” لست في حاجة إلى التخلي عن أنوثتي حتى أحصل على حقي في المساواة بالرجل؟“
هذه العبارة ترددت بأكثر من صيغة في إطار حوار على شبكتي التواصل الاجتماعي “فيسبوك” و“تويتر” حول إزالة أو عدم إزالة المرأة لشعر الجسم (الزائد). العبارة ليست جديدة بالطبع. هي في الواقع أحد شعارات توجه كامل في الحركة النسوية. وبالتالي لم تجد كثيرات ممن استخدمنها للتعبير عن رفضهن للربط بين “النسوية” وبين الجدل حول إزالة شعر الجسم الزائد أي تناقض بين موقفهن هذا وبين كونهن يعرفن أنفسهن على أنهن نسويات ومدافعات عن حقوق المرأة.
يفترض بمفهوم الأنوثة أن يكون أساسيًا في التمييز بين الرجال والنساء نتيجة كونه يرتبط بالاختلاف البيولوجي بين الجنسين. وهذا ما يفسر عدم حاجة النساء إلى التخلي عنه لتحقيق المساواة بالرجال. فالمساواة لا تعني أن تتحول النساء إلى رجال. ولكن استخدام هذا التفسير عندما يتعلق الأمر بإزالة شعر الجسم الزائد يواجه إشكالية بسيطة. شعر الجسم في الحقيقة ليس زائدًا. هو نتيجة عادية لطبيعة الأنثى البيولوجية. أن تكوني أنثى فإن هذا يعني أن ينمو الشعر في مناطق مختلفة من جسدك، تمامًا كما هو الحال مع الرجل وإن كان ذلك بكثافة مختلفة عادة. في الواقع يمكن القول بأن شعر الجسم لا دخل له مطلقًا في التمييز البيولوجي بين الذكر والأنثى فهو ينمو على أجساد أفراد الجنس البشري كله بكثافة متغيرة ولا يوجد حتى خط فاصل بين الجنسين في كثافة شعر الجسم تقع كل الإناث على أحد جانبيه بينما يقع كل الذكور على الجانب الآخر منه.
اعتبار الشعر النامي في مناطق معينة من جسم المرأة زائدًا هو بالتأكيد تصور اجتماعي، وإزالة هذا الشعر هي مجرد ممارسة اجتماعية معتادة في بعض المجتمعات أكثر من غيرها وفي حالات كثيرة دون غيرها. ارتباط كل من التصور والممارسة الاجتماعيين بالأنوثة هو في حد ذاته مجرد تصور اجتماعي آخر. وهو في الواقع يكشف تناقضًا داخليًا في مفهوم الأنوثة نفسه، كما أنه يكشف تناقضًا داخليًا يفترض به أن يكون واضحًا في العبارة التي بدأنا منها؛ لا يمكن اعتبار أي ممارسة اجتماعية ضرورية لتحقيق المرأة لأنوثتها إن كانت هذه الأنوثة حقيقة بيولوجية، ومن جانب آخر إن كانت الأنوثة حقيقة بيولوجية فلا مجال أصلاً لتخلي أي امرأة عنها. وبعبارة أخرى إن صدقنا أن الأنوثة حقيقة بيولوجية أو أنها نتيجة ضرورية لحقيقة بيولوجية فإن تلك العبارة لا معنى لها على الإطلاق. وبالعكس لا يكون لهذه العبارة قيمة عملية إلا إذا سلمنا بأن الأنوثة ذاتها هي مجرد مفهوم اجتماعي وليست حقيقة بيولوجية أو نتيجة ضرورية لحقيقة بيولوجية.
يبدو من المزعج تصور أن الأنوثة ليست حقيقة بيولوجية. في نهاية المطاف ثمة فوارق بيولوجية واضحة وحاسمة بين إناث الجنس البشري وذكوره. هناك أولاً الفارق الجيني. تحمل إناث الجنس البشري كروموسوم XX في حين يحمل ذكوره كروموسوم XY. هناك الفوارق المادية والفسيولوجية بين الجهازين التناسليين للجنسين بأجزائهما الخارجية والداخلية، وهناك الفوارق بين الغدد والهرمونات التي تفرزها, بخلاف الفوارق الظاهرة الثانوية (عظام الإناث الأقل كثافة، تجمع الدهون في مناطق معينة من أجساد النساء بخلاف الرجال, اختلاف تركيب الحنجرة مما يمنح الرجال صوتًا أعمق أو أغلظ، الخ). الدليل البيولوجي كبير فيما يبدو. ولكن به عدة مشاكل بسيطة أولها عدم التجانس. فالمجموعات المختلفة من الخصائص المذكورة لا تجتمع مع بعضها البعض بشكل دائم. هناك تفاوت دائمًا بين تمتع كل فرد من أفراد الجنس البشري ببعض الخصائص أكثر من غيرها وأحيانًا دون غيرها. ولكن هناك ثانيًا مشكلة أكبر. ليس أي من هذه الخصائص حاسمًا في ثنائيته, أي في كونه يشتمل فقط على خصائص للأنثى وأخرى للذكر. فحتى على مستوى المجموع الجيني لا يحمل كل أفراد الجنس البشري كروموسومات XX أو XY فقط, ثمة في الواقع تنويعات أخرى. المزعج أنه من المستحيل تحديد النسبة الإحصائية لهذه التنويعات مقارنة بالتنويعين المفترض تمييزهما للإناث والذكور بشكل حاسم. لم يحدث مطلقًا أن أجري اختبار لتحديد ما يحمله جميع البشر من كروموسومات، والعينة التي أجري لها هذا الاختبار لأسباب مختلفة هي أصغر كثيراً من أن تكون ممثلة لكل البشر، والتنوع فيها كان كبيرًا بشكل مزعج! بقية الخصائص المميزة ليست أفضل حظًا. نسبة كبيرة (لا تقل عن 10 – 15%) من البشر يولدون بأعضاء تناسلية داخلية وخارجية أو أيهما غير حاسمة في تحديد جنسهم. كما أن ثمة تنوعًا كبيرًا في عمل الغدد وإفرازها للهرمونات من عدمه وكمية هذه الهرمونات وقابلية الجسد للاستجابة لها. الخصائص الثانوية بالطبع لا تحتاج إلى توضيح مدى تنوعها وافتقادها في حالات كثيرة إلى الحسم. في الواقع لو أننا لم نفرض مطالبتنا لأجساد البشر بأن تكون حاسمة في تحديد انتماء كل فرد إلى أحد الجنسين فإن هذه الأجساد لا تقدم لنا مجموعتين متباينتين بشكل قاطع وصريح وإنما تقدم تنوعًا مستمرًا وغير متجانس من الخصائص المختلفة التي يتنوع كل منها في درجته وتتركب مع بعضها بعضًا في عدد لا نهائي من التنويعات!
غياب الحسم البيولوجي أحيانًا، وضعفه بدرجات مختلفة في كثير إن لم يكن في أغلب الأحيان، ربما يكون أحد مصادر الممارسات الاجتماعية التي تسعى لاستكمال الناقص بيولوجيا بهدف تحقيق تمايز أكثر حسمًا بين الإناث والذكور. هذا التمايز الحاسم ليس حاجة أو ضرورة بيولوجية بالطبع. فالفوضى البيولوجية للجنس البشري لا تحول مطلقًا دون استمراره من خلال التكاثر الجنسي، التي يفترض أنها الضرورة المنتجة للتمايز بين الجنسين في الأساس. التمايز الحاسم هو ضرورة اجتماعية ليس الهدف منها هو حفظ النوع بل حفظ منظومة اجتماعية بعينها. بعبارة أخرى التمايز الحاسم هو ضرورة لاستمرارية المجتمع الذكوري. فيشكل تبسيطي تمامًا لا مجال لاستمرار بناء مجتمع على أساس تفوق الذكور على الإناث إن لم يكن التمايز بينهما حاسمًا وواضحًا. البيولوجيا لا تقدم أكثر من تمايز غير حاسم هو في أفضل الحالات مجرد ميل إحصائي لإنتاج غالبية من الأفراد لهم القدرة على أداء أحد الدورين المطلوبين لإتمام عملية التكاثر الجنسي. هذا التمايز لا يكفي وحده لبناء مجتمع يتفوق فيه أحد الطرفين على الآخر ويخضعه لإرادته وإنما يسمح في ظل ظروف مادية بدائية بميزة نسبية لعدد من الأفراد الذين لا يثقلهم الحمل والرضاعة المستمرين طيلة الوقت تقريبًا والذين لا يتعرضون للمخاطر الناجمة عن الولادة المتكررة. هذه الميزة النسبية التي توافرت في ظل ظروف بدائية في فجر ظهور الجماعات البشرية (أو أسلافها على الأرجح) هي الإسهام الوحيد للبيولوجيا في إنتاج المجتمع الذكوري. كل ما عدا ذلك ينتمي إلى مئات الآلاف من السنين من التطور الاجتماعي للبشر.
قد لا يكون ما سبق كافيًا لإقناع الكثيرين أو الكثيرات بأن الأنوثة والذكورة هما مجرد بنائین اجتماعيين؛ “لابد أن ثمة أساسًا أعمق لهما في طبيعتنا البشرية” ستقول إحداهن, “في نهاية المطاف نحن لسنا مجرد ماكينات بيولوجية“. ستشير صاحبة مقولة كهذه ومعها كثيرات إلى حقيقة أن لهن مشاعر واضحة نابعة من داخلهن وليست مفروضة عليهن من خارجهن تتعلق بما يحببن أن يكن عليه. بعبارة أخرى قد تحدد مفاهيم اجتماعية مواصفات سائدة للأنوثة والجمال، ولكن اعتزاز المرأة بأنوثتها ورغبتها في أن تكون جميلة تبدوان نابعتين من داخلها كمشاعر وتفضيلات نفسية أصيلة ترتبط بذاتها كما تعرفها. ربما لا تكون الأنوثة والذكورة ظاهرتين بيولوجيتين بشكل حاسم لكنهما ظاهرتان نفسيتان في الأساس, وهو مالا يجعلهما أقل ارتباطًا بطبيعتنا البشرية على أية حال.
لا يحمل علم النفس أنباءً مشجعة لأصحاب هذا التصور. صحيح أن تعريفنا لأنفسنا كإناث أو كذكور هو جزء أساسي من تكويننا النفسي, وهو يبدأ في التشكل بطريقة حاسمة في وقت مبكر جدًا في حياتنا، ربما في الأسابيع الأولى منها، ولكن الكلمة المحورية في هذه العبارة هي “التشكل“. نفسيًا لا يولد أي منا ذكرًا أو أنثى, بغض النظر عن تركيبه البيولوجي. التعرف على الذات، أو تكوُّن الذات (هما عملیتان متداخلتان, فذواتنا تتشكل من خلال تعرفنا عليها) هو عملية تبدأ بعد ميلادنا، وفي حين يتشكل الجزء الأهم من جهازنا النفسي في وقت مبكر فإن عملية تشكله لا تتم إلا بوفاتنا. الإسهام البيولوجي في تشكيل جهاز كل منا النفسي يتلخص في إتاحة جهاز عصبي معقد يتيح إمكانيات واسعة تسمح لنا بأن نكون مختلفين بشكل جذري عن أقرب أبناء عمومتنا من القردة العليا. بخلاف ذلك فإن خبراتنا الجسدية لها أهمية كبيرة في تشكيل ذواتنا، وفيما يتعلق بالتمايز النفسي بين الذكور والإناث فإن الخصائص الجسدية الظاهرة هي أحد مرتكزات تعرُّف وتعرِّيف أي منا لنفسه كمختلف عن الآخر ذو الخصائص الجسدية المختلفة. ترجمة ذلك إلى تعريف أي منا لنفسه أو نفسها على أنه ذكر أو أنها أنثى وما يستتبعه ذلك من اكتسابه لصفات نفسية محددة تتعلق بنوعه الاجتماعي (ولد/ بنت, رجل/ امرأة), تأتي بشكل كامل من محيطه الاجتماعي. المحيط الاجتماعي الأهم في هذه الحالة هو الأسرة، وبعبارة أدق ما يمثله ثالوث فرويد الشهير “الأم، الابن, والأب” من أهمية كبيرة في تشكيل ذواتنا في المرحلة المبكرة من طفولتنا.
ما يفعله علم النفس إذاً هو العودة بنا إلى الاجتماعي. نحن فقط منتجات اجتماعية، بما في ذلك التفاصيل الأدق والأعمق لذواتنا حيث تنبع مشاعرنا وميولنا وصفاتنا النفسية الأساسية. يلقي ذلك ظلالاً ثقيلة من الشك علي مفهومنا عن حرية الإرادة وقدرتنا على الاختيار، وهما يمثلان الركن الأساسي في تصورنا لأنفسنا كذوات فاعلة في محيطنا. يبدو الأمر وكأن تحررنا من الحتمية المادية المتمثلة في أن نكون مجرد ماكينات بيولوجية/ كيميائية يقابله السقوط في أسر حتمية اجتماعية تجعل منا عبيدًا للعادات وللمفاهيم السائدة في مجتمعاتنا لا أمل في تحررهم. ولكن الصورة ليست قاتمة إلى هذا الحد. صحيح أن تصورنا لأنفسنا ككائنات تتمتع بحرية اختيار كاملة مستقلة عن أي خطاب اجتماعي هي مجرد وهم، ولكن استعباد الخطابات الاجتماعية السائدة لنا بشكل كامل هو أيضًا وهمي, وهذا أمر يمكن استنتاجه ببساطة من حقيقة تاريخية واضحة. المجتمعات تتغير عبر تاريخها وتتبادل الخطابات السائدة فيها مواقعها ومعها تتبدل العادات والمفاهيم الأكثر شيوعًا. الخطابات السائدة نفسها تتغير ومعها الممارسات والمفاهيم التي تشكل ذواتنا. الأوضح أن أيًا منا ليس نسخة مطابقة للآخر حتى وإن نشأنا في سياق ذات الخطابات السائدة في مجتمع واحد.
السبب في ذلك يكمن في طريقة عمل الخطاب الاجتماعي، فهو أولاً يشكل ذواتنا من خلال صناعة مثال وهمي نسعى للتمثل به. في تركيب جهازنا النفسي يتعلق هذا بما يسمى “الأنا الأعلى super ego”, ولكن التمثل الكامل بهذا المثال مستحيل. من جانب آخر لا يخضع أي منا لخطاب اجتماعي واحد طيلة الوقت, ثمة أكثر من خطاب اجتماعي يتنازعون تشكيل ذواتنا. هذه الخطابات وممارستها ومفاهيمها تختلف عن بعضها البعض وتنشئ فينا تناقضات مختلفة. بمعنى آخر تمنحنا بدائل ليس فقط للاختيار بينها وإنما للتركيب والتعديل أيضًا. وهذه هي المساحة التي تسمح بتحفيز قدرتنا على الخيال والإبداع، ومن ثم أن نكون فاعلين في تعديل ممارساتنا ومفاهيمنا إلى حد تعديل الخطابات الاجتماعية القائمة بل وخلق خطابات جديدة. هذا على وجه التحديد هو ما يفسر تطورنا الاجتماعي كبشر. فنحن صنيعة الخطابات الاجتماعية ونحن أيضًا صناعها.
هل يعني كون ذواتنا صنيعة خطابات اجتماعية أنها وهمية أو زائفة؟ السؤال هو: مقارنة بماذا؟ إذا لم يكن ثمة ما يمدنا بهذه الذوات بخلاف الخطابات الاجتماعية, وبمعنى أوضح إذا لم يكن لنا كذوات بشرية فاعلة وجود سابق على أي سياق اجتماعي وخارج خطاباته فليس ثمة حقيقي وصحيح يمكن قياس الوهمي والزائف عليه. وهذا يعني أن ذواتنا كما نعرفها هي حقيقية بقدر ما يمكن لأي شيء أن يكون حقيقيًا في عالمنا. ما يتغير عندما ننظر إلى الأمور من خلال الافتراضات النظرية التي طرحتها سابقًا ليس الحكم على ذواتنا بالوهمية أو الزيف وإنما مفهوم الحقيقة ذاته. فالحقيقة بدورها لا تقع خارج أي سياق اجتماعي، وهي بذلك ليست وجودًا مستقلاً ثابتًا يمكننا أن نستخدمه للحكم على الخطابات الاجتماعية وما تتألف منه أو تنتجه. الحقيقة متغير تنتجه الخطابات الاجتماعية وتتصارع حول فرض صور مختلفة له.
النسوية كخطاب اجتماعي لا تختلف عن غيرها في سعيها لفرض تصور للحقيقة مختلف عن ذلك الذي تفرضه الخطابات الاجتماعية السائدة. المشكلة أنه بالنسبة لأي خطاب تحرري يعد التسويق لنسخة مختلفة من الحقيقة بدلاً من تحريرها, سقوطًا في فخ إعادة إنتاج الخطابات الاجتماعية السائدة التي لا سبيل إلى التحرر إلا بإسقاطها! هذا التناقض الداخلي الكامن في جميع الخطابات التحررية ربما يفسر عدم تحقيق أي منها لنصر حاسم طوال عقود من النضال. فبينما ينشأ كل خطاب تحرري كسعي لتحرير ذات جماعية (هوية) من القمع الواقع عليها والتمييز السائد ضدها يظل وجوده في حد ذاته مرتبطًا بوجود هذه الذات الجماعية (المرأة، الملون الطبقة العاملة، إنسان العالم الثالث، الخ). ومن ثم يتشارك الخطاب التحرري مع الخطاب النقيض له في أن كليهما يسعى بحماس كبير إلى تأكيد جوهرية التمايز الأساسي بين الذات المقموع والآخر القامع مقارنة بأي مظهر آخر للاختلاف والتعددية.
ربما يكمن البديل التحرري في تأكيد اختلاف وتعددية أوسع وأعمق من أي تمايز ثنائي. وهو ما يعني أننا كبشر نملك إمكانية لا محدودة للتنوع بحيث لا يصبح لتصنيفات حادة وشمولية مثل أنثى/ ذكر امرأة رجل, أبيض/ أسود، إلخ أي قيمة واقعية أو أثر ضروري على الطريقة التي ينبني بها وجودنا الاجتماعي. الوصول لهذا البديل لا يمكن تحقيقه من خلال إعادة تشكيل الحقيقة السائدة عن كل هوية تتعرض للقمع لتأكيد أحقيتها في المساواة بالهوية القامعة لها، فثنائية القامع والمقموع في حد ذاتها ينشئها التمايز الجوهري المفترض بين هويتهما. وبالتالي فالبديل التحرري يعتمد على تفكيك كلا الهويتين لصالح تعددية لا محدودة لا تسمح بأي تمايز يبرر السلطة أو القمع.
من السذاجة تصور أن مسارًا جذريًا يضع كل هوية موضع التساؤل بهدف تفكيكها هو مسار يسهل اتخاذه عمليًا. وفي مثالنا الذي بدأنا به حديثنا لا يتمثل المسار التحرري ببساطة في نفي الشعار ليصبح على النساء أن يتخلين عن أنوثتهن للحصول على حقهن في المساواة. ففرض التخلي عن ممارسات ومفاهيم بعينها يتناقض مع أي فهم للحرية بنفس القدر الذي يتناقض معه الفرض القسري لهذه الممارسات والمفاهيم، كما أن المساواة في ذاتها كما أوضحنا ليست هي الهدف كونها لا تُتَصور إلا بين طرفين مختلفين بشكل جوهري ومن ثم يستحيل تحقيقها. كسبيل ثالث إذًا لا ينبغي استبدال شعار بنقيضه بقدر ما ينبغي علينا تفكيك الشعار بما يكفي لإفقاده أي معنى له. وفيما يتعلق بأي ممارسة اجتماعية لا يمكن الاكتفاء بمجرد الترويج للتخلي عنها كتعبير عن تحدي الصورة النمطية السائدة للمرأة وأنوثتها، فليس الهدف هو تحرير مفهوم المرأة أو الأنوثة من ارتباطهما بممارسات اجتماعية بعينها وإنما العكس هو الصحيح. المطلوب تحرير الممارسات الاجتماعية من ارتباطها بمفهوم المرأة أو الأنوثة بشكل حصري. هذا التحرير لا يتحقق بمجرد القول بأن التمسك بممارسة اجتماعية مثل إزالة شعر الجسم الزائد اختياري. هذا ببساطة يتجاهل حقيقة أن خياراتنا ليست حرة تمامًا وأنها في معظم الوقت تعبير عما تمثلناه في ذواتنا من تفضيلات تعيد إنتاجها وفق ثنائية الأنثى/ الذكر. البديل عن ذلك هو أن نستخدم نقاشنا حتى لأبسط الممارسات وأكثرها اعتيادية كفرصة لوضعها موضع التساؤل وبالتالي لجعل خياراتنا الحرة وعلاقتها بالخطابات الاجتماعية السائدة مجالاً مفتوحًا للنقاش
في المحصلة يتعلق أي مسار تحرري بطرح الأسئلة لا تقديم الإجابات, بكشف التناقضات وليس حلها، بفتح أفق غير محدود للتنوع والاختلاف وليس بمحاولة فرض حقيقة أحادية بديلة. وفي حين يمكننا أن نؤكد أنه لتجنب أن تبتلع النسوية بشكل كامل ويتم تمثلها من قبل الخطابات السائدة للسلطة الذكورية لتصبح مجرد خطاب هامشي خادم لها, فإن عليها أن تتمسك بدورها كخطاب تحرري وجذري، فإن ما يعنيه ذلك للنسوية كحركة وكمجال بحث نظري، يبقى بدوره سؤالاً مفتوحًا ليس الهدف هو التوصل إلى إجابة حاسمة له بقدر ما إن الهدف هو إعادة طرح السؤال مرة تلو أخرى.