كلما اقتربنا بأيامنا نحو فصل الشتاء نستشعر خطرًا ما يتربص بنا، ويكمن في تصريحات يدلي بها المسئولون على استحياء حول انفلونزا الطيور، وما بين التصريح بوجود الفيروس القاتل دون تحديد مكان وما بين النفي القاطع لوجوده تختفي الحقائق الكثيرة إلا حقيقة واحدة أكدتها خبرتنا مع الفيروس الذي دخل بلادنا في أواخر الشتاء الماضي، تلك الحقيقة التي تقول إن النساء هن من يدفع الثمن الأكثر فداحة للأوبئة والحروب والأمراض والفقر.

تسجل الأرقام، والأرقام لا تعرف الكذب، أن الوباء الذي قضى على ثرواتنا الداجنة حصد معه أرواح وأعمار ستة نساء من بين أربع عشرة حالة إصابة بأنفلونزا الطيور أصابت البشر العام الماضي في مصر وانتقلت من الطيور إليهم. وللمفارقة أن الحالة السابعة عشرة التي سجلت أول إصابة في هذا العام ٢٠٠٦ في شهر أكتوبر الماضي كانت لامرأة هي: حنان أبو المجد البالغة من العمر 39 سنة، وهي ممرضة من مدينة سمنود من محافظة الغربية انتقل إليها الفيروس من طيورها التي تربيها في بيتها، ومن مستشفى صدر المحلة تم نقلها إلى مستشفى حميات العباسية حتى لفظت أنفاسها الأخيرة يوم 30 أكتوبر الماضي.

الفقيرات يحتضن دجاجاتهن حتى لو كانت مريضة

وتتوالى الإصابات فتصيب أسماء محمد إسماعيل البالغة من العمر ٢٣ سنة وهي من إحدى قرى بمحافظة الغربية، ثم شمعة عبد المعطي وهي الحالة الرابعة على مستوى محافظة الغربية وللعلم لم يلتفت أحد من المسئولين لإصابة النساء بالمرض في محافظات محددة بمعدلات أعلى من غيرها من المحافظات، ثم تظهر حالة في نجع الشيخ حمد مركز سوهاج تبلغ من العمر ٢٥ سنة، وهي امرأة أيضًا اسمها فوزية وزيري عبد الحافظ. وبالضرورة عندما يمر الكلام سواء كان رسميًا أو غير رسمى أو يقترب من انفلونزا الطيور لابد وأن تتطلع عيوننا لنساء بلادنا الفقيرات اللواتي يعشن مع طيورهن كما لو كانت الطيور بعض أفراد عائلتهن، ولم لا فالطيور في ريف مصر وقراها ونجوعها وأحيائها الشعبية الفقيرة هي وفي أحيان كثيرة هي مصدر الدخل الذي يكاد يكون وحيدًا، كما أن تربية الطيور تمثل 40% من دخل الأسرة الريفية، وتمثل ما لا يقل عن 80% من دخل بعض الأسر الأخرى التي لا تملك أراض زراعية أو مواشي ولا يعمل أحد أفرادها في الحكومة أو أي عمل بدخل ثابت.

وإذا كانت الأرقام تتحدث بلغة جامدة فالواقع يقدم التفاصيل، وتقسيم العمل التقليدي والتاريخي حدد الآتي: الرجال ومعهم النساء والأطفال يعملون في الحقول، أما تربية الطيور فهي عمل نسائي من ألفه إلى الياء، فالنساء هن اللواتي يخالطن الطيور منذ إشراقة الشمس الأولى وحتى رحيلها ورحيل آخر شعاع فيها، هن من ينظفن الحظائر والعشش، وهن يقدمن الطعام، وهن من يعرفن مواعيد البيض والفقس، وهن من يعرفن جيدًا أن البيضة والفرخة هي الستر في البيت، فهي الطعام وهي النقود عندما تنعدم النقود ويقل الرزق. لذا كان من المنطقي أن تكون النساء هن أول من يصاب بأنفلونزا الطيور، أعلنت وزارة الصحة المصرية في 8 مارس الماضي وفاة آمال محمد إسماعيلالبالغة من العمر 30 عامًا والتي كانت تعيش في قرية النواب بمحافظة القليوبية مسجلة بذلك أول حالة وفاة جراء إصابتها بفيروس أنفلوانزا الطيور الذي انتقل لآمال إثر إصابة بعض دواجنها التي كانت تربيها في بيتها، وتخالطهما، وبعد الإعلان عن وفاة الحالة الأولى انطلقت التصريحات والتفسيرات ممن يمكن أن نطلق عليهم أيديهم في الماء الباردةفمن فسر موت الضحية الأولى بالجهل لمخالطتها الطيور رغم التحذير من المرض، ومن قال إنه الاستهزاء بالخطر، ومن قال إنها فقدان الثقة فيما تدعيه الحكومة بوجود المرض ولم يقل أحد إن الضحية لم تستطع ولم تجرؤ على التخلص من طيورها، والتي تمثل بالنسبة لها أمانًا ماديًا، وإلا بماذا نفسر إخفاء واحدة من الضحايا لدواجنها أسفل سرير نومها خوفًا من هجوم الحكومة عليها وانتزاع الدواجن من بين أيديها ، فقد قامت زينب محمود البالغة من العمر 75 سنة، المقيمة في قرية اليهو مركز سوهاج بمحافظة سمالوط بمحافظة المنيا بإخفاء الدجاج أسفل سريرها وهي تعيش معه وتحميه من الموت أو المصادرة على أيدي رجال الحكومة، وتنتقل للعالم الآخر بعد عدة أيام من إصابتها. وطفلة دار السلام بمحافظة سوهاج، والتي لم تكن تعرف سوى اللعب مع دواجن أمها في أرجاء دارهم في القرية، لم تنج بعمرها الذي لم يتجاوز العامين ويحصد هذا العمر الفيروس القاتل كما حصد عمر إيمان عبد الجواد التي لم تتجاوز الستة عشر عامًا من عمرها، والتي لم تجد العلاج اللازم والسريع بمستشفى حميات شبين الكوم فتمكن منها المرض وماتت في مستشفى حميات العباسية.

حرق الطيور وحرق القلوب

وتتوالى الضحايا وتسقط الأسماء في زحام وفوضى حيث تقرر الحكومة هدم العشش وحرق وذبح كل الطيور السليمة والمصابة وتغريم كل من يضبط عنده عشة طيور أو طيور حية بدفع مبلغ عشرة آلاف جنيه، ومن الرعب الذي صاحب القرارات الحكومية كان التخبط وسقوط الضحايا، فالحكومة وجهاتها المعنية وهي في الأساس وزارتا الصحة والزراعة لم يقدما أي توعية للمواطنين بطبيعة المرض وكيفية التعامل معه، الأمر الذي دفع صغار المربيات الإبقاء على دواجنهن حية خاصة أن تربية الدواجن داخل البيوت المصرية وفوق أسطحها مسألة تاريخية ومنتشرة منذ عشرات القرون، وهي كما سبق وذكرنا – أي الطيور مصدر رزق أساسي في بلادنا، والتضحية بها وفقدها هو فقد عزيز وصعب كما تقول عطيات عبد اللهمن الحكر البحري في التبين بحلوان: “الفراخ روح البيت لأن اللحمة غالية العيشة كلها غالية، وأنا خفت لما عرفت إن فيه ستات ماتت بعد دبح الفراخ لما سمعوا أن الحكومة لن تدفع تعويضات عن دجاجاتهن. ومن المنطق نفسه تقول واحدة من النساء أنا جوزی مات وسيبلي سبع عيال بصرف عليهم، وكان عندي سبع فرخات بياضة، كنا بناكل البيض ونبيعه والفرخة اللي تقطع ندبحها أو نبيعها، بس لما قالوا إن الحكومة حتغرمنا عشرة آلاف جنيه لو لقيت عندنا فراخ دبحتهم“.

لقد ذبحت سعدية توفيقطيورها وفقدت مصدر رزقها من بيع بيضها فهي مثل كل النساء الريفيات الفقيرات لا يقدرن على شراء اللحوم الحمراء، ولكنها صدقت كلام الحكومة وصدقت أن الحكومة سوف تعوضهن عما فقدنه وهذا ما تكذبه جملات محمد حسنالتي قالت: “الوحدة البيطرية استولت على الطيور كلها ولم تدفع لنا ثمنولم تعوضهن كما قالوا.

بالفعل أعلنت الجهات الرسمية أنها سوف تقوم بدفع تعويضات مادية لمربي الدواجن الذين سيقومون بتسليم طيورهم للتخلص منها ولكن الحكومة لم تقدم التعويضات لهؤلاء النساء الفقيرات مربيات الطيور في العشش، بل قدمتها لأصحاب المزارع الكبيرة.

إذن دفعت النساء ثمن أنفلونزا الطيور مرات عدة، بسقوط ضحايا من النساء فقط وبحرمان أخريات من مصدر رزقهن الوحيد دون تعويض حتى بعد ما أصابهن من ترويع ومداهمة لبيوتهن وهدم لعششهن وقتل لطيورهن.

ثمن مضاعف

إذن وكما تقول فريدة النقاشرئيسة مجلس إدارة ملتقى هيئات تنمية المرأة: “إن النساء يدفعن الثمن الأكبر للكوارث، واستندت إلى ما قاله الزعيم الاشتراكي لينين في حديثه عن تحرير النساء: النساء توفر في كل شيء عدا صحتهن، وهذا يعني أن فكرة الأمومة في حد ذاتها هي فكرة مبنية على تضحية النساء من أجل أبنائهن، ولذلك هن آخر من يأكل، وآخر من ينفق، وآخر من ينام. وعليهن تدبر ميزانية الأسرة: وحتى نعرف أن النساء في الأسر الشعبية والأسر المتوسطة هن اللاتي يدبرن ميزانية الأسرة حتى لو كن أميات لا يقرأن ولا يكتبن، ولكنهن مسئولات عن كل شيء، الأكل والملبس لكي يظهر الأبناء في صورة لائقة وعليهن تدبير أمورهن لتلبية كل الاحتياجات بصرف النظر عن الارتفاع المتزايد في الأسعار: وتكون النساء هن الضحية الأولى لارتفاع الأسعار، البطالة. وليس من قبيل المصادفة أن ينشأ مصطلح في عالم الاقتصاد الاجتماعي تأنيث الفقرأو كما قال كوفي عنان الجوع في العالم له وجه امرأةلأن من بين المليار و ٢٠٠ إنسان معدم هناك 900 مليون امرأة من حتى على المستوى التعليمي والصحي الأقل تدريبًا والأقل حصولاً على الرعاية الصحية، والنساء هن الأكثر مطالبة بالتضحية، ولذلك هن اللاتي يدفعن الثمن خاصة حينما تزداد البطالة ويزداد الفقر.

طبيعة الأدوار

وتستكمل هالة عبد القادر، عضوة المدير التنفيذي لمؤسسة تنمية الأسرة المصرية طبيعة الدور الملقى على عاتق النساء من عبء المنزل وتربية الطيور وبيعها في السوق، وبالتالي فالمرأة هي التي دفعت الثمن في كارثة أنفلونزا الطيور نتيجة لطبيعة الدور الملقى على عاتقها فكان عليها حماية جميع أفراد الأسرة وتأمين الأسرة وهي المتضررة الأولى. بالإضافة إلى أن النساء في المجتمع المصري آخر من يهتم بنفسه داخل هموم الأسرة والزوج والأولاد على حساب صحتها واهتمامها بنفسها.

سياسة عشوائية

بينما يقول د. شهاب عبد الحميد أمين صندوق نقابة الأطباء البيطريين إن سبب وقوع إصابات ووفيات بين النساء في كارثة أنفلونزا الطيور وسبب الخسارة الكبرى سواء لصغار المربيات أو حتى لكبار المسثمرين جاء نتيجة عدم ممارسة الحكومة لدورها الكافي وقيامها بتوعية المواطنين خاصة النساء البسيطات الريفيات حيث تنتشر التربية المنزلية للدواجن في بيوت الريفيات، وبدأت الدولة تتحرك بعد وقوع الكارثة.

ويؤكد د. شهاب أن النساء بالفعل دفعت ثمنًا مضاعفًا لهذه الكارثة سواء كانت امرأة عاملة أو نساء فقيرات قمن بمشروعات صغيرة ذكية، منهن من قبض عليهن بسبب السياسة العشوائية التي اتبعتها الدولة في معالجة كارثة أنفلونزا الطيور، أيضًا بالنسبة لكبار المستثمرين الذين اعتمدوا على العمالة النسائية، فقد لحقهم الضرر وهو ضرر من نوع آخر، ويشير د. شهاب إلى أن النساء لحق بهن الضرر على مستوى المربيات الصغيرات، أو النساء العائلات في هذا المجال أو من يعملن في الصناعات المغذية بالإضافة إلى حالات الوفاة التي كانت كلها حالات نسائية حيث كانت النساء المسئولات عن الناحية الغذائية وتربية الطيور ونظافة المنزل ولم يعرفن كيفية التعامل مع المرض فقامت الكثيرات بإخفاء دواجنهن خوفًا من ذبحها، وكانت النتيجة هي إصابة الدواجن ومن ثم انتقال المرض إليهن.

تفرقة عنصرية

أما د. خالد منتصر، أستاذ بطب قناة السويس، فيرجع أسباب وقوع النساء فريسة لهذه الكارثة الكبرى التي قضت على طموح الفقيرات وصغار المربيات وصاحبات المشروعات الصغيرة بل والعاملات في هذا المجال، إلى أن النساء كن هن المخالطات الأوائل الطيور، فالنساء المصريات هن المسئولات عن تربية الطيور، فهي جزء مهم من موارد الأسرة، أيضًا نجد حوالي ٢٠% من النساء المعيلات يعتمدن على تربية الطيور في الإنفاق على الأسرة. ويشير د. خالد إلى أنه كان هناك نوع من أنواع الحرب العشوائية في التعامل مع كارثة أنفلونزا الطيور، فكان هناك أيضًا تفرقة عنصرية بين أصحاب المزارع وبين الريفيات البسطاء اللواتي اعتمدن على الدواجن كجزء أكبر من طعام الأسرة، وتم حرمان الأسرة بشكل عشوائي، وأخذ الصالح والطالح ليؤدي إلى نوع من أنواع الربكة الخطيرة.

أيضًا استخدمت وزارتا الزراعة والصحة أسلوب التوعية من خلال إعلانات موجهة لطبقة معينة فكانت النتيجة سلبية، فالدولة تعاملت مع أنفلونزا الطيور كما تتعامل مع أي مشكلة فهي لا تحارب أو تعالج أساس المشكلة، وكان الحل هو ذبح كل الدواجن السليمة والمريضة وليس البحث في كيفية علاج المشكلة وحماية الثروة الداجنة.

ويتحدث د. خالد حول قرارات الوزارة بتعويضات أصحاب المزارع، وإغفال تعويض الأسر البسيطة والفقيرات التي كانت الطيور هذه رأس مالها في الحياة، فكانت توجهات الإعلان والتوعية هي توجهات التعويض نفسه. وفي الكوارث يتضرر كل من الرجال والنساء. ولكن من خلال الواقع الإجتماعي فإن النساء هن الأكثر تضررًا.

شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات