المنظـور مـن مـوقـع نسـوي: إعـادة نظـر*
لقد كانت بداية مقالتي التي تحمل عنوان “المنظور من موقع نسوي: استحداث نوعي لأرضية مادية تاريخية نسوية” (“The Feminist Standpoint: Developing the Ground for a Specifically Feminist Historical Materialism”)
على هيئة مسودة كتبتها في ديسمبر من عام 1978 تعليقًا على ورقة قدمتها ساندرا هاردنج Sandra Harding في الاجتماع النسوي للجمعية الفلسفية الأمريكية. وظللت أواصل إعادة كتابتها حتى صيف عام ۱۹۸۱ حين اتخذت شكلها الأقرب لما نشرت عليه وقتها. وعلى مدى الأعوام التي تلت نشر المقالة، ثمة عدد من الأطروحات الكثيرة في مجال النظرية النسوية تمركز حول نظرية المنظور من موقع [نسوي]، في مقابل اتجاهات ما بعد الحداثة وتلك التي تنتقد نظرية المنظور من موقع [نسوي] من منطلقات ما بعد حداثية. لست بالطبع الباحثة الوحيدة التي تقدمت بأطروحات تستند إلى الموقع، كما أن عددًا من الذين علقوا على مقالتي قد صنفوا أخريات غيري بأنهن من المشتغلات بنظرية المنظور من موقع نسوي.1 وباتساع دائرة الجدال، أصبح من الممكن أن نجد نقاشات حول نظرية المنظور من موقع نسوي بوصفه فئة عامة من فئات التحليل النسوي لا ترتبط بها أسماء معينة،2 إلا أنه في تلك الحالات تحديدًا، يحدث نقل ووصف لهذه النظرية على نحو ممعن في الوهم والخيال. ولقد وجدت نفسي في أكثر من مناسبة أتعجب متسائلة إلى أية مصادر يشير – فعليًا – الكاتب الناقد أو الناقدة، وهو أمر يخلق مشكلة في تعاملي مع الاستجابات والمقالات النقدية المعنية بالمنظور من موقع نسوي، فحين يجري إغفال ذكر اسم مؤلفة العمل المشار إليه (أو حين تذكر الأسماء دون عناوين الكتب وأرقام الصفحات، كما هو الوضع الغالب)، يصبح من الصعب تحديد النص الذي يستند إليه النقد. وفضلاً عن ذلك، كان من قبيل المفاجأة بالنسبة لي أن أجد عملي كثيرًا ما يقارَن بأعمال أخرى منخرطة في مشاريع مختلفة إلى حد ما، بل وأحيانًا مختلفة تمامًا.3 ومن ثم، بدا لي أفضل الحلول أن أستجيب فقط إلى المراجعات النقدية التي تحيل صراحة إلى عملي، لا إلى “الأطر المعرفية التي تدعم المنظور من موقع [نسوي]” بشكل عام، كما أنه بدلاً من استجيب إلى كل نقد على حدة، بدا لي من الأجدى أن أكتب ردي على عدد من المآخذ النقدية العامة التي تقدم بها (في معظم الحالات) أكثر من كاتب واحد.
أود هنا، إذن، أن أنظر في بعض ردود الفعل على أطروحتي بهدفين: أولاً، أن أوضح بيت القصيد فيما كتبته. وثانيًا، أن أعيد كتابة الحجج التي سقتها، ساعيةً إلى تصحيح بعض ما أعده عيوبًا مهمة فيها. ومن باب المفارقة، ثمة العديد من المقالات المنشورة في نقد عملي – تبدو لي– تعكس أوجهًا مهمة من قراءة المشروع بشكل غير سليم. كنت أحاول السير على طريق ماركس ولوكاش، وأردت أن أترجم مفهوم المنظور من موقع البروليتاريا إلى إطار نسوي، باستخدام لغة المماثلات (analogies). فقد تبنى ماركس في كتابه رأس المال Capital نموذجًا بسيطًا يتكون من طبقتين، يتم فيه تبادل كل شيء حسب قيمته. بيد أن ماركس يشرف على نهاية المجلد الثالث قبل أن يقرر: “أخيرًا نصل إلى مشكلة الطبقة“، تلك التي يتولى إبرازها بوصفها مشكلة أشد تعقيدًا وأكثر تطلبًا لمعالجة دقيقة غير مباشرة، ولكن المخطوطة تتوقف هنا دون تقديم مثل هذا التحليل. ومع ذلك، ونظرًا للإمكانات الكامنة في استراتيجية ماركس، فقد تبنيت قياسًا عليها فكرة الثنائي المتعارض بين طرفين، النسويات من ناحية والتصورات الذكورية للبطريركية من ناحية أخرى. ثم سيرًا على خطى مقالة لوكاش “التشيئ ووجهة النظر من موقع البروليتاريا” (“Reification and the Standpoint of Proletariat”)،4 أردت أن أترجم الفكرة المعنية بالمنظور من موقع البروليتاريا (بما فيها مهمتها التاريخية) إلى مفردات نسوية. أردت أن أعيد في مقالتي صياغة أطروحات لوكاش في ضوء مقدمته التصحيحية (1967) لكتابه التاريخ والوعي الطبقي History and Class Consciousness، التي يتناول فيها بعض الجوانب المهمة بالنقد الذاتي، وقد تنبه لوكاش – على وجه الخصوص – لأهمية مسألة فشله في أن يبدأ تحليله من موقع العمل أو العمال بدلاً من الأشكال المشيَئة للسلع في سياق الرأسمالية، أي أن يبدأ تحليله بالنشاط البشري نفسه.
وقلت أيضًا أن حيوات النساء – مثلها مثل حيوات عمال البروليتاريا في النظرية الماركسية – تحتوي هي أيضًا على إمكانات استحداث أمثلة نقد علاقات السيطرة، ورؤى عن ترتيبات اجتماعية بديلة، وعبر النظر في الأنماط المتمأسسة من تقسيم العمل بين الجنسين، زعمت أنه يمكن استحداث منظور من موقع نسوي من شأنه أن يعمق النقد المتاح من منظور موقع البروليتاريا، ويفسح مجالاً لنقد الأيديولوجية البطريركية والعلاقات الاجتماعية على نحو يهيئ رصدًا تاريخيًا عن تبعية النساء أكثر اكتمالاً من الرصد الذي يتيحه نقد ماركس للرأسمالية.
ثمة عدد من المسائل المثيرة للخلاف تضمنتها صياغتي لفكرة تبني منظور من موقع نسوي، أهمها أننى قمت بافتراض وجود سلسلة من مستويات للحقيقة، يتضمن أعمق مستوى فيها المستوى السطحي (surface) أو المظهر (appearance) كما يقوم بتفسيره أيضًا. ولقد نما إلى إدراكي الآن أن فكرة مستويات من الحقيقة هي فكرة لا تلاقي رواجًا، وأن ظواهر السطح هي التي تنعم وحدها بالقبول والمصداقية هذه الأيام. إلا أن اللغة المجازية عن السطح والعمق ليست مسألة ضرورية في مشاريع المنظور من موقع نسوي، ولا أيضًا نظريات نانسي تشودورو Nancy Chodorow القائمة على علم تحليل النفس. ومع ذلك، أعتقد أن مشاريع المنظور المستندة إلى موقع معين تظل تحمل أهمية وفائدة لمعظم الجماعات المقموعة.
ولا يضيرنا هنا تكرار ذكر أهم الجوانب الموجودة في نظرية المنظور المستند إلى موقع:
أولاً، إن الحياة المادية (الوضع الطبقي في النظرية الماركسية) لا تقوم بتشكيل العلاقات الاجتماعية فحسب، وإنما هي أيضًا تفرض حدودًا على طرق فهمنا لها.
ثانيًا، إذا كانت الحياة المادية تتشكل بطرق متعارضة جوهريًا بالنسبة إلى جماعتين مختلفتين، فلنا أن نتوقع أن يكون الفهم المتاح لإحداهما هو بالضرورة وجه مقلوب بالعكس (an inversion) لإدراك الجماعة الأخرى، وأنه في إطار أنساق السيطرة يعد الإدراك المتاح للجماعة الحاكمة إدراكًا جزئيًا كما أنه إدراك منحرف (perverse)، (وهو وصف أقصد به الإشارة إلى كونه غريبًا ومؤذيًا).5 وقد أضيف اليوم – على سبيل الصياغة الجديدة – أن ثمة طائفة متنوعة من وجوه الفهم والفهم المقلوب/ العكسي “تضاهي” الطائفة المتنوعة من الجماعات المتسيدة والجماعات المسودة أو التابعة.
ثالثًا، يسهل تصور أن رؤية الجماعة الحاكمة هي التي تشكل العلاقات المادية التي يجد الناس جميعًا أنفسهم مضطرين إلى المشاركة فيها، وبالتالي ليس من الممكن نبذ هذه الرؤية أو صرف النظر عنها بوصفها مجرد مسألة وعي زائف. إننا لسنا فقط لا نملك خيارًا آخر غير المشاركة في السوق، بل أيضًا نحن نسمع ونقرأ بلا انقطاع عن فضائل السوق الذي سيحل مشاكلنا كلها وينشر الديمقراطية.
رابعًا، من هنا فإن الرؤية المتاحة لجماعة من الجماعات المقهورة شيء يتطلب نضالاً، كما أنها تمثل إنجازًا يقتضي مسبقًا ممارسة التحليل المنهجي واكتساب معرفة أو ثقافة معينة تتأتي فقط من خلال النضال السياسي في سبيل تغيير تلك العلاقات.
خامسًا، على أساس أن رؤية المقهورين أو المقموعين هي رؤية واعية ومشتبكة مع معطيات الواقع، فإن الفهم الذي يمكن أن يتولد لديهم – بتبنيهم وجهة نظر من واقع موقعهم – يُظهر للوجود لا إنسانية العلاقات بين البشر، كما أنه يحتوي على دور يُعَدُّ على الصعيد التاريخي دورًا فاعلاً في التحرر من القهر.6 وفي حين كان ماركس يرى الدور المحرر لطبقة البروليتاريا نابعًا جزئيًا من مهمتها التاريخية، فإني أود أن أضع بدلاً من هذه النظرة عبارة بل هوكس bell hooks عن التوق إلى عالم أفضل وأكثر عدلاً.7
وحين قمت بالتفكير والتأمل في الانتقادات التي وجهت إلى مقالتي وأعدت تقييم ما طرحته من دعاوى، فوجئت بوجود أمرين يبدوان متناقضين. أولاً، إن مبعث وجود هذه الانتقادات ومصدر دعمها هو الفشل في رؤية البعد الماركسي في مقالتي، بتشديدها على فكرة علاقات اجتماعية مرتبطة بظرفها التاريخي وقائمة بين جماعات بالأحرى عن أفراد. ومن ثم فإن بعض هذه الآراء النقدية يرتكز إلى قراءة لمقالتي بصفتها تقع داخل المدرسة الإنسانوية الليبرالية. بيد أنني في الوقت نفسه أعتقد أيضًا أن العيوب الكامنة في أطروحتي يمكن عزوها إلى محاولتي أن أضعها في إطار المدرسة الماركسية، وهي مساعٍ جاءت في شكل محاولة لتنظير موقف النساء عبر مماثلته بموقف البروليتاريا على نحو اعتمد قراءة حرفية أكثر مما ينبغي للنموذج الذي وضعه ماركس عن المجتمع بصفته مكونًا من طبقتين، وهو في حد ذاته نموذج جامد أكثر من اللازم.
ومن ثم، فقد عاني الجدل الذي أثارته مقالتي والجدالات المتعلقة بالأسس المعرفية الداعمة لنظريات المنظور من موقع (نسوي) بشكل عام، من قراءة لأطروحتي لا تدعمها معرفة جيدة بالمدرسة الماركسية، من ناحية، كما عانى في الوقت نفسه من إصرار متزمت من جانبي على صلاحية نموذج المجتمع المكون من طبقتين للتطبيق على وضع النساء في ظل الرأسمالية في طورها المتقدم.
وإذ توليت على مر أعوام التفكير مليًا في تلك الأمثلة وغيرها من مناقشات نظرية المنظور من موقع نسوي، فقد توصلت إلى قناعة بأن السبب الأكبر في هذا الخلاف يكمن في ذلك التداخل القائم بين قضايا السياسة من جانب، والمسائل الفلسفية الأكثر تقليدية عن الحقيقة والمعرفة من الجانب الآخر، وما يصاحب ذلك من تعارض في الأسس التي يقيم عليها كل جانب ادعاءات الشرعية المعرفية، وأعني بذلك أنه يجب الإقرار بأن نظريات المنظور من موقع (معين/ نسوي) تشكل محلاً للنزاع بطريقة لا تختلف كثيرًا عن الوضع الذي يكتنف مفهوم القوة/ السلطة، وفقًا لما سبق وأشرت إليه عن كون الآراء والدعاوى حول كيفية فهم القوة/ السلطة تتباين بفعل تباين الأطر المعرفية التي تستند إليها. ومن ثم، فلعل هذه القضايا وتأثيراتها هي المسألة التي تشرح وتبرر وجود هذا العدد من التفسيرات (المتعارضة) لنظريات المنظور من موقع نسوي. ومع ذلك، أفضل الآن أن أرى في انتشار التأويلات المختلفة ما يشير إلى أن هذه النظريات تحرك أرضية خصبة للجدالات النسوية حول القوة/ السلطة، والسياسة وأطر المعرفة.
تری نانسي فريزر وليندا نيكولسون Nancy Fraser and Linda Nicholson أنني أزعم التوصل إلى “تحديد نوع أساسي من النشاط الإنساني موجود في كل المجتمعات له قدرة على التفسير تتجاوز الفوارق الثقافية… وهذا النشاط يرتبط بحاجة بيولوجية أو شبه بيولوجية، ويُنظر إليه بوصفه ضروريًا من الناحية الوظيفية من أجل إعادة إنتاج المجتمع“.8 وتستطرد الكاتبتان فتقرران الشك في أن هذه الفئات لها “أية قدرة تفسيرية حاسمة موجودة عبر مختلف الثقافات“، وبالتالي فإن إنشاء “نظرية اجتماعية تدعي الكونية” هي مسالة تُعَرِّضُ من وضعوا هذه النظرية لخطر إسقاط التصورات السائدة في مجتمعهم على مجتمعات أخرى. وتشترك تريزا دي لوريتيس Teresa de Lauretis معهما في هذا التقييم، فتقول عن عملي إنه يُعَدُّ قولاً بأن ما يُمَكِّن “النساء” من “منظور للرؤية” “حقيقي” وغير منحرف أو مشوه هي عملية الإنشاء الثقافي لهن بوصفهن أمهات بناءً على قابلية جسدهن الإنتاجية.9 في هذه الصياغة، يصبح عملي وجهة نظر مبنية على المصير البيولوجي بدلاً من السعي إلى تكوين منظور من موقع نسوي.
تری جین فلاکس Jane Flax أنني أزعم في مقالتي أننا نملك إمكانية كشف حقائق عن مجمل الواقع (the whole) كما هو حقيقة، وتقول إن هذا يتطلب منظورا نقطة أرشميدية[ يطلق هذا التعبير على الفكرة النظرية أو المثاليـة عـن إمكـان الابتعـاد والانفصـال عـن موضوع الرؤية أو البحث بما يكفي لأن نراه في مشهد مكتمـل يوضـح علاقاته بكـل شيء آخر. تلك النظرة الكلية والموضوعية من موقـع مستقل تمامًـا هـي مـا يوصـف بالنظرة من نقطة أرشميدية.] (Archimedean point) تقع خارج الترتيبات الاجتماعية التي تميز وضعنا الحالي. وتضيف أن هذا الإنشاء لمنظور من موقع نسوي “يعتمد على افتراضات غير مختبرة وقابلة للشك… بما في ذلك نظرة تفاؤلية عن كون الناس من شأنها أن تتخذ الموقف العقلاني المتفق مع مصالحها“، و“أن الحقيقة لها بنيان يمكن لعقل أشد كمالاً أن يكتشفه بصورة أشد كمالاً“. وهي تقول إن ذلك ما هو إلا شكل جديد من تبني أفكار فلسفة التنوير دون نظرة نقدية، وتضيف إن الاعتقاد في المنظور من موقع نسوي يفترض أن هؤلاء الواقعين تحت قهر لا تفسدهم تجربة الهيمنة، وأخيرًا تقول إنه يتطلب أن تكون النساء – على عكس الرجال – متحررات من حكم تأثير سائر علاقات السيطرة التي يشاركن فيها، ويتطلب “علاقة بالحقيقة وبالواقع مباشرة بلا وساطة“. 10
تقرأ إيريس يانج Iris Young مقالتي على أساس أنها تنطوي على القول بأن الشخصية الذكورية تتسبب في خلق مؤسسات التسيد والسيطرة وأن الشخصية الذكورية التي تتكون عبر ممارسة النساء لأمومتهن تعمل على قهر النساء، 11 ويعطى هذا الادعاء انطباعًا يستدعي إلى الخاطر بعض ادعاءات النسوية الراديكالية في بداياتها. وتستطرد إيريس يانج قائلة بأنني أصدرت “تعميمات فوق – ثقافية (transcultural) دون سند من التجربة الواقعية“، وتشير إلى أنه لا توجد بعد بيانات تدلنا على طبيعة القواسم المشتركة بين كافة المجتمعات.12 وهي تواصل قولها فتري أن الاتكاء على الأنوثة بصفتها مصدر القيم التي على أساسها يمكننا انتقاد الثقافة البطريركية أمر يفضي إلى نتيجة جوهرانية (essentialism)، أي إلى مسرد “ينظر إلى النساء بوصفهن فئة لها مجموعة من الخصائص الجوهرية“، بل ويجعل – هذا الاتكاء– موضع هذه الخصائص هو موضع إنتاج البطريركية نفسه، أي تكوين النساء البيولوجي ونشاط الأمومة.
وتری سوزان هكمان Susan Hekman أن الدعاوى من موقع نسوي “تتضمن بالضرورة الزعم بأن ثمة جوانب معينة من تكوين النساء تجعل للنساء موقعًا مميزًا عن غيره يهيئ لهن منظورًا فريدًا“، وهو زعم ينبعث في رأيها من تلك الجاذبية الخاصة الموجودة في فكرة “الارتباط الفريد بين المرأة والطبيعة“. 13 وهي تتولى بعد ذلك تحديد عدة مشاكل في مشروعي النظري: أولاً، إنني عبر اتخاذ العلاقة بين المرأة والطبيعة أساسًا يدعم مطالبتي بأساس معرفي نسوي، أقوم بتشييء – أي تثبيت– مفهوم الانقسام الكامل بين الطبيعة والثقافة ( nature/culture dichotomy) ثانيًا، هذا الطرح يتجاهل العناصر التاريخية في “منظور النساء” (“the women’s perspective”) كما أطلقت عليه سوزان هكمان، ويغفل عن أن النساء موجودات في سياقات اجتماعية معينة ومتباينة. وثالثًا، إن المشروع من النوع الذي يمكن أن يفضي إلى إحلال حقيقة جديدة وأرثوذكسية جديدة – أي معتقدات مهيمنة وجامدة – محل القديمة.14
اما كاتي فيرجسون Kathy Ferguson فهي تفصل بين الاستراتيجيات التأويلية (interpretive) والأخرى التأصيلية / الجنيالوجية (genealogical). وهي تريد أن تقول إن التأويل قد يكون تأويلاً ماديًا (materialist) أو تأويلاً مثاليًا (idealist)، ولكنها لا تستشهد إلا بكتاباتي في أمثلتها على “المدرسة” التأويلية. ولذلك تبدو بعض هذه الأمثلة وقد اعتصرت لتعطي تطبيقًا لمنهجي في “التأويل” من منطلق ماركسي. وترى كاتي فيرجسون أن استراتيجية التأويل تعتمد مبدأ أنطولوجيًا مفاده الاكتشاف[ المقصود هنا الاعتقاد في خضوع الحياة أو العالم لنظـام ما يمكـن التوصل لاكتشافه، عبر المعرفة البشرية.] ومبدأ هرمنيوطيقيًا مفاده التشكك،[ أي الإيمان بأنه يمكن التوصل إلى الحقيقة عبر استخدام استراتيجية تفسيرية تعتمـد فكرة التشكك، حيث يتشكك المرء في شتى الأقنعة والمظاهر الكاذبة التـي قـد تشـوه الحقيقة أو تخفيها.] وتتبنى فكرة البحث في مظاهر التمويه التي تخفي الحقيقة وتشوه ملامحها. وهي تعبر عن فحوى هذا الادعاء بالعبارة الآتية: “ولسوف تعرف الحقيقة، فتكون الحقيقة ما يطلق سراحك،“[عبارة مصدرها الإنجيل.] 15 بينما أرى – من ناحيتي – أنه في أماكن كثيرة من العالم يغلب أن تكون الحقيقة هي ما يزج بك في السجون أو يمحو أثرك من الوجود. ترى أيضًا كاتي فيرجسون أنه يغلب على استراتيجية التأويل السعي إلى تفسيرات ترتكز إلى فكرة البحث عن الأصول فتسعى إلى إيضاح الأساس الذي تنبثق منه الأشياء وتنمو، والعثور في مجموعة ظروف أصلية على شيء ما يكون هو الشيء الذي تتولد عنه الأشياء التي تأتي بعده. 16 وهي تقول كذلك إن التأويل استراتيجية تعول على “تكوين وحدات مفاهيمية، مثل فئة المرأة أو فئة النساء“.17 (ولنلحظ هنا استعمالها مرة أخرى لصيغة المفرد) [تعترض مؤلفة المقالة على محاولة كاتي فيرجسـون الإيحاء بـأن النسـويات التأويليـات – بما فيهن المؤلفة– يستخدمن أحيانًا فئـة “المـرأة“، وهـي مسألة تنتقـد بـصفتها ممارسة جوهرانية تقلص النساء إلى قاسم بيولوجي مشترك أو تجربة قهـر مشتركة على أساس الجنس أو (النوع)، وتتجاهل الاختلافات بين النساء بسبب محـاور أخـرى مـن عـلاقات القوة مثل الطبقة والعنصرية.] ويحالف الكاتبة الصواب إذ تقول إنه مع ذلك فإن الاستراتيجية التأويلية تحاول فهم الاختلاف، إلا أن منطق البحث عن “النساء” لا يفعل إلا تنحية الاختلاف جانبًا. 18 كما تتولى كاتي فيرجسون مناقشة مسألة نزوع استراتيجية التأويل إلى الاستعداد لاحتواء أية آخرية جذرية (radical otherness) وضمها في قلبها، وهي تدرك – على عكس معظم غيرها من المعلقات (أو المعلقين)- أن مبعث هذه المبادرة هو إصرار النسوية الماركسية على جدوى منهج ماركس الذي يقلص المجتمع الرأسمالي إلى نموذج مكون من طبقتين فقط فيما هو تبسيط مخل.19
وتتخذ وندي براون Wendy Brown موقفًا نقديًا مشابهًا في اتجاهه، وإن كان يذهب إلى مدى أبعد، حيث تتورط في ممارسة تتسم بعدم الأمانة البحثية وهي تكتب ضد أولئك الذين يعادون ما في بعد الحداثة من “تعفن سياسي وتشوش فكري“؛ فهي لكي تصنفني في الفئة نفسها مع آلن بلوم Allen Bloom وهي فئة “التأسيسية الرجعية” (“reactionary foundationalism”)، فقد لجأت إلى تأليف عبارات وأحاطتها بعلامات الاستشهاد لتوحي بأنها كلماتي بعينها، حتى تجعلني أتناسب بالتالي مع المكان الذي وضعته لي في تصنيفها، بيد أن هذا التدليس ليس بالأمر الذي يخفى على أي شخص على معرفة بأعمالي وأعمال آلن بلوم.20
وأنا أقرأ هذه التعليقات النقدية على مقالتي أجد غرابة في أن يقال إني أؤمن بأن الفئات البيولوجية لها دور حاسم في تفسير وضع النساء بشكل يجتاز الفوارق الثقافية، في حين أنني – في الواقع – أدين دينًا كبيرًا لنظرية تشدد على فكرة الخصوصية التاريخية. وفضلاً عن ذلك، تبدو تلك التأكيدات بأن فكرة المنظور من موقع نسوي القائمة على الافتراض بأن الناس تتخذ بالضرورة الموقف العقلاني المتفق مع مصالحها – وأن “العقل” له القدرة على أن يكتشف شكل الواقع – هي تأكيدات لا تتفق مع ما نزع إليه ماركس من: (۱) تأكيد أن الحقيقة تحتجب تحت طبقات من الأيديولوجية، (۲) تأكيد أن مفهوم العقل – في حد ذاته – له دور في إنشاء الرأسمالية، (3) آراء ترفض نهائيًا إمكان أن تتوافر لنا علاقة مباشرة غير وسيطة، بشيء اسمه الحقيقة، (4) إصرار على أن الطبيعة الإنسانية – في حد ذاتها – نتاج عمليات إنشاء اجتماعي (يفترض أنها تختلف نظرًا لاختلاف العلاقات الاجتماعية). فضلاً عن ذلك – وردًا على عبارة كاتي فيرجسون عن أني أبحث عن أصول أو جذور أصلية (origins) – لم يكن ماركس يبحث عن جذور؛ بل كان الحاضر هو نقطة انطلاقه الواضحة حيث قام بتحليل الرأسمالية وإرهاصاتها المباشرة. وقد نجد لهذا البحث عن جذور مصدرًا – بالأحرى – في مؤلف إنجلز أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة Origins of the Family، Private Property, and the State الذي يعد عملاً حافلاً بحدوس فكرية ونظرية.
تتخذ تريزا دي لورتيس موقفًا نقديًا إزاء مشروعي إلا أنها تعمل على مشروع يقاربه بشدة. وهي تقول إن المرحلة الراهنة من إعادة تكوين المفاهيم والتصورات الفكرية التي تشكل النظرية النسوية تتضمن إعادة تكوين مفهوم عن الذات (the subject) بوصفها تتكون وتتشكل بأبعاد متعددة وفقًا لمحاور متنوعة من الاختلاف تقطعها،21 ولكنها تقترح بدلاً من ذلك تبني وجهة نظر من موقع بلا مركز أو غير متمرکز (eccentric position)، خارج قبضة الذكر المحتكرة للمعرفة، أي أنها تقدم الاقتراح نفسه الذي ادعت جين فلاكس باستحالة تحققه. وهي تزعم أن الذات صاحبة الوعي النسوي يختلف وعيها عن الوعي الذي يتشكل ويتكون للنساء عبر تجربة القهر. هذه الذات تتسم بقدر أقل من النقاء، وعلى الأرجح تتواطأ مع الطرف القاهر، وتتعدد أبعاد تشكلها عبر عدة مواقع (positions) على امتداد عدة محاور من الاختلاف.22 وبينما تحظى بعض هذه الآراء بقبول من جانبي فلم أكن في مقالتي المنادية بمنظور من منطلق نسوي أدعي بالمرة أننا محض ضحايا بريئات وإنما أشير إلى أننا مرغمات على الاشتراك في مشاريع الجماعات المتسيدة.
ومن اللافت أن دعوة تريزا دي لورتيس إلى صياغة بديلة تشبه كثيرًا دعوتي الأولى؛ وبخاصة في شكلها الجديد الذي أطرحه فيما يلي بصفته مراجعة لأطروحتي الأولى المتعلقة بالمنظور من موقع نسوي. ترى تيريزا دي لورتيس أن تكوّن “ذوات خارجة عن المركز” يتضمن نقلة في الوعي التاريخي، وهي نقلة تعيد تعريف مفردات النسوية ومفردات الواقع الاجتماعي، من منطلق “منظور من موقع نسوي داخل المحددات المتحكمة وخارجها في آنٍ معًا“.23 وأنا آخذ كلامها على محمل يقترب مما قصدته أنا برأيي عن الوعي المزدوج أو الوعي المركب الذي تتمتع به الجماعات الواقعة تحت قهر. وقد نوهت تريزا دي لورتيس بعدة شخصيات[ وهي شخصيات حقيقية أو روائية أو نظرية. ] تعدها نماذج للذوات الخارجة عن المركز، منها ذات المرأة المثلية في كتابات ماريلين فراي Marilyn Frye أو شخصية المستيزا الجديدة [المقصود باختصار شخصية علـى وعـي بهوياتها المتعددة، المتصارعة والمتشابكة، وتستخدم زوايا الرؤية الجديدة المتاحة مـن تلك المواقـع فـي تحــدي طريقة التفكير الثنائي – بمعنى إما هذا أو ذاك – التي تسود في الثقافة الغربية.] (new Mestiza) لجلوريا أنزالدوا Gloria Anzaldua، وهي ذوات تتمتع بمعرفة غير معتادة. إلا أن هذا الوعي المركب لا يعد وعيًا كونيًا أو وعيًا متواجدًا على امتداد الفكر الإنساني واتساعه، بل هو وعي محكوم بظرفه التاريخي ولكنه يتحقق عبر عملية من النضال والتأويل، عبر “إعادة كتابة النفس… في إطار طريقة جديدة من فهم المجتمع، والتاريخ، والثقافة المحيطة“.24 وذلك أشبه ما يكون بما كنت أعنيه حين رأيت أن تبني منظور من موقع نسوي يسمح لنا برؤية أن أفكار الثقافة الغربية التي تتمتع بقبول “الحس المشترك” (common sense) لا تعدو أن تكون أيديولوجية بالغة الضرر، وهي أيديولوجية أطلقت عليها عنوان “الذكورة المجردة” (abstract masculinity).
ويجد هذا النوع من القراءة لمشروعي دعمًا في نقاش ساندرا هاردنج Sandra Harding عن الإطار المعرفي الذي يستند إليه المنظور من موقع نسوي، حيث تزعم أنه يحتوي على نزعات مناهضة لفلسفة التنوير. إذ ترى أن منظرات الموقع النسوي يعارضن فكرة أن “المبادئ اللاتاريخية في البحث والاستقصاء يمكنها أن تؤمِّن تصورات عن العالم أكثر كمالا“.25 فضلاً عن ذلك – وكما هو الحال مع الذوات الخارجة عن المركز التي تدعو إليها تريزا دي لورتيس– فإن المنظور من موقع النسوية يجعل بعض البنى الاجتماعية المتراكبة تبدو واضحة للعين. وهي تقول إن ثمة فسادًا أو عطبًا يلحق حقًا المقهورين بفعل تجربة القهر، ولكن ما يعد نقصًا وضررًا على صعيد التجربة الاجتماعية يمكن له أن يُعَدُّ ميزة على صعيد المعرفة.26 وأخيرًا، ترى ساندرا هاردنج أن نظرية المنظور من موقع نسوي لا تقتضي نظرة جوهرانية إلى الأنوثة، وإنما تتولى – بالأحرى– تحليل الجوهرانية التي تعمل الثقافة المتمحورة حول الذكورة على اختصاص النساء بها، وكذلك لا تفترض هذه النظرية أن النساء لا تعلق بهن شائبة الاشتراك في علاقات اجتماعية عنصرية أو طبقية أو متحيزة ضد المثليين.27 لقد قرأت مرارًا وتكرارًا مجموعة الكتابات التي تناولت مقالتي بالتعليق والنقد، ووفيتها حقها قراءةً بسبب التنوع الشديد فيما بينها. ومع ذلك، اعتقد أن المشكلة الجوهرية الأولى التي تجمع بين كل التعليقات التي ذكرتها (باستثناء تعليق ساندرا هاردنج) تتمثل في عجزها عن رؤية البعد الماركسي في أطروحتي، كما تسود في طرق قراءة مقالتي نظرةٌ تحسبني من النسويات الراديكاليات، وبالتالي تعدني منظرةً تؤمن بأفكار التنوير وتنزع الجوهرانية، وبينما تتعدد جوانب هذا الاتهام فإني ألتفت – لأغراض هذه المقالة – إلى عدة نقاط أراها تمثل المحاور الرئيسة في النقد. أولًا، ثمة رأي يقول بأن قضيتي تقوم على أركان بيولوجية وتعيد تثبيت مبدأ الانقسام بين الطبيعة والثقافة. وثانيًا، ثمة اتهام برد أكثر من غيره؛ ألا وهو نزوعي إلى الجوهرانية وبناء مزاعم فوق ثقافية والقول بوجود شيء اسمه وجهة نظر “المرأة” بصيغة المفرد. ويرتبط به اتهام آخر مفاده أنني ألجأ إلى تصور عن الذات يراها ذاتًا أحادية (unitary subject) متكونة فقط عبر القهر وبريئة من تهمة المشاركة في نسق اجتماعي يحوي أشكالاً متعددة من الظلم والقهر. ثم هناك أيضًا نقاد يشيرون إلى الأخطار السياسية التي تحملها استراتيجية تقوم على التعارض (النوعي)؛ وهم إما نقاد اليسار الذين يخشون حسب قولهم من أن تؤدي هذه الاستراتيجية إلى تبني آراء الاتجاه المحافظ ومواقفه، أو هم نقاد من تيارات اليمين يرون أن هذه الاستراتيجية قد تؤول إلى فرض نوع من الأرثوذكسية الجديدة. وأعتقد من ناحيتي أن معظم هذه الانتقادات ليست في محلها، وإنما هي صادرة عن عدم إلمام النسويات الكافي بالنظرية الماركسية، وإن يكن بالطبع ليس جميعهن.
أعود الآن إلى التعليقات النقدية، وأعاود النظر إلى نص “المنظور من موقع نسوي“. أولاً، مسألة اعتمادي على البعد البيولوجي بسبب كوني أستخدم مصطلح “الجنس” (“sex”) بدلاً من “النوع” (“gender”). لقد دعوت في مقالتي إلى أهمية عدم إقامة خط فاصل بين تأثيرات الطبيعة وتأثيرات التنشئة، وبين البيولوجيا والثقافة. وكنت أسترشد هنا بما تضمنه مؤلف ماركس مخطوطات عام ١٨٤٤ من تأكيدات على أننا جزء من الطبيعة ومن المجتمع، وفي الوقت نفسه أراد ماركس أن يقول إن حتى النباتات والحيوانات والضوء وما إليه هي – نظريًا – جزء من تكوين الوعي الإنساني وجزء من الحياة البشرية والنشاط البشري. 28 ويبدو لماركس أنه حتى الطبيعة نفسها هي شكل من أشكال العمل البشري؛ حيث إننا ننشط في استخراج نسخ لنا في الواقع الحقيقي، ثم نشرع في تأمل تلك النفوس التي خلقناها في عالم من صنعنا نحن.29
وقد استرسل ديفيد هارفي David Harvey انطلاقًا من هذه المزاعم؛ فأوضح الطرق التي نتبين عبرها كيف كان ماركس ضالعًا في مشروع فلسفة التنوير عن السيطرة على الطبيعة، في حين شدد هارفي في الوقت نفسه على مدى رفض ماركس للخط الفاصل بين الطبيعة والثقافة وتأكيده أن البشر هم كائنات اجتماعية وكائنات طبيعية في آنٍ واحد.30
ترسم تلك الدعاوى السياق الذي زعمت فيه أنه بالرغم من وجود عنصر جسدي في مكونات الوجود البشري فإن “حجم هذا العنصر ومحتواه الحقيقي سيظل غير معروف إلى أن تتغير على الأقل تلك الجوانب القابلة للتغيير في تقسيم العمل عنصر الجنسوي“. 31 وقلت كذلك أن الثقافة الغربية على وجه التحديد هي التي تختار أن تعامل أوجهًا من التكوين الجسدي للمرأة على أنه حدود معوقة. وكانت هذه الاستراتيجية أيضًا بمثابة محاولة للسير على طريق دونا هاراویی Donna Haraway التي تستند إلى شواهد في العلوم الطبيعة في محاولة منها للبرهنة بحجج قوية على أن الفصل بين الطبيعة والثقافة مسألة يجب رفضها. إن العلوم الطبيعية يجب النظر إليها بصفتها إنشاءً ثقافيًا، ومنتجًا من المنتجات الثقافية البشرية، فالطبيعة ليست شيئًا موجودًا من تلقاء نفسه، وإنما هي شيء يجري اختراعه وإعادة اختراعه من قبل المجتمعات البشرية، كما أنها شيء يتم اكتشافه. وكما تقول هاراويي “نحن نلم بأمر الطبيعة في الوقت نفسه الذي نبتدعها ونبتدع أنفسنا“.32 وهي تضرب مثلاً بمشروع الخريطة الجنسية البشرية (human genome project) لتؤكد أن “التقنية العلمية هي ممارسة ثقافية في حقيقة أمرها” وأن الجينات نتاج مظاهر من الإنشاء الثقافي، ومن ثم فإن الطبيعة والثقافة تتحور إحداهما إلى الأخرى أو تتبادلان المواقع. “الطبيعة الثقافة تنخسف إحداهما لتسفر عن الأخرى“.33 ليس هذا بمجرد علم رديء كما هو واضح بالنسبة لها، وإنما هذا العلم هو العلم الوحيد المتاح لنا. العلم هو الثقافة، في تعبيرها، ولعلنا نقول أيضًا إن الطبيعة هي الثقافة، وإن الثقافة لا يمكن التفكير فيها بشكل منفصل عن الطبيعة.34 وكما أوضح ماركس، ولعله ما من “طبيعة” موجودة سوى في الجزر المرجانية بالمحيط الهادي التي لم تخضع بعد للاكتشاف. وربما لم تفلح الاستراتيجية التي قصدتها باختياري لمصطلح “الجنس” بدلاً من “النوع“، وعلى نحو ما لم يكن مقدرًا لها أن تفلح في ضوء مفردات الجدال الذي كان دائرًا وقتها. فقد كان إدخال مصطلح “(النوع)” يمثل استراتيجية سياسية لتمييز الاجتماعي، والذي هو بالتبعية المتغير، من الطبيعي، والذي هو بالتبعية غير المتغير. ولست أجد حتى الآن لغة مصطلحية تنبذ التعارض بين الطبيعة والثقافة في سياق النظرية النسوية المعاصرة في الولايات المتحدة، ذلك فإن ما أقدمت عليه يُعَدُّ محاولة من جانبي لتجريد الطبيعة من صفتها الطبيعية (to denaturalize nature) (وهذا تعبير هاراويي)، رغبةً في نبذ الخط الفاصل بينها وبين الثقافة. ثانيًا، كانت ثمة تعليقات تدعي أني أزعم اكتشاف وجهة نظر المرأة أو وجهة نظر النساء، فيما يمثل مزاعم معممة كونيًا عبر مختلف الثقافات، ومن ثم فإنني دخلت في ممارسة الجوهرانية. وتحتوي تلك التهمة على أربعة أخطاء رئيسة تبرز عبر المفردات الآتية: “عبر مختلف الثقافات“، “اكتشاف“، “المرأة” أو “النساء“، و“وجهة نظر“. وسأعمل الآن على كشف هذه الأخطاء واحدًا بعد الآخر.
أولاً، مزاعم “عبر مختلف الثقافات“: لقد أعلنت في مقالتي أنني أقصر قولي على “حيوات النساء في المجتمعات الغربية الطبقية“، وقلت إن البحث في مسألة تقسيم العمل بين الجنسين يسمح لنا بأن نبدأ – وإن لم يكن ننتهي – من “وضع الأساس لقيام منهج نوعي مادي تاريخي نسوي. 35 وكذلك أوضحت في كتابتي أن الرأسمالية هي المسألة التي أركز عليها في المقام الأول. 36 ومع ذلك، كانت هناك مشاكل هي مبعثها عدم التطابق في حيوات النساء المختلفة في سياق الرأسمالية الغربية، ولم تفعل تلك التباينات إلا أن تعاظمت مع تعاظم اتجاه الرأسمالية إلى العولمة وقيامها بإدخال النساء في صفوف العمالة المأجورة وفقًا لطرق شديدة التباين. ويبدو لي من الغريب حقًا أن أقدم عملاً يطرح نفسه بصفته محاولة لوضع أساسات مقاربة مادية تاريخية نسوية تقوم صراحة على منهج ماركس، ومع ذلك تتم ترجمته بوصفه محاولة مبنية على سلسلة من الادعاءات الفوق – ثقافية واللاتاريخية عن النساء عمومًا.
أما فيما يخص المنظور الأحادي، فأقر بأنني لم أولي مسألة الاختلافات بين النساء اهتمامًا كافيًا (وهو موضوع أعود إليه لاحقًا)، وفي هذا الشأن أعتقد أنني بحرصي على السير على خطى ماركس واستراتيجيته في تبسيط المجتمع الرأسمالي، ارتكبت نوع الخطأ نفسه الذي انتقدت بسببه كتابة المال، والجنس، والسلطة Money, Sex and Power، أي فكما أفضى تركيز ماركس على العلاقة بين طرفين – أحدهما هو الرأسمالي والآخر هو العامل– إلى سد الطريق أمام أنواع أخرى من العلاقات (مثل علاقات النوع)، فكذلك أفضي تركيزي على منظورين – أحدهما ذكوري والآخر نسوي– إلى بقاء علاقات اجتماعية مهمة أخرى خارج الحسبان.
ثانيًا، أما عن الرأي القائل بأن التأويل هو مقاربة معنية “باكتشاف الحقيقة” فقد ينطبق هذا التعبير على الإطار المعرفي الداعم لفلسفة التنوير الذي يتصور إمكان الوصول إلى الحقيقة بواسطة العقل دون تحديد موقع لهذا العقل وكأنه موجود في فراغ، إلا أنه تعبير يصعب استخدامه في وصف منهج ماركس، فبالنسبة إلى ماركس تلك التصورات عن حقيقة تنتظر أن يكتشفها العقل تمثل إشكالية عظيمة في عالم يتم تعريفه، وتشكيله، وعلى نحو ما صنعه، بفعل النشاط البشري ولاسيما العمل. فضلاً عن ذلك – وفي ضوء آراء ماركس التي تزعم أن البشر يبتدعون العالم الطبيعي كما يبتدعون أنفسهم كذلك – يصبح دور العقل أكثر تعقيدًا وأكثر هامشية على حد سواء؛ بفضل الدور الذي تلعبه الأيديولوجية في قلب الأمور في سياق الرأسمالية، حيث تطرح العلاقات المفترض أنها علاقات بين الناس على أنها علاقات بين أشياء. وأخيرًا، فإن أفكار المذهب العقلاني عن اكتشاف الحقيقة لا تتفق مع منهجية تعيد تعريف الحقيقة فتصفها بأنها “حقيقة وقوة أفكارنا عند الحركة والفعل” وتؤكد على أنه ليس الهدف هو تأويل العالم بل تغييره.37 ويشير ذلك كله الشك في صدق أية مقولة بأن ماركس أو الماركسيين يعملون من منطلق السعي إلى اكتشاف الحقيقة، وبخاصة من خلال العقل، فذلك بمثابة إعادة كتابة ماركس على نحو يضعه في صف مفكري التنوير ويتجاهل التزاماته العميقة بمشاريع مضادة لهذه الفلسفة.
ثالثًا، ترجمة المنظور من موقع نسوي إلى وجهة نظر للمرأة أو للنساء. تتكرر هذه النقلة كثيرًا، وهي تعكس سوء فهم بالغ لما أقصده (أنا ولوكاش) بفكرة المنظور من موقع [معين]. فقد كان من الواضح بالنسبة للوكاش أن منظور البروليتاريا لا يعني المطالبة بتبنى ما قد يؤمن به العمال بوصفهم أفرادًا، وفضلاً عن ذلك، فقد كان واضحًا في المقدمة التي تصدرت عام 1967 كتابة التاريخ والوعي الطبقي History and Class Consciousness أنه لا يقصد وعيًا ينسب إلى أولئك الموجودين في موقع اجتماعي معين (وهي المسألة التي تفسد العرض الذي قدمه في مقالته عن الوعي الطبقي). إن المنظور من موقع محدد ليس إلا أداة نظرية تسمح بأن نخلق عن العالم مسارد أفضل (أيْ أكثر موضوعية وإسهامًا في التحرير). ومن ثم، لا أدعي شيئًا معينًا عن الوعي الراهن للنساء الموجودات، وإنما أبدي رأيًا عن الشروط النظرية التي تهيئ إمكان خلق البدائل. ومن هذه الناحية، ثمة مساحة كبيرة مشتركة بين مشروعي وبين كتابات تريزا دي لورتيس عن الذوات الخارجة عن المركز. وقد أفلحت دونا هاراويي في التعبير عن المقصود حين كتبت الآتي:
ليس المنظور من موقع معين بمثابة نداء من معترك التجربة المعيشة، يخاطب “المقهورين” أو يتحدث بلسانهم، بل هو وسيلة ذهنية ونفسية وسياسية إلى نوع من المعرفة أكثر ملاءمة، بمقاييس الموضوعية الشديدة، وهي مقاييس لا تميل إلى الجوهرانية بل ترتبط بظرفها التاريخي وموقعها المكاني والزمني. وما هذا المنظور إلا مسألة مشحونة بتوترات، ولكنها تظل ضرورية لممارسة الوعي المعارض (oppositional) والمتغاير (differential). إن المنظور من موقع نسوي تقنية عملية تستمد جذورها من التوق [إلي عالم أفضل]، وليس مجرد أساس فلسفي تجريدي. 38
وإذن، فبالعودة إلى المزاعم الخمسة الموجودة في مقالتي عن المنظور (أو بالأحرى المنظورات) من موقع نسوي، تلك التي يمكن صياغتها على النحو الآتي:
(۱) تشكل الحياة المادية طرق فهم العلاقات الاجتماعية وتضع حدودًا على هذا الفهم. (۲) إذا كانت الحياة تتشكل من خلال طرق متعارضة فلابد أن نتوقع وجود التعارض المماثل نفسه في رؤى الجماعات المختلفة. (۳) تقوم رؤية الجماعة الحاكمة بتشكيل العلاقات الاجتماعية التي تضطر كافة الأطراف إلى الاشتراك فيها، وبالتالي لا يجوز صرف النظر عنها بوصفها مجرد رؤية زائفة. (وأود في ضوء هذه الصياغة أن أبرز مدى المشكلة الموجودة في مزاعم كاتي فيرجسون عن أن استراتيجية التأمل تسعى إلى اكتشاف الحقيقة). (4) إن الفهم أو الإدراك المتاح للجماعة المقموعة هو فهم يتأتى بعد جهد وكفاح، ويمثل إنجازًا يتحقق من خلال ممارسة التحليل المنهجي، ومن خلال الثقافة التي تنشأ عن النضال السياسي من أجل تغيير العلاقات الاجتماعية (وهي النقطة التي يغلب أن تغيب عن الملاحظة، والتي أرى أن وجودها في مقالتي يقوض أركان مزاعم أولئك الذين يدعون أنني أقدم فرضية عن “وجهة نظر للمرأة” نابعة من فطرتها وقائمة على البعد البيولوجي، كما تمثل أيضًا مفتاح فهم أسباب استخدامي لمصطلح من موقع “نسوي” بدلاً من موقع النساء). (5) بوصفه رؤية واعية تشتبك مع معطيات الواقع، يعري المنظور من موقع نسوي العلاقات الحقيقية بين البشر ويكشف لا إنسانيتها، كما أنه يحمل دورًا تحريريًا.
إن كل ملمح من ملامح المنظور من موقع نسوي له أهميته، بيد أنني أفضل الآن التشديد أولاً على حقيقة أن هذا المنظور لا يتولد ببساطة – دون أي إشكال – بمجرد الوجود في موقع اجتماعي معين، وإنما هو محصلة نشاط نظري وعملي يجري بشكل منهجي منتظم، من دون أن يسعنا التيقن من إمكان تحققه. وقد يقتضي منا هذا التبني لمنظور من موقع نسوي نوعًا من التجوال النظري، فثمة مواضع ينبثق منها هذا المنظور بسهولة ومواقع أخرى تقتضي جهدًا أكبر. فلنتأمل عبارة بل هوكس الآتية:
بفضل طريقة حياتنا كما كنا نعيشها على الحافة، تكونت لدينا طريقة معينة من رؤية الواقع، كنا ننظر من الخارج إلى الداخل كما كنا كذلك ننظر من الداخل إلى الخارج. كنا نركز انتباهنا في المركز مثلما في الأطراف… هذا النوع من الشعور باكتمال الصورة (wholeness) الذي انطبع في وعينا من خلال شكل حياتنا اليومية، هذا الحس هيأ لنا نظرة إلى العالم معارضة – نمطًا من الرؤية لا تعرفه الغالبية العظمى ممن يمارسون القهر ضدنا، وجعل لنا القدرة على مواصلة الحياة وقدم لنا العون على النضال لتجاوز الفقر واليأس، وقوَّى من اعتدادنا بالنفس وعزز التضامن بيننا. 39
تقدم باولا مويا Paula Moya مسردًا أكثر تفصيلاً لهذه العملية، تحت عنوان “نظرية واقعية عن هوية التشيكانا (“realist theory of Chicana identity”)، وهو وصف أتردد في أن أصادق عليه لأن تحليل باولا موي يتبع في رأيي الخطوط العامة للأطر المعرفية الخاصة بالمنظور من موقع [نسوي]، فهي تتبنى خمسة ادعاءات تعمل على دعم دعاوى الامتياز المعرفي (epistemological privilege). يأتي أولاً الادعاء بأن “الحقائق” الاجتماعية الواقعة (“facts”social ) التي “تكوِّن الموقع الاجتماعي لفرد ما ترتبط بعلاقة سببية مع نوع التجارب التي من شأنها أن تمر بها“.[ من المؤسف أن كلمة “فرد” لا تقبل التأنيث، مما يجعـل صياغة الكاتبة مستحيلة نحويـًا في اللغة العربية. (المترجمة)] ويتمثل الادعاء الثاني في أن “تجارب الفرد تؤثر في تكوين هويتها الثقافية وإن لم تكن تحدد مصيرها تمامًا“.40 ومن ثم، يجب أن نتوقع أن العضوية في أية جماعة – سواء كانت عضوية اختيارية أم غير اختيارية – لها تأثيراتها في كل الأحوال. ثالثًا، يجب أن ندع الباب مفتوحًا أمام احتمالات الخطأ أو التغير مع الوقت، فالكاتبة نفسها تحكي أنها تحولت “متأخرة وبدون طقوس احتفال” إلى أمريكية مكسيكية بدلاً من فتاة “أسبانية” من نيو مكسيكو، بمجرد أن انتقلت إلى العيش في ولاية تكساس. رابعًا، إن بعض الهويات (أو جوانب من الهوية) “لها قيمة معرفية أعلى من قيمة الهويات الأخرى التي قد يدعيها الفرد لنفسه. 41 والمحك هنا هو مدى تمكن مسرد أو آخر للهوية من الإحاطة بالتفاعل بين مختلف المحدِّدات التي تكوّن موقع المرء الاجتماعي، ومن هنا تبدو باولا مويا مقنعة؛ إذ ترى أن هوية التشيكانا هي بالنسبة لها الهوية التي يتمتع منظورها المعرفي بأبلغ صلاحية. خامسًا، ترى أن لموقع المرء في سياق علاقات القوة لاسيما علاقات التسيد مكانة محورية فيما يخص عوامل تحديد الصلاحية أو الشرعية المعرفية والتميز المعرفي.42 وأخيرًا، تتطلب “نظرية واقعية عن الهوية النضال المعارض بوصفه الخطوة الضرورية (وإنْ تكن غير كافية) تجاه تحقيق وضع متميز معرفيًا.43
ثمة أخريات (أو آخرون) وجدن في تبني منظور من موقعهن مسألة ليست بهذه السهولة، على أساس أنها عملية تقتضي فهمًا جديدًا للبنية الاجتماعية التي يحتل المرء موقعه داخلها. ويفيدنا في هذا الصدد عمل ميشيل كليف Michelle Cliff على وجه الخصوص، فهي تصف الصعوبة التي وجدتها – وهي امرأة فاتحة البشرة من جامايكا حصلت على درجة الدكتوراه وتتناول موضوع عصر النهضة في إيطاليا – أثناء محاولتها أن تقترب من نفسها بوصفها ذاتًا، أو – في لغتي أنا– أن تتبنى منظورًا من موقعها. وهي تقرر في “ملاحظات عن فقدان النطق” “Notes on Speechlessness” أنها قد استبطنت بالفعل “الرسالة التي تعزز المركزية الإنجليزية (anglocentrism)، وتؤكد تفوق الجنس الأبيض“.44 كما تلاحظ أنها عبر المشاركة في الحركة النسوية شرعت تستعيد الجزء الأفريقي منها وتطالب به، بيد أنها تعرف جيدًا صعوبة هذا المشروع. وتقول في كتاب سابق لها إنها كانت تكتب مثل شخص عاجز عن “الإمساك بلغة جامايكا الوطنية” فتلجأ إلى الإنجليزية، ولكنها مع ذلك تكتب من منطلق وعي نسوي ووعي بالاستعمارية، ومعرفة تكتنفها كراهية النفس. 45 ولكنها حين بدأت تكتب على نحو يضع هويتها وتجربتها هي في نقطة المركز لاحظت أن أسلوبها في الكتابة صار أشبه بأسلوب الاختزال (shorthand): “اكتبي بسرعة قبل أن يقفشك أحد، قبل أن تقفشي نفسك“.46 إن كتابتها تستمد روحها وشكلها من غضب صاحبتها العارم، وتمثل علامة واضحة وجلية على النضال – السياسي والشخصي على حد سواء– الذي يصاحب عملية شغل موقع يظهر منه النظام السائد واضحًا للرؤية بكل تشوهاته.
إن مظاهر الصراع التي تعرضها ميشيل كليف تفيد أيضًا في إيضاح التهمة الأخيرة من التهم الموجهة ضد مقالتي الأصلية، ومؤداها أني أصف “منظورًا للنساء” يتكون بفضل القهر ولا يعي دوره المشترك في قهر الآخرين. كما يبدو واضحًا من حديثي عن أن المنظور من موقع معين ليس شيئًا موجودًا وإنما هو شيء للإنجاز، فإن هذا المنظور لا يتألف من القهر فحسب، ولا يتقلص إلى مسألة سياسة رفع راية هوية – أو ما يعرف بسياسة الهوية (identity politics)[عبارة Identity Polities تحيل إلى نطاق واسع من النشاط السياسي والتنظيري مبنـي على تجارب مشتركة بين أعضاء جماعة اجتماعية تعـاني مـن (الشعور بـ) الظلم أو القمع أو التهميش أو عدم تقبلها في المجتمـع الأوسع والثقافة السائدة المحطية بها (وهي عادة المجتمعات الغربية الليبرالية). وتكمـن السمة التي تميز هذه السياسة وتعطيها تعريفها في أن هذه الجماعات لا تطلب الاعتراف بها وقبولهـا “بالرغم مـن” كونها مختلفة، وإنما “على أساس” كونها مختلفة، أي بصفتـهم/ هـن سـودًا، أو نساءً، أو مثليین، أو مثليات، إلخ. وهي سياسة كانت ولا زالت مثـار جـدالات عديدة بين مؤيدي فكرة “التعددية الثقافية” ومعارضي خطر تثبيت الاختلاف بصفته جوهريًا أو طبیعيًا لا نتاج إنشاءات اجتماعية وثقافية تعكس علاقات القوة (انظر/ انظري المقالة السابقة: “التجربة“).] – كما هو العهد في فهمها. ولعل فردريك جيمسون قد التقط المغزى بأوضح ما يكون حين قال إن تجربة القمع والعنف، وتسليع قوة الطبقة العاملة، تُنتج عبر حركة جدلية الجانبَ الإيجابي في محتوى تجربة العمال، ألا وهو وعي السلعة بنفسها.47 ومرة أخري نجد في أعمال میشیل كليف ما يهدينا في طريقنا، فهي تنظر إلى الماضي خلفها في محاولة منها أن تتعرف على ما حدث: “متى أخذنا نحن (أهل جامايكا من ذوي البشرة الفاتحة ومن الطبقة الوسطى) مكانهم لننوب عنهم في ممارسة القهر؟“48 فميشيل كليف تعي بوضوح حقيقة تورطها في ممارسات الإمبريالية والعنصرية، وهو دور يمثل جانبًا محوريًا في قدرتها على وضع نفسها في سياق نقدي.
ومع ذلك، تبقى مشاكل فعلية في النظرية كما طرحتها، وهي على وجه التحديد في أنها أدت إلى ابتلاع الفئات النسوية “الموسومة” (“marked”) (أي النسويات الملونة) فئة النسوية غير الموسومة، التي تعني بالتالي البيضاء، وكذلك إدراج فئة النسويات المثليات ((lesbian داخل فئة النسويات الغيريات (straight)، فيما يعد تكرارًا لنهج المعهود من إدراج النساء داخل فئة “الإنسان/ الرجل” (“man”). أي أنني حين سرت على نهج ماركس الذي لجأ إلى اختزال العالم في طبقتين، وتبني نموذج مكون من رجلين/ قطبين (two- man model)، انتهى بي الحال إلى الوقوع في مشكلة مشابهة لمشكلته – أي عدم القدرة على رؤية بعض المحاور المهمة في علاقات السيطرة والتسيد على الرغم من الوعي بمفعولها. فعلى سبيل المثال، كان ماركس يرى في الأرامل جزءًا من الشريحة السفلى في الجيش الاحتياطي من العاطلين، وعلى الجانب الآخر فقد ترك مسألة عمل النساء في إعادة إنتاج الطبقة العاملة تمر عليه مرور الكرام. كذلك، بينما التفت أنا أيضًا إلى وجود اختلافات عنصرية وطبقية في إطار تقسيم العمل الجنسوي، لم أقم مع ذلك بتهيئة حيز نظري يوليها الدلالة والأهمية المطلوبة.
ومن خلال إعادة النظر في أطروحتي عن المنظور من موقع نسوي، أود أن أعطي هذه الفكرة منحى تعدديًا وأن أحفظ لها في الوقت نفسه جدواها بوصفها أداة نضال ضد الجماعات المتسيدة، وأعتقد أن المهمة التي تواجه كل المنظِّرات (أو المنظرين) المعنيات بالتغيير الاجتماعي هي مهمة العمل على إنشاء بعض الأسس النظرية للتضامن السياسي، ولا تشكل هذه الأسس بديلاً عن العمل الجماعي وبناء التحالفات بل هي بمثابة ملحق لها. وإذ أتولى مراجعة التصور المتعلق بالمنظور من موقع نسوي، فإني استمد ما يشد أزري من عدد من الجهود المماثلة تقدمت بها أخريات (أو آخرون) من اللواتي يدعون إلى منظور يبدأ من أسفل الدرج. 49
وجدت في إسهامات فريدريك جيمسون Fredric Jameson بشكل خاص، جدوى وعونًا على إعادة التفكير في طبيعة المنظور من موقع [معين/ نسوي]، فهو يقول إن “الافتراض المسلم به هو أن كل جماعة – بفضل موقعها الهيكلي في النظام الاجتماعي وبفضل الأنواع المحددة من القهر والاستغلال التي ينفرد بها هذا الوضع – تتكون فيها طريقة شعور ورؤية للعالم تخصها على صعيد ظاهراني(phenomenologically specific)، على نحو يسمح لها أن ترى – ولا مناص لها من أن ترى وأن تعرف– معالم من العالم تبقى معتمة، غير مرئية، أو محض عرضية وثانوية بالنسبة إلى الجماعات الأخرى“. 50
ویری جیمسون بوضوح أن الفكرة في كل الحالات تتلخص في إمكان التفكير بطريقة جديدة على أساس أن هذا الإمكان ملازم – بالضرورة – لكل موقع اجتماعي، وهي ليست مسألة استعداد فردي للعمال، وبالتأكيد ليست “خصائص غامضة قائمة في المنظور الجمعي لطبقة البروليتاريا“. 51 ويشدد جيمسون على الشروط المسبقة التي يجب توافرها في تحليل من النوع الماركسي: تشخيص العوائق والحدود أمام المعرفة وكذلك الملامح الإيجابية مثل القدرة على التفكير بلغة السيرورة (process).
وينظر جيمسون إلى نظريات المنظور من موقع نسوي على أساس زعمها بأن تجارب النساء تولد إمكانات معرفية جديدة وإيجابية (وينبغي هنا وضع خط تحت فكرة الإمكانات والقدرات الكامنة). وهو يقول بأن نظرية المنظور من موقع [معين/ نسوي] تطالب “بالتفرقة بين مختلف التجارب السلبية المتعلقة بظروف مقيدة ومانعة (constraints)، بالتفرقة بين الاستغلال الذي يكابده العمال وبين مظاهر القهر التي تعانيها النساء. 52 فنحن إذا كنا ننطلق من مشروع نسوي يمكننا المطالبة بأهمية تمييز المواقف التي يصلح أن توصف بأنها ظروف منع وتقييد. وينظر جيمسون بعين الاعتبار إلى تجربة يهود أوروبا الوسطى التي يصفها بأنها تجربة خوف يعبر فوق فواصل الطبقة و(النوع)، وهو يقول إن الخوف تجربة تعرفها جماعات أخرى، إلا أنه بالنسبة إلى هذه الجماعة يُعَدُّ تجربة تُشَكِّلُ تكوينها.53 ومن ثم، فهو يبين أهمية القيام بتفكيك مفهوم القهر إلى “تلك المواقف العينية التي نشأ منها“، وفحص مختلف البني المقيدة التي تخبرها الجماعات المَسُودة، مع الاحتفاظ بنظرة إلى كل شكل من أشكال السيطرة والتسيد على أساس أنه ينتج منظورًا معرفيًا أو رؤية من أسفل تخص هذا الشكل دون غيره.54
نحن في حاجة إلى نظرية خضعت لتنقيح وإعادة بناء، لا تأخذ عن ماركس وحده، وتحتوي على عدد من المعالم المهمة لنظريات المنظور من موقع [نسوي/ معين]
، مقابل نظريات ما بعد الحداثة. أولاً، بدلاً من التخلص من مفهوم الذاتية يجدر بالجماعات المقهورة أن تنخرط في العملية التاريخية والسياسية والنظرية التي عبرها تشكل أنفسنا بصفتنا ذواتًا فاعلة في التاريخ وبصفتنا موضوعات له كذلك. نحن في حاجة إلى التعرف على أنفسنا حقيقة، وألا ننسى أثناء ذلك أن نجعل هذه الـ “نحن” الزائفة تتفكك إلى مكوناتها بتعددها الحقيقي وتنوعها الحقيقي. ولن يصعب أن نتمكن انطلاقًا من هذه التعددية الملموسة أن نكوّن مسردًا ينقل شكل العلاقات الاجتماعية كما تراها من أسفل. ولا أحاول بذلك الإيحاء بأن القهر يوَلد بشرًا أفضل، بل على العكس أرى أن تجربة الخضوع والتهميش تخلف علامات وندوبًا عديدة، وإنما أقصد الإشارة إلى أن الجماعات المهمشة يصعب أن تخطئ فتتصور نفسها ممثلة “الإنسان” بشكل مطلق أو عام، كما أردت الإيحاء بأن تجربة القهر قد تكون قادرة على إفساح المجال لرؤى جديدة مهمة في فهم الحياة الاجتماعية.
ثانيًا، من المهم أن نمارس التفكير بالاستناد إلى قاعدة معرفية (إيستيمولوجية) تقول بأن المعرفة (knowledge) شيء ممكن، وأعنى المعرفة لا مجرد حديث أو خطاب عن كيفية عمل علاقات القوة على إخضاعنا، ولن تتوفر لنا الثقة المطلوبة للعمل إن كنا نعتقد أنه ليس بوسعنا معرفة أمر هذا العالم، وليس من الضروري أن نؤمن بأن المعرفة التي بين أيدينا معرفة مطلقة، وإنما يلزمنا فقط “قدر لا بأس به” من اليقين.55
ثالثًا، نحن في حاجة إلى نظرية معرفية تقر بأن أنشطتنا العملية اليومية تحتوي على طريقة فهم العالم، قد تكون مطوَعة (subjugated) ولكنها حاضرة. وأشير هنا إلى طرح جرامشي القائل بأن الناس جميعًا مفكرون وأن كل فرد له إطار معرفي عامل. المسألة إذن هي أن نتعرف على الأطر المعرفية المتضمنة في شتى ممارساتنا، وبالإضافة إلى ذلك ألا نتخلى عن قولنا بأن الحياة المادية لا تشكل فهمنا للعلاقات الاجتماعية فحسب بل تجعل له حدودًا أيضًا، وأنه في سياق أنساق التسيد تكون الرؤية المتاحة للجماعات الحاكمة رؤية جزئية تقلب النظام الحقيقي للأمور.
رابعًا، ينبغي أن تقر نظريتنا المعرفية بصعوبة خلق البدائل، إذ تعمل الجماعات المتسيدة – الحاكمة على أصعدة الطبقة والعنصر و(النوع)- على تشكيل العالم على نحو يُكَوِّنُ العلاقات الاجتماعية – المادية التي تضطر جميع الأطراف إلى المشاركة فيها، وبالتالي لا يصلح أن ننبذ رؤيتها ونصرف النظر عنها على أساس أنها مجرد رؤية زائفة أو مضللة. ومن الناحية الأخرى، يجب على الجماعات المقهورة أن تناضل حتى تحقق فهمًا يخصها، وأن تدرك أن ذلك يتطلب جهدًا في التنظير ويحتاج إلى نوع من الثقافة لا يتولد إلا من النضال السياسي.
خامسًا، هذا الفهم الذي يتوصل إليه المقهورون يكشف العلاقات بين الناس على حقيقتها اللاإنسانية، ومن ثم تتولد معه الدعوة إلى الفعل السياسي.
في ضوء هذه الاحتياجات، وفي ضوء إضافات فريدريك جيمسون الممتدة من أطروحات نظريات المنظور من موقع [معین/ نسوى]، وانطلاقًا من الرغبة في محاولة تطوير أسس نظرية لإقامة ائتلافات، أقترح أن نقرأ معًا عددًا من المقولات الخاصة بالرؤية من أسفل الدرج، أو منظورات الجماعات التابعة (subaltern groups)، وأؤمن بأنه على الرغم من التباين في التفاصيل الظاهراتية (phenomenological)، ثمة عدد من الصلات التي يمكن إقامتها، والتشابهات أو التماثلات التي يمكن رؤيتها، بين مختلفَ المعارف التي تتولد عن تجارب الجماعات المسودة. وأود على وجه الخصوص اقتراح أن تتعلم النسويات البيض إمكانات التضامن، على أيدي نسويات الولايات المتحدة الملونة، والذوات في مرحلة ما بعد الاستعمار.[ ذات ما بعد الاستعمار: مفهوم مرتبط بدراسات ونظريات مـا بعـد الاستعمار وكذلك ما بعد الحداثة، ويعبر باختصار عن التشظي أو التجـزؤ فـي هوية الشعوب التي عاشت تجربة الاستعمار، وتوزع الـذات بين “الشرق” و“الغرب“، وعجزهـا عـن أن تنشئ لنفسها هوية مكتملة، كما يعبر أحيانًا عن تعـدد جوانـب هوية ذات مـا بعـد الاستعمار ولجوئها إلى إبراز/ استخدام هويات مختلفـة تبعًا للسـياق. وهـذا المفهـوم شأن مفاهيم أخرى يظل تعريفه محل مراجعة وتجـاذب بـين مـدارس مختلفة، ويكتسـب مـدلولات ترتبط بخطاب الكاتب أو الكاتبة التي تستخدمه، ولعلـه يشـر هنا إلـى المنظـور الـذي يتاح لذات ما بعد الاستعمار بسبب احتلالها أكثر من موقع.]
ثمة قضايا مهمة ما زالت في حاجة ماسة إلى مزيد من الجهد والدراسة. أولاً، هناك مسألة مكانة “التجربة” وتأويلها، وأهم ما فيها التبعات السياسية لتناول التجربة بأشكال مختلفة. ثانيًا، في السياق الأمريكي خصوصًا (وربما الناطق بالإنجليزية عمومًا)، ما زالت تعوزنا المعرفة الكافية بكيفية إنشاء الجماعات وتكونها، حيث يجب النظر إلى فكرة الجماعات لا بوصفها تجمعات من الأفراد، بل بوصفها جماعات تكونت من خلال القهر والتهميش، يجمع بين أعضائها قدر من التجربة المشتركة كافٍ لتوليد إمكان توصل كل جماعة إلى فهم أوضاعها بطرق تمكِّن حركاتها المعارضة وتقويها. ثالثًا، لدي قناعة بأن ثمة جهدًا كبيرًا لا بد من بذله لإحكام دراسة الصلات التي تربط بين السياسة والأسس المعرفية ودعاوي الإطار المعرفي المتميز، من أجل استحداث طرق جديدة في فهم فكرة المعرفة الواعية التي تشتبك مع معطيات الواقع وتخضع للمساءلة.
وحتى نفهم هذه المنظورات والمعارف التي تقوم هذه المنظورات بدعمها وتوليدها وصياغتها، يجب أن نفهم – على الأقل – الخطوط العريضة للمواقف والأوضاع الجائرة التي تنشأ من قلبها، أو بعبارة أوضح، يجب أن نفهم المشاكل الوجودية التي يتعين على الرؤية التي تتكون للمقهورين أن تستجيب لها. ولب الموضوع هو أن الجماعات المسودة تعيش في عالم تَشَكِّلَ بنيانه على أيدي أطراف أخرى من أجل أغراضها، وهي أغراض أقل ما يقال عنها إنها ليست أغراضنا نحن بل أغراض تقف بدرجة أو بأخرى موقفًا معاديًا وضارًا بتطورنا بل وحتى بوجودنا. وتأخذ هذه العملية أشكالاً متنوعة، على الصعيد العالمي والمحلي معًا. ثمة “افتراض عن الغرب بوصفه المرجع الأول بالنسبة إلى النظرية وكذلك الممارسة“، على الأقل كما عبر عنه كارلوس فوينتس Carlos Fuentes من منظور المكسيك: “إن العالم الأمريكي الشمالي يعمي أعيننا بطاقته، نحن لا نرى أنفسنا لأننا لابد أن نراكم أنتم“.56
وانطلاقًا من هذا المنظور، تمر الجماعات المسودة بسلسلة من الخبرات المقلوبة والمشوهة والمحرفة والمطموسة من الممكن أن تلعب دورها في تكوين هذه
الجماعات من الناحية المعرفية. “الافتراض المسلم به هو أن كل جماعة، بفضل موقعها البنيوي في النظام الاجتماعي وبفضل أشكال القهر المعينة” المتأصلة في هذا الوضع، تعيش العالم على نحو يسمح لها، بل “يجعل لا مناص لها من أن ترى وأن تعرف معالم من العالم تبقى معتمة، غير مرئية، أو محض عرضية وثانوية بالنسبة إلى الجماعات الأخرى“.57
ولننظر على وجه خاص إلى تجربة بالغة القوة من تجارب قلب الأمور؛ فثمة مسألة يغلب ورودها بوصفها أحد الملامح التي يتسم بها وعي الجماعات المسودة؛ إذ تصير على وعي بعلاقات التسيد وبإمكانات التغير كليهما معًا، تتمثل في شعورهم بـ “عَتَه” (insanity””) أو “عدم واقعية” (“unreality”) الوضع “الطبيعي“. هكذا تكتب ميشيل كليف Michelle Cliff عن أهل جامايكا ذوي البشرة الفاتحة المنتمين إلى الطبقة الوسطى، فتقول:
كنا نمارس التمييز على أساس لون البشرة، وكنا نتطلع إلى منزلة الطرف القاهر… کنا مقتنعين بمبدأ تفوق البيض. إن نحن فشلنا،… معنى ذلك أن الجزء الداكن فينا تغلب علينا: نوع من عدم التوازن الموروث وكأنه مصير محتوم كتب على طائفة الكريول (Creole).[ الكريول: مواطنو جامايكا، أو غيرهـا مـن جـزر الكاريبي، المنحـدرون مـن أصـول فرنسية.]
وهي تأخذ خطوة إلى الخلف لتلقي نظرة على ما كتبته فتقول عنه إنه “يبدو كأنه من باب الخرافات بل حتى الأساطير، وإنه لكذلك بالفعل. إنه أمر جنوني“. 58 ولنتأمل أيضًا حالة امرأة سوداء من الولايات المتحدة تقول للشخص الذي يجري معها مقابلة: “لقد شببت حتى أصبحت امرأة في عالم بقدر ما يتصف المرء فيه بالعقل لابد وأن يظهر بصفته أشد جنونا“.59
أما إدوارد جاليانو Eduard Galeano وهو يكتب عن الوضع في أمريكا اللاتينية فقد سجل الملاحظة الآتية:
“الحرية” في بلادي هي اسم معتقل مخصص للسجناء السياسيين، و“الديمقراطية” تظهر جزءًا من لقب مختلف نظم حكم الرعب، وكلمة “الحب” كلمة تعرِّف علاقة الرجل بسيارته، و“الثورة” كلمة تعد وصفًا لما يمكن أن يحدثه في مطبخك سائل تنظيف جديد. 60
وهو يضيف:
لماذا لا نقر بوجود نوع من الإبداع والابتكار في هذا التطوير التكنولوجيا الرعب؟ إن أمريكا اللاتينية تقدم إسهامات ملهَمة تطوير وسائل التعذيب… وفي زرع في الخوف.61
هذا النوع من فهم الأطراف المقهورة للصور المقلوبة المفروضة عليها يؤدي إلى إعادة تكوينها لفهمها عن الجماعة المتسيدة. وبتغير هذا الفهم يمكننا أن نندهش أمام التشابه الكبير في الوصف. ومن ثم، يمكن لنا طرح الأسئلة وصياغة صور من الوصف لأوضاع تتميز باختلافها الشاسع. وهكذا، نجد أسئلة تثار في أوساط الكتاب والكاتبات من النسويات ومن العالم الثالث ومن مدرسة ما بعد الاستعمار.
بعيدًا عن كونهم يمتلكون قدرًا أكبر من المال والسلاح، ماذا في العالم الأول يجعله بأي شكل من الأشكال أفضل من بلادنا غير المتطورة؟ هل أن الأنجلو ليسوا في حد ذاتهم حقيقة جماعة عرقية من أشد القبائل عنفًا على وجه الأرض وأكثرها ميلاً للعداء الاجتماعي؟62
وهناك أيضًا ملحوظة يكتبها طالب من تيار الراديكالية السوداء قائلاً:
ثمة نوع من الشعور بأن شيئًا من قبيل الهوس العميق بالملكية يمثل اعوجاجًا في حضارة تمكنت من التنظيم والاحتفاء –على نطاق يتجاوز ما سلف من تجارب البشر – بمظاهر التدهور الوحشي في الحياة وأشد انتهاكات المصير الإنساني.
وهو يضيف أن الشك يتعاظم في أن “ثمة حضارة أصابها الجنون بفعل ما فيها من افتراضات وتناقضات شاذة، وهي الآن تسرح في أرجاء العالم منفلتة العقال“.63
وقد عبر جابرييل جارسيا ماركيز– في خطابه بمناسبة حصوله على جائزة نوبل – عن ما لهذه الأنواع من التجارب من آثار في المعرفة والأطر المعرفية، فجاءت هذه المقولة الغنية:
إن مشكلتنا العظمى هي عدم توافر وسائل اعتيادية تجعل لحياتنا طعم الصدق. هذا هو – أيها الأصدقاء – مكمن شعورنا بالوحدة والعزلة…. إن تأويل واقعنا عبر أنماط ليست ملكنا يزيد من عدم معرفتنا بأنفسنا ويجعل حريتنا تتضاءل وشعورنا بالوحدة يتفاقم أكثر فأكثر.64
المحصلة هي أن أعضاء الجماعات المسودة والمهمشة (على خلاف البيض والذكور والأوروبيين) يداخلهم – رغمًا عنهم– شعور بأنهم يقطنون عوالم متعددة في وقت واحد. وقد وصف و. أ. ب. دي بوا W. E. B. Du Bois هذا الوضع من ذلك منظور أمريكي أفريقي، فقال: “إنه شعور غريب، ذلك الوعي المزدوج، ذلك الإحساس بأن الواحد لا ينظر إلى نفسه إلا عبر عيون الآخرين، بأن الواحد يقيس نفسه بمقياس عالم يتطلع نحوه بنظرة ازدراء ساخر وشفقة“. 65
إن دلالة هذه التجربة وأهميتها في تطوير المعرفة والخبرة مسألة خضعت لطرق عديدة من الوصف. فقد قلت في مقالتي “المنظور من موقع نسوي” بالنسبة إلى النساء (البيض) في المجتمع الصناعي الغربي فإن تجربة الحياة في ظل البطريركية تفسح المجال أمام إمكان استحداث فهم لزيف الرؤية السائدة ومنظورها الجزئي، وتكوين رؤية عن الحقيقة أكثر عمقًا وتعقيدًا من الرؤية الأولي. وثمة آخرون غيري تقدموا بأطروحات مماثلة عن طبيعة المعرفة المتاحة للجماعات المخضَعة. فهكذا تكتب كومكوم سانجاري عن شعوب “العالم الثالث“، حيث صعوبة التعرف على الواقع الحقيقي (fact) في خضم “التحريفات التاريخية والسياسية التي لها أثر بالغ في تشكيل هذا الواقع والتوسط في فهمه، “وتسوقهم هذه الصعوبة إلى فرض مستوى مختلف من واقعية فعلية (factuality)”، أو سطح يجعل من وجود مفهوم للمعرفة يراها مؤقتة ومفهوم للحقيقة يراها مشروطة بالتاريخ المحيط بها، ليس فقط مسألة ضرورية للفهم بل أيضًا وسيلة تساعدنا بدورها على العمل من مواقع ذات أبعاد محلية وآنية“. وهي ترى أن هذه الواقعية المبتدعة تنجح لأنه “إنْ كان الواقع يتشكل تاريخيًا بحيث يجعل مكمن القوة/ السلطة الأجنبية خافيًا عن النظر، وإنْ كان الواقع من الممكن بالتالي أن يكون شيئًا غير ذاك الظاهر لعموم النظر، فإن هذه الواقعية المبتدعة تعالج مشكلة الحقيقة عند مستوى يعيد اختراع نمط للمرجعية أكثر شمولاً واتساعًا“. 66 وإذ تكتب جلوريا إنزالدوا من منطلق تجربة امرأة أمريكية مكسيكية (تشيكانا) تعيش على حدود ولاية تكساس مع المكسيك، فهي تصف ظاهرة مشابهة في إطار يستدعي إلى الخاطر نقاش سانجاري. فتشير لا إلى تجربة الحياة في واقعين اثنين وبالتالي إلى اضطرارها للوجود في سطح بيني (interface) فقط وإنما كذلك إلى “القدرة” (la facultad) [كلمة باللغة الأسبانية تعني قدرة أو ملكة.] على رؤية “البنية العميقة الموجودة تحت السطح” من خلال النظر إلى الظواهر السطحية. كما تزعم أن تلك القدرة أو الملكة تتوافر أكثر ما تتوافر لأولئك الذين يتعرضون للنصيب الأكبر من الهجوم: النساء، المثليين من كل العنصريات، ذوي البشرة الداكنة، المنبوذين، المضطهدين، المهمشين، الأجانب“، وما ذلك إلا وسيلة (تكتيك) للبقاء يتولى هؤلاء المحاصرون بين عالمين حرثها في أنفسهم دون أن يدروا، ولكنها كما تقول “قدرة كامنة فينا جميعًا“.67
هذه المعارف المتاحة لتلك الذوات التي تتسم بتعدديتها لها خواص مختلفة عن تلك التي تخص الذات في فلسفة التنوير، والتي هي ذات مجردة عن الجسد (disembodied) بلا تنوع داخلي. فضلاً عن ذلك، وبالرغم من الخصوصية التي تميز كل مثل من أمثلة الرؤية من أسفل، فإن هذه الرؤى تجمع بينها عدة جوانب جوهرية مشتركة، من ضمنها خواص التعدد، وإمكان تحديد موقعها زمنيًا ومكانيًا وثقافيًا، واختلاف طرق مثولها جسمانيًا، وأخيرًا أداؤها دور وجهات نظر اجتماعية وجمعية، أي منظورات من مواقع معينة. وقد لا يتسع المجال لمناقشة هذه الخواص تفصيليًا إلا أنه يمكنني عرض بعض من خطوطها العريضة هنا.
تلك معارف لها موقع زمني ومكاني محدد، أي معارف سياقية[Situated Knowledges: المعرفة السياقية مفهوم مبني علـى فكـرة أنـه لا وجـود لحقيقـة واحدة نسعى إلى اكتشافها، وأن أية معرفـة ليست إلا معرفـة جزئية نسبية، ترتبط بسياق إنتاجها وموقعها مكانيًا وزمنيًا، وقـد أطلقت المصطلح المنظِّـرة النسـوية دونـا هاراويي (في بداية التسعينيات) منتقدة زيف معايير الموضوعية في الفكـر والممارسـة العلمية الغربية (التي تتجاهل مثلاً أن الـذات تخبـر الحيـاة والعالم مـن خلال جسـد معين). وامتدادًا لهذا الخط ثمة تصور عـن “الموضوعية النسوية” بصـفتها مجموعـة من المعارف الجزئية والمنظورات المختلفة نسـعى إلـى إيضاح العلاقات بينهـا مـن خلال ذوات متعددة ومتحركة.] (situated knowledges)، 68 ومن ثم فهي معارف نسبية، معارف ثقافات وشعوب أو جماعات محددة. ولأنها معارف مرهونة بسياق، فهي تمثل رد فعل يرتبط بالتجسد (embodiment) – أي المثول الجسدي – بشكل محدد أو في واقع معين. لقد أمست أجساد المسودين تلعب دور العلامات التي تشير إلى القهر الذي نمارسه.
إن الالتفات إلى ملامح الموقع الاجتماعي الذي تحتله الجماعات المسودة، يمكننا من وصف شكل هذه المعارف. وتعبر هذه المعارف – بفعل هذه الملامح – عن واقع تعددي ومتناقض، إنها معارف غير ثابتة إذ تتغير وتقر بأهمية أن تتغير بتغير الظرف التاريخي وتوازنات القوي. وهي تقف من الثقافة السائدة موقفًا نقديًا وفي الوقت نفسه لها مواطن ضعفها أمام هذه الثقافة، وهي أيضًا منفصلة عنها ومعارضة لها، كما تظل محتواة داخلها. وتعبر جلوريا أنزالدوا عن هذه الخصائص في قصيدتها:
أن تعيش في أرض الحدود يعني أنك في دارك، غريب أينما كنت الخلافات حول الحدود قد سُوّيت دفعات الرصاص مزقت الهدنة سقط وأنت جريح في المعركة ترد الهجوم مقاتلاً، ناجيًا. 69
هذه كلها علامات على إنجاز يتحقق من خلال النضال، سلسلة من المحاولات الجارية حتى يحول المقهورون دون أن يصبحوا خافين عن الأنظار، دون أن يتحطموا على أيدي الثقافة السائدة.
غير أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فتلك المعارف النابعة من موقعها المحدد يمكن لها أن تشكل بدائل، فهي تفتح الباب أمام إمكانات قد تتحقق أو قد لا تتحقق. وبقدر ما تكون هذه المعارف واعية بنفسها على مستوى افتراضاتها تسهم في توفير خيارات معرفية جديدة. فإنْ حَدَثَ وتَكَوِّنَ وعيٌ لدي أصحاب تلك المعارف بحقيقة النضالات التي تمثلها رؤاهم وتعبر عنها يصبح من الممكن لتلك النضالات أن تتعدى حدود محاولات البقاء على قيد الوجود فتتعرف على الدور المحوري الذي تلعبه علاقات القوة المنهجية، ويمكن لتلك المعارف أن تصبح معارف واعية تشتبك مع معطيات الواقع وتخضع للمساءلة. ولأنها معارف الأطراف المسودة فإنها “خبيرة بأساليب الإنكار” التي تشمل الكبت والنسيان والاختفاء.70 ومن ثم، يمكنها – مع إقرارها بعدم ثباتها وبعدم إمكان تحققها كاملة – أن تطالب بالاعتراف بها بوصفها مسردًا عن الواقع يتسم بقدر أكبر من الصدق والتوازن، يمكنها أن تمثل ما أطلق عليه فردريك جيمسون وصف “نسبانية متحلية بمبادی” (“principled relativism”). إن تلك المعارف الواعية بطبيعتها – من حيث هي معارف مرتبطة بسياق وموقع – يجب أن توجه جل اهتمامها إلى تغيير علاقات القوة المعاصرة، ومن ثم يمكنها الإشارة إلى اتجاه يتجاوز الحاضر.
* Nancy C. M. Hartsock, “The Feminist Standpoint Revisited,” in The Feminist Standpoint Revisited & Other Essays (Colorado and Oxford: Westview Press, 1998), pp. 227- 248.
1 – هذه القائمة تضم في العادة: دوروثي سميث Dorothy Smith وماري أوبريان Mary O’Brien وهيلاري روز Hilary Rose (وسابقًا إليزابث في Elizabeth Fee وجين فلاكس Jane Flax), كما أصبحت في عهد أحدث تضم أيضًا منظِّـرات مثـل أليسـون جاجـار Alison Jaggar وساندرا هاردنج Sandra Harding وباتريشيا هيـل كولينز Patricia Hill Collins اللاتـي تربطهن بالمنظور من موقع نسوي علاقات أكثر تعقيدًا. وتغيب عن القائمة كاتبات مثل: دونا هاراویی Donna Haraway وتشيلا ساندوفال Chela Sandoval وبل هوكس bell hooks وباولا مويا Paula Moya واللاتي أراهن يعملن – من وجهة نظري– فـي صـيغ مـن مشـروعات المنظور المستند إلى موقع. كذلك ثمة قضايا للنقاش تتعلق بالاختلاف بين موقـع “نسـوي” وموقع “النساء“، انظري في هذا الصدد:
Hartsock, “Standpoint Theories for the Next Century,” Women and Politics 18, 3 (Fall 1997).
2 – على سبيل المثال
Norma Alarcon, “The Theoretical Subject(s) of This Bridge Called My Back,” in Gloria Anzaldua, ed., Making Face/Making Soul (San Francisco: Aunt Lute Foundation 1990)
حيث تحدثت المؤلفة عن مجموعة غير محددة الأسماء، من المشتغلات بنظريات المعرفة من موقع نسوي، بيد أنها أشارت – فيما بعد– في مقالتها إلى ساندرا هاردنج وأليسون جاجار بصفتهن منظِّرات يعملن بالمنظور من موقع نسوي.
3 – على سبيل المثال، كثيرًا ما تقارن أعمالي بأعمال دوروثي سميث بالرغم من أنني أعـدهـا أقـل تأثرًا مني بالنسوية الراديكالية. انظر/انظري:
Dorothy Smith, “A. Sociology for Women,” in Julia Sherman and Evelyn Beck, ed., The Prism of Sex (Madison: University of Wisconsin Press, 1977(
ولكن تجدر أيضًا المقارنة مع:
Allison Jagger, Feminist Politics and Human Nature (Toyowa, NJ.: Rowman and Allenheld, 1983), and Sandra Harding, “The Instability of the Analytical Categories of Feminist Theory,” Signs: Journal of Women In Culture and society 11, 4 (Summer 1986).
بيد أنني اندهشت أمام ما وجدته من حشر لعملي في الزمرة نفسها مع أعمال دوروثي دینرشتاین Dorothy Dinerstein وماري دالي Mary Daly التي تعد من النسويات الراديكاليات.
حول هذه النقطة انظر/انظري:
Susan Hekman, Gender and Knowledge: Elements of a Postmodern Feminism (Boston: Northeastern University Press, 1990), p. 126.
4 – George Luckas, History and Class Consciousness (Boston: Beacon 1971).
، للاطلاع على المزيد من التأثيرات التي أدين بها لماركس انظر/انظري الجزء الثاني.
5 – كنت بالفعل أقصد إعطاء حظوة للمنظور المتاح بوصفه إمكانًا في قلب حياة النساء، ولكني لـم أدعُ إلى ترتيب أوضاع القهر في درجات بحيث تكون الرؤية المتاحة للجماعة الأشد معانـاة هي التي يصدر عنها التقرير الأفضل – وهي الصورة التي يبدو أن كاتي کینج فهمت منهـا المقصود بفكرة الفهم المقلوب. انظر/ انظـري
Katie King, Theory in Its Feminist Travels (Bloomington: Indiana University Press, 1994) p. 62
6 – هذه النقاط الخمس تمثل إعادة لقولي مع تغييرات قليلة في الصياغة التي ظهـرت فـي كتاب
Money, Sex, and Power: Toward A Feminist Historical Materialism (New York: Longman, 1983; Boston, Northeastern University Press, 1984), p. 232.
7 – Bell hooks, Yearning (Boston: South End Press 1994)
، انظر/ انظري أيضًا:
Donna Haraway Modest_Witness @ Second_Millennium..FemaleMan©Meets_OncoMouseTM (New York: Routledge, 1997), pp 127- 129
فيما يذكرني بشدة بهذا العمل.
8 – Nancy Fraser and Linda Nicholson, “Social Criticism Without Philosophy,” in Linda Nicholson, ed., Feminism/Postmodernism (New York: Routledge, 1990), p. 31.
9 – المصدر نفسه، ص ۱۲۱.
10 – Jane Flax, Thinking Fragments (Berkeley: University of California Press, 1990), pp. 140- 141.
11 – Iris Young, Throwing Like a Girl and Other Essays in Feminist Philosophy and Social Theory (Bloomington, Indiana University Press, 1990), p. 42.
12 – المصدر نفسه، ص 51.
13 – Hekman, Gender and Knowledge, p. 126
، استخدام صيغة المفرد هنا يستدعي الاستخدام البطريركي لـ “المرأة“، حيث تنوب الواحدة عن الجميع بما أن النساء لا يصـلحن بوصـفهن “أفرادًا” (“individuals”)
14 – المصدر نفسه، ص ۱۲۸.
15 – Ferguson “Interpretation and Genealogy in Feminism”, Signs 16 (Winter 1991), 326.
16 – المصدر نفسه، ص ۳۳۱.
17 – المصدر نفسه، ص ۳۲۲. لاحظ/ لاحظي أيضًا استخدام صيغة المفرد: “المرأة“.
18 – المصدر نفسه، ص ۳۲۳.
19 – يعود الفضل في هذه القراءة لكاتي فرجسون إلى كارن شتولدريهر Karen Stuhidreher
۲۰ – انظـر/ انظـري
Wendy Brown, States of Injury (Princeton: Princeton University Press 1995)
، للاطلاع على مسارد تناقش عملي بجدية أكثر انظـري
Women and Politics19.3 (Fall 1997)
وهو عدد خاص يحمل عنوان:
“Politics and Feminist Standpoint Theories”
21 – Teresa De Lauretis, “Eccentric Subjects: Feminist Theory and Historical Consciousness,” Feminist Studies 16, 1 (Spring 1990),.116.
۲۲ – المصدر نفسه، ص ۱۳۷.
23 – المصدر نفسه، ص ۱۳9. وهي أيضًا – في هذه الفقرة – حولت اللغة التي تستخدمها وناقشـت وجهة النظر الخارجة عن المركز وكأنها الشيء نفسه مثل المنظور المستند إلى موقع.
24 – المصدر نفسه، ص 144.
25 – Sandra Harding, “Feminism, Science, and the Anti-Enlightenment Critiques,” in Linda.Nicholson, ed. Feminism/ Postmodernism
، تجدر الإشارة إلى أن كورنل وسـت حثـت رؤية عن ماركس تقترب من الادعاء المذكور، انظر/انظـري:
Cornel West, The Ethical Dimension of Marx’s Thought (New York: Monthly Review Press, 1991).
26 – المصدر نفسه، ص 98.
27 – المصدر نفسه، ص ۹۹.
28 – Karl Marx, Economic and Philosophical Manuscripts of 1844, ed. Dirk Struik (New York: International Publishers, 1964), p. 112.
المصدر نفسه، ص١١٤. انظر/ انظري أيضًا المصدر نفسه ص۱۳۷ حيث يقول ماركس أن الجوهر البشري للطبيعة موجود فقط لدى الإنسان الاجتماعي، وبخصوص علاقة العالم الطبيعي بالعالم البشري، انظر/ انظري المسرد الشيق لألفريد شميدت في كتابه:
Alfred Schmidt, The Concept of Nature in Marx, trans. Ben Foukes (London: New Left Books, 1971).
30 – David Harvey, Justice, Nature, and the Geography of Difference (New York: Blackwell1996,) pp. 120- 175.
31 – Nancy Hartsock, Money, Sex, and Power (New York: Longman, 1983; Boston Northeastern University Press, 1984), p. 233.
32 – Donna Haraway. Simians, Cyborgs, and Women (New York: Routledge, 1991), p. 42.
33 – Haraway, Modest_Witness, p. 148.
34 – Haraway, Simians, p. 230.
35 – Hartsock, Money, Sex and Power, pp. 234, 231.
36 – المصدر نفسه، ص ٢٣٤.
37 – حول التصورات الماركسية عن الحقيقة، انظر/انظري:
Leszek Kolakowski, “Karl Marx and the Classical Definition of Truth,” in Kolakowski, Toward a Marxist Humanism (New York: Grove Press 1968).
، وانظر/انظري مقدمة الجزء الثاني.
38 – Haraway, Modest_Witness, pp 198 -199.
، انظر/ انظري على وجه الخصوص هـامش ۳۲، ص ٣٠٤– ٣٠٥.
39 – Bell Hooks, From Margin to Center (Boston: South End Press, 1984), p. ix.
40 – “Postmodernism, ‘Realism,’ and the Politics of Identity,” in Jacqui Alexander and Chandra Talpade Mohanty, eds., Feminist Genealogies, Colonial Legacies, Democratic Futures (New York: Routledge, 1997), p. 137.
41 – المصدر نفسه، ص ۱۳۸.
42 – المصدر نفسه، ص ۱۳۹.
43 – المصدر نفسه، ص ١٤١. لأغراضي المطلوبة، من المهم هنا أن تُقِرَّ مويا بالجذور الماركسية التي ينبع منها هذا الادعاء، فضلاً عن ذلك، من المثير للاهتمام أن السبيل إلى قبول أو فهـم وجهة نظري يمر عبر ساندرا هاردنج وساتيا موهانتي Satya Mohanty.
44 – Michelle Cliff, The Land of Look Behind (Ithaca, N.Y.: Firebrand Books, 1985), p. 13.
45 – المصدر نفسه، ص 16.
46 – المصدر نفسه.
47 – Frederic Jameson, “History and Class Consciousness as an ‘Unfinished Project”,” Rethinking Marxism 1, 1 (1988),. 67.
48 – المصدر نفسه، ص ٦٢.
49 – انظر/انظري على سبيل المثال مساهمة باتريشيا هيل كولنز Patricia Hill Collins في العمـل منظور مستند إلى موقع النسويات السود، وكذلك مارلين فراي Marilyn Frye، وتيريزا على دي لورتيس، وموليفي اسانتي Molefi Asante، وساندرا هاردنج، وتشيلا سـاندوفال، ودونـا هاراويي.
50 – Jameson, History and Class Consciousness,” p. 65.
51 – المصدر نفسه، ص 66.
52 – المصدر نفسه، ص ۷۰.
53 – المصدر نفسه.
54 – المصدر نفسه. وقد أكمل مقررًا أن هذا المشروع الفكري قد يبدو معنيًا بفكرة النسبية ولكنه يطلق عليه نسبية ذات مبدأ.
55 – انظـر/ انظـري مـثلاً
Ludwig Witgenstein, On Certainty (New York: Harper and Row 1969), and Remarks on the Foundations of Mathematics (Cambridge: MIT Press.
انظر انظري أيضًا:
liya Frigogine, The End of Certainty (New York: The Free Press 1996).
56 – Carlos Fuentes, “How I Started to Write,” in Rick Simonson and Scott Walker, eds., Graywolf Annual Five: Multicultural Literacy (St. Paul, M.N.: Graywolf Press, 1988) p. 85.
57 – Jameson, “History and Class Consciousness,” p. 65.
58 – Michelle Cliff, “A Journey into Speech,” Graywolf Annual, p. 78.
59 – مقتبسة من Edward Gwaltney, Dryongso كما ظهرت في المصدر الآتي:
Patricia Hill Collins, “The Social Construction of Black Feminist Thought,” Signs 14,4 (1989) 748.
60 – “In Defense of the Word: Leaving Buenes Aires,” Graywolf Annual (June 1976), pp. 124 -125
61 – المصدر نفسه، ص 114-115. انظر/انظري أيضًا تعليقاته حول أهمية استهلاك الصـور والرغبات الخيالية بدلاً من السلع (ص ۱۱۷).
62 – Guillermo Gomez.Pena, “Documented/Undocumented,” in Graywolf Annual, p. 132.
63 – Cedric Robinson, Black Marxism (London: Zed Press, 1984), pp. 442 and 452.
64 – وردت بين تنصيص في المصدر الآتي:
Eduard Galeano, Century of the Wind (New York.Pantheon, 1988), p. 262.
، تشير أعمال ماركيز إلى جوانب مهمة عن عوالم من الواقـع لا يوجد بينها قياس مشترك، فهو يقول إن الناس العاديين الذين قرأوا روايته مئة عام من العزلة لم يجدوا فيها ما يفاجئهم حيث “إنني لا أخبرهم بشيء لم يحدث في حياتهم“.
(The Fragrance of Guava p.36)
كما وردت في المصدر الآتي:
Kumkum Sangari, “The Politics of the Possible, ” Cultural Critique, no. 7 (Fall 1987), 164.
65 – W. E. B. Du Bois, The Souls of the Black Folk, 2nd ed. (New York: Fawcett World Library, n.d.), p. 16
، وردت في:
loyee Ladner, Tomorrow’s Tomorrow (New York Anchor Books, 1971), pp. 273- 274.
66 – Sangari, “The Politics of the Possible,” pp، 161 and 163.
67 – Gloria Anzaldua, Borderlands (San Francisco: Spinsters, Aunt Lute, 1987), pp. 37- 39.
68 – تركت في نفسي مقالة دونـا هـاراویی
(“Situated Knowledges,” in Sunians, Cyborgs and Women)
تأثيرًا فكريًا كبيرًا.
69 – Anzaldua, Borderlands, p. 14.
70 – هذه مفردات دونا هاراويي في Simians, Cyborgs and Women