النساء العاملات وسياسات التضامن
نحن نحلم أنه متى عملنا بجهد ستصبح قادرات على أن نلبس أطفالنا ملابس لائقة مع الاحتفاظ بقليل من الوقت والمال لأنفسنا. ونحلم أنه إذا ما عملنا بمثل جودة عمل الآخرين، فإننا سنعامل بالمثل ولن يحط من قدرنا لأننا لسنا مثلهم… ثم نسأل أنفسنا: كيف يمكن أن يصبح الحلم حقيقة؟ الآن لم نتحصل إلا على إجابتين، فإما أن نكسب جائزة اليانصيب، أو ننظم أنفسنا. وماذا عساي أن أقول إلا أنني لم أكن قط محظوظة عندما يتعلق الأمر بالأرقام. ضعي هذا في كتابك، أخبريهم أن الأمر قد يحتاج إلى وقت قد تظن البعض منهن أنهن لا يملكنه، ولكن يجب عليهن أن ينظمن أنفسهن.. فالطريقة الوحيدة للتحكم ولو بقدر يسير في مجريات حياتك هو التنظيم بصورة جماعية بحيث تحصلين على الدعم ممن يشاركونك الاحتياجات نفسها. “إيرما“، عاملة فلبينية في وادي السليكون بكاليفورنيا (1993).
إن حلم “إيرما” في الحصول على حياة لائقة لها ولأطفالها، ورغبتها في أن تعامل باحترام وعلى قدم المساواة على أساس جودة عملها وما تستحقه، وقناعتها بأن الكفاح الجماعي هو الطريق للتحكم ولو بقدر يسير في مجريات حياتها الخاصة، لتعبير بليغ عن كفاح العاملات الفقيرات في إطار عصر الرأسمالية العالمية. أود في هذا الفصل التركيز على مسألة استغلال نساء دول العالم الثالث الفقيرات، وتناول مسألة قدرتهن على اتخاذ قراراتهن كعاملات. كما أود أن أتطرق أيضا إلى مسألة المصالح المشتركة للنساء العاملات استنادا إلى فهم لموقعهن واحتياجاتهن المشتركة وإلى استراتيجيات وممارسات التنظيم المستمدة من حياة العاملات اليومية والتي بمقدورها أن تحول حياة العاملات.
لقد وجدت صعوبة خاصة في كتابة هذا الموضوع، ربما بسبب التشبع شبه التام بعمليات الهيمنة الرأسمالية الذي جعل من الصعب علينا أن نتصور أشكالاً من المقاومة النسوية يمكنها أن تشكل فرقًا حقيقيًا في الحياة اليومية للنساء العاملات الفقيرات. ولكنني عندما بدأت أتحسس طريقي بين الخبرات المتشابهة للنساء العاملات (أو الأجيرات)، وبين تحركهن وأفكارهن وتحليلاتهن عن أنفسهن في ظل الاقتصاد الرأسمالي، اكتشفت حجم الكفاح الذي تقوم به النساء في مواجهة الأحوال غير المواتية وقدر اعتزازهن بأنفسهن. ومن هذه الأشكال المختلفة من الكفاح يمكننا أن نتعلم الكثير عن عمليات الاستغلال والهيمنة وكذلك عن الاستقلالية والحكم الذاتي والتحرر.
أكدت جولة دراسية إلى “تيجوانا” بالمكسيك قامت بتنظيمها “ماری تونج” من لجنة مساندة العاملات المكسيكيات، ومقرها سان دييجو، إيماني بإمكاني تنظيم العاملات لأنفسهن عبر الحدود القومية خاصة في أعقاب اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا). وقد كان تبادل الأفكار والتجارب والاستراتيجيات مع “فيرونيكا فاسكويس” البالغة من العمر إحدى وعشرين عامًا – وهي من العاملات المكسيكيات التي تناضل من أجل وظيفتها ومن أجل ظروف عمل أفضل وفي مواجهة التحرش الجنسي – أحد العوامل الملهمة في كتابة هذا الموضوع وهو عامل لا يقل أهمية عن غيره من العوامل. قامت فيرونيكا فاسكويس ومعها تسع وتسعون من العاملات السابقات في مصنع Exportadora Mano de Obra, S. A. de C. V في تجوانا برفع قضية تعد الأولى من نوعها في لوس أنجلوس بكاليفورنيا ضد ملاك مصنع Exportadora, National o-Ring of Downey للمطالبة بإرغامهم على التقيد بقوانين العمل المكسيكية وصرف ثلاثة أشهر للعمال بعد أن قامت الشركة بإغلاق عملياتها في تيجوانا في نوفمبر/ تشرين الثاني 1994. وقد كان للشجاعة والتصميم ووضوح التحليل الذي تحلت به تلك العاملات الشابات عند رفع هذه القضية، وهي الأولى من نوعها في اختبار مدى قانونية النافتا، الفضل في توضيح حقيقة مهمة، وهي أنه على الرغم من التشبع العولمي بعمليات الهيمنة الرأسمالية فإن عام 1995 كان لحظة تجلت فيها إمكانية بناء تضامن نسوى عابر الحدود.
شغلتني على مدار الأعوام القيود التي تحول دون بناء تضامن نسوى عابر للقوميات والانقسامات العرقية والجنسية والطبقية بقدر ما شغلت بالنظر في فرص التضامن والعوامل التي قد تساعد على تحقيقه. لقد شهدت حياة النساء كعاملات ومستهلكات ومواطنات تغيرات جذرية مع الصعود الاحتفالي للرأسمالية على مستوى العالم. وقد أصبحت المصالح المشتركة لرأس المال (مثل الأرباح والتراكم والاستغلال) واضحة عند هذه النقطة. ولكن كيف يمكننا الحديث عن مصالح نساء العالم الثالث الفقيرات وقدرتهن على اتخاذ قراراتهن وخفاء أو ظهور يخص العمليات الديموقراطية؟ وما هي إمكانية حصول نساء العالم الثالث العاملات على المواطنة الديموقراطية في ظل الاقتصاد الرأسمالي المعاصر؟ هذه بعض من الأسئلة التي يدور حولها هذا الفصل، والذي أرجو أن أقدم فيه توضيحا وتحليلا لموقع نساء العالم الثالث العاملات وأشكال كفاحهن المشترك لمحاولة إيجاد طرق للتعبئة والتنظيم ولفت الانتباه ورفع الوعي بخبراتهن وما يواجهنه عبر مختلف القوميات والبلدان.
ويستكمل هذا الموضوع المناقشة التي بدأتها في الفصل الثاني الخاصة بموقع النساء العاملات في الاقتصاد العالمي. وأنا أكتب انطلاقًا من المواقع المختلفة التي وجدت نفسي فيها في مراحل مختلفة، أي بوصفي ناشطة نسوية مناهضة للرأسمالية من جنوب آسيا تعيش في الولايات المتحدة وتلتزم بالعمل من أجل دعم الممارسات النسوية التحررية وتنظر من أجل الخروج بسياسة تضامن دولية عبر الثقافات ومن أجل سن هذه السياسات، وبوصفي أيضًا معلمةً وناشطةً نسويةً من العالم الثالث طالما شكل لها الاقتصاد النفسي أو تقسيم الوقت بين “البيت” و“العمل” ساحة تناقض وكفاح، وبوصفي أيضا امرأة من الطبقة المتوسطة يمثل كفاحها من أجل تعريف الذات والاستقلالية خارج مفهوم الابنة والزوجة والأم سلسلة فكرية وسياسية قادتها إلى هذا التحليل الخاص لعمل نساء العالم الثالث.
وأريد هنا فحص الفئة التحليلية الخاصة بـ “عمل النساء” والنظر إلى التطبيع التاريخي المحدد للتراتبية الهرمية للجندر والعرق من خلال هذه الفئة. إن التقسيم الدولي للعمل محوري بالنسبة للنظام العالمي الحالي وضروري من أجل تعزيز هذا النظام والحفاظ عليه فخطوط التجميع العالمية تتعلق بإنتاج البشر قدر تعلقها “بتوفير الوظائف” أو تحقيق الربح. وبالتالي فإن تطبيق الافتراضات الخاصة بالعمل والعاملين محوري لفهم السياسات الجنسية للرأسمالية العالمية. وأنا أومن أن أي مشروع نسوى مقارن يجب أن يتناول حتما علاقة العمليات الاستعمارية والاستغلالية المحلية بمثيلاتها العالمية وتعيين عملية التجانس الثقافي والأيديولوجي عبر الحدود القومية (وهو ما يتم جزئيا من خلال خلق مفهوم للمواطنة في ظل الرأسمالية المتقدمة قائم على الاستهلاك). والحقيقة أن هذا المفهوم الخاص بالمواطن – المستهلك بالتحديد هو ما أتناوله بالبحث لاحقا في سياق لأكاديميا والتعليم العالي بصورة عامة في الولايات المتحدة. وفيما يلى سأحاول إثبات أن هذا التعريف للمواطن – المستهلك يعتمد بدرجة كبيرة على تعريف وتنظيم مفهوم المنتجين/ العمال الذي يستمد مفهوم المواطن – المستهلك شرعيته منه. وأنا هنا أتناول جانب العامل – المنتج من المعادلة، من هم العمال الذين يقوم مفهوم المواطن – المستهلك على وجودهم؟ وما الدور الذي تلعبه السياسات الجنسية في الإيجاد الأيديولوجي لهذه الفئة من العمال؟ وكيف تستخدم الرأسمالية العالمية في بحثها عن الأرباح دائمة الزيادة أيديولوجيات مسبوغة بمفاهيم النوع الاجتماعي والعرق في نحت قوالب لعمل النساء؟ وهل يشكل الموقع الاجتماعي لنساء بعينهن كعاملات أساسًا لمصالح مشتركة وفرصاً لخلق أشكال من التضامن فيما بينهن عبر الحدود القومية؟
إذ تطورت الرأسمالية العالمية، أصبح العمل مقابل أجر الشكل السائد لتنظيم الإنتاج والتكاثر وأصبحت العلاقات الطبقية داخل الحدود القومية وعبرها أكثر تعقيدا وأقل شفافية. وبهذا فإن الموضوعات المتعلقة بالاقتصاد المكاني – أي الطريقة التي يستخدم بها رأس المال مساحات بعينها للإنتاج التفاضلي وتراكم رأس المال، وتحويل تلك المساحات ( والأشخاص في إطار هذه العملية) – تكتسب أهمية أساسية في التحليل النسوي. ففي أعقاب الكفاح النسوي من أجل الحق في العمل والمطالبة بالحصول على أجر متساوٍ، لم يعد ينظر إلى الحدود بين البيت/ الأسرة والعمل على إنها قاطعة (هذه الحدود لم تكن بطبيعة الحال قاطعة في حالة النساء الفقيرات والنساء من الطبقة العاملة). ولطالما كانت النساء ضمن القوى العاملة، ولسوف نظل هكذا. وفي هذا الفصل أقدم تحليلا لبعض التحويلات التاريخية والأيديولوجية للجندر ورأس المال والعمل عبر حدود الدول. وفي هذا السياق سأحاول الخروج بطريقة للتفكير في المصالح المشتركة لنساء العالم الثالث العاملات، وبصورة خاصة الأسئلة المتعلقة بالقدرة على اتخاذ القرار وتحول الوعي.
وإذ أستند بشكل خاص إلى دراسات حالة عن إ دارج نساء العالم الثالث في التقسيم العالمي للعمل في بعض المناطق الجغرافية المختلفة في النظام العالمي المعاصر، فأنا أحاول أن أبرهن على وجود فئة محددة تاريخيا من “عمل النساء” كمثال على وجود أساس خصب وضروري للخروج بتحليل نسوي عابر للثقافات. والفكرة التي أهتم بطرحها هنا ليست “العمل الذي تقوم به النساء” أو حتى المهن التي نعمل بها أو التي حدث وأن تركز عملنا بها، بقدر ما هي البناء الأيديولوجي للوظائف والمهام في ضوء المقولبات الأنثوية والبيتية والجنسانية (المغايرة) والعرقية والثقافية. ويهمني أن أضع خريطة لعمل الرأسمالية عبر الانقسامات المختلفة، وأن أتتبع تطبيع العمليات والأيديولوجيات والقيم الرأسمالية من خلال الطرق التي يتم من خلالها وضع التعريف الأساسي لعمل النساء – وهي في هذه الحالة الجندر والعرق. وأحد الأسئلة التي أقوم ببحثها تتعلق بالكيفية التي تقوم بها الهوية الجندرية (والتي يتم تعريفها في أطر بيتية وجنسية مغايرة وعائلية) بتحديد أو هيكلة طبيعة العمل الذي يُسمح للنساء القيام به أو بمنع النساء من العمل بالمرة.
وعلى الرغم من أنني أبني تفاصيل تحليلي على دراسات حالة تعتمد على الموقع الجغرافي فإنني اقترح منهجية مقارنة تتجاوز نهج دراسات الحالة وتوضح العمليات العالمية المستمدة من التراتبية الهرمية والأيديولوجيات وأشكال الاستغلال التي تعزز الأشكال الجديدة للاستعمار (أو إعادة الاستعمار) أو تطوعه. فإن المحلي والعالمي مرتبطان حقا عن طريق علاقات قوى أو قواعد متوازية ومتناقضة وأحيانا متقاربة تضع النساء في مواقع مختلفة أو متشابهة كعاملات. واتفق مع النسويات اللاتي ترين أن الصراع الطبقي بمفهومه الضيق لا يصلح بعد الآن لأن يكون الأساس الوحيد للتضامن بين النساء العاملات. فإن تعريفنا وهويتنا كعاملات يتصلان بكل معاني الكلمة بحقيقة كوننا نساء من ذوات تاريخ عرقي أو إثني أو ثقافي أو جنسي معين. لقد قامت بعض النسويات بتحليل التقسيم بين الإنتاج والتكاثر، وبناء تركيب أيديولوجيات الأنوثة فيما يتعلق بالفضاءين العام والخاص. وأود هنا أن أؤكد أن (1) استمرارية التعريفات الذكورية للمقصود بالأنوثة في مجال العمالة ذات الأجر، (2) وتنوع وتعدد عمليات الاستغلال الرأسمالية التي تشكل أساس التفكير في المصالح المشتركة وأشكال التضامن الممكنة بين نساء العالم الثالث العاملات، (3) ووجود تحديات أمام التنظيم الجماعي في سياق أصبحت فيه طرق التحالف التقليدية (المعتمدة على فكرة المصالح الطبقية للعاملين من الذكور) غير كافية كاستراتيجيات للتمكين.
إذا كان المنطق في النظام العالمي المتسم بالاقتصاد العابر للقوميات يتضمن حقا– كما اقترح – البناء أو التركيب الفعال لصورة “المرأة العاملة القادمة من العالم الثالث أو ذات الأصول العرقية أو المهمشة” ويعتمد على نشر هذه الصورة المستمدة أشكال عدم المساواة القائمة على الجندر والعرق المتوارثة عبر التاريخ، وإذا كانت هوية هؤلاء العاملات مشفرة في سياق ذكوري ومعرَّفة من منطلق علاقتهن بالرجال والجنسانية المغايرة والوحدة العائلة القائمة على الزواج، فإن نموذج الصراع الطبقي بين الرأسماليين والعمال يجب أن تعاد صياغته في ضوء مصالح (وربما هوية) نساء العالم الثالث. إن الإيديولوجيات الذكورية ، التي تضع النساء في مواجهة الرجال أحيانًا داخل المنزل وخارجه، تتخلل الواقع المادي لحياة نساء العالم الثالث العاملات مما يحتم إعادة النظر في المفاهيم الخاصة بكيفية التفكير في مصالح الطبقة العاملة واستراتيجيات التنظيم والخروج بمفاهيم جديدة. ولا تهدف هذه الفرضية إلى تعريف “الخبرة المشتركة” لنساء العالم الثالث العاملات فحسب ولكنها تتضمن أيضا تعريف “المصالح المشتركة” (بصورة ملموسة وليست تجريدية) وفرص إيجاد أسس للتضامن عبر القوميات – أي سياق مشترك للكفاح، وبالإضافة إلى ذلك، فعلى حين اختار التركيز على النساء العاملات من “العالم الثالث“، فإن فرضيتي تصلح أيضا للنساء البيضاوات اللاتي يتم وضعهن أيضا في أطر عرقية. وتكون الفرضية إذا عن هيمنة الجندر والعرق وليست عن محتوى “العالم الثالث“. فإظهار نساء العالم الثالث من حيث الجندر والعرق والتكوين الطبقي يتضمن استخدام سيناريو رأسمالي من الإخضاع والاستغلال، كما أنها تؤدي أيضا إلى التفكير في إمكانية التحرك من أجل تحرير المرأة على أساس إعادة تعريف نساء العالم الثالث كفاعلات بدلا من ضحايا.
ولكن لماذا نستخدم مصطلح “العالم الثالث“، وهو مصطلح إشكالي يعتبر الكثيرون أنه قد عفى عليه الزمن؟ ولماذا نقدم افتراضية تؤثر الموقع الجغرافي لنساء العالم الثالث العاملات وخبراتهن وهويتهن عن تلك الخاصة بأية فئة أخرى من العاملين، سواء من الرجال أو النساء؟ واقع الأمر أن مصطلح “العالم الثالث” محاط بالمشكلات، وهو لا يقدم تعريفًا شاملاً للاختلافات الاقتصادية والسياسية والعرقية والثقافية القائمة داخل حدود دول العالم الثالث. ولكن مقارنة بالصيغ المشابهة مثل “الشمال/ الجنوب” والدول المتقدمة/ الكامنة أو النامية“، فإن مصطلح “العالم الثالث” يحتفظ بقيمة تعليمية وخصوصية توضيحية تتعلق بالإرث الاستعماري والعمليات المعاصرة للاستعمار الاقتصادي والجغرافي – السياسي الجديد لا نجدها في المصطلحات أو التعريفات الأخرى.
وفي معرض الإجابة عن السؤال الثاني أرى أنه في هذه اللحظة من تطور النظام العالمي “الجديد” وطريقة عمله، فإن نساء العالم الثالث العاملات (واللاتي يعرفن بكونهن من العالم الثالث من حيث الموقع الجغرافي وكذلك المهاجرات والنساء من أصول ملونة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية) تحتل موقعًا اجتماعيًا خاصًا في التقسيم العالمي للعمل، وهو الأمر الذي يوضح الخصائص الأساسية لعمليات الاستغلال والهيمنة الرأسمالية والتي عادة ما يتم التشويش والتعتيم عليها في الخطاب الخاص بعمليات “التقدم” و“التطور” (على سبيل المثال خلق فرص عمل للنساء العاملات الفقيرات في العالم الثالث كدليل على التقدم الاقتصادي والاجتماعي) التي يفترض أنها تصاحب النمو الصاخب للرأسمالية العالمية. وأنا لا أدعى أننى أفسر جميع المظاهر ذات الصلة بالعالم الاجتماعي أو أننى أقدم تحليلا شاملا لعمليات إعادة الاستعمار الرأسمالية. فما اقترحه هو أن نساء العالم الثالث العاملات لديهن هوية مشتركة، وهي هويتهن كعاملات في تقسيم عمل محدد في هذه اللحظة التاريخية. وأنا أؤمن أن التعرف على هذه الصفات المشتركة، التي قد يثبت وجودها عبر المواقع الجغرافية والتقسيمات الثقافية المختلفة، وتحليلها يطرح قراءة وفهمًا للعالم وتفسيرًا للتضامن الخاص بمناهضة الظلم القائم على الجندر والعرق والطبقة والجنسانية (المغايرة)، كما أنه ضروري أيضًا للخروج برؤية للتضامن النسوي عبر القوميات وتفعيله.
لم أكن أنا أول من افترض أن الكيانات عبر القومية تستغل النساء العاملات بطرق ما وتضعهن في موقع معين، وما أود طرحه هنا هو أنه متى فحصنا الروابط بين دراسات الحالة وقارنا فيما بينها يمكننا الخروج بنظرية أوسع حول فئة عمل النساء، وبصفة خاصة نساء العالم الثالث، في هذه اللحظة التاريخية. إن هذا التماس بين الجندر والعمل، حيث يكون تعريف العمل قائما على مفاهيم الذكورة والأنوثة والجنسانية وحيث يعيد التعريف تشكيل تلك المفاهيم، يشكل أساسا للقيام بمقارنة وتحليل عبر الثقافات يستند إلى الواقع الملموس لحياة النساء. وأنا لا أقترح أن هذا الأساس يستنفد بشكل شامل تجربة عمل النساء في مختلف الثقافات، أي أنه على الرغم من أن التركيبات المشابهة للأيديولوجيات المتعلقة بعمل النساء” قد تمكننا من إجراء تحليل عابر للثقافات فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن حيوات النساء متشابهة إنما يعني فقط أننا يمكن أن نقارن فيما بينها. وأنا أدفع بوجود تضامن سياسي ومصالح مشتركة لدى النساء العاملات عبر الطبقة والعرق والحدود القومية اعتمادا على الاشتراك في المصالح المادية والهوية وطريقة قراءة العالم. إن فكرة التضامن السياسي في سياق إدراج نساء العالم الثالث ضمن الاقتصاد العالمي تشكل أساسًا للمقارنة والتحليل في ما بين الثقافات انطلاقات من التاريخ والموقع الجغرافي بدلا من الثقافة أو التجارب غير المستندين إلى التاريخ. وأنا هنا اختار التركيز على عدم تقطع التجارب والخبرات واستراتيجيات البقاء التي تتبعها تلك العاملات بالتحديد وعلى تحليل تلك العوامل، وإن كان هذا لا يعني أن الاختلافات وعدم الاستمرارية في التجارب غير واردة ولا أنها غير مهمة، ولكن التركيز على الاستمرارية هو اختيار استراتيجي إذ يمكننا من إيجاد طريقة لقراءة عمل الرأسمالية من موقع معين، وهو موقع نساء العالم الثالث العاملات الذي لا يزال إلى حد ما غير ظاهر وغير مطروق في النظريات ذات الصلة في حين إنه يشكل في الوقت ذاته موطنا لنوع معين من الاستغلال العالمي.
تقول “لولا ويكسل“، وهي شخصية امرأة يهودية من الطبقة العاملة في فيلم لـ “كوني فیلدز” بعنوان The Life and Times of Rosie the Riveter، أو حياة وأيام روزي العاملة، “العمل يجعل الحياة حلوة“. ويعكس رأى “ويكسل” تجربتها في العمل في مصنع للحام خلال الحرب العالمية الثانية في وقت انضم فيه جزء كبير من النساء في الولايات المتحدة إلى قوة العمل للحلول محل الرجال الذين ذهبوا إلى الحرب. وفي واحد من أكثر المشاهد المؤثرة في الفيلم، توضح “ويكسل” شعورها وغيرها من النساء اللاتي عملن جنبًا إلى جنب وتعلمن مهارات جديدة وصنعن منتجات وتلقين أجراً عن عملهن عندما قيل لهن مع نهاية الحرب أنه لم تعد هناك حاجة إليهن وأن عليهن الرجوع إلى كونهن صديقات وربات منزل وأمهات. وعلى حين كانت الدعاية الأمريكية خلال الأربعينيات والخمسينيات واضحة فيما يخص عمل الرجل والمرأة وما يعنيه ذلك بالنسبة لمفاهيم الذكورة والأنوثة والبيتية فإن الأمر اختلف فيما بعد، إذ حدث تحول في تعريف العام والخاص والعاملين والمستهلكين، ولم يعد المواطنون يعرفون العمل مقابل الأجر في سياق ذكوري واضح. إلا أن ديناميكيات المنافسة على العمل والخسارة والربح في السنوات الأولى من القرن الحالي لا تزال جزءا من التحول الديناميكي الذي تسبب في انهيار المدن التي كانت قائمة على المصنع في “نيو إنجلند” في أوائل القرن الماضي، والتي تضع العمالة “الأمريكية” في منافسة “العمالة المهاجرة” و“عمالة العالم الثالث” على طول الحدود الأمريكية المكسيكية أو في وادي السليكون في كاليفورنيا“. وبالمثل ثمة استمرارية فيما بين الإضراب الذي نظمته النساء العاملات في مصانع الملابس بنيويورك في 1909، وإضراب الخبز والزهور (في مصانع منسوجات “لورنس“) في 1912، ودور “لولا ويكسل” في تنظيم الاتحاد أثناء الحرب العالمية الثانية، والإضرابات المتكررة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي في مصانع المنسوجات الكورية والإلكترونيات، ومعظمهن من الشابات غير المتزوجات. وعلى حين أن التقسيم العالمي للعمل يبدو مختلفًا الآن عما كان عليه في الخمسينيات فإن أيديولوجيات عمل المرأة ومعنى عمل النساء وقيمته وكفاح النساء العاملات ضد الاستغلال ما زالت من الموضوعات الأساسية التي تشغل النسويات في كل أنحاء العالم. فلطالما ظل عمل المرأة جزءًا أساسيًا من تطور الرأسمالية وتعزيزها وإعادة إنتاجها في الولايات المتحدة وغيرها من الدول.
في الولايات المتحدة يعد تاريخ العبودية والتدريب الملزم والعمالة بموجب عقد والعمل الحر والعمل مقابل أجر موازيًا لتاريخ الجندر والعرق والجنسانية (المغايرة) شديد الترابط ببعض المسائل الواقعة في سياق تطور الرأسمالية (مثل الكفاح والصراع الطبقي). ولهذا فإن النساء المختلفات في العرق والإثنية والطبقات الاجتماعية كانت لهن خبرات في العمل وفي التنمية الاقتصادية تختلف عن خبرات النساء في ظل الممارسات الاقتصادية والاجتماعية في القرن التاسع عشر (الزراعة القائمة على العبودية في الجنوب، والرأسمالية الصناعية الناشئة في الشمال، ونظام المزارع في الجنوب الغربي، والمزارع العائلية المستقلة في المنطقة الريفية الواقعة في الوسط الغربي، والصيد/ الجمع والزراعة للسكان الأصليين في أمريكا) وعن تلك المتعلقة بالخوض في غمار العمل مقابل أجر والعمل الحر (بما في ذلك المشاريع العائلية) في أواخر القرن العشرين، وإن كانت هذه الخبرات متصلة أيضا ببعضها البعض إلى حد ما. وفي السنوات الأولى من القرن الحالي، وبعد مائة عام من فقدان الفتيات في “لويل” لعملهن بعد نقل مصانع المنسوجات إلى الجنوب من أجل العمالة الأرخص غير المنظمة في نقابات، تواجه النسويات عددًا من التحديات التحليلية والتنظيمية العميقة في مختلف أنحاء العالم. إن التأثيرات المادية والثقافية والسياسية للهيمنة والاستغلال اللذين يدعمان ما يسمى بالنظام الجديد (Brecher 12-3, 1993)) لها آثار مدمرة بالنسبة للأغلبية العظمى من سكان العالم – وبصورة خاصة النساء الفقيرات ونساء العالم الثالث، تقول “ماريا مايس” إن التقسيم المستمر للعالم إلى مستهلكين ومنتجين له تأثير عميق على نساء العالم الثالث الفقيرات اللاتي يدخلن في التقسيم العالمي للعمالة كعاملات في الزراعة ، وفي الصناعات الكبيرة مثل صناعة المنسوجات والإلكترونيات والملابس واللعب، وفي الصناعات الصغيرة للمنتجات الاستهلاكية مثل الحرف اليدوية وصناعة الأغذية (غير الرسمية)، وكعاملات في صناعات الجنس والسياحة (15-114, 1986 Mies ).
إن القيم والقوى والمعاني المرتبطة بكون المرء مستهلكًا أو منتجًا أو عاملاً تتباين بشدة وفقا لموقعنا وكينونتنا في النظام العالمي. منذ التسعينيات أصبحت الشركات متعددة الجنسيات من أهم معالم الرأسمالية العالمية. وفي تحليل لتأثير تلك الشركات على النظام العالمي الجديد، يصف “ريتشارد بارنت” و“جون كافيناه” الساحة التجارية العالمية بأنها شبكات متقاطعة: سوق أو بازار ثقافي عالمي (يقوم بصناعة الصور والأحلام ونشرها عن طريق الأفلام والتليفزيون والراديو والموسيقى وغيرها من وسائل الإعلام)، وسوق تجاری عالمی (سوبر ماركت عام يباع فيه ويشترى ما يؤكل ويشرب ويلبس ويمتع وذلك عن طريق شبكات الإعلان والتوزيع والتسويق)، وسوق عمل عالمي (شبكة من المصانع وأماكن العمل حيث يتم إنتاج السلع والتعامل مع المعلومات وتقديم الخدمات)، وأخيراً شبكة مالية عالمية (الإتجار غير القانوني للعملة على المستوى الدولي والسندات العالمية.. إلخ) ( Barnet و Cavanagh 1994خاصة 41 -25). وفي كل شبكة من تلك الشبكات توجد أيديولوجيات عرقية للذكورة والأنوثة، وتلعب الجنسانية دورا في بناء الشكل المعترف به للمستهلك والعامل والمدير. وفي الوقت نفسه يستمر الحرمان النفسى والاجتماعي للنساء وإفقارهن، إذ تستخدم أجساد النساء وعملهن لتدعيم الأحلام والرغبات وأيديولوجيات النجاح والحياة الجيدة على المستوى العالمي بطرق غير مسبوقة.
لقد استجابت النسويات بطريقة مباشرة لتحديات العولمة وأشكال إعادة الاستعمار الرأسمالي عن طريق تناول السياسات الجنسية وتأثير الحركات الأصولية الدينية على النساء داخل الحدود القومية وفيما بينها، كما تناولت أيضا سياسات الإصلاح الهيكلي والعسكرة ونزع السلاح والعنف ضد المرأة، والتدهور البيئي وكفاح السكان الأصليين من أجل الأرض / السيادة، وتنظيم النسل والصحة والسياسات والممارسات الخاصة بالإنجاب. وفي كل حالة من تلك الحالات قامت النسويات بتحليل تأثير تلك العوامل على النساء كعاملات وشريكات جنسيات وأمهات وراعيات ومستهلكات وناقلات للثقافة والتقاليد ومغيرات لهما. ويعد تحليل أيديولوجيات الذكورة والأنوثة والأمومة والجنسانية (المغايرة) وفهم وتخطيط القدرة على اتخاذ القرار والقدرة على الاختيار أمورا أساسية لهذا التحليل والتنظيم. ولهذا فعلى حين أن وصفى للعمليات الرأسمالية الخاصة بالهيمنة وإعادة الاستعمار قد يبدو وصفًا قاسيًا إلا أنني أود أن ألفت الانتباه إلى الأشكال المتعددة للمقاومة والكفاح التي ظلت جزءا من سيناريو الاستعمار/ الرأسمالية. إذ تعتبر الأنظمة البطريركية الرأسمالية والعرقية والترتيبات الهرمية للطبقة/ الكاست جزءًا أساسيًا من التاريخ الطويل للهيمنة على النساء واستغلالهن، ولكن الكفاح ضد تلك الممارسات والطرق الفعالة والخلاقة والجماعية للتعبئة والتنظيم كانت أيضا دائما جزءًا من هذا التاريخ. والحقيقة أنني أحاول تقديم خطاب ومعرفة تحررين لتعزيز الممارسات النسوية التحريرية، إذ أن جزءا ما يحتاج إلى التغيير في إطار البطريركية العرقية الرأسمالية هو مفهوم العمل/ العمالة وكذلك تطبيع الذكورة الجنسانية المغايرة في تعريف “العامل“.
وفي تحليلهما لسوق العمل في الولايات المتحدة تقول “تريزا أموت” و“جولي ماثيو” (1991) إن تلاقي الجندر والطبقة وترتيبات القوى العرقية – الإثنية كان له تأثيران رئيسيان:
أولاً: تركزت المجموعة التي تم إضعافها في الوظائف ذات الأجر المنخفض والمستوى الأقل من الأمان الوظيفي وظروف العمل الأصعب. ثانياً: أصبح الفصل في أماكن العمل شديدا، بحيث يعمل معًا من هم من العرق نفسه – الإثنية والجندر والطبقة، وإن كان العرق – الإثنية والجندر المحددان لكل وظيفة يختلفان باختلاف الشركة والإقليم. (316-17).
وعلى حين تلفت كل من “آموت” و“ماثيو” الانتباه إلى أن هناك أشكالا نمطية من حيث الجنس والعرق لكل وظيفة فإنهما لا تصوغان نظريات حول العلاقة بين هذا التنميط والهوية الاجتماعية للعاملين المتركزين في الوظائف الأقل أجرا والتي عادة ما تكون في القطاعات الأكثر انعزالا والأقل أمنا من سوق العمل. وعلى حين أن التاريخ الاقتصادي الذي تصفانه مهم لفهم أسس العرق والجندر التي ترتكز عليها الرأسمالية في الولايات المتحدة فإن تحليلهما يطرح تساؤلاً حول ما إذا كانت هناك علاقة (غير التاريخ المشترك للهيمنة على العاملين من أصول ملونة) بين تعريف هذه الوظائف وتحديد من يتم تعيينه فيها.
وبفحص حالتين من دمج النساء في الاقتصاد العالمي (صانعات الأربطة في “نارسبورر” بالهند والنساء العاملات في صناعة الإلكترونيات في وادي السليكون) أود أن أوضح العلاقات القائمة بين الجندر والعرق والإثنية إيديولوجيات العمل والتي تضع النساء في سياق استغلالي. إن وضع النساء في موضع متناقض من حيث الطبقة والعرق والإثنية في هاتين الحالتين يشير إلى أنه على الرغم من أن الاختلافات الجغرافية والاجتماعية الثقافية الواضحة بين السياقين فإن الاقتصاد العالمي المعاصر يضع النساء في موقع متماثل عن طريق إعادة إنتاج التراتبيات الخاصة بمجتمعات محلية بعينها وتحويلها. وهناك استمرارية واضحة بين العمل في المنزل والعمل في المصنع في هاتين الحالتين من حيث أيديولوجيات العمل المتأصلة بالإضافة إلى خبرات النساء وهويتهن الاجتماعية كعاملات. ويمكننا أن نرى هذا التوجه أيضا في دراسات الحالة الخاصة بالنساء السود (من أصول أفرو– كاريبية وأفريقية) في بريطانيا، خاصة العاملات في المنازل والمصانع والمشاريع الأسرية.
ربات البيوت والعمل المنزلي:
صانعات الأربطة في “نارسبو“:
تقدم الدراسة التي قامت بها “ماريا مايس” في 1982 عن صانعات الأربطة في “نارسبور” بالهند وصفا واضحا لما تتحمله النساء بسبب عمليات التنمية في بلدانهن حيث يتم “إدماج” الفلاحين الفقراء والمجتمعات القبلية في التقسيم العالمي للعمل بإملاء من تراكم الرأسمالية. وتوضح دراسة “مايس” كيف أن علاقات الإنتاج الرأسمالية تقوم على ظهور النساء العاملات المصنفات كربات بيوت. وتوفر أيديولوجيات الجندر والعمل وتاريخهما التحولي الأساس اللازم لاستغلال عاملات الأربطة، ولكن تعريف النساء على أنهن ربات بيوت يوحى أيضا بأن عمل النساء يتم وضعه في إطار من الجنسانية المغايرة – فالنساء يصنفن هكذا من حيث علاقتهن بالرجال وحالتهن الزوجية. ويوضح ما ترويه “مايس” عن تطور صناعة الأربطة وما قابل ذلك من علاقات الإنتاج التحولات الأساسية لعلاقات الجندر والطائفة والإثنية. فقد تحولت الفروقات الأصلية القائمة على الكاست التي كانت تميز بين النساء من طبقة الإقطاعيين المحاربين (ملاك الأرض) و“النارسبور” (المسيحيين الفقراء) و“السيريبالم” (الفقراء المزارعين من طائفة “كابيس“/ الهندوس) عن طريق تطور صناعة الأربطة، وظهرت تراتبية جديدة للكاست.
في الوقت الذي عقدت فيه دراسة “مايس” بلغ عدد مصانع الأربطة 60 مصنعا ، تشكلت قوة العمل فيها من 200 ألف امرأة من “النارسبور” و“السيريبالم“. كانت النساء تعمل لحوالي 6 إلى 8 ساعات يوميا وتتراوح أعمارهن بين ستة أعوام إلى ثمانين عاما. تقول “مايس” إن التوسع في هذه الصناعة في الفترة من 1970 إلى 1978 ودخولها إلى السوق العالمي أديا إلى إحداث تفرقة قائمة على الطبقة والكاست داخل بعض المجتمعات المحلية بحيث تولى الرجال جميع الوظائف غير المتعلقة بالإنتاج (الشق التجاري) وتولت النساء الشق الإنتاجي. وهكذا كان الرجال يبيعون ما تصنعه النساء ويعيشون على ربحهم من عملهن. وقد عزز تقسيم العمل بين الرجال والنساء بهذا الشكل القطبي، الذي جعل الرجال يعرفون أنفسهم كمصدرين ورجال أعمال يستثمرون عمل النساء، من التعريف الاجتماعي والايديولوجي للنساء كربات بيوت ولعملهن “كنشاط لشغل أوقات الفراغ” ، أي أن العمل في هذا السياق قد اعتمد على الهوية الجنسية، وعلى التعريف المحدد للأنوثة والذكورة والجنسانية المغايرة.
وقد تسبب التفاعل بين تراتبيتين هرميتين أساسيتين، هما الكاست والجندر، في إيجاد تعريفات معيارية “لعمل النساء” فبينما كان النساء والرجال من طائفة “الكابيس” يعملون بالزراعة ونساء طائفة “الهاريجان” الأدنى من حيث الكاست تعمل في صناعة الأربطة في بدايتها، تحولت نساء طائفة “الهاريجان“، مع تطور علاقات الرأسمالية الخاصة بالإنتاج وإمكانية الانتقال من كاست/ طبقة إلى أخرى، إلى الزراعة في حين بدأت النساء من طبقة “الكايبس” في القيام “بنشاط شغل أوقات الفراغ” المتمثل في صناعة الأربطة. كانت أيديولوجية عزل وحجب النساء القائمة على الكاست ضرورية في هذا السياق لاستخلاص القيمة الفائضة. فحجب النساء وعزلهن يعد علامة على علو المقام والكاست، ولهذا ارتبط الوضع البيتى للنساء العاملات من “الكابيس” ونشاطهن (في صنع الأربطة) بمفهوم “بقاء المرأة بالبيت” وقد جاء ذلك مناسبًا بالكامل لمنطلق التراكم والربح الرأسماليين. أما الآن فإن نساء “الكابيس“، وليس نساء الطبقة الإقطاعية وأصحاب الأرض فقط، قد أصبحن محجوبات كربات بيوت ينتجن للسوق العالمي.
ومن الواضح أن أيديولوجيات العزل البيتي للنساء هي أيديولوجيات جنسية مستمدة من المفاهيم الذكورية والأنثوية للحماية والملكية. وهي أيضا أيديولوجيات قائمة على الجنسانية المغايرة تعتمد على التعريفات المعيارية للنساء كزوجات وأخوات وأمهات – أي تعريفهن دائما في ما يتصل بالزواج و“الأسرة“. ولهذا فإن تحول الكاست وفصل النساء في إطار وجود البيتية أو غيابها (ربات البيت من “الكابيس” في مقابل العاملات من “الهاريجان“) يربطان العمل الذي تقوم به المرأة بشكل فعال بجنسانيتها وهويتها من حيث الكاست/ الطبقة. وتصبح البيتية فاعلة في هذه الحالة بسبب استمرار أيديولوجية ربة البيت وشرعيتها وهي الأيديولوجية التي تحدد النساء من حيث مكانهن في المنزل وعلاقتهن بأزواجهن والجنسانية المغايرة. إن التناقض بين تعريفات “العمالة” و“ربة البيت” يستند إلى عدم بروز العمل وعدم التمكن من التعرف عليه بشكل ملموس (والوضع المرتبط بالكاست)، وهو في واقع الأمر يعرف النساء على أنهن غير عاملات. وبمقتضى هذا التعريف فإن ربات البيوت لا يمكن أن يكن عاملات، فمفهوم ربة البيت هو الذي يجعل من الرجال عائلين ومستهلكين. ومن الواضح أن الأيديولوجيات الخاصة “بمكان النساء وعملهن” لها أهمية قصوى في هذه الحالة إذ أن الحدود المكانية هي التي تحدد التراتبيات الهرمية القائمة على الجندر والكاست وتحافظ عليها. وبالتالي، فدراسة “مايس” توضح الآثار الملموسة للتعريف الاجتماعي للنساء كربات بيوت ، فصانعات الأربطة لسن فقط محجوبات في الإحصاءات (إذ أن عملهن يعتبر نشاطا لشغل وقت الفراغ) ولكن تعريفهن کربات بيوت يسمح أيضا بتعريف الرجال “كعائلين“. وفي هذه الحالة يصبح من الممكن تعريف الطبقة والجندر في إطار بروليتاري من خلال تطور علاقات الإنتاج الرأسمالية وإدماج النساء في السوق العالمي بسبب تاريخ الكاست والأيديولوجيات الجنسية وتحولهما.
إن قراءة عمل الرأسمالية من منظور ربات البيوت / العاملات اللاتي ينتجن للسوق العالمي يظهر التناقض الخاص بالجندر والكاست/ الطبقة بين العاملات وغير العاملات (ربات البيوت)، ويمكننا أيضا من الإقرار بالتكاليف الخفية لعمل المرأة ومن وضعها في الحسبان. وأخيرا فهو يوضح أن تعريف العمالة هو تعريف ذكوري بالضرورة حيث يأتي، مثلما تقول “مايس“، في سياق يعيش فيه الرجال على ما تنتجه النساء. وإن أحد أهم التحديات التي نواجهها هو تحليل وتحويل هذا التعريف الذكوري للعمالة، والذي يعتبر الدعامة الأساسية للثقافات الرأسمالية الذكورية. فتأثير هذا التعريف لا يقتصر على جعل عمل المرأة وتكلفة هذا العمل غير ظاهرين ولكنه أيضا يحد من قدرة النساء على اتخاذ القرار بتعريفهن على أنهن ضحايا للفقر المدقع أو “التقاليد” أو “الذكورية” بدلا من تعّريفهن على أنهن قادرات على اتخاذ قراراتهن الخاصة.
والحقيقة أن التناقضات التي تثيرها تلك الاختيارات تبدو واضحة في ردة فعل صانعات الأربطة تجاه تسمية ما يقمن به بانه “عمل أثناء وقت الفراغ“. فعلى حين يبدو من الواضح بالنسبة لهن أنهن “يعملن” وعلى حين أن لديهن حسًا تاريخيًا بمدى فقرهن (في ضوء ارتفاع أسعار البضائع الذي لم يقابله الارتفاع المماثل في الأجور) فإنهن لم يتمكن من توضيح كيف وجدن أنفسهن في هذا الموقف. ولهذا وبالرغم من أن التناقضات بين عملهن ودورهن كربات بيوت وأمهات كانت واضحة بالنسبة لهن، فقد افتقرن إلى القدرة علي تحليل تلك التناقضات لفهم الصورة كاملة من حيث استغلالهن ولم يتمكن من وضع استراتيجيات وتنظيم أنفسهن لتغيير وضعهن المادي أو لتحديد مصالحهن المشتركة كنساء عاملات من طوائف وطبقات مختلفة. وقد عرفت النساء من كاست “السيريبالم” عملهن في صنع الأربطة بأنه من ضمن “أعمال المنزل” وليس عملاً مقابل أجر، بينما رأت النساء اللاتي تمكن من جعل أنفسهن منتجات صغيرات أنهن تاجرات وأنهن يبعن منتجات لا عاملات. ولهذا ففي كلتا الحالتين صدقت النساء الأيديولوجيات التي تعرفهن بأنهن لسن عاملات بحيث أصبحت هذه الأيديولوجيات جزءًا من تفكيرهن الخاص في أنفسهن. فعزلة موقع العمل (العمل يتم داخل المنزل بدلا من مكان عام) بالإضافة إلى التشبع بأيديولوجيات الكاست والأيديولوجيات الذكورية قد صعَّب من إمكانية تنظمهن كعاملات أو كنساء. ولكن “مايس” تقترح أن هناك تشققات في هذه الأيديولوجية، فالنساء قد عبرن عن حسدهن للعاملات الزراعيات اللاتي يرين أنهن يستمتعن بعملهن معا في الحقول. وما يبدو ضروريا في هذا السياق في إطار التعبئة النسوية هو إدراك الحاجة إلى تحويل هوية ربة البيت إلى هوية “امرأة عاملة أو امرأة تعمل“. فإدراك المصالح المشتركة لهن كربات بيوت يختلف بصورة كبيرة عن إدراك المصالح المشتركة لهن كنساء وكعاملات.
الزوجات المهاجرات والأمهات والعمل في المصانع :
عاملات الإلكترونيات في وادي السليكون:
إن طرحي لما يحدث في نهاية خط الإنتاج العالمي بالولايات المتحدة يعتمد على دراسات قام بها كل من “ناعومي كاتز” و“ديفيد كمنيتزر” (1983 و 1986) و“كارين هوسفيلد” (1990) عن صناعة الإلكترونيات في ما يسمى بوادي السليكون بـ كاليفورنيا». إن تحليل استراتيجيات الإنتاج وعملياته يشير إلى إعادة تعريف أيديولوجية للأفكار المعيارية عن العمل في المصانع بالنسبة لنساء العالم الثالث المهاجرات اللاتي يشكلن قوة العمل الأساسية فيها، على حين كانت العاملات في “نارسبور” يعتبرن ربات بيوت وفي حين كان عملهن يعرف على أنه نشاط لشغل أوقات الفراغ في سوق عمل عالمية شديدة التعقيد، فإن نساء العالم الثالث العاملات في صناعة الإلكترونيات في وادي السليكون كانت تعرفن على أنهن أمهات وزوجات وعاملات تكميليات. وعلى عكس الوضع في دول العالم الثالث حيث يتم البحث عن نساء “غير متزوجات” لخط الإنتاج، فإن أيديولوجية “المرأة المتزوجة” هي التي تعرف جزئيًا حدود الوظيفة في وادي السليكون ، وذلك وفقا لبيانات “کاتز” و “کمنيتزر“.
وتوثق “هوسفيلد” كيف أن الأيديولوجيات الحالية للأنوثة تدعم استغلال النساء المهاجرات العاملات في الوادي وكيف أن النساء كانت عادة ما يستخدمن هذا المنطق الذكوري ضد الإدارة والافتراضات الخاصة بالمرأة “غير المتزوجة” و“المتزوجة” كقوة العمل المثلى في طرفي الموقعين الجغرافيين لخط الإنتاج العالمي للإلكترونيات (والذي يتضمن جنوب كوريا، وهونج كونج، والصين، وتايوان، وتايلاند، وماليزيا، واليابان، والهند، وباكستان، والفلبين، والولايات المتحدة، واسكتلندا، وإيطاليا Women WorkingWorldwide1993 ) مستمدة من الفهم المعياري للأنوثة وكينونة المرأة والهوية الجنسية. إن الصفات الملتصقة بالاختلاف بين الجنسين ومؤسسة الزواج مغاير الجنس تحوى معنا متضمنا بكون النساء قوة عمل “يمكن التحكم فيها” (سهلة الانقياد).
وتشير البيانات التي يقدمها “كاتز” و“كمنيتزر” إلى تعريف وتحول في عمل النساء يعتمد على التراتبيات المتعارف عليها تاريخيًا في الولايات المتحدة من الجندر والعرق والإثنية. والأكثر من ذلك أن تلك البيانات توضح أن وضع “توصيف للوظائف” فيما يتعلق بعمل نساء العالم الثالث يرتبط بصورة كبيرة بهويتهن الجنسية والعرفية. وفي حين تؤيد الدراسة الحديثة التي قامت بها “هوسفيلد” ما ذهب إليه “كاتز” و“كمنيتزر“، فإن “هوسفيلد” تركز بصورة خاصة على “استخدام التضارب بين الأيديولوجيات الخاصة بالجنس والعرق والطبقة والجنسية كأشكال للتحكم في العمالة والمقاومة والتي تبديها العاملات في السوق الرأسمالي اليوم” 149,1990 Hossfeld) ). وتكمن المساهمة التي قامت بها “هوسفيلد” في وضع خريطة لعمل الأيديولوجيات الخاصة بالجندر في هيكلة الصناعة وفي تحليل ما تسميه “استراتيجيات إعادة التأنيث” في مكان العمل.
وبالرغم من أن قوة العمل الأساسية في وادي السليكون مكونة من نساء العالم الثالث والنساء المهاجرات حديثًا، يعمل عدد كبير من الرجال المهاجرين أيضا في صناعة الإلكترونيات. في أوائل الثمانينيات شغلت 70 ألف امرأة ما يقرب من 80 إلى 90 بالمائة من الوظائف على مستوى المصانع، و45 إلى 50 بالمائة منهن كن مهاجرات من العالم الثالث وخاصة من آسيا، بينما كان الرجال البيض يعملون كفنيين أو في الوظائف الإشرافية ( 333,1983 Kemnizer, Katz ). قامت “هوسفيلد” بدراستها بين عامي 1983 و 1986 وقدرت أنه خلال تلك الفترة كان الملونون يشغلون 80 بالمائة من الوظائف الفعالة، بينما شكلت النساء 90 بالمائة من عمال التجميع (1900، 154). ويقول “كاتز“و “اكمنيتزر” إن الصناعة تسعى إلى الحصول على عمالة رخيصة عن طريق إزالة عنصر المهارة من عملية الإنتاج واستخدام الأنماط الخاصة بالعرق والجندر والإثنية “لاستقطاب” مجموعات العمالة “الأكثر ملاءمة” للقيام بالأعمال الشاقة ذات الأجر المنخفض. وعندما عقدت لقاءات مع المسئولين عن شئون الأفراد وصفوا تلك الوظائف بأنها لا تحتاج إلى مهارات (في سهولة اتباع وصفة)، وتتطلب القدرة على الصبر على الأعمال الشاقة (ولهذا تكون النساء الآسيويات الأكثر ملاءمة لها)، وبأنها أنشطة تكميلية للنساء اللاتي تعتبر مهمتهن الأساسية الأمومة والعمل بالمنزل (1983 ، 335).
قد يفيد هنا أن نحاول أن نفكك توصيف هذه الوظائف من حيث علاقتها بالنساء (المتزوجات) من العالم الثالث اللاتي يقمن بها. يجب تحليل التوصيفات التي سجلها “کاتز” و“كميتزر” كتعريف لعمل النساء، خاصة التعريفات الخاصة بنساء العالم الثالث / المهاجرات. فأولا، هناك وصفها بأنها أعمال “لا تحتاج إلى مهارات” أي سهلة (في سهولة اتباع وصفة)، وفكرة القدرة على تحمل مشقة العمل، وكلتاهما ترتبطان بأبعاد خاصة بالعرق والجندر، وتعتمدان على الأنماط التي تنظر إلى نساء العالم الثالث على أنهن أطفال وتنشئ خطابا يقوم على وصف النساء غير الغربيات بأنهن “مثابرات” و “قادرات على التحمل“، وتقديم ذلك كخصائص للمجتمعات غير الغربية قبل الحديثة القائمة على الزراعة (في آسيا). ثانيا، هناك تعريف الوظائف على إنها أنشطة تكميلية لأمهات وربات بيوت، وهو الأمر الذي يضيف بعدًا آخر وهو الهوية الجنسية والاعتبارات المقبولة بالنسبة للجنسانية المغايرة للنسوية بوصفها علامات على كونهن متزوجات. وعلى الرغم من أن تلك الوظائف ليست لبعض الوقت، فهي تصنف على أنها تكميلية، وفي هذا السياق بالتحديد (أي في العالم الثالث) تعّرف احتياجات النساء للعمل على أنها مؤقتة.
وعلى حين يتبع تحليل “هوسفيلد” لمنطق الإدارة الخط نفسه فإنها تقدم فهما أكثر عمقا للكيفية التي تهمين بها أنماط الجندر والعرق في الثقافات الأكبر على وعي العمالة ومقاومتها. فهي تلفت النظر، على سبيل المثال، إلى الطرق التي تعرف بها الوظائف بالمصانع على أنها “غير أنثوية” أو لا تليق “بالسيدات الراقيات“. وتقوم الإدارة باستغلال تلك الأيديولوجيات وتعزيزها عن طريق تشجيع النساء على اعتبار أن أنوثتهن تتعارض مع العمل في المصنع وتعريف تلك الوظائف بأنها ثانوية أو مؤقتة وإجبار النساء على الاختيار بين تعريف أنفسهن كنساء أو كعاملات ( 168,1990 Hossfeld ). ففكرة المرأة أو الأنوثة تُعّرف وفقًا لنموذج بيتي عائلي يعتبر العمل فيه أمرًا تكميليًا مقارنة بهذه الهوية الأساسية. وعلى الرغم من أن 80 بالمائة من النساء المهاجرات في دراسة “هوسفيلد” کن أصحاب الدخل السنوي الأكبر في عائلتهن فقد كن لا يزلن يعتبرن أن العائل هو الرجل (1963).
وهكذا، ومثلما كان يتم استغلال صانعات الأربطة الهنديات “كربات بيوت“، فإن نساء العالم الثالث / المهاجرات في وادي السليكون يعتبرن “أمهات وصانعات بيت“، وبصورة ثانوية عاملات. وفي الحالتين ينظر إلى الرجل على أنه العائل الحقيقي. وعلى حين يُعرف العمل (الذي تقوم به النساء) على أنه يدور في مكان “عام” أو في نطاق الإنتاج، فإن هذه الأيديولوجيات تقوم على الأنماط الخاصة بكون النساء ملتزمات بمنازلهن. وبالإضافة إلى ذلك يمكن مقارنة عدم بروز العمل في سياق الوضع في الهند بطبيعة العمل المؤقتة/ الثانوية في الوادي. فكما أوضحت دراسة “مايس” التي أجريت عام 1982 تشير البيانات التي قام بتجميعها “كاتز” و“كمنيتزر” إلى وجود أيديولوجيات وتراتبيات هرمية للجندر والعرق وراء استغلال عاملات الإلكترونيات. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف يمكن للنساء فهم وضعهن وإيجاد معان لحياتهن في سياق هذا الوضع الوظيفي القائم على الاستغلال؟
كذلك أوضحت اللقاءات التي عقدت مع عاملات الإلكترونيات إلى أنه وعلى العكس من آراء الإدارة، فإنهن لا يرين عملهن كعمل مؤقت ولكن كجزء من استراتيجية طويلة الأمد للحراك الاجتماعي إلى أعلى. وإذ هن على وعى بوضعهن العرقي والطبقي والنوعي، تقاوم العاملات التقليل من قيمة عملهن عن طريق زيادة دخولهن والتنقل بين الوظائف والعمل لأوقات إضافية والعمل كعاملات بالقطعة (1983 ، 337). ويُلاحظ هنا أن العاملات في وادي السليكون يقمن “بالعمل في المنزل” في ظروف مشابهة بدرجة كبيرة لتلك الخاصة بصانعات الأربطة في ” نارسبور“، وفي الحالتين تعمل النساء داخل البيت في عزلة ويغطي الدخل الخاص بهذا العمل التكاليف الخاصة لعملهن (مثل الكهرباء والنظافة) ويفتقرن إلى حماية قانونية (مثل حد أدنى للأجور أو إجازة مدفوعة الأجر أو تأمين صحى). وعلى الرغم من هذا فالمعاني المتعلقة بالعمل تختلف في كل سباق، مثلما يختلف فهمنا لها.
إن التزام عاملات الإلكترونيات بالحراك الطبقي بالنسبة لـ “كاتز” و“كمنيتزر” هو تأكيد مهم للذات (335-36) ولهذا فعلى عكس الوضع في “نارسبور“، فإن العمل المنزلي في وادي السليكون له طبيعة تجارية بالنسبة للنساء أنفسهن. والحقيقة أنه في “نار سبور” يحول عمل المرأة الرجل إلى تجار، أما في الوادي فإن النساء تستغل التناقضات في الأوضاع التي تواجهها كعاملات فرديات. فعلى حين توفر العزلة والتحرك بين الكاست/ الطبقة في “نارسبور” التحديد اللازم الذي يجعل من عمل النساء في بيوتهن نشاطًا لشغل أوقات الفراغ، فإن الفكرة في وادي السليكون مرتبطة بمنطقة أمريكا الشمالية وتقوم على الطموح الشخصي والأعمال التجارية التي توفر الأيديولوجيات اللازمة لتعريف نساء العالم الثالث.
ويقول “كاتز” و“كمنيتزر” إن هذا الاقتصاد الخفى يعيد تعريف أيديولوجيات الوظائف مما يسمح بتعريفها بشكل يختلف عن كونها أساس دعم الطبقة البيضاء العاملة المستقرة تاريخيا التي تعيش في راحة في المدن (1983 ,342). وبمعنى آخر هناك صلة واضحة بين انخفاض الأجر وتعريف الوظيفة بكونها تكميلية من جهة، وحقيقة أن أسلوب حياة الملونين تعّرف بأنها مختلفة وبأنها أرخص، لهذا، ووفقا لـ “كاتز” و“كمنيتزر” فإن النساء والملونين لا يزالون يعرفون “خارج” نطاق النظام الصناعي القديم ويصبحون هدفا وأداة للتحرك الأيديولوجي بعيدا عن الطبقة ونحو الحدود القومية/ العرقية/ النوعية ،( 1983 , 341 ). وفي هذا السياق فإن الأيديولوجية والثقافة السائدة يؤكدان على تعظيم فرص النجاح الفردي الذي ينفصل عن العمل الجماعي والكفاح السياسي والعلاقات الجماعية. وبالمثل تقول “هوسفيلد” إن المنطق العنصري والمتحيز جنسيا للإدارة بالنسبة لاحتياجات “المهاجرات” هو الذي بهذا الشكل الاستغلالي للعمالة الذي وثقته في بحثها157,1990,58.وعلى الرغم من تحليل “كاتز” و“كمنيتزر” المعقد للعلاقة بين طرق الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية والثقافة والايديولوجية بالنسبة لعاملات وادي السليكون، فإن تحليلهما لا يوضح سبب كون نساء العالم الثالث قوة العمل الأساسية. وعلى الرغم أيضا من أن “هوسفيلد” تقدم تحليلاً دقيقًا لجندرة مكان العمل واستخدام المنطق العنصري لدعم التراكم الرأسمالي، فإنها تفرق أحيانًا بين “النساء” و“العمال من الأقليات” (176) ولا تحدد سبب كون النساء الملونات يشكلن غالبية قوة العمل في خطوط الإنتاج في الوادي. وفي التمييز بين النساء والملونين يميل “كاتز” و“كمنيتزر” إلى إعادة إنتاج التقسيمات المفاهيمية القديمة للجندر والعرق حين كانت النساء يعرفن بصورة أساسية عن طريق الجندر وكان الملونون يعرفون عن طريق العرق. وما يتم استبعاده هنا هو التفاعل بين الجندر والعرق، حيث تعتمد هوية النساء الخاصة بالجندر على عرقهن، وهوية الملونين على الجندر.
وأرى هنا أن البيانات التي جمعها “كاتز» و“کمنيتزر” و“هوسفيلد” توضح سبب توظيف نساء العالم الثالث عن قصد في مصانع الإلكترونيات، ويمكن السبب في إعادة تعريف العمل كعمل مؤقت أو تكميلي أو عمل لا يحتاج إلى مهارات وفي تركيب صورة المرأة كأم أو ربة بيت، وفي توصيف الأنوثة بحيث تصبح مناقضة للعمل في المصنع، وبالإضافة إلى ذلك، فإن التفسير يقبع أيضا في التعريف المحدد لنساء العالم الثالث المهاجرات على أنهن مطيعات ومتحملات وراضيات بالأجور المتدنية عما هو متعارف عليه. وإعادة التعريف الأيديولوجي لعمل المرأة هو الذي يزودنا بالفهم الضروري للظاهرة. إذ تصف “هوسفيلد” بعض استراتيجيات المقاومة، التي تستخدم فيها العاملات منطق الجندر والعرق الذي تستخدمه الإدارة ضدهن، ضد هذه الإدارة. ولكن على الرغم من أن هذه التكتيكات قد توفر انفراجًا وقتيًا بالنسبة للوظيفة فإنها تقوم على أنماط العرق والجندر التي يمكن على المدى الطويل استخدامها ضد نساء العالم الثالث، بل التي تستخدم بالفعل ضدهن.
البنت والزوجة والأم:
النساء المهاجرات العاملات في بريطانيا
تمكنت المشاريع الأسرية من استخدام قوة العمل من النساء من الأقليات عن طريق توسط الأهل واستغلال الأيديولوجيات التي تؤكد على دور النساء كزوجات وأمهات وحافظات لشرف العائلة – 1988 Sallie Westwood and Parminder Bhachu, Enterprising Women
في مجموعة من المقالات التي تتناول حياة النساء السود ونساء الأقليات داخل المنزل وخارجه، تركز “سالی ويستوود” و“بارميندر باكو” (1988) على المزايا التي مُنحت للرأسمالية البريطانية عن طريق النواحي المتعلقة بالعرق والجندر لعمل النساء المهاجرات، وتشيران إلى ما أطلق عليه “الاقتصاد الإثني” (الموارد التي يلجأ إليها المهاجرون من أجل البقاء في ظل الظروف التي يقهرهم فيها أثر البيئة المعادية والعنصرية والاقتصاد المتدهور)، والذي يقوم في الأساس على الجندر. توضح الإحصاءات أن معدل عمل أصول أفرو– كاريبية أو آسيوية غير مسلمة بدوام كامل أعلى من معدل عمل النساء البيض في المملكة المتحدة. ولهذا فعلى الرغم من الاعتقاد بأن النساء السود (واللاتي يعرفن في هذه الحالة بأنهن من أصول أفرو– كاريبية أو آسيوية أو إفريقية) يعملن بصورة أساسية لبعض الوقت هو اعتقاد غير صحيح ، ويجب دراسة أنماط عملهن – في سياق مؤسسات العمل في البيت والشركات والمشاريع الأسرية حيث تشارك الأسرة بأكملها في كسب القوت سواء بالعمل داخل المنزل أو خارجه، وتقترح كتابات كبار النسويات في بريطانيا ( 1988 Josephides, 1984 Westwood, 1983 Phizacklea ، وغيرهن) أن الأيديولوجيات العائلية من البيتية والزواج المغاير الجنسانية تدعم الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي لعمل النساء السود داخل سياق المشاريع العائلية. وتقوم الأيديولوجيات الذكورية القهرية، التي تثبت دور المرأة في الأسرة، على النظم المتوارثة من الأصول الثقافية للنساء السود والتي تتصف بعدم المساواة والظلم. ويعاد إنتاج هذه الأيديولوجيات وتعزز من أجل الحصول على ربح في سياق الدولة الرأسمالية العنصرية في بريطانيا.
على سبيل المثال يوضح عمل “آنی فيزاكليا” (1983) على النساء من بنجلاديش اللاتي يعملن في صناعة الملابس في منازلهن في غرب وسط إنجلترا أن الروابط العائلية والمجتمعية التي تحافظ عليها النساء تجعلهن يعملن من الباطن في المنزل مقابل أجور منخفضة مع طول يوم العمل وارتفاع التكلفة. وبالإضافة إلى ذلك توضح دراسة “سالي ويستوود” (1984) عن النساء من مقاطعة “جوجارات” بالهند اللاتي يعملن في صناعة الجوارب في شرق وسط انجلترا أن قوة العاملات في المصانع وقدرتهن على الابتكار المستمدة من الأعراف الثقافية لمفاهيم الأنوثة والذكورة والبيتية والتي تساعد النساء من أصول هندية والنساء البيض على المقاومة والتضامن معا هما في واقع الأمر مستمدتان من الموروثات الثقافية لمقاطعة “جوجارات“. ويبحث التناقضات الموجودة في حياة النساء من تلك المقاطعة في بيوتهن ونظرة أفراد الأسرة من الرجال إلى عملهن كامتداد لأدوارهن العائلية (وليس كوسيلة لتحقيق الاستقلالية المالية) تشير “ويستوود” إلى الاستمرارية الموجودة بين أيديولوجيات البيتية داخل المنزل الناتجة عن القيم والممارسات (المتسمتين بالقمع) للثقافة الأصلية والثقافة السائدة في بيئة العمل في المصنع. فاحتفال إحداهن بالأخرى كابنة أو زوجة أو أم هو أحد أشكال التضامن في بيئة العمل ولكنها أيضا استراتيجية لإعادة تأكيد الأنوثة إذا كنا نستخدم مصطلح “هوسفيلد“
وأخيرا فإن المشاريع الأسرية التي تعتمد على الموارد والولاءات الثقافية والأيديولوجية داخل الأسرة من أجل تحويل النساء من “أقليات” إثنية إلى عاملات ملتزمات بالأهداف العائلية المشتركة تقوم أيضا على أدوار النساء كبنات أو زوجات أو حافظات لشرف العائلة (Bhachu, 1988 Josephides 1988). وعمل النساء في المشاريع الأسرية لا يكون مقابل أجر كما أنه ينشئ أشكالاً من الاتكالية شبيهة بتواكل العاملات في المنازل واللاتي لا يكون عملهن ظاهراً، رغم أنهن يتقاضين مقابله أجراً. ومن غير المستغرب أن نجد أن كلا الوضعين يعتمدان على أيديولوجيات البيئية وكينونة المرأة المنتشرة في محيط الإنتاج والإنجاب. وتشير “ساشا جوزيفايدز” (1988) عند الحديث عن المشاريع الأسرية للنساء القبرصيات إلى استخدام الأيديولوجيات العائلية “للشرف” وخلق بيئة “آمنة” خارج الفضاء العام كأساس لتعريف الأنوثة وكينونة المرأة (وهي النتيجة الحتمية لتعريف الذكورة الأبوى الذي يقوم على الحماية) مما يجعل النساء في قبرص يرين أنفسهن كعاملات لدى أسرهن بدلا من عاملات مستقلات، ولهذا فإن كل التضارب بشأن مسألة العمل يتركز في إطار الأسرة. ويعد هذا مثالاً مهمًا على خصخصة العمل وإعادة تعريف هوية النساء العاملات في المشاريع الأسرية على أن عملهن يعد “امتداد طبيعيا” لواجباتهن العائلية (وهو شبيه بما يحدث بالنسبة لصانعات الأربطة). وتحل هوية النساء كأمهات وزوجات وعضوات في الأسرة محل هويتهن كعاملات. وتؤكد الدراسة التي قامت بها “بارمیندر باكو” مع شيوخ منطقة “البنجاب” (1988) على المسألة نفسها. وتشير “باكو” إلى انتشار المشروعات صغيرة النطاق في أوساط النساء من جنوب آسيا كتوجه جديد نسبيا في الاقتصاد البريطاني، وتقول إن النساء العاملات في المشاريع العائلية عادة ما يفقدن استقلاليتهن وینتهی الأمر بهن تحت سيطرة أشكال أكثر تقليدية من الهيمنة الأبوية يسيطر الرجال فيها على كل الموارد الاقتصادية داخل الأسرة أو معظمها. “وعندما تترك النساء عملهن فإنهن لا يخسرن فقط المصدر المستقل للدخل وشبكة كبيرة من الزميلات ولكنهن أيضا يجدن أنفسهن وقد عدن إلى النظام العائلي القائم علي الذكورة” (85)، وهكذا تفقد النساء “علاقتهن المباشرة بالعملية الإنتاجية” مما يثير مسألة مدى أهمية وضوح هويتهن كعاملات (حتى بالنسبة لهن).
ويوضح هذا التحليل لعمل النساء المهاجرات في بريطانيا المسار المتوازي لاستغلالهن كعاملات في سياق مختلف في الولايات المتحدة. وباختصار فإن هذه الدراسات توضح أيديولوجيات البيتية والأنوثة والعرق التي تقوم على أساسها فكرة “عمل المرأة” بالنسبة لنساء العالم الثالث في الاقتصاد المعاصر. ففي حالة صانعات الأربطة يتأتى ذلك عن طريق تعريف العمل في البيت كنشاط لشغل وقت الفراغ وتعريف العاملات أنفسهن على أنهن ربات بيوت. وكما أشرنا سابقا فإن التراتبيات الهرمية القائمة على الجندر والطبقة/ الكاست تجعل هذا التعريف ممكنًا. وفي حالة عاملات الإلكترونيات يعرف عمل النساء على أنه نشاط شاق تكميلي لا يحتاج إلى مهارات تقوم به الأمهات وربات البيوت. وتعد هذه أيديولوجية أمريكية للنجاح الفردي، بالإضافة إلى التاريخ المحلى للعرق والإثنية اللذين يشكلان هذا التعريف. ويمكننا إذا أن نقارن بين عدم ظهور أو الاعتراف بصانعات الأربطة علنا كعاملات بالطبيعة المؤقتة لعمل نساء العالم الثالث في وادي السليكون. وفي حالة النساء المهاجرات العاملات في الشركات العائلية في بريطانيا يصبح العمل امتدادا لأدوارهن العائلية وانتماءاتهن ويتركز على الأيديولوجيات الثقافية والإثنية/ العرقية لكينونة المرأة والبيتية والتجارة من أجل تعزيز أشكال التواكل الأبوية. تلك الحالات فإن المرونة والوقتية وعدم الاعتراف العلني بعمل النساء والبيتية في تطبيع فئات العمل تعد أمور حيوية لتشكيل نساء العالم الثالث كقوة عمل رخيصة وملائمة. وكل الأفكار السابقة تستند إلى الأنماط الخاصة بالجندر والعرق والفقر والتي بدورها تعد الصفات التي تميز نساء العالم الثالث كعاملات على الساحة العالمية المعاصرة.
وتقول “إيلينن بوريس” و“سينثيا دانيلز” (1989) إن “العمل بالمنزل جزء من عدم مركزية الإنتاج التي يبدو أنها الاستراتيجية الأساسية التي تتبعها بعض القطاعات والشركات للتعامل مع إعادة الهيكلة الدولية للإنتاج والاستهلاك والتراكم الرأسمالي“. ويلعب العمل بالمنزل دورًا كبيرًا في الاقتصاد الرأسمالي العالمي المعاصر. وإن ما ناقشناه سابقا من الأعمال المنزلية التي تقوم بها نساء العالم الثالث في ثلاث مناطق جغرافية وهي: الهند، والولايات المتحدة وبريطانيا يشير إلى أمر محدد يتعلق باستراتيجيات إعادة الاستعمار والرأسمالية في هذا المنعطف التاريخي. ظهر العمل بالمنزل في وقت ظهور العمل نفسه بالمصنع في أوائل القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة، ولطالما كان العمل بالمنزل – كنظام – داعمًا للرأسمالية والأبوية. وتصنيف العاملات بالمنزل على أنهن عاملات مقابل أجر (بدلا من تاجرات يتحكمن في عملهن وسوقه) معتمدات على صاحب العمل في ما يتعلق بالعمل الذي يقمن به عادة في “المنزل” أو المحيط العائلي، يمكننا من فهم كيفية عدم الاعتراف علنًا بهذا النوع من العمل بهذا الشكل المنهجي. وما يسمح باستمرار الطبيعة الاستغلالية لهذا النوع من العمل بحيث يصبح غير ظاهر كشكل من العمل هو أيديولوجيات البيتية والتواكلية والجنسانية (المغايرة) والتي تحدد أن النساء – وهن في هذه الحالة من العالم الثالث – ربات بيوت/ أمهات بصورة أساسية على حين أن الرجل هو من يعول/ يكسب القوت. وتستفيد فكرة العمل بالمنزل من معادلة الأيديولوجيات الخاصة بالبيت والأسرة وأيديولوجيات الأبوية والعرق الثقافة للأنوثة/ الذكورة مع العمل. وهذا العمل الذي يتم في المنزل في معرض الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال والمهام الأخرى المرتبطة “بربة البيت” وهو عمل عادة لا يتوقف. ووصف النساء بكونهن “ربات بيوت” و“أمهات” و“صانعات بيوت” يجعل من المستحيل اعتبارهن عاملات في المنزل يكسبن رزقا دائما ولهن حقوق العاملات. ولهذا فإنه ليس إنتاجهن فقط هو ما يظل مخفيا ولكن استغلالهن كعاملات أيضا إذ يتم تضمينه ضمن العلاقات البيتية الأبوية في الأسرة. وهذا النوع من العمل عادة ما يقع خارج حسابات العمالة بأجر، بالإضافة إلى الحسابات داخل ديناميكيات الأسرة نفسها (1989, Allen).
وتمثل المشاريع الأسرية في بريطانيا نمطا أيديولوجيا مماثلا في سياق طبقي مختلف الديناميكية. تعتبر النساء السود أنفسهن تاجرات (وليس عاملات بالأجر) يعملن لرخاء أسرهن في مجتمع عنصري. إلا أنه لا يزال ينظر إلى العمل الذي يقمن به على أنه امتداد لأدوارهن العائلية وغالبا ما يخلق أشكالا من الاتكالية الاقتصادية والاجتماعية. ولا يعني هذا أن النساء في المشاريع العائلية لا يحصلن أبدًا على جزء من الاستقلالية ولكن المقصود هو أن هذا النظام يستغل عمل نساء العالم الثالث بالاستناد إلى التراتبيات الهرمية المتأصلة في البحث عن الحراك الاجتماعي إلى أعلى في المجتمع البريطاني الرأسمالي (العنصري)، وبتعزيز هذه التراتبيات. وما يجعل هذا النوع من العمل ذا طبيعة استغلالية في ساحة الرأسمالية العالمية المعاصرة هو أن عدم ظهوره والاعتراف به علنا (سواء علي مستوى السوق أو حتى بالنسبة للعاملات أنفسهن أحيانًا) يعتمد على علاقات عنصرية متأصلة تفرق بين الجنسين داخل وخارج النظام العائلي للعلاقات الجنائية المغايرة. وهذا هو السبب أيضا في أن تغيير العلاقات المجندرة التي تعزز العمل بالبيت وتنظيم العاملات بالمنازل يعد تحديًا كبيرًا بالنسبة للنسويات.
يطرح تحليل العمل في المصنع والتجارة العائلية في بريطانيا والعمل بالمنزل في المواقع الجغرافية الثلاثة سؤالاً حول ما إذا كان العمل في البيت أو المصنع ليعرف على هذا الشكل إذا كانت المرأة غير متزوجة. ففي هذه الحالة يعتمد تشكيل مفهوم العمالة علي الأيديولوجيات الخاصة بالجندر. وتغيب هنا حقيقة أن العمل ضروري لنفسية النساء العاملات وقدرتهن على البقاء المادي والروحي ونموهن، وبدلاً من ذلك يُفترض أن هوية النساء كربات بيوت وزوجات وأمهات (وهي نفسها هويتهن خارج محيط العمل) توفر للنساء الحماية والنمو. ولا تضمن نساء العالم الثالث في العمالة/ رأس المال كما لو أن العمل في حالتهن غير ضروري لاستقلاليتهن الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وقدرتهن على اتخاذ قراراتهن بأنفسهن وتقرير مصيرهن – وفي هذه الحالة يصبح خلق علاقة إيجابية مع العمل على المستوى الفكري أو العملي أمرا مستحيلاً.
مصالح مشتركة/ احتياجات مختلفة:
الكفاح المشترك للنساء الفقيرات العاملات
استعرض هذا الفصل إلى الآن الأيديولوجيات المشتركة بين أشكال استغلال ( معظم ) نساء العالم الثالث العاملات الفقيرات من قبل الاقتصاد الرأسمالي العالمي في مواقع جغرافية مختلفة. وتحليل الاستمرارية التي تربط بين العمل في المصنع والعمل بالمنزل وعلاقتها بمعاملة النساء العاملات في العالم الثالث كأشياء وإخضاعهن للبيتية بحيث تصبح هويتهن – كعاملات – ثانوية مقارنة بأدوارهن وهويتهن العائلية بالإضافة إلى التراتبيات الهرمية العرقية/ الإثنية القائمة على الأبوية تكشف عن التحدي الكبير الذي يواجه تنظيم النساء العاملات على أساس مصالحهن المشتركة. فمن الواضح أن أولئك النسوة لسن فقط ضحايا لعمليات الاستعمار والاستغلال، إذ يوضح تحليل دراسات الحالة مستويات مختلفة من وعيهن باستغلالهن وأشكالاً مختلفة للمقاومة وطرقا مختلفة لفهم التناقضات التي تواجه قدرتهن على اتخاذ قراراتهن بأنفسهن كعاملات. وعلى حين أن هذا الفصل يضع تصورا للمصالح المشتركة للنساء العاملات استنادًا إلى فهم المواقع والاحتياجات المشتركة فإن التحليل يوضح عمليات الكبت وليس أشكال المعارضة. كيف نظمت نساء العالم الثالث الفقيرات أنفسهن كعاملات حتى الآن؟ كيف نضع تصورا للمقصود “بالمصالح المشتركة” استنادا إلى “السياق المشترك للكفاح” بحيث تصبح النساء قادرات على اتخاذ قراراتهن وعلى الاختيار بالشكل الذي يؤدى إلى تحول وعيهن وحياتهن اليومية كعاملات؟
وكما سبق أن ذكرنا فمع الهيمنة الحالية للمصالح التعسفية للسوق ورأس المال العابر للقوميات على الساحة العالمية تصبح الاعتبارات والتعريفات القديمة لرأس المال/ العمالة أو “العامل” أو حتى “للكفاح الطبقي” غير دقيقة، ويصعب النظر إليها على أنها فئات مفاهيمية أو تنظيمية صالحة. وفي الواقع فإن المأزق الذي يواجه النساء العاملات الفقيرات وخبراتهن في البقاء والمقاومة وإقامة أشكال جديدة من التنظيم لكسب الرزق وتحسين حياتهن اليومية هو الذي يوفر فرصا جديدة للكفاح والتحرك. وفي هذه الحالة فإن خبرات نساء العالم الثالث العاملات تساعد على فهم وتغيير خبرات العمل والحياة اليومية للنساء الفقيرات في كل مكان. ويتناول الجزء الأخير من هذا الفصل تلك الأسئلة مقترحاً تعريفًا لمسألة المصالح المشتركة لنساء العالم الثالث العاملات في الاقتصاد العالمي الحالي مستمداً من عمل المفكرة النسوية السياسية “آنا ج. جوناسدوتر“.
تنظر “جوناسدوتر” في مفهوم مصالح النساء في ضوء النظرية السياسية الديموقراطية القائمة على المشاركة، وتركز من حيث الشكل والمحتوى على نظرية المصالح الاجتماعية والسياسية التي تشير إلى “الطبقات المختلفة للوجود الاجتماعي: القدرة على اتخاذ القرارات والاحتياجات/ الرغبات التي تمنح قوة ومعنى للقدرة على اتخاذ القرار” (175,1988 Jonasdottir . ثمة محللون سياسيون ينادون بنظريات حول وضع المصالح المشتركة في صيغة شكلية (أي إدعاء المرء بكونه “ضمن الجماعة“، واختيار المرء بأن يشارك في تعريف المصطلحات الخاصة بكينونته، أو إيجاد الظروف المناسبة لهذا الاختيار) ، ويرفض البعض الآخر مفهوم المصالح مفضلين عليه مفهوم “الاحتياجات والرغبات” الفردية (الشخصية) والجماعية (عواقب الاختيار). وتحكم “جوناسدوتر” بين المفهومين وتضع مفهومًا للمصالح المشتركة للنساء يركز على المفهوم الأول ولكنه يحمل ملامح من كليهما. فتقول إن الجانب الشكلي من المصالح (كون المرء “ضمن جماعة“) أمر حيوي. ومن المفهوم تاريخيًا، ومما نراه من التجارب الحياتية للبشر، فإن المصالح الخاصة بالعمليات الأساسية للحياة الاجتماعية تنقسم بين مجموعات الناس قدر اختلاف ظروفهم المعيشية. ولهذا يمكن مع تعريف المصالح تاريخيًا واجتماعيًا وصفها بأنها “موضوعية” (41)، أو بمعنى آخر توجد أسس مادية وتاريخية منهجية للقول بأن نساء العالم الثالث العاملات لهن مصالح مشتركة. ولكن “جوناسدوتر” تقترح أن الجزء الثاني من نظرية المصالح وهو تلبية الاحتياجات والرغبات (وهي هنا تفرق بين القدرة على اتخاذ القرارات ومع ما يترتب على هذه القدرة) يبقى غير واضح. ولهذا فإن محتوى الاحتياجات والرغبات من وجهة نظر المصالح يظل مفتوحًا أمام التفسيرات الشخصية. وفقا لـ “جوناسدوتر” يمكن للنسويات الاعتراف بالمصالح المشتركة للنساء (الموضوعية) والنضال من أجلها في إطار التمثيل الفعَّال والخيارات الخاصة بالمشاركة في السياسة الديموقراطية مع عدم اختزال المصالح المشتركة للنساء (وفقا للاحتياجات والرغبات الشخصية) على المستوى الشكلي للموضوع والخاص بكونهن “ضمن الجماعة“. وتتيح هذه النظرية لنا الاعتراف بالمصالح المشتركة وإمكانية إيجاد القدرة على اتخاذ القرار على أساس الموقع الاجتماعي والخبرة، ونظل محتفظين بما أرى أنه الأمر الأساسي الأعمق لفهم الاحتياجات والرغبات والخيارات (مسألة الوعى الحاسم المغيّر) والتنظيم اعتمادًا عليها لإحداث تحول مادى وأيديولوجي في ظروف الحياة اليومية. وهذا الأمر الأخير له بعد تعليمي وقدرة على إحداث تحولات غير موجودة في الأمر الأول.
ما الصلة بين هذه النظرية ومفاهيم المصالح المشتركة لنساء العالم الثالث العاملات؟ إن تفرقة “جوناسدوتر” بين القدرة على اتخاذ القرار والنتائج المترتبة على ذلك تفرقة مهمة تواجه النسويات في هذا المجال عدة تحديات وهي (1) فهم أن نساء العالم الثالث العاملات لهن مصالح مشتركة موضوعية كعاملات (ولهذا فيجب أن تكون لديهن القدرة على اتخاذ القرار كعاملات)، و(2) التعرف على التناقضات وعدم وضوح الوعي لدى النساء بأنفسهن كعاملات وبالتالي باحتياجاتهن ورغباتهن – مما يؤثر في بعض الأحيان سلبًا على قدرتهن على تنظيم أنفسهن على أساس مصالحهن المشتركة (نتائج القدرة على اتخاذ القرارات). ولهذا يجب أن تحلل العلاقة بين الموقع الاجتماعي والخبرات التاريخية والحالية للهيمنة على نساء العالم الثالث العاملات من جهة، ونظرية الهوية الاجتماعية المشتركة لنساء العالم الثالث العاملات من جهة أخرى. واستعراض أشكال الكفاح المشتركة لنساء العالم الثالث الفقيرات العاملات وعلاقتها بالنظرية التي ذكرناها عن المصالح المشتركة يقدم خريطة لموقعنا الحالي في إطار هذا المشروع.
في حالة النساء العاملات في المناطق التجارية الحرة في عدد من الدول تعد اتحادات العمال هي الشكل الظاهر للتعبير عن احتياجات ومطالب النساء الفقيرات. ولكن التحيز الجنسي لاتحادات العمال قد جعل النساء يشعرن بالحاجة إلى هيكل تنظيمي بديل أكثر ديموقراطية وإلى تشكيل اتحادات خاصة بالنساء (كما هو الحال في كوريا والصين وإيطاليا وماليزيا (راجع Women Working Worldwide 1993) أو إلى الاتجاه إلى المجموعات المجتمعية أو اللجان الخاصة بالكنائس أو التنظيمات النسوية. وعادة ما كانت العاملات من العالم الثالث في مصانع الإلكترونيات بالولايات المتحدة معاديات لاتحادات العمال التي يشعرن أنها مبنية على نموذج الرجل الأبيض من الطبقة العاملة الأمريكية. وعلى هذا فإن تدخل الكنيسة في كفاح النساء العاملات المهاجرات كان شكلاً مهمًا من أشكال الكفاح الجماعي في الولايات المتحدة ( 38,1993 Women Working Worldwide))
خرجت النساء العاملات باستراتيجيات مبتكرة للكفاح بإنشاء اتحادات نسائية. فعلى سبيل المثال احتلت نقابة النساء العاملات في كوريا مصنع في “ماسان” وانتقلت النساء للعيش هناك وقمن بطهو الطعام وحراسة الماكينات والمصنع، وأوقفن الإنتاج بشكل شبه کامل.(31,1993 Women Working Worldwide) وفي هذا الشكل من احتلال مكان العمل تصبح الأفعال اليومية جزءًا من المقاومة (وهو ما كان واضحًا أيضًا في الكفاح من أجل حقوق الرفاهية في الولايات المتحدة) وتستند المقاومة فيها إلى واقع الحياة اليومية للنساء الفقيرات، وهي بذلك تعبر ليس فقط عن مصالحهن المشتركة كعاملات ولكنها تشكل أيضًا اعترافًا بظروفهن الاجتماعية كنساء يعتبرن أن الفصل بين عملهن وبيتهن لا قيمة له. ويعتبر هذا “الاحتلال” استراتيجية جماعية تلفت الانتباه إلى أن النساء الفقيرات العاملات يبنين مجتمعًا خاصًا بهن كشكل من أشكال البقاء.
وتنادى “كومودینی روزا” بأمر مماثل في تحليلها “لعادات المقاومة” التي تتبعها النساء العاملات في المناطق التجارية الحرة في سريلانكا وماليزيا والفلبين ( Rosa 1994 , خاصية 86). فحقيقة أن النساء يعملن ويقمن معا في هذه المناطق أمر حيوي بالنسبة لتحليل طريقة بنائهن للمجتمعات والتشارك في الموارد والأحلام، وتقديم الدعم والمعونة لبعضهن البعض على خط الإنتاج والتجميع وفي الشارع وإيجاد سبل فردية وجماعية للمقاومة. تقول “روزا” إن هذه الأشكال من المقاومة والدعم المتبادل تنبع من “ثقافة الخضوع” التي اعتادتها النساء أثناء عيشهن في المجتمعات الأبوية السلطوية حيث يطلب منهن الطاعة والانضباط وحيث يتعلمن “الأشكال الخفية للمقاومة” (86). ولهذا تشارك النساء في مظاهرات “عفوية” في سريلانكا وفي مظاهرات “صاخبة” في ماليزيا، وفي مظاهرات “تعاطفية” في الفلبين. كما يساندن بعضهن البعض عن طريق تقليل مستهدف الإنتاج أو مساعدة العاملات البطيئات على تحقيق مستهدفهن على خط الإنتاج. ويوضح تحليل “روزا” المصالح المشتركة للنساء العاملات على المستوى الشكلي لكونهن “ضمن الجماعة“. وبالرغم من وعى النساء بالتناقضات الموجودة في حياتهن اليومية كنساء وعاملات وقيامهن بالمقاومة، فإنهن لم يتمكن من التنظيم بشكل فعَّال للتعرف على احتياجاتهن الجماعية وتغيير ظروف حياتهن اليومية.
وعلى حين تناول الجزء الأول الخاص بإيجاد أيديولوجيات للعمل في إطار التراتبيات الهرمية الخاصة بالجندر والعرق/ الإثنية العمل بالمنزل كأحد أسوأ أشكال استغلال نساء العالم الفقيرات، فإن هذا النوع من العمل هو نفسه الذي يسمح بالخروج بأكثر أشكال التنظيم الجماعي إبداعاً وفاعلية. والمثلان الواضحان على نجاح جهود التنظيم في هذا المجال هو منتدى النساء العاملات (WWF) وجمعية النساء العاملات بالأعمال الحرة (SEWA) في الهند واللتان تم تسجيلهما كاتحادات عمال مستقلة تركز على إدماج النساء العاملات بالمنزل والتجارة الصغيرة والبائعات المتجولات والعاملات في الاقتصاد غير الرسمي في عضويتها ( Mitter 1994، خاصة 33).
كما أن هناك أيضا تاريخًا طويلاً لتنظيم النساء العاملات بالمنازل في بريطانيا. تناقش “جاین تايت” خبرات النساء في جمعية العاملات في المنازل في غرب “يوركشير” في أواخر الثمانينيات ، وتقول “يجب أن تنظم الحملة الخاصة بالعاملات في المنازل على عدد من المستويات حيث يتفاعل المستوى الشخصي مع السياسي، والموقف العائلي مع العمل، والتحالفات في البرلمان مع المجموعات المحلية الصغيرة… وتبنت حملات العاملات في المنازل طريقة للتنظيم تعكس الممارسات التي تقوم بها العديد من المجموعات النسائية، بالإضافة إلي تأثرها بنظرية العمل المجتمعي وممارسته. وهي بذلك تهدف إلى إظهار قوة النساء اللاتي عادة ما يكن ضمن مجموعات صغيرة ليس لها شكل وتنظيم رسمي مماثل لشكل وتنظيم الاتحادات” (Tate.(116,1994 وتعد الأمور المتعلقة بالعرق والإثنية والطبقة مسائل محورية في الجهد المبذول حيث إن معظم النساء العاملات في البيوت من أصول أسيوية أو من العالم الثالث. وتحدد “تايت” مجموعة من الاستراتيجيات المتزامنة التي تستخدمها جمعية غرب “يوركشير” لتنظيم العاملات في البيوت، ومن بينها إظهار صاحب العمل “الحقيقي” (أو العدو الحقيقي) بدلاً من توجيه الجهود التنظيمية ضد الشركات المحلية التابعة، وزيادة وعي المستهلكين وقدرتهم على ممارسة الضغط وهو ما يؤدى إلى الربط بين شراء المنتجات وكفاح العاملات بالمنازل، والنضال من أجل إيجاد قواعد لتنظيم الممارسات في العمل للموردين عن طريق تشكيل تحالفات بين اتحادات العمال والنساء ومجموعات المستهلكين، وربط الحملات بإنشاء تنظيمات موازية (على سبيل المثال SEWA)، ومحاولة إيجاد مكان ظاهر في الهيئات الدولية مثل منظمة العمل الدولية، وتنظيم علاقات غير قومية بين المنظمات الأهلية المحلية للعاملات في المنازل ومن ثم المشاركة في الموارد والاستراتيجيات والعمل من أجل تمكين العاملات. وفي هذا السياق يعترف بالمصالح المشتركة للعاملات في المنازل في ضوء حياتهن اليومية كعاملات وكنساء – أي لا يؤخذ بالفصل المصطنع بين “العاملات” و“العاملات في المنزل” و“ربات البيوت“. وعلى حين أن جمعية العاملات في المنازل في غرب “يوركشير” قد حققت بعض النجاح في تنظيم هؤلاء العاملات، وعلى الرغم من الالتزام بمحو الأمية وزيادة وعى العاملات وتمكينهن، فإن الجمعية لا تزال في آخر الأمر جمعية نسوية لتنظيم النساء العاملات (أي لم تقم النساء العاملات بتنظيم أنفسهن بحيث يكون السعى إلى التنظيم نابعًا منهن). ومن هنا تظهر أهمية منتدى النساء العاملات وجمعية النساء العاملات بالأعمال الحرة كنماذج مهمة لتنظيم النساء العاملات الفقيرات).
وتناقش “سواسي ميتر” تجربة نجاح الجمعيتين على مستوى المحاور التالية:
(1) كونهما نموذجين لمدى قوة تنظيم النساء العاملات (تبلغ عضوية منتدى النساء العاملات 85 ألف عضوة، وجمعية النساء العاملات بالأعمال الحرة 46 ألف عضوه) عند استخدام الاستراتيجيات الفعالة.
(2) جعل العاملات المخفيات ظاهرات كعاملات بالنسبة لواضعي السياسيات على المستويين المحلي والدولي. والجمعيتان تناقشان مطالب النساء العاملات الفقيرات، وتتضمنان خطة لتنمية النساء تتضمن تدريبًا على القيادة والعناية بالطفل والبنوك النسائية وتعاونيات المنتجات التي توفر فرصاً بديلة للتجارة. وتوضح “رينان جابفالا” سكرتيرة جمعية النساء العاملات بالأعمال الحرة أنه على الرغم من أن الجمعية قد بدأت نشاطها في 1972 في إطار الحركة العمالية في الهند وأن إنشاءها جاء بوحي من الحركات النسائية فإنها طالما اعتبرت الجمعية جزءًا من حركة التعاونيات (Jhabvala 1994). ولهذا فالكفاح من أجل حقوق نساء العاملات الفقيرات لابد أن يمضى قدمًا مع استراتيجيات تطوير نظم اقتصادية بديلة، وتقول “جابفالا” “تقبل الجمعية مبادئ التعاونيات وترى نفسها جزءًا من حركة التعاونيات التي تحاول مد تلك المبادئ لتشمل أفقر النساء… وترى الجمعية أن هناك حاجة إلى إشراك النساء الفقيرات في تعاونيات العمال. يجب إعادة تنظيم هيكل التعاونيات إذا ما أردنا أن تكون حقًا منظمات للعاملات وبالتالي يتوجب تعبئة قوة التعاونيات للقيام بمهمة تنظيم ودعم النساء الفقيرات 116,1994 Jhabvala, ).وهذا التأكيد على امتداد مبادئ التعاونيات (أو المبادئ الديموقراطية) إلى النساء الفقيرات والتركيز على التثقيف السياسي والقانوني، والتعليم من أجل الوصول إلى وعى نقدي جماعي، ووضع استراتيجيات للكفاح الجماعي (وأحيانا التمرد) والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية يجعل من مشروع الجمعية مشروعًا نسويًا ديموقراطيًا تحويليًا. وتعد النساء اللاتي يقمن بالأعمال الحرة من أكثر الفئات استبعادا في المجتمع الهندي – فهن ضعيفات من الناحية الاقتصادية ومن ناحية الكاست كما أنهن ضعيفات جسديًا وجنسيًا وصحيًا، وبالطبع يعتبرن غير ظاهرات من الناحية الاجتماعية والسياسية، ولهذا يعتبرن أيضًا من أصعب الفئات التي يمكن تنظيمها. والتركيز على الكفاح الجماعي من أجل التساوي في الحقوق والعدالة (الكفاح ضد ذلك) بالإضافة إلى التنمية الاقتصادية على أساس التعاون والمبادئ الديموقراطية للتشارك والتعليم والاعتماد على النفس والاستقلالية (الكفاح من أجل ذلك) من أهم عوامل نجاح الجمعية في تنظيم النساء الفقيرات اللاتي يعملن في منازلهن. وتلخص “جابفالا” ذلك بقولها “إن دمج قوة اتحادات العمال والتعاونيات يمكننا من لا الدفاع عن الأعضاء فحسب بل أيضا من تقديم بديل أيديولوجي. وتعد تعاونيات النساء الفقيرات ظاهرة جديدة. ولدى الجمعية نظرة لما أن تكون عليه التعاونيات كشكل من أشكال الجمعيات التي يمكنها أن تجعل العلاقات متساوية وتؤدى إلى شكل جديد للمجتمع” (135).
وتبدو تجربة جمعية النساء العاملات بالأعمال الحرة الأقرب في التعبير عن المصالح المشتركة لنساء العالم الثالث العاملات واحتياجاتهن التي أوضحتها “جابفالا“. تقوم الجمعية بعملية التنظيم وفقا للمصالح الموضوعية للنساء الفقيرات العاملات – وهو ما توضحه كل من اتحادات العمال والتنمية التعاونية للإستراتيجيات التنظيمية. ويعتبر وضع النساء الفقيرات كعاملات ومواطنات لهن حقوق ويحق لهن الحصول على العدالة أمراً حيويًا. ولكن الجمعية تحاول أيضا الوصول إلى المستوى الأعمق للتعبير عن الاحتياجات والرغبات المبنية على الاعتراف بالمصالح الشخصية الجماعية. وكما ذكرنا من قبل فإن هذا المستوى من الاعتراف بالمصالح المشتركة والتعبير عنها يشكل التحدي العالمي للنساء العاملات. فعلى حين يعبر عن المصالح المشتركة للنساء العاملات كعاملات في شكل الكفاحات والتنظيمات التي ذكرناها من قبل يبقى التعرف على الاحتياجات والرغبات المشتركة (محتوى المصالح) لنساء العالم الثالث العاملات، وهو ما قد يؤدى إلى بناء هوية نساء العالم الثالث العاملات، هو التحدي الأكبر – وهو التحدي الذي نجحت الجمعية أكثر من غيرها في تحديده وتناوله.
لقد دفعت بأن موقع نساء العالم الثالث العاملات في هذه اللحظة في إطار تنمية الرأسمالية العالمية يوفر نقطة أفضلية من خلالها (1) كشف ممارسات الهيمنة وإعادة الاستعمار وتوضيحها، ومن ثم إلقاء الضوء على العمليات الدقيقة والعالمية لإعادة الاستمرارية في الاستعمار والرأسمالية التي تتعرض لها النساء العاملات، و(2) فهم الاستمرارية في التجربة والتاريخ والهوية كأساس لتضامن نساء العالم الثالث العاملات وتنظيمهن عبر القوميات. وما أنادي به هنا هو أن تعريف الهوية الاجتماعية للنساء كعاملات يجب ألا يعتمد على التقسيم الطبقي بل يجب أن يبني في هذه الحالة على فهم التاريخ وخبرات العمل الخاصة بالعرق والجندر والكاست. وأضيف هنا أن العمل بالمنزل هو أحد أهم الأشكال القمعية “لعمل النساء” في سياق الرأسمالية العالمية المعاصرة. وعند الإشارة إلى أيديولوجيات “نساء العالم الثالث العاملات” التي نشأت في سياق التقسيم العالمي للعمل فأنا في الواقع أوضح بهذه الفروق الواقعة في التاريخ الخاص بعدم المساواة وهو تاريخ الجندر والكاست/ الطبقة في “نارسبور“، وتاريخ الجندر والعرق والفردية الليبرالية في وادي السليكون وبريطانيا.
ولكن ما طرحته لا يعنى أن هذه السياقات التاريخية غير مترابطة أو منفصلة. بل يهدف التركيز على عمل النساء كشكل من أشكال استغلال النساء في العالم الثالث في الاقتصاد المعاصر إلى لفت الانتباه إلى التاريخ الموحد الذي تشترك فيه نساء العالم الأول والثالث وهو منطق رأس المال وعملياته في الساحة العالمية المعاصرة. وأود التأكيد على أن مصالح الرأسمالية المعاصرة عبر القوميات والاستراتيجيات التي تستخدمها تمكنها من الاستناد إلى التراتبيات الهرمية الاجتماعية المتأصلة وبناء أيديولوجيات الذكورة/ الأنوثة ، والتفوق التكنولوجي، والتنمية الملائمة، والعمالة الماهرة/ غير الماهرة ما إلى ذلك وتعزيزها. ولقد أوضحت هذا في سياق فئة “عمل النساء” المبنية على أيديولوجية نساء العالم الثالث العاملات. ولهذا يجب أن يعتمد تحليل موقع نساء العالم الثالث في التقسيم الدولي للعمل على تاريخ الاستعمار والعرق والطبقة الرأسمالية والجندر والأبوية والاعتبارات الجنسية والعائلية. وتحليل التعريف الأيديولوجي وإعادة تعريف عمل النساء من ثم يضع أساسًا سياسيًا للكفاح المشترك. وما أود التأكيد عليه في هذا الصدد الصياغة للوحدة الاقتصادية لنساء العالم الثالث، وهو يعارض النظر إلى الخبرات المشتركة لنساء العالم الثالث واستغلالهن وقوتهن أو العلاقة بينهن وبين نساء العالم الأول خارج السياق التاريخي، وهو الأمر الذي يؤدى إلى تطبيع فئات النسوية الغربية للذات والآخر. وإذا كنا نريد رؤية نساء العالم الثالث كجزء من النظرية والكفاح يجب أن نولي اهتماما إلى خصوصية تاريخهن المشترك والمختلف والتاريخ المشترك والمختلف الخاص بنا أيضا.
وإيجازًا لما سبق يمكن القول أن هذا الفصل يلقي الضوء على الموضوعات التحليلية والسياسية التالية المتعلقة بنساء العالم الثالث العاملات على الساحة العالمية: فهو يضيف مجموعة من النساء العاملات إلى التاريخ وإلى العمليات المعاصرة للهيمنة الرأسمالية، ويشير إلى الصلات بين النساء العاملات عبر القوميات وإمكانية التضامن بينهن استنادا إلى تبديد أيديولوجية ذكورة العامل. ويوضح كذلك أن التعريف البيتي لنساء العالم الثالث العاملات ما هو إلا استراتيجية لإعادة الاستعمار الرأسمالية العالمية، ويبين أن للنساء مصالح مشتركة كعاملات لا تتصل فقط بتحويل عملهن والبيئة التي يعشن فيها ولكنها تمتد أيضا إلى إعادة تعريف المقصود بالمنزل بحيث يتم الاعتراف بالعمل في المنزل كعمل لكسب الرزق وليس عملا لشغل وقت الفراغ أو عملاً تكميليًا. ويلفت هذا الفصل النظر إلى الحاجة إلى معرفة نسوية تحررية كأساس لتنظيم النسويات والكفاح المشترك من أجل تحقيق العدالة الاقتصادية والسياسية، ويقدم تعريفًا للمصالح المشتركة لنساء العالم الثالث العاملات استنادًا إلى نظرية الهوية الاجتماعية المشتركة لنساء العالم الثالث كنساء/ عاملات. وأخيرا يستعرض الفصل أشكال المقاومة والكفاح الجماعي واستراتيجيات تنظيم نساء العالم الثالث العاملات الفقيرات. صدقت “إيرما” حين قالت إن الطريقة الوحيدة للتحكم ولو بقدر يسير في مجريات حياة المرأة الخاصة هي التنظيم بصورة جماعية بحيث تحصل المرأة على الدعم ممن يشاركونها الاحتياجات نفسها (مقتبس من 51,1993 Hossfeld). ومسألة تعريف المصالح والاحتياجات المشتركة بحيث تشكل هوية نساء العالم العاملات أساسًا ثوريًا للكفاح ضد إعادة الاستعمار والرأسمالية وتقرير المصير والاستقلالية النسوية أمر معقد. ولكن كما توضح العاملة المكسيكية “فيرونيكا فاسكويس” والنساء من جمعية النساء العاملات بالأعمال الحرة فالنساء يخضن بالفعل تلك الصراعات. وقد تتميز بداية القرن الحادي والعشرين بتفاقم السياسات الجنسية لهيمنة واستغلال الرأسمالية العالمية، ولكنها تنبئ أيضا عن سياسات متجددة من الأمل والتضامن.
سلاف طه:مترجمة، حاصلة على ماجستير في مجال حقوق الإنسان، جامعة Essex بانجلترا.
هذا المقال فصل من كتاب: Feninism Without Borders: Decolonizing Theory, Practicing
Solidarity by Chandra Talpade, Mohanty. New Delhi: Zubaan aBooks, 2003
Allen, Seila. 1989. “Locating Homework in an Analysis of the Ideological and Material Constraints on Women’s Paid Labor at Home, edited by Elieen Boris and Cynthia R. Daniels, 272-91.
Urbana: University of Illinois Press. Amott, Teresa, and Julie A. Matthaei, 1991. Race, Gender and Work: A Multicaltural Economic History of Women in the United States. Boston: South End Press.
Barnet, Richard j., and john Cavanagh. 1994. Global Dreams: Imperial Corporations and the New world Order. New York: Simon and Schuster.
Brecher, Jeremy. 1993. “The Hierachy’s New World Order – and Ours”. In Global Visions Beyond the New aWorld Order, edited, by Jeremy S. Brecher et al. Boston: South End Press.
Hossfeld, Karen. 1993. “Unites States: Why Aren’t High-tech Workers Organised?” in Common Interests: Women Organising in Global Electronics, edited by Women Working Worldwide, 33-52. London: Tavistock.
———, 1990. “Their Logic against Them: Contradictions in Sex, Race, and Class int the Silicon Valley”. In Women Workers and Global Restructuring, edited by Kathryn Ward, 149-78. Ithaca: Cornell University Press.
Jhabvala, Renana. 1994. “Self-Employed Women’s Association: Organising Women by Struggle and Development”.In Diginity and Daily Bread: New Forms of Economic Organizing among poor Women in the Third World and the First, edited by Sheila Rowbotham and Swasati Mitter, 114-38. new York: Routledge.
Jonasdottir, Anna G. 1988. “On the Concept of Interest, Women’s Interests, and the Limitations of Interest Theory”. In The Political Interests of Gender, edited by K. Jones and A.G. Jonasdottir. London: Sage Publications.
Josephides, Sasha. 1988. “Honor, Family and Work: Greek Cypriot Women Before and after migration”. In Enterprising Women, edited by Sallie Westwood and Parminder Bhachu, 34-57. New York: Routledge. Katz, Naomi, and David Kamnitzer. 1984. “Women and Work in the Silicon Valley.” In My Troubles Are Going to Have Trouble with Me: Everyday Trials and Triumphs of Women Workes, edited by Karen Brodking Sacks and D. Rem, 193-208, New Brunswick: Rutgers University Press,
Mies, Maria. 1986. Patriarchy and Accumulation on a World Scale: Women in the International Division of Labor. London: Zed Press.
Mitter, Swasti. 1994. “On Orgnising Women in Causalized work: A Global Overview”. In Dignity and Daily bread: New Forms of Economic Organizing among Poor Women in the third World and the First, edited by sheila Rowbotham and Swasti Mitter, 14-52. New York: Routkedge.
Phizachlea, Annie.. 1988. “Enterpreneurship, Ethnicity and Gender”.In Enterprising Women, edited by Sallie Westwood and Parminder Bhachu, 20-33. New York: Routledge.
Rosa, Kumudhini. 1994. “The Conditions of Organisational Activites of Women in Free Trade Zones: malaysia. Philippines and Sri Lanka, 1970-1990”. In Dignity and and Daily Bread: New Forms of Economic Organizing among Poor Women in the third World and the First, edited by sheila Rowbotham and Swasti Mitter, 73-99. New York: Routkedge.
Tate, 1994. “Homework in Wast Yorkshire”. In Dignity and Daily Bread: New Forms of Economic Organizing among Poor Women in the third World and the First, edited by sheila Rowbotham and Swasti Mitter, 114-38. New York: Routledge.
Westwood, Sallie, and Parminder Bhachu, eds. 1988. Enerprising Women. New York:Routledge.
Women Working Worldwide. 1993. Common Interests. San Francisco: Aunt Lute Books.