المنظمات الحقوقية والتربية على حقوق النساء

تاريخ النشر:

2007

كتابة:

المنظمات الحقوقية والتربية على حقوق النساء

تعتبر قضايا النوع الاجتماعي وحقوق النساء من القضايا الأساسية في مجال التربية على حقوق الإنسان، وهو ما أكدته المواثيق الدولية والإعلانات والتوصيات الصادرة عن العديد من المؤتمرات الدولية والمحلية والإقليمية. وقد بذلت المنظمات الدولية والحركات النسوية والمنظمات غير الحكومية جهودا كبيرة من أجل تأكيدها حـق النساء في التعلـيـم مـن ناحية وضرورة اعتماد مناهج تحترم وتشجع حقوق الإنسان والمساواة على أساس النوع الاجتماعي من ناحية أخرى. وقد امتد أثر هذه الجهود إلى الكثير من المؤسسات الأكاديمية، حيـث تـم وضع مناهج وأنظمة التعليم في دائرة البحث والدراسة من منظور النوع الاجتماعي.

وعلى الصعيد العربي فقد نشطت منظمات حقوق الإنسان الاقليمية والمحليـة في مجـال التربية على حقوق الإنسان كمجال عمل رئيسي أو فرعي، دائم أو مؤقت. وفي مدى زمني قصير تعددت أنشطة التربية على حقوق الإنسان وتنوعت، وشملت فـيـها شملت قضـايا حقوق النساء والنوع الاجتماعي. ومع ذلـك يـظـل مـوقـع هـذه القضايا في سياق الأنشطة التربوية للمنظمات الحقوقية من الأمور التي تحتاج إلى نوع من الاستكشاف والتقييم الكمي والكيفي. فثمة مجموعة من التساؤلات التي لا تزال تبحث عـن إجابة للتعـرف عـلى مـدى فاعلية منظمات حقوق الإنسان في بناء ثقافة ومنظومة قيم مساندة لحقـوق النسـاء في المنطقة العربية. ومن بين هذه التساؤلات: كيف يمكن تقييم مضمون الرسالة التربوية لمنظمات حقوق الإنسان من منظور النوع الاجتماعي؟ ما أثر العوامل الثقافية والسياسية على أجندات المنظمات التربوية، وخاصة فيما يتعلق بحقوق النساء؟ ما طبيعة توجهات القائمين على أنشطة التربية على حقوق الإنسان داخل هذه المنظمات ومدى قدرتهم على معالجـة حـقـوق النسـاء وقضايا النوع الاجتماعي؟ ما طبيعة العلاقة بين منظمات حقوق الإنسان والمنظمات النسائية في هذا المجال؟

هذه التساؤلات وربما هناك الكثير غيرها يمكن طرحه في محاولة للفهم، ولكن يجب أن يؤخذ في الاعتبار صعوبة تقديم إجابات موضوعية عليها لسبب رئيسي وهو النقص الشديد في عمليات تقييم أنشطة التربية على حقوق الإنسان في المنطقة العربية. وبالتالى فليس هنـاك مصادر يمكن الاستناد إليها لبناء رؤية موضوعية حول مثل هذه القضايا، ولعـل إثـارة مـثـل هذه التساؤلات قد يدفع إلى مزيد من الاهتمام بإجراء دراسات تقييمية في هذا المجال. ومـن ثم فإن أقصى ما يمكن الطموح إليه في هذا الحيز الصغير هو طرح بعض الأفكار، التي تستند إلى مؤشرات نابعة من الممارسة لا أكثر، على أمل أن تكون أفكـارا موضـوعية تسمح بإثارة نقاش موضوعی.

 

بداية تجدر الإشارة إلى أن نشأة منظمات حقوق الإنسان في المنطقة العربية توصف بأنهـا حديثة نسبيا. فمصطلح منظمة حقوق الإنسان برز بشكل محدود خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي، ولم يكن لهذه المنظمات المحدودة العدد من أثر على الساحة الثقافية. ولذا فمـن المعتاد اعتبار منتصف الثمانينيات بمثابة البداية الفعلية لهذه المنظمات، والتسعينيات كنقطة انطلاق لها. فقد شهد عقد الثمانينيات تأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان كبداية لظاهرة المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال حقوق الإنسان. أما في التسعينيات فقـد شـهدت منظمات حقوق الإنسان انطلاقة نسبية مع بروز مجموعة من المنظمات التي تبنت مجالات عمل نوعية. وخلال هذا العقد تنوعت أجندة حقوق الإنسان بفضل بروز كوادر محلية باتت قادرة على التواصل مع حركة حقوق الإنسان الدولية، وعلى الاستفادة من الدعم الـدولى لأنشطة حقوق الإنسان والذي لعب دورا كبيرا في بروز هذه المنظمات. فمن خلال التواصل والـدعـم أمكن بناء مؤسسات وبرامج لم يكن ممكنا أن تقوم من خلال الموارد المحليـة غـير الموجـودة أصلا.

وقد تضمن مجال عمل منظمات حقوق الإنسان العديـد مـن الأنشطة والبرامج، لعـل الدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية كان ومازال أبرزها. ولم يكن هذا يخص المنظمات العربية وحدها، بل بالأحرى يمكن القول أن أجندة المنظمات العربية عكست إلى حد كبير التيـار الرئيسي في حركة حقوق الإنسان العالميـة والتي ركزت على الحقـوق المدنية والسياسية. وبالتالي فإن معظم البرامج والأنشطة كانت غالبا تقع تحت مظلة هذه المنظومة من الحقوق. ومع ذلك برزت منظمات محدودة تباشر العمل في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وسعت منظمات أخرى إلى الربط بين منظومتي الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ومن ناحية أخرى برز الاهتمام بالتربية على حقوق الإنسان مبكرا، حيث تأسس المعهد العربي لحقوق الإنسان بتونس عام 1989، كمؤسسة عربية متخصصة في مجال التربية على حقوق الإنسان. ثم تلا ذلك تأسيس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عام 1994، كمؤسسة معنية بنشر ثقافة حقوق الإنسان. وإلى جانب ذلك كانت هناك أنشطة تدريبية محدودة تقوم بها بعض المنظمات الرئيسية، ولكنها لم تكن معنية بالتربية على حقوق الإنسان بالمعنى الواسع للكلمة بقدر ما كانت معنية بإعداد كوادر جديدة. ولم يمض وقت طويل حتى باتت قضايا التدريب والتربية على حقوق الإنسان عنصرا أساسيا داخل معظم المنظمات العاملة داخل هذا المجال واتسع نطاق العمل التدريبي والتربوي ليتجاوز نطاق المنظمات، بعد أن تبنت مؤسسات أخرى تربوية وتنموية وثقافية، حكومية وغير حكومية، برامج ومبادرات للتربية على حقوق الإنسان، بالتعاون مع مؤسسات دولية أو محلية.

وفى إطار هذه الجهود المتنامية تنوعت الفئات المستهدفة من أنشطة التربية على حقوق الإنسان لتشمل نشطاء المجتمع المدني، ومهنيين كالمحاميين والإعلاميين والمدرسين ورجال الشرطة والقضاء، وفئات الشباب وخاصة الطلاب.

ومن منظور النوع الاجتماعي أيضا فقد شهد العديد من هذه الأنشطة، وتحديدا على مستوى الشباب، مشاركة من الجنسين، وخاصة الطلاب وشباب المهنيين. وقد تم هذا بوعي من قبل بعض المنظمات، واستجابة لمطالب المؤسسات الدولية بالنسبة لمنظمات أخرى، حيث باتت مراعاة النوع الاجتماعي على مستوى مشاركة الشباب أحد العوامل التي تزيد من فرص تلقى الدعم الدولي لأنشطة التربية على حقوق الإنسان.

وكما تنوعت الفئات المستهدفة فقد تنوعت كذلك القضايا، وإن كانت الغلبة دائما للحقوق المدنية والسياسية. ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى التفاوت بين البلدان العربية من حيث معالجة بعض القضايا دون غيرها. ففي سياق كل مجتمع تفرض الظروف السياسية والثقافية تبنى قضايا معينة قد لا تكون لها الأولوية في بلد آخر. كما أن المراحل المختلفة قد تفرض قضايا ومستجدات ربما لم تكن موجودة في أنشطة تدريبية أو تربوية سابقة. فقضايا الديمقراطية والتحول الديموقراطي مثلا لم تكن ملحوظة في الأجندات التدريبية لمنظمات حقوق الإنسان، ولكنها باتت تبرز مؤخرا في العديد من الأجندات التدريبية.

وفي الحقيقية يمكن القول أن التربية على حقوق الإنسان، والتي لم تعد مقصورة على منظمات حقوق الإنسان، أخذت في النمو على مدار السنوات الخمس عشر الماضية منذ بداية التسعينيات، لتصبح أحد أهم الحقول التي تنشط فيها المنظمات المحلية والإقليمية والدولية. ومع ذلك وكما سبق أن أشرنا، فإن جل هذه الأنشطة لم يجر تقييمه أو قياس أثره في المجتمع والثقافة السائدة إلا نادرا. وقد يشعر المتابع لأنشطة التربية على حقوق الإنسان في المنطقة العربية وكأنه إزاء عملية ذات حركية عالية ولكنها لا تسمح بالتوقف لالتقاط الأنفاس والتقييم، وكأن الهدف المرجو هو هدف إجرائي، أي تنفيذ برامج من أجل تنفيذ المزيد من البرامج، ومن هنا يبرز السؤال حول مدى فاعلية هذه الحركية البرنامجية كسؤال مشروع.

وباختصار يمكن القول بأن غياب تقييم وقياس أثر أنشطة التربية على حقوق الإنسان يعد بمثابة إحدى المعضلات التي تواجه الباحثين في هذا المجال. ولكنه أيضا من المنظور المؤسسي أحد المؤشرات الدالة على نقص كبير في العمليات التربوية، بمعنى غياب المعرفة والرؤية الاستراتيجية لعمليات التربية ونشر ثقافة حقوق الإنسان. هذا إذا سلمنا بأن التقييم يعد الركن الرئيسي لتصحيح المسارات وبناء الاستراتيجيات.

وبغض النظر عن مدى فاعلية أنشطة التربية على حقوق الإنسان في المنطقة العربية، لكنها كانت دائمًا من القضايا المهمة، ليس فقط من منظور بناء القدرات من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان، ولكن كذلك من منظور بناء ثقافة بديلة في مواجهة ثقافة الاستبداد السياسي والثقافة المعادية لحقوق الإنسان وحقوق النساء على وجه الخصوص. وانطلاقا من هذا نطرح السؤال المحوري والذي نبحث له عن إجابة وهو: ماذا عن موقع قضايا النوع الاجتماعي من أنشطة التربية على حقوق الإنسان؟

أخشى القول بأن هذا السؤال لربا يعد أحد التساؤلات التي لم تشغل أحدا، فيمكن لمنظمات حقوق الإنسان أن تقول بارتياح بأنها تدرج قضايا حقوق المرأة في أجنداتها التدريبية، فهناك على الأقل محاضرة حول اتفاقية منع كافة أشكال التمييز ضد المرأةداخل البرنامج التدريبي، بل إن بعض مطبوعات هذه المنظمات، رغم قلتهـا، تم تخصيصها لمعالجة قضايا تتعلق بحقوق المرأة. وعلى مستوى المشاركة، فثمة ما يشير إلى تزايد في مشاركة الفتيات على الأقل في الأنشطة التدريبية الرئيسية في المنطقة. وقد سعت بعض المنظمات بصورة واعية إلى حث الفتيات على المشاركة، في حين أن كثيرا من المنظمات لم تضـع عـامـل النـوع كمحدد في عمليات تصميم البرامج أو اختيار المشاركين من ناحية أخرى، فإن المنظمات النسائية ليست معنية بالأجندات التربوية لمنظمات حقوق الإنسان، وخاصة فيما يتعلق بقضايا النساء التي تصنف على أنها قضايا تخص المنظمات النسائية بالأساس. ومع ذلك فإن الأمر لا يخلو من نقد قد توجهه نسويات إلى منظمات حقوق الإنسان وتتهمها بأنها ليست معنية بقضـايـا المـرأة والنوع الاجتماعي. وعلى أي حال يظل موقع قضايا المرأة والنوع الاجتماعي داخـل الأجندة التربوية لمنظمات حقوق الإنسان خارج إطار الاهتمام من قبل جميع الأطراف، إلا عـدد قليـل من المنظمات والمهتمين.

وعلى أي حال فإن المتابع لأنشـطـة التـدريب والتربيـة التـي تباشرهـا مـنظمات حـقـوق الإنسان، يمكن له أن يضع مجموعة من الافتراضات ذات الصلة بالجودة والقيمة النوعية لهذه الأنشطة: ومن هذه الافتراضات ما يلى:

1- أن زيادة عدد الأنشطة المعنية بالتربية على حقوق الإنسان، لا يعني بالضرورة زيـادة جودة وبالتالي فاعلية هذه الأنشطة، بما في ذلك المقاربات الخاصة بالنوع الاجتماعي.

2- أن المناخ الثقافي السائد يؤثر سلبا على نقـل رسـالة حقوق الإنسان بشـكـل عـام، وحقوق النساء وقضايا النوع الاجتماعي بشكل خاص.

3- أن إدراج بعض قضايا حقوق المرأة في الأجندات التدريبية، لا يعني بالضرورة، من المنظور الكيفي، وجود رؤية واعية لقضايا النوع الاجتماعي، سواء لدى بعض قادة منظمات حقوق الإنسان، أو القائمين على برامج التدريب.

4- أن الطريقة التي يتم من خلالها نقل رسالة حقوق المرأة، قـد تـأتى بعكس المبتغى منها، وخاصة إذا ما تم التعامل مع هذه القضايا بدون معرفة كافية بالسياق الثقافي والاجتماعي الذي يجرى فيه توصيل الرسالة.

وفي محاولة لإلقاء مزيد من الضوء على ما تنطوي عليه هذه الافتراضات، يمكن معالجة المشهد التربوي لأنشطة التربية على حقوق الإنسان من خلال الهدف المعلن والمتفق عليه لهذه الأنشطة، أي توفير معرفة، بناء مهارات، تغيير قيم. هذه هي الأركان الثلاثة لأنشطة التربية على حقوق الإنسان. وفي هذا السياق يمكن النظر بصورة نقدية في مدى جودة وفاعلية هذه الأنشطة من منظور النوع الاجتماعي بالأساس، وانطلاقا من هذا المنظور يمكن لنا أن نتساءل: أي نوع من المعرفة يجرى توفيرها؟ وأي نوع من المهارات يجرى بناؤها؟ و أي نوع من القيم يجرى أو تم تغييرها؟ إن هذه التساؤلات في تصوري، تعد أساسية لأنه بدون الإجابة عنها لا يمكن بأي حال الحديث عن رؤية أو استراتيجية فعالة لنشر معرفة وغرس قيم داعمة لمبدأ المساواة وعدم التمييز.

عندما يتعلق الأمر بقضايا النساء في المنطقة العربية، فإن قضية المعرفة تصبح على درجة قصوى من الأهمية. فالمسألة لا تتعلق بنقل معلومات حقوقية وقانونية فقط، بل تتطلب فهم أنساق ثقافية واجتماعية توصف بأنها معادية لحقوق النساء. وفي هذا السياق يمكن القول بأن ما يجرى تقديمه هو معلومات، ذات طبيعة قانونية بالأساس، حول اتفاقية منع جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والقوانين المحلية التي تنطوي على تمييز ضد المرأة، ويمكن للنقاش أن يمتد، بوعي أو بدون وعي، إلى علاقة الشريعة الإسلامية بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان. ومن ثم قضايا العالمية والخصوصية، والتشكيك في قابلية حقوق الإنسان بكاملها للتطبيق في المنطقة العربية. وبغض النظر عن مدى جودة ما يجرى تقديمه في هذا الإطار، إلا أنه يظل قاصرا، لأن ما يحدث في أغلب الأحيان هو نوع من الانغلاق المعلوماتي داخل الأطر المعلوماتية ذات الطبيعة القانونية في الغالب. وهنا لا يمكن تجاهل معضلة الفجوة المعرفية الناجمة عن غياب أثر العلوم الاجتماعية والإنسانية وخاصة علم الاجتماع والأنثربولوجيا في خطاب حقوق الإنسان العربي. وهكذا يتلامس الخطاب التربوي لمنظمات حقوق الإنسان مع الواقع، ليس من خلال تحليل واستيعاب الواقع المعيش، ولكن في الغالب من خلال عملية مقارنة طرفاها القانون الدولي والقوانين المحلية، وغالبا ما تدخل الشريعة الإسلامية إراديًا أو عفويًا.

يضاف إلى ذلك أن العمليات التدريبية والتربوية ومن واقع طبيعة المواد والأدبيات المستخدمة من دلائل ومواد تدريبية تكشف عن عجز المنظمات حتى الآن، إلا في حالات نادرة وعارضة، عن توظيف المنتج الفكري والإبداعي المحلي في العمليات التربوية. وبهذا يفقد الخطاب التربوي الحقوقي مصادر مهمة قد تعطيه نوعًا من الزخم المحلى.

ومن ناحية أخرى، فمن المفترض أن تحتل مسألة تغيير القيم الاجتماعية بشأن المرأة أهمية مركزية في الخطاب الحقوقي التربوى بشأن النوع الاجتماعي، وينبع هذا الافتراض من افتراض آخر رئيسي وهو أن تغيير القيم السائدة بشأن النساء هو جزء لا يتجزأ من عملية التغيير الاجتماعي وبناء الديمقراطية بالمعنى الواسع. ومع ذل ذلك ثمة شكوك بشأن قدرة الكثير من البرامج التدريبية على مقاربة مسألة تغيير القيم بقدر من الفاعلية، ليس فقط بسبب غياب الكفاءات، أو بسبب عدم الوعي، ولكن ربما بسبب عدم الرغبة لدى قطاعات ليست قليلة من قيادات المنظمات الحقوقية أو القائمين على البرامج التربوية. ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى مجموعة من العوامل التي قد تكون ذات دلالة، وهي:

أ. أن الخلفيات الفكرية والسياسية لنشطاء حقوق الإنسان متباينة وقد لا تنسجم في عدد من الأحيان مع مقتضيات نشر ثقافة مساندة لحقوق النساء. فكما نعلم أن نشطاء حقوق الإنسان على مختلف أجيالهم العمرية لا يشكلون كتلة متجانسة من حيث الخلفيات الفكرية، فهناك من انطلق من خلفية فكرية ماركسية أو قومية أو ليبرالية، كما أن هناك أجيالاً جديدة لا تخضع لهذا التصنيف، يضاف إلى ذلك أن الأجيال الجديدة والتي تنشط كذلك في مجالات التربية على حقوق الإنسان، قد يكون لدى بعضها شك في مبدأ عالمية حقوق الإنسان، وقد يكون هذا الشك مرده النظر إلى حقوق الإنسان من خلال مرجعية دينية إسلامية وفي بعض الأحيان مسيحية محافظة. كل هذا يعنى مواقف متباينة بشأن حقوق النساء وقضايا الحريات الشخصية.

ب. من المعروف أن منظمات حقوق الإنسان تعمل في مناخ سياسی وقانونی معادٍ لها ولفكرة حقوق الإنسان بشكل عام، وهو الأمر الذي جعلها حذرة فيما يتعلق خلال بمسألة بناء مشروعيتها الثقافية والاجتماعية. وقد نجحت السلطات من خلال الإعلام أن تشيع فكرة عن هذه المنظمات بأنها نبت غربی ولا تنتمى لواقعها، لاشك أن هذا الوضع جعل العديد من المنظمات تضع في حسبانها مسألة مشروعيتها الثقافية، وهو ما أدى إلى الحذر أو الابتعاد بقدر الإمكان عما يمكن أن يؤكد لدى العقل الجمعي بأن هذا المنظمات تتبنى خطابا يصطدم بالقيم الثقافية السائدة. أثر هذا الوضع على قابلية المنظمات للدخول بقوة في بعض المناطق ذات الحساسيات الثقافية في مجال النوع الاجتماعي وحقوق النساء. يرتبط بذلك موافقة بعض النشطاء على وضع قضايا حقوق الإنسان ضمن سلم أولويات، أي إعطاء أولوية لحقوق على حقوق أخرى. وانطلاقا من أيديولوجيا الأولويات العربية فإن حقوق النساء، وخاصة الحقوق الشخصية وتلك المتعلقة بالصحة الجنسية والإنجابية لا تشكل أولويات لدى كثيرين.

ت. من العوامل الأخرى التي تؤثر على فاعلية الخطاب التربوى الحقوقي في تغيير منظومة القيم السائدة التناقض بين إيمان القائم بالعملية التربوية وبين ما يقوله بشأن حقوق النساء. فكثير ممن يعملون في هذا المجال، بدافع وظيفي ربما، يعملون وكأنهم يؤدون وظيفة بدون إيمان حقيقي بما يقولونه إلا بالقدر الذي يضمن استمرارية الوظيفة، وهذه من المعضلات الكبرى التي برزت مع اتساع دائرة المحترفين في هذا المجال.

ث. وأخيرا فإن تغيير القيم يقتضى وجود مساحة للتعايش والانتهاء، وهو ما قد توفره بنى مؤسسية ترتكز على المشاركة والتفاعل وتحمل المسئولية والتضامن والشعور بالانتماء إلى جماعة ثقافية. ولكن مع الأسف فإن منظمات حقوق الإنسان (كغيرها من المنظمات غير الحكومية) مازالت أنساقا مؤسساتية مغلقة، بسبب عوامل ذاتية، أي غياب الديمقراطية الداخلية والمشاركة والموضوعية بسبب التهديد السياسي والقانوني والأمني لهذه المنظمات.

لعبت هذه العوامل المختلفة أدوارا متفاوتة في لجم قدرة مجموعات حقوق الإنسان المحلية عن الانخراط بقوة في نشر ثقافة قادرة على بناء ما يمكن أن نطلق عليه كتلة حرجة Critical Mass مساندة لحقوق النساء في العديد من الأقطار العربية. وربما للأسباب ذاتها لم تنجح منظمات أخرى ومنها منظمات نسائية. وإذا كان بعض هذه العوامل يمثل ضغوطا سياسية أو قانونية، فإن الكثير منها يرجع لعوامل ذاتية. وأعتقد أنه من المفيد لمستقبل حركة حقوق الإنسان كحركة تبشر بثقافة بديلة أن تفتح هذا الملف، ليس من قبيل جلد الذات، ولكن من أجل بناء حركة قادرة بالفعل على الإسهام في بناء ثقافة بديلة.

هذه بشكل عام بعض الأفكار الانطباعية بشأن وضع قضايا النوع الاجتماعي وحقوق النساء على الأجندة التدريبية والتربوية لمنظمات حقوق الإنسان في المنطقة العربية. وكما سبق أن أشرنا فإن أنشطة التربية على حقوق الإنسان في حاجة إلى مزيد من الاهتمام فيما يتعلق بالتقييم وقياس الأثر، وإنتاج معلومات ومعرفة تسهم في تصحيح مسار المبادرات التربوية. ويجب التأكيد أن هذه المهمة لا تقع على عاتق منظمات حقوق الإنسان إلا من زاوية الإلتزام المؤسسي، أما المسئولية العلمية فتقع في الغالب على عاتق المؤسسات البحثية وربما الأكاديمية. وهنا ربما ندخل في حلقة أخرى مفرغة فنتساءل عن مدى اهتمام المؤسسات البحثية والأكاديمية بقضايا النوع الاجتماعي وحقوق النساء. ورغم كل شيء تبقى حقيقة أن أي تغيير اجتماعي حقيقي لن يحدث، ما لم تتغير أحوال النساء في المنطقة العربية، وهي مهمة سياسية وتربوية كذلك.

يسري مصطفى: باحث في مجال حقوق الإنسان واستشاري مؤسسة المرأة والذاكرة.

اصدارات متعلقة

عيد الأم ما بين الاحتفاء بقيمة الأمومة و ترسيخ الدور النمطي للنساء
خدمات الصحة الجنسية فيما بعد سن الإنجاب ضرورة لتمكين النساء
ختان الإناث في مصر... جريمة تعذيب ضد الإنسانية
حقوق النساء من اجل العدالة والتنمية
الإيدز خطر صامت يهدد حياة النساء في ظل جائحة كورونا
إشكاليات التقاضى فى جريمة التحرش الجنسي
أسئلة وأجوبة بشأن الوقاية من كوفيد 19 ومكافحتها للعاملين /ات في مجال الرعاية الصحية
الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان