الممارسات النسوية في ميدان العلوم الطبيعية

تاريخ النشر:

2009

ترجمة:

إثارة تساؤلات مختلفة:

الممارسات النسوية في ميدان العلوم الطبيعية*

تحاول «روی»، في هذه » «البحثية، تطوير تحليل شبه إرشادي للعلوم الطبيعية؛ وذلك عن طريق إجراء اختبار عن قرب للمهارات التي أفادت التقارير أن كثيرًا من العالمات النسويات يمتلكنها. لقد نالت العالمات النسويات الثناء تكرارًا لقدرتهن على إثارة تساؤلات مختلفة“. وانطلاقًا من نظرية الاستناد إلى رؤية، والموضوعية الشديدة، والمعارف المتوفرة، والواقعية الفاعلة، ومنهاجية المقهورين، تقترح الكاتبة إمكانية تبيان هذه المهارات بصورة أوضح داخل الممارسة النسوية لاختيار الأجندة البحثية. كما توضح روى فائدة تطوير تلك الممارسة، وذلك من خلال تناول المعضلة التي واجهتها فيما يتعلق بإجراء بحث خارج بيئة الجسم (in vitro) داخل معمل لبيولوجيا الإنجاب.

في بعض الأحيان، يكون الأنبوب المدرج لقياس السوائل مجرد أنبوب مدرج لقياس السوائل، بوصفى عالمة نسوية، كنت طرفًا في العديد من النقاشات الخلافية حول عزمي على الجمع بين النزعة النسوية والعلم، بل وجدت نفسي أتراجع أحيانًا نحو خط المصالحة القاعدي؛ وذلك فقط من أجل الإبقاء على حيوية النقاش. نعم – في ظل علم يؤثر فيه التوجه النسوي، سيظل الأنبوب المدرج لقياس السوائل أنبوبًا مدرجًا لقياس السوائل، وسيظل واحد زائد واحد مساويًا اثنين دائمًا، وكما قالت روث هوبارد (Ruth Hubbard) عن الجاذبية: “ستستمر التفاحات في السقوط بالتأكيد، كلما يقذفها أحد إلى أعلى في الهواء” (206, 1995). على أنني أصبحت أدرك أن مجرد فكرة المزج بين النسوية والعلم تقلببالنسبة للكثيرينأنماطًا راسخة من التفكير المنطقي (وربما حتى الجاذبية) رأسًا على عقب.

لقد شهدنا في العقود القليلة الماضية نتائج إعادة البناء النسوية للعلم، ويبدو واضحًا الآن أن الإجابة عن السؤال التالي هل غيرت النسوية العلم؟تصبح نعم!”. ولكن، كيف غيرت النسوية العلم؟ وفقًا لما تطرحه المؤرخة العلمية النسوية لوندا شيبينجر (Londa,Schiebinger 1999)، وكثيرات من النسويات المتحمسات لدراسات العلم، يمكن القول إن النزعة النسوية أسهمت في تغيير العلم، ليس فقط بدعوة المزيد من النساء للدخول إلى مجال العلم والإشارة إلى تحيزات النوع الاجتماعي الموجودة في لغة العلم ونماذجه، وإنما أيضًا بتغيير الطرق التي يتممن خلالها إنتاج العلم. وعلى سبيل المثال، توضح شيبينجر أن النزعة النسوية قد أثرت تأثيرًا كبيرًا في فروع علمية مثل البريماتولوجي (علم الحيوانات الثديية)، وعلم الحفريات (الآثار القديمة)، وعلم البيولوجيا؛ وذلك بحفز العلماء نحو إثارة تساؤلات جديدة” (187,1999)، وبالتالي يمتلكون القدرة على تغيير المعرفة العلمية المنتجة. لكنني مهتمة بدراسة أكثر دقة، دراسة تتناول ما يعنيه القول بأن النسويات العالمات يثرن تساؤلات جديدة أو مختلفة، فضلاً عن الممارسات السياسية التي تستقيها النسويات للوصول إلى تلك التساؤلات المختلفة (1). إن اهتمامي ينبع من علاقتي الحميمة بالعلوم الطبيعية.

لقد أكملت – منذ عدة سنواتأطروحة الدكتوراه في مجال طب الأعصاب والغدد الصماء الإنجابی (reproductive neuroendocrinology). وكانت أهمية عملي في أطروحة الدكتوراه تتمثل في مساهمته في فهم طريقة عمل الهرمونات على مستوى المخ، بما في ذلك هرمونا الغدة التناسلية الإستروجين والأندروجين، وهرمون الميلاتونين الذي تفرزه الغدة الصنوبرية (Roy et al. 1999, 2002; Belsham et al 1998). كما شاركت في مشاريع بحثية لدراسة تأثير الإستروجين الأنثوى وهرمون الأندروجين الذكوري والميلاتونين على الخط الخلوي الخارجي لخلايا الهيبوثلاميس الذي يفرز الهرمون المطلق لمواجهة الغدد التناسلية (2). لقد أسهم عملي العلمي في الأدلة التي تطرح أن المحور الهيبوثلامي النخامي الجنسى يؤدى وظائفه من خلال سلسلة من الحلقات الارتجاعية وليس من خلال تراتبية هرمية تقع تحت السيطرة على مستوى المخ (3). ولهذه النتيجة آثار بعيدة المدى على صحة المرأة وحياتها الجنسية، حيث تطرح أيضًا أن موانع الحمل المرتكزة على الهرموناتأو العلاجات الهرمونية البديلةقد تسفر عن آثار نيوروجية أوسع (Roy 2007).

وبوصفي عالمة نسوية، كنت قادرة على المساهمة في التوصل إلى فهم جديد للجسم من خلال بحوث البيولوجيا الإنجابية. على أنني لم أكن لأتمكن من تحقيق هذه المساهمة دون استخدام نموذج لخط خلوى لخلايا خارج الجسم أو دون استخدام تقنيات البيولوجيا الجزيئية. وعلاوة على ذلك، ونظرًا لقراري بإجراء بحث في مجال طب الأعصاب والغدد الصماء الإنجابي، لم يمر يوم في أثناء عملى في أطروحة الدكتوراه دون أن أواجه نوعًا ما من المعضلات المنتجة للقلق (4). وكانت هذه المعضلات تنبع غالبًا من تردداتي حول تحديد التساؤلات العلمية التي يجب أن أقوم بطرحها، والنظريات والنماذج العلمية التي يجب أن اتبعها، والوسائل والتكنولوجيات التي يجب أن استخدمها لإجراء بحثي العلمي. لقد كنت أعرف أننى أسعى إلى إنتاج معارف علمية جديدة حول الجسم، وكان يمكنني استخدام بعض التوجيه والإرشاد في ما يمكن الإشارة إليه باعتباره اختيار الأجندة البحثية خاصتي. وفى حالات عديدة، لم أكن على يقين بكيفية تطبيق تحليلي النسوى على الجوهر التقنيللعلم الذي مارسته.

وأعتقد أننا إذا كنا على استعداد لقبول فكرة التقاء النزعة النسوية والعلم بالفعل، وضرورة انخراط النسويات في إنتاج المعرفة العلمية، فلا يمكننا أن نقوم بمجرد غرس النزعة النسوية داخل المعمل ونأمل في الحصول على أفضل نتيجة. وعلى الرغم من تشجيع النسويات، والنابع من داخل النزعة النسوية، للدخول إلى مسارات العمل في حقول العلم والتكنولوجيا، وبالتالي يسهمن في عمليات صنع المعنى في عصرنا الراهن، فإن النسويات لن يجدن سوى قدر قليل من الدعم على الجانب الآخر ما أن يجبن عن هذه الدعوة ويكرسن أنفسهن لأن يصبحن عالمات. هل يكفي ببساطة أن تقدم النسويات تعريفًا لأنفسهن باعتبارهن نسويات عندما يقمن بإجراء بحوثهن العلمية؟ وماذا لو واجهن معضلة العلاقة بين النزعة النسوية التي ينتمين إليها والنماذج والتكنولوجيات أو الأدوات التي يستخدمنها في بحوثهن العلمية؟ كيف يمكن حل مثل هذه التوترات؟ إن علينا أن نبدأ في مواجهة هذه التساؤلات، إذا كنا نرغب في مواصلة تشجيع النسويات الشابات في أن يتخذن من العلم مسارًا مهنيًا في حياتهن. وإذا كنا نرغب في أن تحقق العالمات النسويات النجاح والازدهار، فإننى أقترح ضرورة بذل الجهود من أجل التوصل إلى استراتيجيات محددة حول كيفية تغلبهن على المعضلات التي يواجهنها ويسرن نحو طرح تساؤلات مختلفة“.

من بين العديد من المشاريع داخل دراسات العلم النسوية، هناك سؤالان يجب طرحهما لمواجهة التوترات التي تنشأ عند إجراء بحث علمي، وتحديدًا: (1) كيف يمكن أن تؤثر النزعة النسوية في الطرق التي اكتسبن من خلالها المعرفة العلمية؟ و(2) كيف يمكن أن تنتج العالمات النسويات معارف علمية ذات صلة بالمهمشين في الثقافات السائدة وتراعي أوضاعهم؟ أعتقد أن هذين السؤالين يتعلقان بقضية اختيار الأجندة البحثية، والتي لا تبدأ أو تنتهى بالاهتمام بإدراج الابستمولوجيات النسوية داخل العلوم. إن اختيار الأجندة البحثية يمكن أن يبدأ بالاختيار بين الفرضيات، لكنه يتعلق أيضًا بمستوى أكثر واقعية داخل مؤسسات العلم. ويؤثر هذا الاختيار في العديد من عمليات إنتاج المعرفة العلميةبما في ذلك الاختيارات اليومية بين النماذج، واللغة، والمناهج، والأساليب والأجهزة، والتقنيات، والأدوات الضرورية للبحث العلمي. لقد طرحت هيلين لونجينو (Helen Longino)، خلال عملها الذي ركز على بعض قضايا ابستمولوجيا العلم، أن التدخلات النسوية في العلم ساعدت على تحديد سياقات الاكتشاف” (109, 1993)، وبالتالي أوضحت كيفية إدخال القيم الاجتماعية، مثل التحيزات في مجال النوع الاجتماعي، إلى حقل العلوم الطبيعية. على أن «لونجينو» تميز بين تلك التحليلات النسوية التي تخدم غرضًا وصفيا وتلك التي تتضمن غرضًا عرفيًا أو إرشاديًا“. إن إحدى طرق تناول التمايزات حسب مجادلتی، كما تقول، تتمثل في تناول تحليل سياق الاكتشاف باعتباره تحليلاً وصفيا أوليا لكيفية توليد الفرضيات، وتناول التحليل في سياق التبرير باعتباره يضم تحليلاً معياريًا أو إرشاديًا يتعلق بالمعايير المناسبة لقبول الفرضيات” (102).

إن اهتمامي بسبر أغوار قضية اختيار الأجندة البحثية في العلوم الطبيعية يناظر ما وصفته «لونجينو» باعتباره تحليلاً في سياق التبرير، لكنه لا يتقيد بقبول فرضية ما وحدها. وأتفق مع تأكيد «لونجينو» أنه على الرغم من أن كثيرًا من التقييمات النسوية المألوفة للعلم قد ساعدتنا على إعادة وصف عملية اكتساب المعرفة (أو الاعتقاد)، فإن تلك التقييمات تقصر عن امتلاك نظرية معيارية مناسبة” (102). ويعتبر التحليل الإرشادي للعلوم الطبيعية ميدانًا مهمًا للبحث ذلك، ومن أجل فائدة العلمی داخل دراسات العلم النسوية التي يجب زيادة تطويرها. ومع ذلك، ومن أجل فائدة العالمات النسويات في ميادين العلوم الطبيعية، فإنني أقترح ضرورة وجود نظرية معيارية مناسبةتتسم أيضًا بالمرونة إلى حد ما وتكون شبه إرشاديةفي إيماءاتها. إن مساهمة «لونجينو» في إنشاء نظرية إرشادية يمكن تطبيقها على العلوم الطبيعية تتضمن إعادة تعريف الموضوعية العلمية والمعرفة العلمية في سياق المجتمعات المحلية. تطرح «لونجينو» معاييرها للمجتمعات المحلية الموضوعية باعتبارها مجموعة من الإرشادات، كما تطرح استراتيجيتين مهمتين لتتمكن تلك المجتمعات من أداء وظائفها. تتمثل الاستراتيجية الأولى في تناول العلم باعتباره ممارسة أو مجموعة من الممارسات“. وتتمثل الاستراتيجية الثانية في إعداد نموذج نظری لنظرية النظريات” (114).

وباتباع نصيحة «لونجينو»، تتجه نيتي في هذه الورقة البحثية إلى تطوير تصور تخطيطي لتحليل شبه إرشادي عن طريق تناول قضية اختيار الأجندة البحثية في العلوم الطبيعية كنمط من الممارسة. وقد قامت باحثات نسويات أخريات في مجال العلممثل دونا هاراوای (Donna Haraway 1997)، وكارن باراد (Karen Barad 2003)، وجوزيف روس (Joseph Rouse 1996. 2002)- بتطوير فكرة العلم أيضًا بوصفه ممارسة. ومثل «لونجينو»، قامت هؤلاء الباحثات بتناول العلم نفسه كمجموعة من الممارسات التي تضم تفاعل مستمر مع بيئاتنا الطبيعية والاجتماعية” (Longino 1993. 116). وأعتقد أن هذا التكرار للممارسة يمد العالمات النسويات بالإطار الضروري للإبداع وتحقيق النجاح مع التدخلات السياسية في العلومحيث يمكن أن تصبح العالمات النسويات – أو يدركن أنهنجزءًا من الظاهرة(5). وما أن تدرك الباحثات النسويات انخراطهن، وأنهن يشكلن جزءاً من الظاهرة، تصبح التساؤلات العلميةالتي تطرحها ولمن تطرحها جزءًا؛ احتمال وأداءات مختلفة” (Rouse 2002. 161) يمكن أن تفقد قوتها في أي ممارسة سياسية. كما أنوى أيضًا أن أدرس بجدية استراتيجية «لونجينو» حول استخدام نموذج للتحليل النظرى للنظريات. ومع إلقاء الضوء على أهمية النماذج، من حيث طريقة تشكيلها لبنية معارفنا، تقول «لونجينو»:

إن مدى كفاية نظرية مدركة باعتبارها نموذجًا يتحدد بقدرتنا على رسم تصور لفئات جزئية من العلاقات/ البني الموضوعة في النموذج على جزءٍ من العالم المختبرإن مدى كفايتها ليس مجرد وظيفة أو تماثل شكلى لأحد تفسيرات النظرية وجزء آخر من العالم، وإنما يرتبط بحقيقة أن العلاقات التي يختارها هي تلك العلاقات التي نهتم بها. هناك نموذج يرشد تفاعلاتنا مع العالم وتدخلاتنا فيه. ونحن نرغب في نماذج توجه التفاعلات والتدخلات التي ننشدها (115, 1993).

إنني أود أن أطرح نموذجًا نسويًا مناسبًا لممارسة اختيار الأجندة البحثية، بحيث يصبح في إمكاننا توجيه التفاعلات والتدخلات التي ننشد القيام بها في مجال العلوم الطبيعية. وبهذه الطريقة، يصبح بمقدور الباحثة العلمية النسوية مواصلة طرح تساؤلات مختلفة – كما نأمل، مع قليل من المساعدة.

وفى بحثي عن نموذج يساعد الباحثة العلمية النسوية على ممارسة اختيار الأجندة البحثية، فإنني مهتمة بأن أبدأ بنظرية الاستناد إلى رؤية – والتي تثير خلافات عديدة، وتظل، مثل كثير من مستخدميها، مُهمشة داخل الاتجاه العام لفلسفة العلم والدراسات العلمية (Harding 2004a; Wylie 2004). وكما تعلق «هاردينج»، فإن الأمر يثير الاهتمام، حيث يتمثل أحد ابتكاراته المفهومية المركزية في وصف وإرشاد ممارسة اتباع جوهر معرفى وتقنى في العلوم الطبيعية وفلسفاتها” (التشديد مضاف، 2004 a.26). وعندما تصف «هاردينج» نظرية الاستناد إلى رؤية، تقول:

إن البدء من حياة أولئك الناس الذين تتوقف شرعية النظام المهيمن على استغلاله يمكن أن يوجه التركيز نحو التساؤلات والقضايا التي لم تكن مرئية، أو مهمة، أو شرعية داخل المؤسسات المهيمنة…. إن مثل تلك الرؤى قد أدت نقديًا ونظريًا إلى بناء مواقف خطابية، وليس مجرد آفاق أو آراء تتدفق من كتابها بصورة غير عمدية بسبب بيولوجيتها أو وضعها في مواقع جغرافية أو غيرها من تلك المواقع الاجتماعية (17,1998).

وبقدر ما يمكن قياس تأثير نظرية الاستناد إلى رؤية على العلوم الطبيعية، فقد استُخدمت أساسًا بطريقتين لوصف التحيزات الموجودة في الفرضيات والأساليب التي صاغتها المجموعات المهنية، فضلاً عن وصف عدم الملاءمة في مقاييس تحقيق الموضوعية(2004a, 26).

وأنا مهتمة بمتابعة الحجة القائلة إن نظرية الاستناد إلى رؤية يمكن استخدامها لإرشاد ممارسات جديدة، مثل اختيار الأجندة البحثية في مجال العلوم الطبيعية. وعلى الرغم من الاختلافات المحيطة بنظرية الاستناد إلى رؤية، فإنني اتجه نحو الوعد بمقاربة، ابتكاراتهاکما تقول هاردينج– “تركز على منظور جديد حول بعض أصعب معضلات عصرنا وأكثرها إنتاجًا للقلق” (2004 b.1). كما أننى اتجه أيضًا نحو الدعوة التي طرحها منظرو الاستناد إلى رؤية من أجل البدء من حياة المُهمشين. وتروق لي هذه الفكرة، نظرًا للحساسيات الضرورية القائمة بين الداخلي والخارجي“. كان يجب أن أتذمر كعالمة نسوية. وعلى الرغم من أنني كنت معزولة نوعًا ما لوجودي في المعمل، فقد تمكنت من الوصول إلى مجتمع الناشطات النسويات والباحثات النسويات من فروع علمية أخرى، واحتضنني هذا المجتمع. وقد أتاح لى الإحساس بالانتماء إلى هذا المجتمع الاستمرار في مجال العلوم، لكنه جعلني أُقدر أيضًا أهمية أن أبدأ أفكاري العلمية انطلاقًا من حياة الآخرين المُهمشين. وبينما كنت أطرح الفكرة القائلة بأهمية تحديد من هو العارف (the knower)، أشارت لورين کود (Lorraine Code) أن هذه الأطروحة تثير أيضًا قضية النسبية الخاصة بنظريات المعرفة (epistemic relativism). لكنها تجادل أن النسبية الخاصة بنظريات المعرفة لا تحتاج إلى صفها مباشرة بمحاذاة التفكير الخاص أو الذاتي المحض. ووفقًا لما تقوله كود، فإن التصورات التخطيطية، والممارسات، والنماذج، تنشأ من مشروعات البحث المتعلقة بالمجتمعات المحلية. وللحفاظ على استمرارية الحيوية والسلطة، يجب أن توضح تلك المشروعات مدى كفايتها لتمكين الناس من التفاوض حول التفاصيل اليومية والتأقلم مع القرارات والمشكلات والألغاز التي يواجهونها يوميا” (3,1991). من الناحية النظرية، إذن، بمقدور العالمة النسوية أن تكشف عن نفسها بوصفها عارفة، ومع ذلك تستخدم نظرية الاستناد إلى رؤية باعتبارها مشروعًا بحثيًا للمجتمع المحلىمن أجل التفاوض حول قرارات اختيار الأجندة البحثية والتأقلم معها. ولكن، لماذا لم يكن الحال كذلك؟ لماذا لم تُعالج نظرية الاستناد إلى رؤية في مجال العلوم الطبيعية؟ قد يكمن التحدى في أن النموذج المتحول لنظرية الاستناد إلى رؤية، والمناسب لمجال العلوم الطبيعية، يجب تطويره. إن النسويات اللاتى شكلت معهن مجتمعًا عندما كنت أقوم بأعمال البحث العلمي قد علمنني بعض المهارات، بحيث أصبح بمقدوري التفاوض حول عالمي اليومي بوصفی عالمة نسوية. والأهم، أن أولئك النسويات علمنني التفكير في موقعي السياسي وصفاتی – مثل النوع الاجتماعي، والعنصر، والطبقة، والحياة الجنسية – وأنا أعمل في معمل دراسات الجهازين العصبي والغُدي في المجال الإنجابي. لم أكن أعرف ذلك حينذاك، لكنني عندما أعود بذاكرتي للوراء ربما أكون قد استخدمت بالفعل شكلاً من أشكال نظرية الاستناد إلى رؤية من أجل مواجهة الجوهر التقني للعلم الذي أمارسه.

في بحثها بعنوان (2004) “Why Standpoint Matters”، تضع أليسون ويلي (Alison Wylie) الخطوط العريضة للإطار اللازم لنظرية الاستناد إلى رؤية من أجل تحليل الممارسة العلمية. وأجدها مقتنعة بقيمة نظرية الاستناد إلى رؤية، لكنها تشعر بالاضطراب من جراء الطرق الشائعة التي يستخدمها معارضو تلك النظرية بغية تقليصها إلى فكرة مواقع الأفراد الاجتماعية ونسبية سياسات الهوية (341). وعلى الرغم من أن اهتمام «ويلى» بإمكانية تأثير نظرية الاستناد إلى رؤية على تحليلات الممارسة العلمية داخل فروع الدراسات العلمية وفلسفة العلوم، فإنها تطرح أيضًا قضية تنفيذ نظرية الاستناد إلى رؤية في إطار إنتاج المعرفة العلمية ذاتها.

وتشير «ويلي» إلى أن نظرية الاستناد إلى رؤية يمكن أن توجد كالتزام بشكل ما من أشكال المعرفة المتوفرة (343). وبهذا المعنى، فهي تتيح لنا تطوير رؤية حول إنتاج المعرفة، أى وعى ناقد حول طبيعة موقعنا الاجتماعي والاختلافات الناجمة عنه من الناحية المعرفية” (344). وبالنسبة للعالمات النسويات، يعد تطوير الوعى حول كيفيةإنتاج المعرفة أساسيًا لتبيان انطباق نظرية الاستناد إلى رؤية في ما يتعلق بممارسة اختيار الأجندة البحثية في مجال العلوم الطبيعية. على أن «ويلى» تؤكد ضرورة وجود نظرية الاستناد إلى رؤية دون احتضان نزعة الجوهرية أو موضوعة تتسم بامتياز تلقائي” (345). وحتى تستمر نظرية الاستناد إلى رؤية، وعدم إساءة فهمها على الدوام، لا يجب محاذاتها مع موضوعة الامتياز المعرفي التلقائية؛ فلا يمكن أن يزعم منظرو الاستناد إلى رؤية أن أولئك الذين يطرحون رؤي بعينها (عادة رؤى مهيمنة جزئيًا، ومقموعة، ومهمشة) يعرفون المزيد تلقائيًا، أو يعرفون أفضل، نتيجة مواقعهم الاجتماعية والسياسية” (341). ومن أجل انتقال نظرية الاستناد إلى رؤية إلى العلوم الطبيعية وإسهامها في إنتاج المعرفة العلمية، فإن عليها أن تأخذ مكان المقاربات المهيمنة والتي تعتبر تأسيسية للمنهج العلمي. ومع ذلك، ومن الخطورة الشديدة أن نطرح كمبدأ تأسيسي لنظرية الاستناد إلى رؤية الزعم القائل إن بعض الناس (المُهمشين) يعرفون أكثر من الآخرين (غير المُهمشين). إن المعايير التي طرحتها ويلى أعلاه لتحرك نظرية الاستناد إلى رؤية داخل ميدان العلوم الطبيعية تُعد أساسية. وما أن تعترف العالمة النسوية بأنهابوصفها داخلية/ خارجية – تعرف معرفة مختلفة، يصبح انطباق نظرية الاستناد إلى رؤية على العلوم الطبيعية واضحًا أيضا.

وعلاوة على ذلك، تجادل ويلى أن نظرية الاستناد إلى رؤية تمنح إطارًا لفهم كيف يمكن أن تؤدى أنماط بعينها من التنوع (الثقافي، العنصري، النوع الاجتماعي)- بعيدًا عن المساومة على السلامة الخاصة بنظرية المعرفة – إلى إثراء البحث العلمي بشكل دال” (339). كما أنها تطرح أن هناك قيمة في ما يتأتى على الرؤية المهمشة أو الداخلية/ الخارجية أن تمنحه. وتضم القيم التي تشير إليها ما يلي: (1) تيسير النفاذ إلى الأدلة التي يمكن بمقتضاها أن يتيح موقع التهميش للفرد أن يرى الأدلة التي لا تُرى عادة؛ (2) حدة الاستدلال التي بمقتضاها يتمكن الفرد من إقامة روابط بين ديناميات السلطة؛ (3) توفر نطاق واسع من التفسيرات والفروض التفسيرية لفهم الأدلة؛ وكشرط للقيم الثلاثة الأولى؛ (4) فك الارتباط بحسم عن الأمور المأخوذة على حالها، والتي تقود الأشكال السلطوية من المعرفة (346). وعندما تدرك العالمة النسوية أن موقعها وعلاقاتها وموقفها داخل ديناميات القوة يمنحها الوعى الناقد الضروري لطرح زاوية جديدة من الرؤيةتتناول التساؤلات القديمة وتثير تساؤلات جديدة أمام البحث الإمبيريقي” (349)، نجد أن الترددات المتعلقة بصلة نظرية الاستناد إلى رؤية بالعلوم الطبيعية قد انتهت. إن القائمة التي قدمتها «ویلی» حول القيم توفر أسباب تضمين نظرية الاستناد إلى رؤية في ممارسة اختيار الأجندة البحثية في مجال العلوم الطبيعية، وبإعداد قائمة تضم مجموعة القيم، تجيب «ويلى» عن السؤال المتعلق بأسباب أهمية الرؤية المُهمشة والداخلية/ الخارجية، وإمكاناتها في إغناء البحث العلمي عن طريق إنتاج معارف مختلفة. وفي واقع الأمر، يوضح تحليلها أسباب ضرورة السعي نحو هذه الرؤية. على أنني أعتقد أن السؤال الذي يظل قائمًا أمام العالمة النسوية – التي تعمل في مجال العلوم الطبيعية – وهي جالسة على مقعدها في المعمل تحك رأسها، هو: كيف؟

 

لتناول هذا التساؤل الأخير، فإنني أهتم بالانطلاق من نظرية الاستناد إلى رؤية، ولكن مع التحرك نحو الموضوعية القوية والمعارف المتوفرة، ومنها إلى الواقعية الفاعلة. وعندئذ، وبالنسبة للعالمة النسوية المؤهلة بحكم طبيعةوجودها للقيام بدور العارف المُهمش، تصبح فكرة تطوير النظريات النسوية – مثل نظرية الاستناد إلى رؤية في ميدان العلوم الطبيعيةفكرة جذابة، ولكن دون وجود تردد واحد دال (كحد أدنى، على أقل تقدير). وأعتقد أن التردد الرئيسي لاتخاذ تلك الخطوة يتعلق بإعادة تشكيل أفكارها حول الموضوعية. وإذا ارتكزت ممارستها لاختيار الأجندة البحثية على مجموعة من القيم المنشقة من النزعة النسوية، فهل يمكنها مع ذلك أن تظل موضوعية؟

ومن أجل تناول هذه القضية، يجب أن تعى العالمة النسوية أن تدريبها كعالمة كان يمكن أن يتطلب منها التفكير حول الموضوعية بطريقة محدودةطريقة مناسبة لإنتاج المعرفة، وخاصة من خلال المنهج العلمي، كما يجب لفت انتباهها إلى أن مفهوم الموضوعية أكثر تعقيدًا. فكما أشار كثير من المؤرخين وفلاسفة العلم، الموضوعية ليست ولم تكن أبدًا مفهومًا ذلك، فإن متراصًا ومحصنًا، على الأقل منذ القرن السابع عشر” (Daston 1992. 298). ومع ذلك، فإن الأشكال المختلفة العديدة للموضوعية تتقاسم بالفعل غرضًا واحدًا، وكما ورد في إشارة لورین داستون (Lorraine Daston) وبيتر جاليسون (Peter Galison)، فإن كل مكون من المكونات العديدة للموضوعية يعارض شكلاً متمايزًا من أشكال الذاتية، يجرى تعريف كل منها عن طريق استهجان بعض (وليس كل، بأي حال) جوانب الشخص. ويمكن سرد تاريخ الأشكال المختلفة للموضوعية بوصفه كيف ولماذا ومتى أصبحت الأشكال المختلفة للذاتية تعتبرها ذاتية على نحو خطير” (82, 1992). وتجادل داتسون أن شكلين بعينهما من أشكال الموضوعية – وتحديدًا الموضوعية اللامنظورية،(aperspectival objectivity 1992) والموضوعية الميكانيكية Daston and Galison 1992))- قد أصبحا يلعبان أدوارًا مهمة في كل خطوة عمليًا من خطوات البحث العلمي في عصرنا الحديث، لكنها لم يتطورا أساسًا في داخل التقاليد العلمية. وبالأحرى تطرح داتسون أن الموضوعية اللامنظورية – أي فكرة كون المرء مراقبًا بلا ملامح” – قد نبعت من الفلسفة الأخلاقية والجمالية في النصف الأخير من القرن الثامن عشر (1992). وتشرح قائلة: “تمامًا مثلما بدا سمو وجهات النظر الفردية في المداولات والعمل شرطًا مسبقًا لتحقيق مجتمع عادل ومتناغم بالنسبة لأخلاقيات القرن الثامن عشر، فإن السمو نفسه في مجال العلم بدا بالنسبة لبعض فلاسفة القرن التاسع عشر شرطًا مسبقًا لبناء مجتمع علمي متماسك” (607,1992). أما الموضوعية الميكانيكية، والتي تقترن بأتمتة الإجراءات أو ميكنتها، فتتمثل وظيفتها الأساسية أيضًا في أخلاقية تقييد الذات” (Daston and Galison 1992). وكان هدف هذا الشكل من الموضوعية يكمن في التخلص من العواطف أو الأحكام الإنسانية، وبالتالي تُشكل أي خصوصيات نوعًا من المشاهدات الناتجة عن البيئة المحيطة بالفرد.

ومؤخرًا، اقترحت هيثر دوجلاس (Heather Douglas) أيضًا عدم وجود معنى واحد فقط للموضوعية، وتمكنت بالفعل قادرة من تحديد ثمانية مُدركات متمايزة للمفهوم. كم طرحت أن مُدركات الموضوعية، والتي شاع انتشارها في البحث العلمي، تُمثل موضوعية تلاعبيةوتقاربية” (457,2004). إن كلاً من هذين المُدركينبما يماثل الموضوعية اللامنظورية والموضوعية الميكانيكيةيتناول محاولات البشر من أجل الوصول مباشرة إلى الموضوعات” (455) الموجودة في البيئات المحيطة بهم دون التدخل فيها. وانطلاقًا من تقييمها لمختلف مُدركات الموضوعية، تقدم دوجلاس تعليقًا نافذ البصيرة إلى حد كبير، ويعد بالغ الأهمية بالنسبة لإعادة التشكيل النسوى للموضوعية. تقول:

إن تعقُد الموضوعية ينهض بأعباء مرونتها في الاستخدام وشدة قوتها المعيارية. وهناك أسس متعددة يمكن انطلاقًا منها الدعوة إلى الثقة في الزعم، ويمكن انطلاقًا منها المصادقة على هذا الزعم للآخرين. ويجب أن يكون واضحًا أيضًا أن التعقد يترك مساحة للتغير. فبإمكاننا أن نقرر إسقاط بعض المعاني (وأرى ضرورة إسقاط معنى الموضوعية الخالية من القيمة). ويمكننا أن نرى ضرورة إضافة معان جديدة، حيث تتغير ممارساتنا عبر الزمن. لا يوجد ثبات لا تاريخي للموضوعية حتى الآن، ومن المنطقى عدم التفكير في أننا انتهينا من تطوير المصطلح (468).

ومن خلال تتبع تلك التقييمات للموضوعية – كما تطرح دوجلاس – يمكن أن تدرك العالمة النسوية – أن إمكانية التغيير أيضا، وليس الحرية فحسب، تأتى مع التعقُد. وفي واقع الأمر، طرحت هاردينج أحد تلك المعاني الجديدة للموضوعية وقامت بتطوير المصطلح في سياق فكرتها حول الموضوعية القوية“. فالموضوعية القوية توسع فكرة البحث العلمي بحيث تضم مشاهدات منهجية للمعتقدات الأساسية، كما تلفت الانتباه أيضًا إلى الفروض الإيديولوجية المبنية داخل البحث العلمي (149,1991).

وتطرح دوجلاس أيضًا وجود الكثير من المواقع التي يمكن من خلالها تجميع مواضع ثقةمن أجل تقديم أطروحة. وتتيح لنا فكرة الموضوعية القوية أن نرى إمكانية وجود طرق مختلفة للمعرفة، وليس مجرد مقياس واحد مناسب للمعرفة التي لا تُكتسب إلا من خلال الأنماط التقليدية للموضوعية. والأكثر أهمية أن هذه الفكرة توفر أسس الثقة في مجتمع العارفين المُهمشين. وعلى سبيل المثال، وبما يتعلق بأفكار الموضوعية القوية وأهمية الإقرار بمجتمع العارفين، يصف الآن إيروين (Alan Irwin) فكرة علم المواطن، بينما يلقى الضوء على أهمية المعارف المحلية وذات الخصوصية (1995). ويطرح أن مجتمعات العارفينكما في حالة التنمية المستدامة – تلعب دورًا أساسيًا في انتقاد معرفة الخبراء، لكنها تؤدى أيضًا إلى توليد أشكال من المعرفة والفهم، حيث تعمل بمثابة «معامل حية» بطراز يتسم بالنشاط وقد يتسم أيضًا بالخمول” (112, 1995). وأيضًا في سياق المعرفة المحلية والتشاركية، قدم فرانك فيشر (Frank Fischer) مثالاً فذًا حول كيفية توفير مجتمع العارفين للأسس الضرورية لبناء الثقة في الأطروحة. وعندما كان فيشر يناقش مثال حركة علم الشعب في ولاية كيرالا الهندية، أشار إلى أن نجاح هذه الاستراتيجية يكمن في أنها تتوجه بشكل مباشر إلى جوانب القلق المتعلقة بتمكين المواطن، والنظرية الديمقراطية، والديمقراطية البيئية” (168,2000). لقد قام مواطنو كيرالا بتصميم مشروعات بحثية تتعلق بقضايا حياتهم اليومية. على أن المعرفة المحلية التي أنتجوها – والتي كانت مصممة لمساعدة المواطنين المحرومين في نضالهم من أجل التوصل لفهم وسيطرة أفضل على الواقع والخيارات التي تشكل اهتماماتهم وجوانب قلقهم” (145)- قدمت معلومات أيضًا عن نوع المعرفة العلمية الخبيرةالتي تم إنتاجها.

وفى أثناء كفاحي حول اختياراتي لأجندتى البحثية، توصلت إلى حاجتي للتساؤل حول أفكاري عن الموضوعية العلمية عبر أعمال دونا هاراوی (Donna Haraway). فقد وصلت إلى هذه النقطة من خلال أفكارها حول الرؤية الجزئية، والأهم من ذلك ما يتعلق بمعضلاتي الخاصة – حيث تمكنت هاراوى من صياغة رابطة مع فأرها المُعدل جينيا والخط الخلوي الهيبوثلامي الموجود خارج الجسم. وفى أنشطتي المتزامنة – كعالمة في المعمل، ودارسة للخط الخلوي للفأر المُعدل جينيا، وعضوة في مجتمع العارفات النسوياتكان لدى أسباب للتفكير حول معاني الموضوعية على نحو عميق وحميم. تقول هاراوى إن الموضوعية النسوية تدور حول مواقع محدودة ومعرفة متوفرة، وليس حول السمو والفصل بين الذات والموضوع، وبهذه الطريقة، يمكننا أن نصبح قادرين على الإجابة عما تعلمنا كيفية رؤيته” (190,1991). ويرتبط مفهوم هاراوى للمعرفة المتوفرة ارتباطًا وثيقًا بنظرية الاستناد إلى رؤية. وبتأكيد الموقع والرؤية الجزئية، تذهب هاراوى إلى أن المعرفة لا يمكن أن تكون شاملة. ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، يجب عدم تقليص المعرفة المتوفرة إلى خصوصيات فردية أو إلى النسبية الخاصة بنظريات المعرفة. ومثلها مثل نظرية الاستناد إلى رؤية، نجدها تقدم المعرفة عن طريق المساعدة على جعل جوانب الطبيعة والعلم والعلاقات الاجتماعية جوانب مرئيةحيث عادة لا تتم رؤية هذه الجوانب أو يتم الإبقاء عليها مختفية (6). وتصبح الموضوعية عقلانية ذات متموضعة” (196,1991)، ومفتوحة أمام العديد من الروابط، إن السبب وراء ما تمنحه نظرية الاستناد إلى رؤية والموضوعية القوية والمعارف المتوفرة من خبرات يمكن أن تغير تفكير العالمة النسوية يرجع إلى أنها – بدلاً من قصر القيمة على الموضوعية اللامنظورية والمكانيكية فحسب – تدعو الباحثين المنخرطين والراسخين، الذين ينتمون لمجتمع العارفين، إلى ممارسة عملية اختيار أجنداتهم البحثية من خلال عقلانية متموضعة“.

يجب الإقرار بأن المعارف المتوفرة لم تكن نظرية تُقلص نفسها ببساطة، كما تقلص الموضوع الذي تتناوله، إلى موضوع لا يصبح واضحًا أو متجمعًا إلا عن طريق عمليات البناء الاجتماعي. وبالأحرى، تحدد المعارف المتوفرة موضع العالمة النسوية من أجل الانخراط في تقييم أدائي (مع استعارة استخدام باراد للمصطلح) لإنتاج المعرفة العلميةالمعرفة التي ترتبط بها العالمة النسوية ارتباطًا وثيقًا وتهتم بها سياسيًا.

وبطبيعة الحال، حاولت سابقا بعض العالمات في مجال دراسات العلم النسوى إدماج القيم النسوية داخل العلم عن طريق ما كان يشار إليه باعتباره المقاربات البنائية الاجتماعية. وعندما كان ديفيد هيس (David Hess) يصف الدراسات الاجتماعية للعلم والتكنولوجيا، كان يقول إن مصطلح البنائية الاجتماعية، غالبًا ما يستخدم كوصف عامة للدراسات التي تختبر كيفية عمل المتغيرات الاجتماعية لتشكيل أنماط اختيار البحوث التي تُجرى، وكيف تُجرى، وكيفية الاختيار بين النظريات المتناقضة، ومدى قبول المجتمعات العلمية الواسعة للمشاهدات والقوانين والنظريات وغيرها من أطروحات المعرفة (34,1997). وفي المقابل، طرحت «هاردینج» استخدام مصطلح البنائية المشتركة بغية تحقيق تمثيل أفضل حول كيفية التطور المشتركللعلم والثقافة، وترى «هاردينج» أن مصطلح البنائية يقضى ضمنًا بأن المجتمعات الموجودة سلفًا والمشكلة تشكيلاً كاملاً إنها تشكل أو تبنى بحسب تمثيلات الطبيعة التي ترغبها، بغض النظر عن كيفية ترتيب العالم حولها” (4. 1998). على أنني أعتقد أن وضع خيارات الأجندة البحثية في مجال العلوم الطبيعية بمحاذاة البنائية الاجتماعية، أو حجج البنائية المشتركة، قد يتسم بطابع إشكالي إلى حد كبير. وقد وجهت بعض الباحثات في مجال دراسات العلم النسوىمثل هاراوی (Haraway 1991)، وباراد (2003 Barad)، و نانسی توانا (2001 Nancy Tuana)- انتقادات حادة لحجج البنائية الاجتماعية، وذلك بإثارة تساؤلات عسيرة تتعلق بقضية المادية، وخاصة في حالة العلوم الطبيعية والفيزيائية. وتطرح كل من باراد وتوانا أن الأمر عندما يتعلق بقضية المادية، يتجه نزوع الباحثات النسويات وفلاسفة العلم نحو الانزلاق بسهولة إلى الواقعية العلمية في مواجهة نقاش البنائية الاجتماعية. على أن التأكيد مجددًا على التوترات والمشكلات الخاصة بهذا النقاش لا يقع عمليًا في نطاق هذا المقال، كما لا يمثل هدفًا بالنسبة لي. ويكفي القول أنه تحقيقًا لغرض تطوير اختيار الأجندة البحثية إلى ممارسة، ووضع تصوراتنا المُعاد تشكيلها، فضلاً عن إمكانات تحقيق الموضوعية، في نطاق الاستخدام المناسب، فإن التدخلات النسوية في العلم لا يمكن أن تستمر إذا وُضعت هذه الجهود بمحازاة حجج الواقعية أو حجج البنائية الاجتماعية. وتطرح «باراد» ما يلي:

إن الفهم الأدائي للممارسات الخطابية يتحدى الاعتقاد التمثيلي من حيث قوة الكلمات في تمثيل أشياء موجودة سلفًاوالتحرك نحو البدائل الأدائية إلى النزعة التمثيلية يصرف الانتباه عن التساؤلات المتعلقة بالتناظر بين الأوصاف والواقع (على سبيل المثال: هل يعكسان الطبيعة أم الثقافة؟) إلى موضوعات الممارسة/ التصرفات/ الأفعال. (802,2003)

وتتيح نظرية «باراد» حول الأدائية ما بعد الإنسانية إمكانات جديدة للتعامل مع المادة والأجساد في العلوم الطبيعية والفيزيائية. وبينما كانت باراد تصف المشكلات المتعلقة بربط الممارسات الخطابية بادية الجسد، وتُفسر فكرتها حول الواقعية التمثيلية، فإنها جمعت أيضًا من أجلنا موضوعية معادة التشكيل وتوظف بشكل كامل حرية التعقُد. وبتحرك هاردينج قدمًا بفكرتها حول الموضوعية القوية ووصف هاراوى للموضوعية كعقلانية متموضعة، نجدها تقول:

على مستوى تقييم الواقع الفاعل، يمكن مرة أخرى الإقرار بالطبيعة، والجسد، والمادية في كامل هيئتهم دون اللجوء إلى بصريات الشفافية أو العتامة، وهندسات الخارجية أو الداخلية المطلقة، وتنظير الإنسان باعتباره سببًا محضًا أو نتيجة محضة، بینما نبقى – في الوقت نفسه – عرضة للمساءلة بصرامة في ما يتعلق بالدور الذي نقوم به نحنفي الممارسات المغزولة حول المعرفة والضرورةوعلى مستوى تقييم الواقع الفاعل للمارسات التقنيةالعلمية، فإن العارفلا يصمد في علاقة مع الخارجية المطلقة بالعالم الطبيعي تحت الدراسةلا توجد هذه النقطة من المشاهدة الخارجية. ولهذا، ليست الخارجية المطلقة هي التي تشكل شرط الإمكانية اللازم للموضوعية، بل هي بالأحرى الإنفصالية الفاعلةأي الداخلية في إطار الظواهر. “نحنلسنا مشاهدين لهذا العالم من الخارج. (828, 812, 2002)

إن استمرار المساءلة في ما يتعلق بالأدوار التي نقوم نحنبها يمثل الجزء السياسي لهذه الممارسة. لماذا تتولى العالمة النسوية إجراء بحث، إن لم تكن معنية بالتساؤلات التي تطرحها أو بنتائج عملها؟ ولكن ماذا يحدث بعد قيام الباحثة النسوية بإعادة تشكيل إدراكها للموضوعية، وتصبح واعية بأنها مطمورة داخل الظاهرة؟ هل تنتهز فرصة القطع الفاعلاللحظي (815) وتستخدم سياستها النسوية ليكون لها يد في ترتيب الأفعال المتداخلة التي تساءل عنها؟ وبعبارة أخرى، حتى على الرغم من إدراكها أنها جزءٌ من الظاهرة، كيف يمكنها تعريف ثم استخدام رؤيتها أو موقفها في البحث العلمي الذي تتولاه أو اختيارات أجندتها البحثية؟ إن الموضوعية القوية والمعارف المتوفرة والواقعية الفاعلة تساعد جميعهاوبأساليبها الخاصةالعالمة النسوية على إعادة تشكيل أفكارها حول الموضوعية، وربطها بالبحث العلمي الذي تقوم به بصورة وثيقة. ومع ذلك، فإنني أعتقد أننا يمكن أن نمتلك قدرة أفضل على مواجهة تلك القضية المتمثلة في كيفية نجاح العالمة النسوية في إضفاء الطابع المحلى على سياستها، بينما تُصدر قرارًا محليًا” (815) داخل ظاهرة عن طريق الانتقال إلى مفهوم شیلا ساندوفال (Chela Sandoval) حول تباين الوعي (2000).

أعتقد أن علينا أن نقطع المسافة وثبًا في معتقداتنا، أو على الأقل بين الفروع العلمية، حتى يمكننا تناول تلك القضية المتمثلة في كيفية انخراط العالمة النسوية في البحث وممارسة اختيار الأجندة البحثية ارتكازًا على معلومات مستمدة من السياسة المحلية بالمجتمعات التي تنتمى إليها. وآمل أن أتمكن هنا من وصف العملية التي تستلزمها تلك الوثبة. وبالقيام بذلك، فإننا نحاول في النهاية أيضًا تطوير نموذج شبه إرشادي للممارسات التي يمكن أن تستخدمها عالمات نسويات أخريات عند تناولهن مشكلة اختيار الأجندة البحثية. تستخدم «شيلا ساندوفال» أفكار «هاراوی» حول هوية الكائن الفضائي (Cyborg)، وتطرح أنه ليس مجرد مخلوق (شبه) بشرى مولود من وجودنا ومستقبلنا التكنولوجي. وعلى الرغم من أن العديد من النظريات تعالج فكرة الكائن الفضائي بوصفه كيانًا مستقبليًا نشأ خلال عصر السياسات المعارضة للعولمة والتكنولوجيا، فإن ساندوفال تشرح قائلة:

إن حجتي كانت تتمثل في أن الشعوب المستعمرة في الأمريكتين قد طورت بالفعل بتطوير مهارات تماثل المهارات المطلوبة لبقاء الكائن الفضائي في ظل الشروط التقنيةالبشرية، على اعتبار أن تلك المهارات تُعد شرطًا أساسيًا للبقاء تحت الهيمنة عبر الثلاثمائة عامٍ الماضية…. ويمكن فهم وعي الكائن الفضائي بوصفه تجسيدًا تكنولوجيا لشكل خاص بعينه من أشكال الوعى المعارض الذي تم الحديث عنه في مواضع أخرى باعتباره نسوية العالم الثالث الأمريكية” (408, 1995).

ومثل «ساندوفال»، فقد قمت بتفسير كائن «هاراوی» الفضائي باعتباره كلمة مجازية، ليس فقط بالنسبة إلى اتحاد المادة العضوية والآلة التكنولوجية، وإنما في الأساس أيضًا كنمط من أنماط الوعي الذي يرتكز على الخبرات المعيشة والمهارات التي تقوم على تطويرها أنماط عديدة من المهمشين، بما في ذلك المستعمرين في الولايات المتحدة. وفي محاولة لإدماج نسوية العالم الثالث الأمريكيةفي النظرية النسوية بالولايات المتحدة، تجادل «ساندوفال» أن الأشكال المتباينة للوعي المعارض لا تنتمى فحسب إلى نسوية العالم الثالث الأمريكية وإنما تمتد بالأحرى عبر خبرة التهميش الاجتماعي وسياساتالكائن الفضائي (2004:1995).

وتعد العالمة النسوية بمثابة كائن يوجد على الهوامش الاجتماعية – إنها مثل الكائن الفضائي (7). ونظرًا لأن العالمة النسوية مُقيدة بكونها داخلية/ خارجية في نمط من المخلوقات التي تنقسم إلى جزءين تربط بينهما وصلة، فإن السياسة المتعلقة بالكائن الفضائي يمكن أن تمنحها مساحة/ فضاء للجوء النظري. ويمكننا جميعًا أن نجادل أن العالمة النسوية عليها، كي تصبح شاهدة متواضعة متغيرة تعيش داخل المؤسسة العلمية، أن تعمل على تشكيل مقاومة لعدد من العوامل، اعتمادًا على نوع الجنس، والنوع الاجتماعي، والعنصر، والطبقة، والسن، وغير ذلك (8). عليها أيضًا أن تتعلم أن تقاوم، على سبيل المثال، التحيزات الجنسية والعنصرية التي أصبحت مفرطة داخل النظريات والنماذج واللغة المستخدمة في إنتاج المعرفة العلمية. لقد اعتادت على بناء المقاومة“. لكنها لكي تكون فاعلة في المعارضة، يجب أن تمتلك العالمة النسوية أيضًا طريقة للتعبير عن وعيها المتباينفي فضاء مقاومتها (9). إن ما أريد أن أطرحه هنا يتمثل في أن العالمة النسوية رغم أنها مُعلقة في إطار قطع فاعل، (Barad 2003.815)، فإن التعبير عن وعيها المتباين يمكن أن يرشدها من خلال ممارسة اختيار الأجندة البحثية، متيحًا لها تسييس انخراطها في عمليات الأسلوب العلمي وإحكام ممارساتها المعرفية داخل مجتمع العارفين المهمشين.

وتجادل «ساندوفال» أن نسوية العالم الثالث الأمريكية تقدم شكلاً جديدًا من أشكال: “الوعي التاريخي الذي تطور تحديدًا خارج النظرية النسوية المهيمنة التي ظهرت في السبعينيات (195,2004). في هذا الوعي، لا يوجد تشريع يتميز عن غيره، والإقرار بأن كل موقع يتسم بإمكانات الفاعلية في المعارضة مثل أي موقع آخر إنما يتيح إمكانية وجود نمط آخر من الوعى” (200). ويتمثل هدفها في تسخير طاقات الناس الجماعية، سعيًا إلى مواقف تحريرية مؤثرة فيما يتعلق بالنظام الاجتماعي السائد” (44- 43,2000). تقول «ساندوفال»:

تكمن الفكرة هنا في أن المواطنالذات يمكنه أن يتعلم تحديد وتطوير وسائل الإيديولوجيا والسيطرة عليهاأي نظم المعرفة الضرورية من أجل اقتحام الإيديولوجيا“- بينما في الوقت نفسه يعد أيضًا التحدث في التكنولوجيا ومنها فكرة ترسي الأسس الفلسفية التي تمكننا من إقامة الروابط الحيوية بين الأهداف الاجتماعية والسياسية التي تبدو يائسةوالوعي المتباين هو تعبير عن موقع الذات الجديدة التي طالب بها ألتوسير – إنها تسمح بالعمل، وإن كان بما يتجاوز مطالب الإيديولوجية المهيمنة (44,2000).

إن «ساندوفال» تطرح إمكانية أن يسكن المرء داخل إيديولوجية، بغية تغيير تلك الإيديولوجية. هنا توجد العالمة النسوية المتميزة. وبوصفها داخلية، نجدها تمتلك معرفة وثيقة بالأسلوب العلمي التقليدي، والإيديولوجيات المهيمنة التي تؤثر في اختيارات أجندتها البحثية. لكن العالمة النسوية – كما تطرح «ساندوفال» – يجب أن تتعلم تحديد وتطوير وسائل الإيديولوجيا والسيطرة عليها من أجل تغيير النظام الاجتماعي المهيمن الذي خلقته التصورات التقليدية لكل من الموضوعية والأسلوب العلمي، والمضى نحو إنشاء معرفة علمية مختلفة من خلال طرح تساؤلات مختلفة“. وفي الواقع، طرحت «ساندوفال» “مجموعة من العمليات، والإجراءات، والتكنولوجيات من أجل التخلص من الكولونيالية في التخيل كمنهاجية للمقموعين” (69,2000).

تساعدنا نظرية الاستناد إلى رؤية، والمعارف المتوفرة، على إدراك موقعنا داخل الإيديولوجيات المهيمنة. ويمضي نهج «ساندوفال» حول المقموعين قدمًا بهذه المسألة، ويوضح لنا كيفية تطوير هذه الإيديولوجيات والسيطرة عليها. وكما هي الحال بالنسبة لأغلب النظريات النسوية، فإن بصيرة ومقاربات منهاجية المقموعين يجرى ترجمتها إلى أجندات بحثية جديدة للنسويات الرائدات في ميادين الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، بينما تبقى كفكرة مجردة (إن بقيت على الإطلاق) بالنسبة للنسويات في ميدان العلوم الطبيعية. وأحاول في الجزء الأكبر المتبقى من هذه الورقة البحثية أن أبدأ هذه العملية – عملية نقل العالمة النسوية من حالة القلق والتوتر إلى فضاء الشهادة المتواضعة المتغيرة – عن طريق توضيح إمكانية تطبيق منهاجية المقموعين عند ممارسة اختيار الأجندة البحثية.

وصفت «ساندوفال» أيضًا منهاجية المقموعين باعتبارها تضم خمسة مكونات، وأشارت إليها على التعاقب باسم تكنولوجيات“: (1) السيميولوجيا، (2) التفكيك، (3) الأدلجة الشارحة، (4) الديمقراطيات، (5) الحركة المتباينة (409,1995). وإذا وضعنا هذه الإيديولوجيات معًا، يمكن اعتبارها شكلاً من أشكال المقاومة لدى الكائن الفضائي. وهناك سببان أساسيان لاختيار منهاجية المقموعين في بحثى. أولاً، أعتقد أن هذه المنهاجية يمكن اعتبارها امتدادًا معقدًا لنظرية الاستناد إلى رؤية والمعارف المتوفرة، كما أنها منطقية وإبداعية وغير من حيث تصميمها. ونظرًا لبنيتها ومرونتها، يمكن استخدامها لتطوير نموذج شبه إرشادي لممارسات العالمة النسوية في مجال العلوم الطبيعية. أما الحجة الثانية لاستخدامي منهاجية المقموعين في مشروعي فتكمن في أنها شديدة الإغراء على نحو يستبعد بساطة عدم استخدامها. إن «ساندوفال» مولعة باستخدام المجاز التكنولوجي، مثل المتجهات، لوصف المناورات الاجتماعية الواقعية. وأنا أشعر بتقدير تجاه هذا الاستعداد للتنقل عبر الفروع العلمية، وعبر الأهداف التحريرية، وعبر الفضاءات التي تسكنها الكائنات الفضائية. وقد شرعت بالفعل في تجربتها من موقعها في معامل الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. ولكن، حتى تصبح هذه الممارسة السياسية أيسر نفاذًا بالنسبة للعالمة النسوية في معامل العلوم الطبيعية، فإنني أود إجراء نقل تكنولوجي للأصناف. أود تغيير متجهات «ساندوفال» الرياضية إلى متجهات بيولوجية، تُعرف أيضًا باسم البلازميدات (plasmids). ويجرى أيضًا استخدام المتجهات البيولوجية لإدخال معلومات جديدةداخل الكائن الحي. إن هذه التكنولوجيا الجزيئية، المرتكزة على البيولوجيا، تُعرف باسم نقل المعلومات (transfection). وفي الجزء المتبقي من هذه الورقة البحثية، أتقاسم سلسلة من نقل المعلومات، بما يسفر عن إدخال تكنولوجيا المقموعين إلى العلوم الطبيعية. وأملى أن أوضح صلة هذه النظرية النسوية بالعالمات النسويات، وتقديمهن كمثال يوضح كيفية استخدام هذه الممارسة السياسية لإجراء اختياراتهن للأجندة البحثية.

ترى «ساندوفال» أن الحركة المتباينة هي وعي منقسم، حيث يمكن للمرء أن يتحرك ذهابًا وإيابًا بين أكثر من واقع، والرؤية من خلال وجهة النظر السائدة علاوة على وجهة نظره” (83,2000). وبالتنقل ذهابًا وإيابًا بين أكثر من موقع، يصبح بمقدور الكائن متصل القسمين التحرك إلى الخلف والأمام ومن الداخل إلى الخارج، وبذلك فإنه يوجد حتى في موقع بينى أو فضاء ثالث” (83,2000). وكما ذكرنا أعلاه، يعتبر هذا الفضاء الثالث أو فضاء الكائن الفضائي، موقعًا مألوفًا للعالمات النسويات. إن انخراط العالمات النسويات في الحركة المتباينة من الأرجح أن يصيبهن بالتشوش في البداية، لكن إقرار الوعى المنقسميعد بمثابة الخطوة الأولى الضرورية لتطوير ممارسة اختيار الأجندة البحثية. ولهذا، يتمثل أول تغير لمنهاجية «ساندوفال» الخاصة بالمقموعين في نقل آخر تكنولوجياتها – أي متجه الحركة المتباينةإلى صدارة الممارسة النسوية لاختيار الأجندة البحثية. وإذا كان بإمكان العالمة النسوية تقدير صلة النظرية النسوية بالعلوم الطبيعية وإعادة صياغة أفكارها حول الموضوعية، فإن العالمة النسوية ستدرك أيضًا أن موقفها، باعتبارها من الداخل/ من الخارج، يتيح لها أن ترى من وجهة النظر المهيمنة علاوة على وجهة نظرها. ويتيح لها هذا الوعى المنقسم، أو حتى يجبرها على، النظر إلى العلم بصورة مختلفة عن قريناتها غير النسويات. وبعبارة النظر إلى العلم بصورة مختلفة، فإننى أعنى أن أطرح، على سبيل المثال، أن العالمة النسوية قد تهتم بما يجرى اعتباره معرفة وكيف يتم إنتاجها. وقد تهتم بالنظريات والنماذج التي تستخدم لتنظيم وإجراء اختباراتها، ويمكن أن تهتم أيضًا بالتقنيات المستخدمة لإعداد البحث، وجمع الأدلة ووضع نتائجها في لغة علمية. إن أي جانب أو كل جوانب الاهتمام المشار إليها أعلاه يمكن أن تثير معضلة أمام العالمة النسوية وتضعها في دوامة. لكن هذه الجوانب توفر، في الوقت نفسه، فرصًا لممارسة اختيار الأجندة البحثية كعمل سياسي ومن موقع الوعى المتباين. وفي واقع الأمر، إنها قدرتها على البدء بتناول المعضلة في العلم الذي تمارسه، بينما تنظر – في الوقت نفسهمن وجهة النظر العلمية المهيمنة التي تحقق لها في نهاية المطاف الاستقرار في الحركة المتباينة، بما يوفر لها قوة الدفع اللازمة من أجل طرح تساؤلات مختلفة“.

ففي حالتي، على سبيل المثال، كانت أول معضلة واجهتها في أطروحتى للدكتوراه تتعلق باستخدام الحيوانات في بحثى. فمن غير المعتاد، في البحوث البيولوجية الإنجابية، إجراء تجارب بدون استخدام ما يشار إليه باسم النماذج الحيوانية“. لقد كنت أعرف أن قتل الحيوانات واستخدامها في البحث سوف يكون متوقعًا منى كطالبة تخرجت في الجامعة. وعلى هذا النحو، وعندما أثير سؤال يتعلق بما إذا كنت قد أجريت بحوثًا من قبل على الحيوانات، كانت إجابتي أنني لم أفعل ذلك، كما أسعى، في واقع الأمر، لعدم إجراء بحوث أبدًا على الجسم الحي ذاته لإنجاز أعمالي العلمية. وقد أسفرت هذه المعضلة عن لحظة عصيبة خلال المقابلة التي أجريتها من أجل أطروحة الدكتوراة، وفي السنوات التي تلتها. ومن حسن الحظ أن مشرفتي كانت مساندة لموقفي. لقد سمحت لي أن استخدم خطًا خلويًا خارج الجسم الحي لإجراء بحثى، ولم تمارس على أبدًا أي ضغوط لكي أقوم ببحث على الحيوانات. لكنني في كل خطوة أخطوها على الطريق، بما في ذلك دفاعي عند مناقشة الدكتوراة، كنت أدافع عن نفسى أمام العلماء الآخرين لأنني لم أتناول في أي من أبحاثي الحيوان كله“. ومع استرجاع أحداث الماضي، فإنني أرى الآن أن قراري بعدم القيام ببحوث على الحيوانات لم يكن في ذاته ما جعل مشروعي نسويا، لكنه كان – في واقع الأمر – مثالاً على ممارستي لاختيار الأجندة البحثية. لقد كنت اختار بين استخدام النظريات البيولوجية التي تدعم بحث الجسم الحي في مقابل تلك النظريات التي تدعم بحث خلية معملية. كما كنت أقوم أيضًا باختیار نظری بین مواد بحثى، والتي أثرت بشكل مباشر في المناهج والتكنولوجيات التي استخدمتها. فبدلاً من استخدام أقفاص وتسهيلات حيوانية تضم «فئران»، قمت باستخدام صحاف بیتری البلاستيطية وحضانة بدرجة حرارة 37 درجة مئوية لنمو الخلايا العصبية. إن قراري باستخدام نموذج خارج الجسم الحي كانت له مشكلاته، لكنه في نهاية المطاف كان قرارًا مهمًا جدًا جعلني أشعر بالاستقرار في حركتي المتباينة. كما أن تناولى لمعضلتي، بينما أنظر في الوقت نفسه من زاوية التقاليد العلمية المهيمنة – على الأقل بما يكفي للدفاع عن قراري بإجراء بحوث خارج الجسم الحي أمام العلماء الآخرينقد أتاح لى أن أواصل المساهمة في إنتاج المعرفة العلمية.

إننى أفسر تكنولوجيا «ساندوفال» حول الديمقراطيات باعتبارها القوة الدافعة والإلهام، والدافع وراء الرغبة في التطوير. تشير «ساندوفال» إلى أن بعض المؤلفين، مثل «فرانز فانون» (Frantz Fanon) و«باتريشيا هيل كولينز» (Patricia Hill Collins) يعتبرون هذه التكنولوجيا نمطًا من السياسة التي تتطلب علاقات اجتماعية مساواتية” (83,2000). إن مطلب توفر علاقات اجتماعية مساواتيةينطبق أيضًا على العالمة النسوية التي، مثلها مثل جميع النسويات الأخريات، معنية بـ إعادة توزيع السلطةمن أجل القضاء على المظالم المرتكزة على الاختلافات المشفرة تحت فئات العنصر، والنوع الاجتماعي، والجنس، والسن، والطبقة، وغير ذلك (112). وفي حالة الباحثة النسوية في مجال العلوم الطبيعية، فإنها معنية بممارسة اختيار الأجندة البحثية بطريقة تستهدف القضاء على المظالم الناتجة عن القرارات التي يجرى إنتاج المعرفة العلمية المتعلقة بها، فضلاً عن طرق إنتاج هذه المعرفة العلمية، ومن تتأثر حياتهم بتلك المعرفة سواء من حيث إنتاجها أو استهلاكها.

وعلى سبيل المثال، قد ترغب العالمة النسوية في ممارسة اختيارها لأجندتها البحثية على نحو يجعلها لا ترتكز في بحثها على تطبيع جوانب عدم التكافؤ التي يمكن أن تمتد جذورها إلى الحتمية البيولوجية. على أن تطوير استراتيجية من أجل إعادة توزيع السلطةفي العلوم الطبيعية يتطلب من العالمة النسوية أن تمتلك أولاً ناصية توزيع السلطةفي بيئتها العلمية الخاصة. كان يمكن أن يمدها تعليمها وتدريبها داخل تقاليد العلم ومؤسساته المهيمنة بهذه البصيرة، لكننا نجد، في واقع الأمر، ان خبرة معرفة توزيع السلطة ودينامياتها هي التي تمدها بالمعلومات المتعلقة بما يحتاج إلى تغيير في هذا التوزيع. وهو ما يمكن أن يضم تغيرات في طرق تفاعل الباحثة المنفردة مع الباحثات الأخريات في البيئات الحميمة بمعملها، وطرق تناول المواد أو الموضوعات التجريبية، واللغة المستخدمة لتمثيل النتائج العلمية، أو حتى على نطاق مختلف التفاوتات القائمة داخل العلم، والتي يجرى إنتاجها كمستوى تأسيسيمثل التفاوتات بين الجنسين في ممارسات تشغيل العمالة. ومع ذلك، يجب على الباحثة النسوية أن تختار المعارك المرتبطة بعلاقات المساواة والتي تستثمر فيها طاقاتهاخطوة خطوة وربما حتى يومًا بيومٍ.

وحتى يمكننا أن نوضح بإيجاز كيف يمكن أن تقوم العالمة النسوية بتنفيذ الديمقراطياتعند ممارسة اختيار الأجندة البحثية، نأخذ على سبيل المثالمرة أخرىالاختيار بين إجراء بحث على الكائن الحي وخارج الكائن الحي. إن العالمة النسوية المعنية بـ إعادة توزيع السلطةقد تُعنى أيضًا بالقضاء على المظالم المرتكزة على الاختلافات المدركة، والتي لا تقتصر على فئات العنصر، والطبقة، والجنس، والنوع الاجتماعي وغير ذلك، وإنما تتعلق أيضًا بالأجناس. إن تعرضي للمنشآت الحيوانية، ولبعض العلماء الذين يبدو أنهم يحصلون على متعة من قتل الحيوانات، وللغة العلم التي أشارت على نحو مضلل إلى قتل الحيوانات باعتباره تضحية“- كما لو أن الحيوانات على استعداد لوهب حياتها لأغراض البحث العلميقد قادني إلى القرار باستخدام خط خلوى بدلاً من الحيوانات. وقد اخترت أن أوجه طاقاتي نحو إعادة توزيع بعينها للسلطة – بإيجاد طرق بديلة للاستمرار في بحثى العلمي. لكن قراري بإعادة توزيع السلطة بهذه الطريقة لم يكن دون مدركات خاصة. وبدءًا من الفئران التي كان يجب قتلها منذ سنوات قبل أن أشرع في أطروحتى للدكتوراة من أجل تطوير نموذج لخط خلوى خارج الجسم الحي؛ وهو النموذج الذي استخدمته، إلى مبادئ التقليصية والتغيير التكويني المستخدمة لإنشاء الخط الخلوي في المقام الأول، فإن مطالبتي بعلاقة اجتماعية مساواتية واحدة قادت إلى الوعي بالتوترات المختلفة وإن كانت مترابطة، وسأحاول فيها بعد تناولها في بحوثى العلمية.

لقد تناولنا هذه التكنولوجيا بالفعل، إلى درجة ما، عند مناقشة نظرية «هاراوى» حول المعارف المتوفرة. تضم السيميوطيقا، في حالة منهاجية المقموعين، تعلُم علم العلامات في الثقافة” (82,2000 Sadoval) والاعتراف بالواقع الاجتماعي المهيمن كبناء مثير للاهتمام” (86)، وانطلاقًا من كتابات «فرانز فانون» (Frantz Fanon) و«رولان بارت (Roland Barthes)، تطرح «ساندوفال» أن علم العلامات“- كما أطلق عليه «بارت»- يعد وسيلة الخاضعين” (88). لتحرير الوعى من هيمنة النظام الاجتماعي وتحديد أسس التحالف بين وتمضى قائلة: إن الالتزام بتحديد علامات للقراءة قد ظهر كوسيلة للبقاء” (86). أما بالنسبة للعالمة النسوية التي عالجت المعضلة/ المعضلات المُنتجة للقلق من خلال تكنولوجيا الحركة المتباينة، وتقوم بتشكيل أفكارها حول توزيع السلطة في تكنولوجيا الديمقراطيات، فإن الخطوة التالية تتضمن تغيير علاماتها داخل العلم الذي تمارسه. وهي تبدأ هذا التحول مع السيميوطيقاعملية قراءة العلامات.

وعلى سبيل المثال، يتمثل جزء من الواقع الاجتماعي المهيمن الذي يوجد لدى العالمات في مجال بحوث البيولوجيا الإنجابية في اعتقاد مشترك حول صحة استخدام النماذج الحيوانية داخل الجسم. والنموذج الحيوانيهو علامة موجودة في ثقافة المؤسسة العلمية. وبالفعل، ناقشت «هاراوى» بالتفصيل العلامة المتعلقة بالفأر المعملي الذي يحمل جينات بشرية نشطة لمرض السرطان (1997). وكما يدل مصطلح نموذج، تُستخدم هذه الحيوانات من أجل عمليات صنع المعنى. لكن استخدامها لا يقتصر على عمليات صنع المعنى، ففي بعض الحالات يجرى بناء تلك الحيوانات بالكامل – حرفيًا ومجازيًالهذا لغرض، وخاصة في حالة تصميم نماذج حيوانية معدلة جينيًا لدراسة المرض. وقد أصبح العلماء يعتمدون على هذه الحيواناتهذه الأبنية المثيرة للاهتمام – لتيسير نفاذهم إلى المعرفة العلمية وإحداث تقدم سريع. إن هذه النماذج الحيوانية المعدلة جينيا تمثل، في الوقت نفسه، ما لم نكن نعرفه سابقاً وبالتالي يجب أن نعيه، وما يصعب تفسيره وبالتالى يجب الاستمرار في دراسته بلا نهاية، وأننا كعالمات يمكننا التحكم والإبداعتقديم إجابات على الألغاز التي نواجهها. إن إدراك بناء هذا الواقع الاجتماعي وما يتجلى من تناقضات، يمكن أن يحرر العالمة النسوية من اتباع هذا النظام الاجتماعي المهيمن بعينه.

ترتبط تكنولوجيا التفكيكارتباطًا مباشرًا بتكنولوجيا السيميوطيقا. وتطرح «ساندوفال» تعريفا لتكنولوجيا التفكيكباعتبارها عملية تحدى الأشكال الإيديولوجية المهيمنة” (83,2000). إن إدراك أن الإيديولوجية هي نمطيعد جزءًا لا يتجزأ من هذه التكنولوجيا. ويهدف متجه «ساندوفال» للتفكيك إلى نزع شكلالإيديولوجيات الاجتماعية المهيمنة. ومن أجل تفكيك الإيديولوجيات الاجتماعية المهيمنة، يجب على العالمة النسوية – كونها قارئة مبتدئة للعلامات – أن تعود مرة أخرى إلى البدايات وتجلب شكلاً لما يجب عليها أن تنزع شكله. يجب أن تبدأ، على سبيل المثال، في رؤية الأنماط الموجودة في الإيديولوجيات أو النماذج المستخدمة للتوصل إلى المعرفة العلمية. ويجب أن تمزق النسيج لتتبين الخيوط الاقتصادية، والتقنية، والسياسية، والعضوية، والتاريخية، والأسطورية والنصيةالتي تؤدى جروحها مجتمعة إلى عدد من العُقد في المعرفة التي تصنع الممارسات” (Haraway 1997.68)، وبالتالي تضع في دائرة الضوء ذلك الوعى المنتج اجتماعيًا في البيئة المحيطة بها. وعندئذ يعد التفكيك بهذا المعنى بمثابة ممارسة الكشف عن أنماط الإيديولوجيا من خلال إقامة روابط لا تجرى إقامتها عادة، أو – في واقع الأمر – بناء روابط جديدة وبديلة، بينما توجد في داخل الهوامش. وتتضمن الخطوة الرابعة في الممارسة النسوية لاختيار الأجندة البحثية أن تلقى العالمة النسوية الضوء على الأنماط الخفية، لكنها موجودة دائمًا، للإيديولوجيا التي تؤثر في النماذج العلمية وغير العلمية للمعتقدات التي تعتمد عليها هي نفسها لإنتاج المعرفة العلمية.

وفى حالة المثال الخاص بي، تمثل علامة النموذج الحيواني شكلاً إيديولوجيا مهيمنًا. لقد كان أغلب العلماء الذين عملت معهم يقبلون عدم الاعتماد بشكل كامل في عملهم على خلية خارج الجسم، حيث أصبح النموذج الحيواني داخل الجسم يمثلبما يثير قدرًا كافيًا من الدهشةمقاربة كليةلإجراء بحث في البيولوجيا الإنجابية. وقد نحينا جانبًا، على نحو مناسب، أن إدخال الجينات إلى الأجنة الحيوانية لعمل نماذج حيوانية معدلة جينيًا، والاحتفاظ بالحيوانات محبوسة في أقفاص، أو إزالة غددها التناسلية وضخها مع الهرمونات، يمكن أن تتعارض وفكرة العمل مع الحيوان كله“. وفي واقع الأمر، هذه إحدى اللحظات النادرة (وفقط لأنها مناسبة) التي يتخذ فيها أغلب العلماء موقفًا ضد التقليصية. إن إجراء البحوث داخل الجسم أو العمل على النموذج الحيواني يعد شكلاً ايديولوجيًا مهيمنًا في هذا البحث العلمي، لأن ممارسات عقد المعرفة ساندت في القيام بذلك. وعند التفكير حول العمل على النموذج الحيواني المعدل جينيًا، ليس من العسير أن نرى الأنماط في هذه الإيديولوجية المهيمنةبدءًا من استخدام أجساد الخاضعين في البحوث الطبية والعلمية، حيث تتقارب تواريخ أجساد الحيوانات والنساء في أغلب الأحيان، إلى الإمكانات الاقتصادية المربحة للإيديولوجيا الدائرية، والتي يجب بمقتضاها أن يواصل الباحث العلمي إنشاء وتدمير موضوعالدراسة. ويمكن بسهولة فك هذه الأنماط الخفية من الإيديولوجيا في حالة الحيوانات المعدلة جينيًا، ونماذج الحيوانات بصورة عامة، بغية إلقاء المزيد من الضوء على الوعي المنتج اجتماعيًا والذي يعمل بموجبه أغلب علماء هذا المجال.

إن التغيير الأخير لمنهاجية المقموعين يضع الأدلجة الشارحة في الموقع النهائي لممارسة اختيار الأجندة البحثية. وكما ذكرنا أعلاه، تمثل إحدى أسباب اختيار منهج المقموعين في أنه يوفر تحليلاً شبه إرشادي وإطارًا عمليًا للتغيير. ووفقًا لما تطرحه «ساندوفال»، تعد تكنولوجيا الأدلجة الشارحة بمثابة عملية الاستيلاء على الأشكال الإيديولوجية المهيمنة، واستخدامها كليا بغرض تحويلهاوهو ما يعد ضروريًا على نحو مطلق لإجراء تدخلات هادفة في الواقع الاجتماعي” (83,2000). وتتمتع العالمة النسوية بميزة كونها من الداخل/ من الخارج، ولديها فرصة استخدام هذه التكنولوجيا للتدخل في إنتاج المعرفة العلمية عن طريق طرح تساؤلات مختلفة“. والعالمة النسوية تحقق التوازن بالكامل مع الأدلجة الشارحة. كما تمتلك الإمكانات من خلال الاكتشافات العلمية الجديدة، إما (من أجل) تقديم الإيديولوجية المهيمنة الأصلية باعتبارها ساذجة – ولم تعد طبيعية – أو لكشف وتحليل وإضعاف دلالتها بطريقة أخرى” (109). ومع هدف كشف وتحويل، و/ أو إضعاف الأشكال المهيمنة للإيديولوجية العلمية، تضم الأدلجة الشارحة الخطوة الأخيرة في ممارسة اختيار الأجندة البحثية.

ولنتناول، لآخر مرة، قرار إجراء بحوث خارج الجسم في مقابل إجراء بحوث داخل الجسم، وما يعنيه ذلك بالنسبة للعالمة النسوية من زاوية ممارسة اختيار الأجندة البحثية كعمل سياسي. وكنزوع تأسيسي في العلوم البحثية الحديثة، يمكن القول إن التقليصيةفكرة إمكانية فهم كل كائن بيولوجي معقد عن طريق اختبار المكونات الفردية والآليات البسيطةربما تُعد واحدة من أكثر الأشكال الإيديولوجية هيمنة، والتي تواجهها العالمة النسوية. ومع ذلك، ففي بحثي في ميدان البيولوجيا الإنجابية، كنت معنية بإيديولوجية مهيمنة أخرى تضع بوجه خاص إطارات تراتبية حول الأجزاء الإنجابية بالجسد الأنثوى، على الرغم من ارتباطها بدرجة كبيرة بإيديولوجية التقليصية. لقد كنت اعتقد، ولا أزال، أن كثيرًا من البحوث العلمية التي تؤثر في الصحة الإنجابية والجنسية لملايين من النساء حول العالم تتأثر بعمق من جراء هذه الإيديولوجيا المهيمنة التي تضع المخ تحت سيطرة الغدة النخامية والغدد التناسلية. وقد قررت أن استخدم في أعمالي العلمية تقنيات البيولوجيا الجزيئية على خط خلوی خارج الجسممنتجًا من خلال مبادئ التقليصية – لمواجهة هذه الإيديولوجيا التراتبية. وبوصفي من الداخل/ من الخارج في التقاليد المهيمنة بالعلم، كانت خدمتی المزدوجة للتقليصية تدفعها، في واقع الأمر، رغبتي في التدخل في البناء العلمي الذي يؤثر بشكل مباشر في حياة النساء اللاتي يستخدمن موانع الحمل وغيرها من التكنولوجيات الإنجابية المعالجة هرمونيا، لقد استخدمت مبادئ التقليصية من أجل تطوير ممارسة نسوية جديدة، ومن خلال استخدام التقليصية على شكل إجراء البحث في البيولوجيا الجزيئية، فضلاً عن إجراء بحث على الخلية خارج الجسم، فقد حاولت مصادرة هذه الإيديولوجيا المهيمنة بغية إنشاء معرفة علمية جديدة، والتحدث إلى كل العلماء الذين يستخدمون التقليصية لتطوير النموذج التراتبي من البيولوجيا الإنجابية في المقام الأول. ويمكن أن يقال أننى استخدمتالتقليصية لمحاولة كشف وتحويل وإضعافدلالة التقليصية بشكل آخر. ومن هنا يمكن اعتبار اختيار الأجندة البحثية لإجراء أبحاث خارج الجسم بمثابة مناورة سياسية، أي مناورة لديها إمكانات العمل على مستوى الأدلجة الشارح.

لقد حاولت في هذه الورقة البحثية أن أتحدث إلى جمهور مختلف. إننى معنية بالطبع بصياغة استراتيجيات يمكن أن تستخدمها العالمة النسوية في أنشطتها العلمية اليومية. لكنني، بوضع المعضلات واختيار الأجندة البحثية والقدرة على طرح تساؤلات مختلفةبمحاذاة الممارسات النسوية، حاولت أيضًا إقامة حوار بين العالمات النسويات والباحثات في مجال دراسات العلم النسوية وفلاسفة العلم، حيث تعنيهم جميعًا، في تقديري، هذه القضايا، حتى وإن كان لأسباب متمايزة. وكما قال روس (Rouse)، عند تعريف فكرته حول الممارسة:

هذا المفهوم المعياري للممارساتيغير طريقة تفكير المرء حول الأبعاد السيمانطيقية المعرفية والسياسية للممارسات العلمية، وطرق ترابطها بينيا…. والتفكير الفلسفي حول الممارسات المدركة بهذه الطريقة يجب أن ينخرط نقديًا مع الممارسات نفسها، بطرق تكون أيضًا معرضة للمساءلة حول المطروح والعرضة للخطر في تلك الممارسات (162,2002).

هنا يكمن إنشاء واستخدام تكنولوجيات نسوية جديدة، حيث تصبح الممارسات في الصدارة. إن التكنولوجيا قد تكون شرًا، لكن الأمية التكنولوجية أكثر سوءًا. كما أن استدعاء تكنولوجيات، مثل المتجهات ونقل المعلومات، من أجل وصف المناورات السياسية للمارسة بعد أيضًا مناورة سياسية. إنها طريقة للانخراط الناقد في الممارسة العلمية نفسها. ومن أجل استمرار الحديث حول الممارسة بين مختلف الفروع العلمية بين الجمهور المختلف المشار إليه أعلاه، يجب أن تمتلك جميع الأطراف المعنية استعارات وتمثيلات، وربما حتى القليل من الفكاهة.

لقد اخترت قدرًا من مقاربة سيقان جذور النبات من أجل رسم تصور للروابط القائمة بين نظرية الاستناد إلى رؤية، والموضوعية القوية، والمعارف المتوفرة، والواقعية الفاعلة، ومنهاجية المقموعين بغية تطوير ما أعتقد أنه يخدم سلسلة من الإرشادات مرنة التعريف، وإطار مناسب لممارسة اختيار الأجندة البحثية في مجال العلوم الطبيعية. وقد حاولت الامتداد أيضا، كعالمة نسوية، واتباع تموضع الوعى المتباين داخل العلوم الطبيعية. والأكثر خصوصية، إنني أوضحت كيفية استخدام منهاجية المقموعين لتمويل الممارسات العلمية التقليديةمن داخلها.

وانطلاقًا من قوة موضعية الداخلي/ الخارجي، لا تعنى الممارسة النسوية لاختيار الأجندة البحثية الرفض أو التخلص بالكامل من جميع أنشطة البحث العلمي التقليدية، بل بالأحرى إمداد العالمة النسوية بالأدوات الضرورية لإنتاج مقاطعات أو تمزقات إيجابية في عمليات صنع المعرفة العلمية. إنها ممارسة تستهدف تحويل المعضلات المنتجة للقلق إلى قدرة على طرح تساؤلات مختلفة“. ويجرى، في نهاية المطاف، ترجمة هذه القدرة إلى سلطة الباحثة لإنتاج معرفة علمية مختلفة، تُعد في النهاية هدف كل عالمة نسوية.

إنني ممتنة للمشاركين في مؤتمر دراسات الابستمولوجيا والمناهج والميتافيزياء والعلوم، بجامعة واشنطن، لمساعدتي على صياغة أفكار هذه الورقة البحثية؛ ولمشاركي المائدة المستديرة حول الفلسفة والعلوم الاجتماعية بجامعة كاليفورنيا، سانتا كروز، لما قدموه من تعليقات على النسخة الأولى. كما أود أن أتوجه بالشكر أيضًا إلى مراجعي مجلة هيباتيالكرمهم كأساتذة أكاديميين وما قدموه من انتقادات شديدة الأهمية.

(*) صدر هذا المقال في مجلة هيباتيا” (Hypatia)، المجلد 23، العدد 4 (أكتوبرديسمبر 2004). حقوق النشر @ ديبولينا روی.

** مترجمة

1- “إثارة تساؤلات مختلفة“. هي عبارة شاع استخدامها بين النسويات الباحثات في فلسفة العلم والعالمات النسويات عند محاولتهن وصف طرق تدخل التوجه النسوي في عمليات العلم. وقد تعرفت على هذا التعبير للمرة الأولى عندما كنت أشاهد فيلم:

Asking Different Questions: Women in Science (1996).

2- أود أن أعرب عن شعوري بالامتنان لأستاذتي دينيس باشام (Denise Belsham)، التي أشرفت على أطروحتى للدكتوراة، لما أتاحته لى من فرص المشاركة في هذه المشروعات البحثية، والإفادة من خبرتها في مجالات علم الغدد الصماء العصبية والبيولوجيا الجزيئية.

3- تقدم مارتن (Martin) في كتابها المهم The Woman in the Body (1987) انتقادًا للنظريات العلمية التي تدرس موضوع الدورة الشهرية وانقطاع الطمث. وطرحت ملاحظة مفادها أن النموذج الشائع الذي يستخدمه العلماء لتقديم تصور حول محور الغدد التناسلية الأنثوية كان يتسم بالتراتبية الهرمية، مع السيطرة على منطقة موجودة في المخ ومعروفة باسم هيبوثلاميس (41).

4- لقد استعرت جملة المعضلات المنتجة للقلق من هاردينج (Harding 2004 b. 1).

5- إنني انطلق هنا من استخدام باراد (Barad) لمصطلح الظواهر بمعنى عدم الانفصال الأنطولوجي بين مكونات العملالفاعلة. أي أن الظواهر تعتبر علاقات أولية أنطولوجيةعلاقات لم تكن موجودة سلفا” (815,2003).

6- عندما كانت كامبل (Campbell) تصف نظرية هاراوى حول المعارف المتوفرة، أشارت إلى أنه عندئذ، تتيح المعارف المتوفرة استراتيجية لتطوير نموذج نسوي للدراسات العلمية الانعكاسية، لكنها لا تقود – في نهاية المطاف – إلى تطوير هذا النموذج. وعلى الرغم من دلائل نجاحها، فإن المعارف المتوفرةلم تجب عن تساؤلات العلم في مجال النزعة النسوية” (173,2004). وأنا أختلف مع تقييم كامبل للتقدم الذي حققته «هاراوي» في تطوير وتقديم نموذج نسوى وثيق الصلة بالعلوم. إنني أرى أن المعارف المتوفرة وتصور هاراوى للكيان العلميالتقني، مثلهما مثل خلايا ساق النبات وخيوطه اللاصقة، بمثابة نموذج في حالة تقدمولم يكن مُصممًا بالضرورة بهدف تقديم إجابة – أو الإجابة. بل هما بالأحرى وسيلة نحو إيجاد إجابات وتطوير الممارسات النسوية، وعلى الرغم من أن المعارف المتوفرة لم تجبعن تساؤلات العلم في ميدان النزعة النسوية، فإنني أعتقد أنها قد واجهت سؤال العلم في النسوية بطريقة لم تنجح في القيام بها من قبل أي محاولات سابقة لتنظير الممارسات العلمية النسوية.

7- إنني على وعى بأن «هاراوى»، في كلماتها، قد مضت نحو الهلاك“. في كتابها الأخير بعنوان The Companion Species Manifesto (2003)، تتحرك «هاراوی» بعيدًا عن استخدامها لفكرة الكائن الفضائي، وتشرح قائلة: “لقد أصبحت أنظر إلى الكائن الفضائي باعتباره شيئًا حديث الولادة في إطار عائلة أكبر وأغرب من الأجناس” (11)، وأن هذا الكائن الفضائي لم يعد بإمكانه القيام بالعمل ككلب حراسة وجمع الخيوط اللازمة للبحث الناقد” (4). على أنني اخترت الاستمرار في استخدام هذه القرابة الغريبة كعبارة مجازية تشير إلى العالمة النسوية. وعند هذه النقطة في مشروعي، ربما أكون أكثر نجاحًا في إحضار النظرية النسوية إلى العالمة النسوية المعزولة في معملها، وذلك بالامتداد وصولاً إلى ذيل الكائن الفضائي بدلاً من مخلبه. وبمجرد وجودها، أتفق مع أن كل شيء يمضى إلى الهلاك.

8- لقد أنشأت «هاراوی» شخصية الشاهد المتواضع المتغير المساعدتنا على تصور الانخراطات النسوية البناءة داخل عوالم العلم والتكنولوجيا. وهي تشرح أن شاهدها المتواضع، بدلاً من كونه معارض ببساطة، يتورط بالضرورة في شبكة القصص، والوكالات، والأدوات التي تشكل التكنولوجيات“. وتكمن مهمة الشاهد المتواضع المتغير في تعلم وممارسة المعارف المختلطة والوعي المتباين الأكثر إخلاصًا لأسلوب عمل العالم” (3, 1997). وبالانتقال من هاراوى إلى «ساندوفال»، يكمن أملي في زيادة توضيح الممارسة ذات الصلة بالوعي المتباين للعالمة النسوية التي تعيش في ميادين العلوم الطبيعية. إنها بالفعل شاهدة متواضعة متورطة، لكن التغيير مطلوب من أجل النجاح في طرح تساؤلات مختلفة.

9- استخدمت «ساندوفال» المصطلحات التالية: بناء المقاومة، والفاعلية في الموقع، والوعي المتباين (2000).

Asking different questions: women and science. 1996. Montreal: National Film Board of Canada.

Barad, Karen. 2003. Posthumanist performativity: Toward an understanding of how matter comes to matter. Signs: Journal of Women in Culture and Society 28 (3): 801-31.

Belsham, Denise, et al. 1998. Regulation of gonadotropin-releasing hormone (GnRH) gene expression by 5a-dihydrotestosterone in GnRH-secreting GT1-7 hypothalamic neurons. Endocrinology 139: 1108-14.

Campbell, Kirsten. 2004. The promise of feminist reflexivities: Developing Donna Haraway’s project for feminist science studies. Hypatia 19 (1): 162-82.

Code, Lorraine. 1991. What can she know? Ithaca, N. Y.: Cornell University press.

Daston, Lorraine. 1992. objectivity and the escape form perspective. Social Studies of Science 22 (4): 597-618.

ـــــــ, and peter Galison. 1992. The image of objectivity. Special issue, Representations 40:81-128.

Douglas, Heather. 2004. The irreducible complexity of objectivity. Synthese 138: 453-73.

Fischer, Frank, 2000. Citizens, experts, and the environment: The politics of local knowledge. London: Duke University press.

Haraway, Donna J. 1991, Simians, cyborgs, and women: The reinvention of nature. New york: Routledge.

_____, 1997. Modest_Witness@ Scond_Millenium. FemaleMan_Meets_OncomouseTM : Feminism and technoscience. New York: Routledge.

_____, 2003. The companion species manifesto: Dogs, People, and significant otherness. Chicago: Prickly paradigm Press.

Harding, Sandra. 1991. Whose Science? Whose knowledge? Thinking form women’s lives. Ithaca, N. Y.: Cornell University Press.

____, 1998. Is science multicultural? Postcolonialisms, feminisms, and epistemologies. Bloomington: Indiana University Press.

____, 2004a. A socially relevant philosophy of science? Resources from standpoint theory’s controversiality. Hypatia 19 (1): 25-47.

_____, 2004b. Introduction: Standpoint theory as a site of political, philosophic, and scientific debate. In The Feminist standpoint theory reader: Intellectual and political Controversies, ed. Sandra Harding. New York: Routledge.

Hess, David. 1997. Science studies: An advanced introduction. New York: New York University press.

Hubbard, Ruth. 1995. Profitable promises: Essays on Women, science, and sustainable development. New York: Routledge.

Longino, Helen. 1993. Subjects, power, and knowledge: Description and prescription in feminist philosophies of science. In Feminist Epistemologies, ed. Linda Alcoff and Elizabeth potter. New York: Routedge.

Martin, Emily. 1987. The woman in the body: A cultural analysis of reproduction. Boston: Beacon Press Books.

Rouse, Joseph. 1996. Engaging science: How to understand its practices philosophically. Ithaca, N. Y.: Cornell University Press.

_____, 2002. How scientific practices matter: Reclaiming philosophical naturalism. Chicago: University of Chicago Press.

Roy, Deboleena. 2007. Somatic matters: Becoming molecular in molecular biology. Special issue, Rhizomes: Cultural Studies in Emerging Knowledge 14 (Spring).

_____, and Denise Belsham. 2002. Melatonin recptor activation regulates gonadotropin-releasing hormone (GnRH) gene expression and secretion in Gti-7 GnRH neurons: Signal transduction mechanisms.

Journal of Biological Chemistry 277: 251-58.

_____ et al. 1999. Estrogen directly represses gonadotropin-releasing hormone (GnRH) gene expression In estrogen receptor-a (ER-a)- and Erß-expressing GT1-7 GnRh neurons. Endocrinology 140: 5045-53.

Sandoval, Chela. 1995. New sciences: Cyborg feminism and the methodology of the oppressed. In The cyborg handbook, ed. Chris Hables Gray. New York: Routledge.

_____, 2000. Methodology of the oppressed. Minneapolis: University of Minnesota Press.

_____, 2004. U. S. third-word feminism: The theory and method of differential oppositional consciousness. In Harding, Feminist standpoint theory reader.

Schiebinger, Londa. 1999. Has feminism changed science? Cambridge: Harvard University Press.

Tuana, Nancy. 2001. Material locations: An Integrationist alternative to realism? social Constructivism. In Engendering Rationalities, ed.

Nancy Tuana and Sandra Morgen. New York: SUNY Press.

Wylie, Alison. 2004. Why standpoint matters. In Harding feminist standpoint theory reader.

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات