كما أعيد النظر في مفاهيم الصحة والشفاء. إن توثيق تلك التغيرات من وجهة نظر النساء سوف يحسن من فهمنا لكيفية مواجهة المجتمع المغربي ككل لتحديات الحداثة.
2 – القضايا الاقتصادية. ما هي الأدوار التي لعبتها النساء في ظل التغيرات الاقتصادية العنيفة التي حدثت في تلك الفترة؟ وما هي أوجه الاختلاف بين نساء الريف والحضر، والنساء الثريات والفقيرات؟ إلى أي مدى تم إدماج النساء في الاقتصاديات المحلية، وفي شبكات التجارة، وفي التجارة عبر المسافات الطويلة؟ كيف أثرت النتائج العميقة للأزمة الاقتصادية الممتدة في القرن التاسع عشر على الأسرة؟ لا يمكننا في الوقت الحالي الإجابة على أي من تلك الأسئلة بأية درجة من الدقة. فنحن نعلم أن عمل النساء كان بشكل عام بدون مقابل سواء في المحيط الريفي والحضري، وكما يشير عالم الجغرافيا محمد حبيدة فإن الجدل حول حق النساء في الاستفادة من ثمار عملهن كان دائرًا. وفي الريف كانت مشاركة النساء تعتبر عنصرًا عضويًا في العمل الذي يقوم به الذكور. كذلك فإن دور النساء في الصناعات الحرفية موثق في المصادر، حيث تشير النصوص إلى النساء الحرفيات كصانعات للأكلمة وناسجات للحصر والقماش. ويشير المؤرخ روجير لو تورنو إلى أن النساء اليهوديات في فاس كن عماد صناعة مربحة هي “الصقالي” أي خيوط الذهب، وكن يعمان جنبًا إلى جنب مع الرجال في المراحل الحرجة من الإنتاج. كذلك يشير جورج سالمون، وهو عالم اجتماع فرنسي عمل في طنجة في بداية القرن التاسع عشر، إلى أن النساء البائعات في السوق الأسبوعي كن يأتين من أصول حضرية وريفية. كذلك فإن الصور الأولى تقدم شهادة إضافية على وجود النساء في الحيز العام كبائعات ومشتريات. وكان للنساء حق الملكية وقمن بامتلاك المنازل والأرض والعبيد وإدارة الأعمال. إن سلطتهن وكفاءتهن في الاقتصاد لیست محل جدال، ومع ذلك فإن هذا الدور لا يزال ينتظر المعالجة التاريخية المنهجية.
3 – القضايا الاجتماعية. إن المناخ الاجتماعي الذي تفاعلت فيه النساء في فترة ما قبل الاستعمار هو موضوع لأدلة قانونية ويرد في قصص النوادر والطرائف. وكثيرًا ما تشير الصور الشعبية إلى النساء بأسلوب دوني. والأقوال التي عثر عليها في الأدب الشعبي من نمط: “الفلاح هو امرأة وحمار” تعكس المواقف الشائعة التي شكلت التراتبية الاجتماعية. ولقد أشرنا إلى المخاطر الجسدية التي كانت تهدد النساء من قبل أقاربهن من الذكور، مما يثير قضية الدور التأديبي للرجال كمبرر للقسوة. وقد شجب القانوني محمد الكيكي، من جبال أطلس الوسطى، الاستخدام المفرط للقوة وقال إن الوضع المثالي هو أن يتم التصحيح بأداة رقيقة مثل العصا، كي لا يترتب على ذلك إصابة خطيرة. ويكتب محمد الناجي كيف كانت الضحايا من النساء الريفيات يهربن إلى القبائل المجاورة أو ينضممن إلى الجموع المتنقلة من السكان المهمشين اجتماعيًا ممن كانوا يبحثون عن ملجأ في “الزوايا” المجاورة. إن تفنيده الدقيق للمراسلات الرسمية من القرن التاسع عشر قد كشف كمًا وفيرًا من المعلومات عن موضوعات مسكوت عنها في الحوليات “الرسمية“، ومنها الدعارة والعبودية والنساء الهاربات. وقد ظل العنف المشروع ضد النساء أمرًا مقبولاً حتى تاريخ قريب، مما يؤكد على الحاجة إلى تحليل تاريخي متأن لأشكاله وممارساته.
وعلى الجانب المضيء من الصورة، يجب أن نشير إلى دور النساء البناء في المنظمات الاجتماعية مثل جماعات الإخوان. فقد شاركت النساء في المواكب العامة، فأضفن عنصرًا مسرحيًا ودراميًا. حيث كان أعضاء إخوان الأيساوه يخرجون كل عام في جمع واحد من مقرهم في مدينة مكناس متوجهين إلى طنجة، وكانت النساء من التابعات للطريقة يظهرن بشكل واضح في تلك المسيرة عبر البلاد. كما كانت النساء يقمن بالسفر بانتظام لزيارة الولي أو القديس المفضل لهن. ويبدو أن تلك الخبرات المستقلة خارج حدود السلطة الذكورية كانت تمثل لحظات غالية من الحرية. كذلك كانت عقود الزواج اليهودية في شمال المغرب في القرن التاسع عشر تشمل ضمانًا بحق المرأة في القيام برحلة الحج السنوية إلى مقام الحاخام عمر ام بين ديوان في أزجن. وكانت النساء راقصات وموسيقيات وكن أحيانًا يؤدين تلك الفنون بالاشتراك مع الرجال وفي أحيان أخرى بمفردهن، وقد أدى التواجد الفني للنساء إلى ىتبديل الحيز العام والخاص. والبحث الدقيق في تلك الجوانب الخفية من خبرات النساء سوف يخضع حدا للأفكار التقليدية للنساء السائدة التي تقلل من تأثيرهن الثقافي.
أ. المسناوي، نوازل، فاس ۱۹۲۹.
أ. النصيري، كتاب الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، ۹ مجلدات، الدار البيضاء ١٩٥٦.
م. القادري، نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني، تحرير أحمد توفيق ومحمد حجي، 4 مجلدات، الرباط ۱۹۷۷ – ۱۹۸6.
م. الكيكي، مواهب ذي الجلال في نوازل البلاد السائبة والجبال، تحرير أحمد توفيق، بیروت ۱۹۹۷.
م. الوزاني، النوازل الكبرى، ۱۱ مجلدًا، فاس ۱۹۰۰.
Primary Sources
N. Cigar (ed, and trans), Muhammad al-Qadiri’s Nashr al-mathani. The chronicles, Oxford 1981.
T. Pellow. The adventures of Thomas Pellow, of Penryn, mariner, three and twenty years in captivity among The Moors, ed. R. Brown, London 1890.
Secondary Sources
E. de Amicis, Morocco Its people and places, trans, M. H. Lansdale, 2 vols., Philadelphia 1897.
E. Aubin, Morocco of today, London 1906.
R. Bourqia, Droit et pratiques sociales. Le cas des nawdzil au XIXe siècle, in Hespéris-Tamuda 35 (1997), 131-45.
M. El Mansour, Moroccan historiography since independence, in M. Le Gall and K. Perkins (eds.), The Maghrib in question. Essays In history and historiography, Austin, Tex. 1997, 109-19.
A. El Moudden, The eighteenth century. A poor relation in the historiography of Morocco, in M. Le Gall and K. Perkins (eds.), The Maghrib in question Essays In history and historiography, Austin, Tex. 1997, 201-9.
M. Ennaji, Note sur le document makhzenien, in Hesperis-Tamuda 30 (1992), 66-74.
-, Serving the master. Slavery and society in nineteenth-century Morocco, trans. Seth Graebner, New York 1999.
E. Gottreich, Jewish space In the Moroccan city. A history of the mellah of Marrakesh, 1550-1930, Ph.D. diss., Harvard University 1999.
M. Le Gall and K. Perkins (eds.), The Maghrib in question Essays in history and historiography, Austin, Tex. 1997.
R. Le Tourneau and M. Vicaire, L’industrie du fil d’or au mellah de Fès, In Bulletin économique et social du Maroc 3 (1936), 185- 90.
E. Lévi-Provençal, Les historiens des Chorfas. Essai sur la littérature historique et biographique au Maroc du XVIe au XXe Siècle, Paris 1922.
S. G. Miller (ed. and trans.), Disorienting encounters. Travels of a Moroccan scholar in France in 1845-1846. The voyage of Muhammad as-Saffar, Berkeley 1992.
M. Monkachi (ed.), Pour une histoire des femmes au Maroc Eunos [sic] groupe de recherches sur l’histoire des femmes au Maroc. Actes du colloque de Kenitra, 4-5 Avril 1995, Casablanca 1995.
A. Mouliéras, Le Maroc inconnu, 2 vols., Paris 1895-9.
A. Perrier, A winter In Morocco, London 1873.
C. René-Leclerc, La commerce et l’Industrie à Fès. Rapport au comité du Maroc, Paris 1905.
G. Salmon, Le commerce indigène et le marché de Tanger, Archives marocaines, 1 (1904), 38-55.
Y. D. Semach, Une chronique juive de Fès. Le “Yahas Fès” de Ribbi Abner Hassarfaty, Hesperis 19 (1934), 79–94.
E. Westermarck, Ritual and belief in Morocco, 2 vols., London, 1926