النساء والرجال والعمل
إن كتاب “النساء والرجال في العمل“(*)، ، وهو من تأليف كل من أيرين بادافيتش وباربرا ريسكين، صدر عام 2002 ضمن سلسلة متخصصة في علم الاجتماع(Sociology for a New Century) وهي سلسلة من الكتب تعني بإصدار مختارات من الأعمال البحثية المكتوبة من منظور تاريخي وعالمي ومقارن في الواقع المعاصر. ويحتوي هذا الكتاب على سبعة فصول تركز على العلاقة بين قضايا الجندر والعمل، إلى جانب مقدمة موجزة وقائمة بالمراجع وفهرس يتضمن سردا شارحًا لأهم المصطلحات المتعلقة بموضوعات الكتاب.
وتحدد مقدمة الكتاب محتويات الفصول، حيث يتناول الفصل الأول مكونات “العمل المتأثر بالجندر“، أي مظاهر تقسيم العمل تبعًا للجنس، وخاصية تقليل قيمة عمل النساء، وصياغة علاقات الجندر في العمل. أما الفصل الثاني فيقدم السياق التاريخي للعمل وتأثير الجندر عليه في العالم الغربي مع تحليل آثار التوسع الصناعي ونشأة القوى العاملة. كما يتجاوز التحليل حدود العالم الغربي فيناقش تقسيم العمل تبعًا للجنس في مناطق متفرقة من العالم. وفي الفصل الثالث نجد عرضًا عامًا لغياب المساواة بين الجنسين في أماكن العمل مع تقديم بعض التفسيرات العامة لغياب المساواة بين الجنسين. ويركز الفصل الرابع على تقسيم العمل على أساس الجنس وأسبابه ومستوياته. أما الفصل الخامس فيتأمل نوعين من التقسيم والفصل بين الجنسين على أساس تراتبي في أماكن العمل. ويتناول الفصل السادس التفاوت في الأجور بين الجنسين مع تقييم الفروق القائمة في معدلات الأجور وإمكانات تقليل تلك الفجوة القائمة. ويركز الفصل السابع على أوجه الصراع بين العمل ورعاية الأسرة، وما تواجهه النساء العاملات والرجال العاملون في محاولاتهم لتوزيع الأعباء المنزلية فيما بينهم على قدم المساواة.
ويقدم الفصل الأول، وعنوانه “العمل والجندر“، تعريفات لمجموعة من المصطلحات الأساسية في موضوعي العمل والجندر، حيث يبدأ الفصل بتعريف “العمل” باعتباره يشير إلى “الأنشطة التي تنتج بضاعة أو خدمة ما” سواء للاستخدام الشخصي أو مقابل أجر أو دعم ما، ليتضمن بذلك العمل بالسخرة والعمل بأجر والعمل بدون أجر. ويؤكد الكتاب على أن جنس العامل أو العاملة له تأثيره البالغ والعميق على حياة كل منهما العملية. ومن هنا يسعى الكتاب إلى تعريف مفهومي “الجنس” و“الجندر“، حيث يوضح الكتاب أن المقصود من “الجنس” هنا هو التصنيف الذي يعتمد على الطبيعة البشرية من حيث الذكورة والأنوثة بناء على الكروموسومات وتأثيراتها على الأعضاء التناسلية. أما “الجندر” فيشير إلى التصنيف الذي يصوغه الفاعلون الاجتماعيون والذي يميل إلى التركيز على الاختلافات بين الذكور والإناث.
إن الاختلاف بين الذكور والإناث على أساس الفروق الجنسية بينهما يرتبط ارتباطاً وثيقًا بالممارسات التي تميز بين الجنسين في مصلحة جنس دون الآخر، حيث ينعكس ذلك على مسارات اجتماعية تعمل على المبالغة في تصوير الاختلافات البيولوجية لتبرير عدم المساواة في المعاملة بين الجنسين، وبالتالي في الأنشطة والأعمال والاهتمامات بل والأماكن المخصصة لكل جنس دون الآخر. ومن هنا فإن عملية تحويل كل من الذكور والإناث إلى مجموعتين مختلفتين ظاهريا في المجتمع هي عملية صياغة اجتماعية تخضع للتعريفات الثقافية الخاصة بمفاهيم الذكورة والأنوثة المبنية على الفروق البيولوجية.
ثم ينتقل الكتاب إلى الحديث عن تقسيم العمل بين الجنسين حيث يؤكد على ثلاث نقاط وهي: وجود تقسيم للعمل بين العاملين والعاملات على أساس الجنس، والإعلاء من قيمة عمل الرجال مقارنة بالنساء، وصياغة علاقات القوى الاجتماعية بين الجنسين بواسطة أصحاب العمل والعمال. أولا: إن تقسيم العمل بين الجنسين من الصفات الواضحة في مختلف الوظائف والأعمال في مجتمعات متنوعة ، خاصية لا تتطابق زمنيًا أو مكانيًا ، ففي بعض المجتمعات يتم قصر بعض الأعمال على الرجال دون النساء في حين لا ينطبق الأمر على مناطق أخرى من العالم. وثانيًا، إن تقسيم العمل بين الجنسين لا يعني بالضرورة غياب المساواة بين الجنسين، إلا أن الممارسة المجتمعية عادة ما نجدها تقلل من قيمة عمل النساء بينما تعلي من قيمة عمل الرجال، وهو الأمر الذي ينعكس على الأجر المدفوع مقابل العمل، مؤديًا بدوره إلى التفاوت في الأجر مقابل العمل نفسه. حيث يفوق أجر الرجل عادة أجر المرأة حتى عند قيامهما بالعمل نفسه، بل وكلما ارتبط عمل ما أو وظيفة ما بالنساء انخفض أجر هذا العمل عمومًا. وثالثًا، نجد في مكان العمل أن صياغة علاقات القوى بين الجنسين تتم بواسطة كل من أصحاب العمل والعمال أنفسهم. حيث يضع صاحب العمل تصورا مسبقًا لجنس العاملين في وظيفة ما، وخاصة عند خلق فرص عمل جديدة أو إعداد جداول بمستويات الأجور أو عند تحديد طبيعة العمل نفسه والظروف المحيطة به. وكذلك فإن العاملين والعاملات يقومون أحيانًا بصياغة علاقات الجندر في مكان العمل، وذلك بفرض أنشطة معينة ترتبط بجنس دون الآخر، وعلى مستوى السلوكيات التي يمارسونها أو المطالب التي يتقدمون بها إلى مكان العمل (كالملاعب الخاصة برياضات بعينها، أو إنشاء حضانات للأطفال على سبيل المثال).
ويتناول الفصل الثاني من الكتاب “تقسيم العمل بين الجنسين في الزمان والمكان” ، متتبعًا تقسيم العمل في الغرب على مدار القرون الأربعة الماضية، بداية من المجتمعات ما قبل الصناعية، ومرورًا بدور التوسع الصناعي في تقسيم العمل بين الجنسين من منطلق انخراط الرجال في الوظائف مدفوعة الأجر وحصر النساء في الأعمال المنزلية بدون أجر. وأخيرًا يعقد هذا الفصل مقارنةً بين الدول الغربية وغيرها من دول العالم من حيث تقسيم العمل على أساس الجنس.
ففي أوروبا ما قبل الثورة الصناعية كان العمل جزءاً من حياة كل أفراد المجتمع متمثلاً في الأعمال الزراعية والحرف اليدوية والصناعات المنزلية الصغيرة. وفي أعقاب الثورة الصناعية نشأت فكرة القوى العاملة من الأفراد الساعين إلى القيام بأي عمل مقابل أجر مدفوع. وقد أدى التصنيع إلى التفريق بين أدوار العمل بين الجنسين، ولعل أبرز أوجه ذلك الاختلاف هو توجيه الرجال إلى العمل بأجر وتوجيه النساء إلى العمل غير المأجور إدارة شئون البيت. وبناء على ذلك تم تنظيم العمل وتحديد الأجور على فرضية مفادها أن العمال هم من الرجال. ثم جاءت الحركة العمالية في القرن العشرين مطالبة برفع الأجور لتكفي احتياجات الأسرة، وهو مطلب يقوم على فرضية ثانية مفادها أن الرجال يعولون النساء والأطفال.
ويشير الكتاب إلى السبب وراء انخفاض معدلات مشاركة النساء المتزوجات في القوى العاملة مؤكدًا أن ذلك يرجع أساسًا إلى “أيديولوجيا المجالات المنفصلة” ideology of separate spheres)، وهي أيديولوجيا نشأت في الطبقة الوسطى بانجلترا مطالبة بفصل الحياة الأسرية عن العمل المأجور، وكانت تقوم على أن مكان المرأة الطبيعي هو البيت ومكان الرجل الطبيعي ليس هو البيت بل عالم التجارة والعمل، وذلك اعتمادًا على خلق مبررات تقوم على أساس الجنس.
وقد أدت هذه الأيديولوجيا إلى حصر الرجال والنساء في أدوار ضيقة ومحدودة ، وإعلاء قيمة الأجر والمكسب بالنسبة للرجال وإعلاء قيمة العمل المنزلي للنساء، قد العكس بدوره سلبيا على النساء حيث أدى حرمانهن من دخول سوق العمل بأجر إلى اعتمادهن الكامل في الحصول على الأمان الاقتصادي والمكانة في المجتمع من خلال الحصول على زوج يعولهن وبيت يقمن على شئونه.
أما على مستوى العالم فنجد أن كثيرًا من الأعمال في البلدان النامية لا تتم في إطار القطاع الرسمي بل في قطاع العمل غير الرسمي، وهو قطاع تنخفض فيه الأجور وتسوء فيه أوضاع العمل والعمال. وطبقًا لبعض التقديرات فإن 75% من عمال آسيا وأفريقيا – رجالا ونساء – يعملون في القطاع غير الرسمي، وحوالي 50% من عمال أمريكا اللاتينية وغالبيتهم من النساء.
وفي ختام الفصل الثاني يتناول الكتاب ظاهرة العولمة التي شهدت طفرةً كبيرةً في العقدين الأخيرين من القرن العشرين , بما تتضمنه العولمة من انتقال سريع للمال والبضائع والأعمال مع تغير الأوضاع الاقتصادية وبدفعة من مؤسسات دائنة كبرى كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والشركات متعددة الجنسيات، وما صاحبها من تراجع في تحكم الدول في التجارة والاستثمار مع انتشار التكنولوجيات الجديدة في المعلومات والاتصال. ونظرًا لما تحمله العولمة من خصائص عدم الاستقرار والهجرة والانتقال، فإن ظروف العمل بالتالي تفتقد إلى الاستقرار والأمان، وهو ما يؤثر بالقدر الأكبر على العمالة التي تحتل الدرجات الدنيا من هياكل العمل، وخاصة النساء.
يأتي الفصل التالي “عرض عام لعدم المساواة بين الجنسين في العمل” مركزًا على أماكن العمل في المجتمع الأمريكي المعاصر، مع تقديم بعض التفسيرات الشارحة لتلك الظاهرة. وترى المؤلفتان أن غياب المساواة في العمل يتبلور في ثلاثة أشكال وهي: الفصل بين الجنسين، والفروق في درجات السلطة والترقي، والفرق في الأجر المدفوع. وهي الأشكال التي تتناولها الفصول التالية من الكتاب بشيء من التركيز والتفصيل.
ويشير الكتاب هنا إلى أن مظاهر عدم المساواة تتمثل في عدة نواح، حيث يتم الفصل بين الجنسين من حيث قَصر بعض الأعمال على الرجال والبعض الآخر على النساء، كما يتم حصر النساء عادة في وظائف أدنى على درجات سلم العمل وتنخفض معدلات ممارستهن للسلطة مقارنة بالرجال. كما أن النساء يحصلن على أجور أقل من الرجال في حين يتعرض الرجال للعمل عدد ساعات أكثر من النساء وقد يواجهون مخاطر جسدية خلال بعض الأعمال التي يقومون بها.
ويوضح الكتاب بعض التفسيرات التي يسوقها علماء الاجتماع لذلك التمييز بين الجنسين والتي تتلخص في العوامل الثقافية والصور النمطية للجنسين، والحفاظ على المزايا لصالح الرجال والتمييز الذي يمارسه أصحاب العمل، ذلك إلى جانب التفاوت بين الجنسين من حيث التعليم والتدريب والخبرة السابقة.
ويركز الفصل الرابع على “الفصل بين الجنسين في مكان العمل“، فيشرحه باعتباره مفهومًا يشير إلى التقسيمات بين الرجال والنساء تبعًا للوظائف والأعمال وأماكن العمل، وقد يتم هذا التقسيم في أماكن مختلفة (من حيث المقر والفروع) أو مواعيد مختلفة (فترة الصباح والمساء)، كما ينطبق أيضًا على اشتراك الجنسين في مكان العمل مع اختلافهما في طبيعة العمل تبعًا للجنس. وترى المؤلفتان أن لتلك الظاهرة آثارها الممثلة في انخفاض أجر النساء عن الرجال وذلك لزيادة تمثيل النساء في الوظائف الأدنى أجرًا مقارنة بالرجال، وكذلك بسبب تدني أجور الوظائف التي تسودها العمالة النسائية.
ثم ينتقل الكتاب إلى عرض تاريخي للفصل بين الجنسين في العمل مع مقارنة الأوضاع بين الغرب ومختلف دول العالم. ثم يتم استعراض بعض التفسيرات والمقترحات للتخلص من تلك الظاهرة، والتي يمكن إيجازها في النقاط التالية:
أولاً: سلوكيات وأفعال أصحاب العمل من حيث آرائهم وتصوراتهم بشأن العمالة المناسبة:
1- المسميات الخاصة بالأعمال والوظائف تبعًا للجنس، حيث يتم اعتبار بعض الأعمال خاصة بالرجال وأخرى خاصة بالنساء.
2- دور الصور النمطية للجنسين حيث تؤثر الصور النمطية الراسخة في أذهان أصحاب العمل والعمال والعاملات على الأعمال التي يتم ربطها بكل جنس من الجنسين.
3- المفاضلة على أسس اقتصادية وهي تلك الناجمة عن سعي أصحاب العمل إلى تحقيق أقصى إنتاج بأقل التكاليف.
4- التحيز لمن يماثلون صاحب العمل في الجنس، حيث يميل بعض أصحاب العمل أو المتحكمون في التوظيف إلى اختيار العاملين ممن يماثلونهم في الجنس. وهكذا يسود الاختيار أحيانًا على أساس الميول الشخصية كما يمكن أن تسود العداوة تجاه الجنس الآخر بناء على أسباب شخصية أيضًا.
5- الممارسات المتعلقة بالتعيين، ولعل أكثرها إقصاءً واستبعادًا للآخرين هي طريقة الإعلان عن وظيفة أو عمل ما بطريقة شفاهية. أما التعيين بإعلان مفتوح فهو الأسلوب الأكثر عدالة ويتيح فرصًا أكبر للنساء مقارنة بالإعلان غير الرسمي.
6- افتراضات عفا عليها الزمن، ومنها الفرضية القائلة بأن بعض الأعمال خاصة بالرجال وبعضها الآخر خاص بالنساء، أما واقع الأمر فإنما يرجع إلى ظروف العمل حيث إن مواعيد جداول العمل وما يصاحبها من تغييرات مفاجئة تزيد من فرص الرجال في الالتزام بها، عكس النساء.
ثانياً: سلوكيات وأفعال العمال والعاملات:
1- نظرية رأس المال الإنساني في الفصل بين الجنسين، والتي تقوم على ثلاث فرضيات وهي:
أ ) أن العمال يقومون باختيارات واعية بشأن التعليم والعمل بما يحقق لهم أعلى معدل ممكن من المكسب خلال حياتهم.
ب) أن الاستثمار في التعليم والحصول على الخبرة يرفع إنتاجية العمال والتي يحصلون بها على مقابل من أصحاب العمل.
ج) استمرار الفصل بين الجنسين حتى الآن، حيث يزيد استثمار الرجال في التعليم والعمل مقارنة بالنساء، باعتبار أن دور الرجال الأساسي هو إعالة الأسرة بينما دور النساء الأساسي هو رعاية الأسرة.
2- تقسيم الأدوار حسب الجنس، حيث يوجد اختلاف في تربية البنات والأولاد بتشجيع كل من الجنسين على شغل وظائف دون الأخرى، وهو ما يتمثل في ألعاب الأطفال.
3- الفرص والقيود، حيث نجد ميل بعض العمال الرجال إلى حرمان النساء واستبعادهن من الأعمال التي جرى العرف على اعتبارها خاصةً بالرجال. ومع ذلك فعند فتح المجال أمام النساء للتقدم إلى وظائف تعتبر تقليديًا حكرًا على الرجال فإن الأعراف والقوالب لا تقف حائلاً دون تقدم النساء لشغل تلك الوظائف والقيام بتلك الأعمال.
وأخيرًا يؤكد الكتاب في آخر هذا الفصل على أن قرار الفرد لا يمثل عامل ضغط أو وسيلة تتحكم في الفصل بين الجنسين في العمل، ولكن أصحاب الأعمال وحكومات والدول هي التي تملك الإمكانات لتغيير معدلات التمييز بين الجنسين في العمل.
أما الفصل الخامس فيتناول “الترقي وتولي الزمام“، فيبدأ بعرض الاختلافات بين الرجال والنساء من حيث الترقي في العمل، ثم ينتقل إلى التركيز على جانبين خاصين بالاختلافات بين الجنسين في الوصول إلى السلطة، والعوائق التي تحول دون تجاوز النساء “سقف” ما، يحرمهن من بلوغ مناصب السلطة والقيادة، إضافة إلى انخفاض فرص النساء في ممارسة السلطة وصنع القرار حتى عند شغلهن مناصب عليا في العمل. ومن الملاحظ ارتفاع معدلات ترقي النساء في العمل، ولكن غالبية تلك الترقيات تتم في الدرجات الدنيا والوسطى، أما الدرجات العليا في الترقي فعادة ما تكون من نصيب الرجال.
ونجد أن التعليم من العوامل المؤثرة في فرص الترقي، حيث تزداد فرص الترقي بالنسبة للنساء الحاصلات على درجات علمية متوسطة، في حين تزداد فرص الترقي بالنسبة للرجال الحاصلين على درجات عليا بالمقارنة بالنساء الحاصلات على الدرجة العلمية نفسها. كما يلعب عامل الزواج دورًا في الترقي، حيث أثبتت الدراسات في أمريكا تزايد معدلات الترقي بالنسبة للرجال المتزوجين مقارنة بالنساء المتزوجات، كما ينطبق الأمر بالمثل على الرجل والمرأة ممن لديهم طفل أو طفلة في سن ما قبل المدرسة، فتزداد نسبة الترقي بين هؤلاء الآباء مقارنة بالأمهات ، بل ومقارنة بالرجال عامة والنساء عامة. وهكذا تتسع الفجوة بين الرجال والنساء تبعًا للزواج والإنجاب. ويضاف إلى ذلك في المجتمع الأمريكي عامل الأصل العرقي حيث تزداد الفجوة اتساعًا بين البيض والسود لتصل إلى أقصى درجاتها عند المقارنة بين الرجل الأبيض والمرأة السوداء. ويمثل عامل الطبقة عنصراً إضافيًا، حيث ترتفع معدلات الترقي بين العاملين والعاملات في وظائف تتطلب خبرة عالية مقارنة بين الرجال بالأعمال التي تتطلب قدرًا أقل من الخبرة والتدريب. كما تزداد فرص الترقي من الشريحة العمرية ما بين 32 – 39 سنة مقارنة بالنساء من الشريحة العمرية نفسها.
ومن ناحية أخرى، ففيما يتعلق بممارسة السلطة في العمل، يظل وضع النساء لا يقارن بالرجال، وتعرف المؤلفتان السلطة باعتبارها تشير إلى التمتع بالسلطة الشرعية اللازمة لتعبئة الناس وتنظيمهم وضمان تجاوبهم وتعاونهم وتأمين الموارد اللازمة للقيام بالعمل. وتكمن السلطة عادة في الموقع والمنصب لا في الشخص الذي يشغله، حيث يقوم الفرد المتمتع بالسلطة في العمل بوضع السياسات وصنع القرارات بشأن الأهداف والميزانيات والإنتاج وفريق العمل. وتتمثل الدرجة الأدنى من السلطة التي تتمتع بها النساء في العمل في صورتين:
1- تقل فرص النساء عن الرجال في شغل المواقع العليا بما فيها من إمكانات لممارسة السلطة.
2- حتى عندما تحتل النساء مواقع ذات سلطة فإنهن يتمتعن مع ذلك بقدر أقل من السلطة عن الرجال سواء في موقع الإدارة أو المهنة أو الأعمال الدنيا.
وفي ختام هذا الفصل تؤكد المؤلفتان على أن التحسن في حصول النساء والأقليات على وظائف تتمتع بقدر من السلطة هو تحسن لا يطرأ تلقائيًا بل يحدث نتيجة لتضافر الجهود الحكومية ومجموعات الضغط ودور المؤسسات في تحقيق العدالة في فرص العمل والترقي بالنسبة لكل العاملين والعاملات بلا تمييز.
أما الفصل السادس فيدور حول “التفاوت في الأجور بين الجنسين“، حيث يشير التاريخ الغربي إلى أن بدايات التفرقة بين الجنسين في الأجور تعود في الوثائق التاريخية إلى القرن الرابع عشر، العصر الحالي فيتضح في المكافآت الإضافية والمعاشات والتأمينات. ويورد الكتاب مجموعة من التفسيرات لتلك الفجوة بين أجور الرجال والنساء والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1- إنتاجية العمال، حيث إن زيادة الإنتاج هي سبيل زيادة الأجر، وبالتالي فإن أجر الرجال لا يفوق أجر النساء سوى بسبب كون إنتاجية الرجال تفوق إنتاجية النساء.
2- الوقت الذي يتم قضاؤه في العمل، حيث يوجد سببان رئيسيان يزيدان من الوقت الذي يقضيه الرجال مقارنة بالنساء في العمل:تحمل النساء مسئولية رعاية الأطفال وغيرها من الأعمال المنزلية غير مدفوعة الأجر، وقصر بعض الأعمال على الرجال دون النساء وخاصة تلك الأعمال التي تتطلب قضاء ساعات طويلة في العمل.
3- المهارة والجهد والتعليم والخبرة، وهي كلها كما يشير الكتاب مبررات أكثر منها عناصر حقيقية تفسر التفاوت بين الجنسين في الأجور، وذلك مع ما يتميز به الرجال من فرص أكبر لاكتساب تلك القدرات نظرًا لعدم تحملهم أعباء إضافية. وتؤكد المؤلفتان على أن الدولة مسئولة عن توفير برامج التدريب المدعومة من الحكومة لتنمية مهارات وخبرات العاملات والعاملين بما يضمن استمرارهم واستقرارهم في العمل.
وتختتم المؤلفتان الكتاب بفصل عن “العمل بأجر والعمل الأسري“، حيث تستهلانه بمدخل تاريخي يوضح التداخل بين حياة البيت والعمل في الماضي، حيث كان مكان العمل هو نفسه مكان الحياة الأسرية، وهو الأمر الذي ما زال ينطبق على كثير من المجتمعات النامية التي تكون فيها البيوت والمزارع هي حيز العمل الاقتصادي. أما في المجتمعات الصناعية الحديثة فإن العلاقة بين البيت والعمل هي علاقة صراع في الأساس.
إن كلا من الأعمال المنزلية والعمل الوظيفي يتطلب قدراً بالغًا من الجهد والالتزام، حيث يستغرق العمل الوظيفي حوالي 25٪ من الأسبوع ذلك بخلاف الوقت الذي ينقضي في الإعداد للعمل وما يضيع في المواصلات. كما يجد الكثيرون من العاملين والعاملات أنفسهم مسئولين عن رعاية أطفالهم أو والديهم المسنين أو غيرهم من أفراد الأسرة. وفيما يتعلق بالمجتمع الأمريكي يتضح الصراع بين البيت والعمل في ثلاثة أوجه مهمة تتمثل في النقاط التالية:
أولاً: نقص الوقت ، حيث يعاني كثيرون في المجتمع الأمريكي من ضيق الوقت اللازم لمواجهة متطلبات العمل الوظيفي والعناية بالأسرة، وهي مشكلة تقل حدتها في الأسر التي يقلل فيها أحد الجنسين من التزاماته أو التزاماتها الوظيفية، حيث تصل نسبة النساء غير المتفرعات للعمل الوظيفي (أي العاملات نصف الوقت أو جزء من الوقت) إلى نسبة 35% من النساء في سن العمل.
ثانيًا: رعاية الأطفال والمسنين، حيث يتزايد لجوء الأمهات إلى دور الحضانة التي تتولى رعاية أطفالهن أثناء وجودهن في العمل، وخاصة مع ما تشهده المجتمعات الحديثة من تراجع دور أفراد العائلة والأقرباء في رعاية أطفال العائلة. وهو ما ينطبق بالمثل علي رعاية المسنين من أفراد العائلة بسبب ظروف الحياة الحديثة ومتطلبات العمل الوظيفي.
ثالثًا: تداخل العمل مع البيت، حيث تؤثر الظروف الأسرية في أوضاع العمل، حيث إن بعض المواقف الطارئة مثل مرض أحد الأطفال أو الزيارات إلى الأطباء أو اجتماعات مجالس أولياء الأمور في المدارس تستقطع جزءًا من وقت العمل. وكذلك تشغل أعمال الوظيفة جزءًا من الوقت المخصص للحياة المنزلية، حيث لا يمكن الفصل بين البيت ومكان العمل في العصر الحالي مع تزايد الأعمال الوظيفية التي تتم متابعتها من البيت بواسطة تكنولوجيا الاتصالات بما تمثله من سلاح ذي حدين.
إن محاولات فك الاشتباك بين البيت والعمل تركز على المشاكل المتعلقة بالجمع بين مسئوليات الأسرة والوظيفة. ويورد الكتاب مجموعة من الطرق التي يلجأ إليها الأفراد ويتيحها أصحاب العمل والحكومات للتعامل مع تلك القضية، وهي أساليب يمكن إيجازها في النقاط التالية.
أولاً: الحلول الفردية. إن غالبية العاملين والعاملات يعتبرون تلك المشكلة مسألة شخصية، وبالتالي نسمع عن محاولات الأفراد إحداث “توازن” و“توافق” وتعامل مع متطلبات البيت والعمل. ويلجأ البعض إلى الالتزام بمسئوليات العمل على حساب متطلبات الحياة الأسرية، وهو ما يتمثل في المجتمع الأمريكي في لجوء النساء إلى تأجيل الزواج والإنجاب وتقليل عدد الأطفال، مما أدى إلى انخفاض معدلات الخصوبة انخفاضاً ملحوظًا.
كما تلجأ الفئات القادرة إلى الاستعانة بأفراد من الطبقات الأدنى للقيام ببعض أعباء المنزل مقابل أجر. في حين تلجأ نساء أخريات إلى عدم التفرغ للوظيفة ويعملن جزءاً من الوقت مقابل أجر وذلك لمواجهة عبء الجمع بين البيت والعمل. وتشير الإحصائيات إلى أن نسبة 50% من النساء العاملات يعملن جزءاً من الوقت في حين لا ينطبق هذا الأمر سوى على 25% من الرجال العاملين (طبقًا لإدارة الإحصاء في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2000)، وهو ما ينعكس بدوره سلبيًا على دخل المرأة وصعودها الوظيفي.
ثانيًا: برامج يدعمها أصحاب العمل. ففي كثير من الشركات والمؤسات في أمريكا وعلى مستوى العالم قام أصحاب العمل بإيجاد طرق للتعامل مع مسئوليات الموظفين والموظفات الأسرية، ومنها:
1- إقامة دور حضانة لأطفال العاملين والعاملات في تلك المؤسسات.
2- تطبيق قدر من المرونة في مواعيد العمل بحيث يتمتع العاملون والعاملات بقدر من المرونة والتحكم في تحديد مواعيد العمل، وهو ما يحدث أساسًا في الوظائف الإدارية والتنفيذية.
إلا أن الملاحظ أن الفئات الأكثر استفادة من تلك البرامج هم العاملون والعاملات في المناصب الإدارية والمهنية دون أن تتمتع العاملات والعاملون غير المتفرغين (أي العاملون نصف الوقت أو بالساعة) بتلك الامتيازات. بل إن غالبية الشركات والمؤسسات الصغيرة لا تقوم بتوفير تلك الفرص للعاملين والعاملات فيها لأسباب مادية. وبالتالي فإن برامج أصحاب العمل لا تقدم حلولاً لمشكلة الجمع بين مسئوليات البيت والعمل سوى لفئة محدودة من العاملات والعاملين المحظوظين.
ثالثًا: البرامج التي تدعمها الحكومات. فقد تناولت بعض الدول مشكلة الاشتباك بين متطلبات البيت والعمل بمساعدة العاملات والعاملين على الالتزام بمسئولياتهم على صعيدي الأسرة والوظيفة، وخاصة في الدول الأوروبية، حيث نصت القوانين في ألمانيا والسويد على حق النساء في إجازة الوضع منذ نهايات القرن التاسع عشر وأعقبتهما فرنسا في بدايات القرن العشرين، بينما لم يتم إقرار هذا التشريع في أمريكا سوى في عام 1993، وترى المؤلفتان دور الأيديولوجيا السائدة في هذا التفاوت بين أوروبا وأمريكا، حيث تؤمن العقلية الأوروبية بمسئولية الدولة والمجتمع عن الأجيال الجديدة بينما تراها العقلية الأمريكية مسألة فردية.
ويتمثل دور الدولة في صياغة تشريعات قانونية تنص على إجازات مثل إجازة رعاية الأسرة أو إجازة رعاية الطفل. ويشير الكتاب في هذا الصدد إلى أن القوانين لا تنص على حق النساء فقط في تلك الإجازات، بل هي حق لأي من الجنسين. ولكن الواقع يشير إلى أن غالبية المطالبين بهذه الإجازات هن من النساء، بما يؤدي إلى خروج النساء من القوى العاملة لعدة سنوات من مجموع سنوات العمل.
وختامًا أود أن أشير إلى أهمية وضع هذا الكتاب في سياق علاقات العمل والجندر على مستوى واقعنا المحلي، والتوقف أمام أوجه التشابه والاختلاف. فمع تركيز الكتاب على المجتمع الأمريكي وتقديمه أمثلة من دول أوروبا الغربية، من الملاحظ أنه يتجاهل تجربة الدول الاشتراكية وما حققته من مكاسب للنساء العاملات ، وهي المكاسب التي تبنتها قوانين العمل في كثير من دول العالم وتسعى النقابات إلى الحفاظ عليها بل وفرضها حتى في أمريكا حاليًا، رغم ما تواجهه من صعوبات مع تفشي مبادئ الرأسمالية القائمة على تحقيق أكبر قدر من الربح بأقل تكلفة. ويؤكد الكتاب في متنه وختامه على أهمية دور الحكومات في سن القوانين والتشريعات التي تضمن المساواة بين الجنسين في ظروف العمل والأجر، مع رفض الكتاب لجميع المقولات التي يتم سوقها لتبرير التمييز بين الرجال والنساء على أساس الجنس، مع تأكيد المؤلفتين أيرين بادافيتش وباربرا ريسكين على أن من حق النساء التمتع بالتسهيلات كافة للقيام بمسئولياتهن الوظيفية والأسرية دون أن ينعكس ذلك بالسلب على أجورهن وفرصهن في الحصول على العمل والترقي فيه، ودون أن يؤثر في نصيبهن من التأمينات والمعاشات. كما أنه من المهم التأكيد على أن الأمومة ليست مسألة شخصية بل هي مسئولية جماعية، وبالتالي لا يجوز عقاب النساء العاملات وظيفيًا بسبب تفرغهن لرعاية أبنائهن وقيامهن بالأعمال الأسرية التي قد تفوق في أهميتها الأعمال الوظيفية في حاضر ومستقبل المجتمع. وكما رأينا في الكتاب فإن النموذج الأمريكي هو أبعد ما يكون عن النموذج العادل في تطبيق وتقنين علاقات العمل بين الرجال والنساء. وبالتالي لابد من مقاومة كل محاولات فرض ذلك النموذج على مستوى العالم وفي مجتمعنا، حيث إنه نموذج لا يضع اعتبارًا للجوانب الإنسانية ويقوم على التمييز تبعًا لقيم الربحية وتحقيق مكاسب رأسمالية على حساب الأفراد وخاصة النساء.
هالة كمال:مدرسة بكلية الآداب، جامعة القاهرة، عضوه بمؤسسة المرأة والذاكرة، وباحثة مهتمة بدراسات الجندر.
(*)Irene Padavic and Barbara Reskin, Women and Men at Work (Thousand Oaks. London and New Delhi: Pine Forge Press, 2002).