النسوية والتدوين في الفضاء الافتراضي/ الإنترنت
داليا عبد الحميد*– نيفين عبيد**
«إن كل ما تحتاج إليه النساء لفعل الكتابة غرفة تخص المرء ودخل منتظم»
فرجينيا وولف
ماذا يعنى مصطلح «الفضاء النسوي» Cyberfeminism
«الفضاء النسوى» Cyberfeminism، هو مصطلح حديث يعني بكل ما يخص نظرية النسوية على الإنترنت ويتعلق بتكنولوجيا المعلومات. وهو مصطلح يمزج بين شبكة المعلومات الإنترنت والنسوية بكل ما تعنيه بالدفاع عن كل الحقوق المتنوعة للنساء، بدأ المصطلح في الانتشار والتداول منذ العام 1991 بمبادرة عدد من الفتيات الشابات اللاتي من بتصميم صفحات خاصة على شبكة المعلومات تستهدف تحديدًا المسألة النسوية، ومن ثم جرى تقويم هذه المبادرات في مؤتمر انعقد في استراليا في العام نفسه كان معنيا بالبحث في تحديث تكنولوجيا المعلومات، وقد خصص جزءًا كبيرًا من أعماله في تقويم وتأصيل هذه لظاهرة الجديدة، والتوصل إلى ميثاق يحدد المبادئ الواجب مراعاتها في التعامل مع العلاقة لنسوية بالإنترنت أو ما بات يعرف من وقتها بـ «الفضاء النسوى».
وبرغم تأخر ظهور وانتشار هذه الظاهرة في العالم العربي، فإنه يمكن الآن رصد العديد من المواقع والصفحات الخاصة والمدونات التي صممتها وتشارك تفعاليا بها عدد غير قليل من النساء العربيات والمصريات خاصة.
وتكشف تلك النوافذ الإليكترونية عن تنوع واسع المدى والأفق للخطابات النسوية التي تدل على التطلع الأصيل للنساء في انتزاع حق التعبير الحر وممارسته بأفق مفتوح، بعيدًا من سطوة التحفظات التقليدية وأسر التمييز الذكوري التسلطي ورهبة الحذر والحيطة التنميطية، وهي، في مجملها، ظاهرة ايجابية وجديرة بالدراسة والبحث ليس فقط في إطار انعكاساتها المباشرة على قضايا الدفاع عن حقوق المرأة، وبخاصة حقوقها المهدرة والمحتجزة للتعبير الحر، وإنما أيضًا في إطار انعكاسات وتداعيات ظاهرة «الفضاء النسوى» هذه على التغيير المجتمعي البطيء الذي يعتمل في أعماق بلداننا.
قدمت تكنولوجيا المعلومات آفاقًا واسعة من التفاعل مع النصوص الاليكترونية، فكما حققت الكتابة نقلة للنص الشفاهي من الارتجال والاختزال إلى التنسيق والتوثيق(1) فقد أخذت تكنولوجيا المعلومات خطوات أبعد نحو كسر قدسية النص من كونه غير معرض للمساس إلى إتاحة فرصة أبداع نص جديد ولا نهائي من الأصل (2)، عن طريق إضافة تعليق جديد (comment)، بالتالى سمحت بتراكم الأفكار وتواليها، كما أتاحت الفرصة لصور مستحدثة وغير مسبوقة للتعامل مع النص بإضافة الصورة والصوت والعلامات التعبيرية (3). ولا يقتصر تطوير النص على المضمون فقط، بل أتاحت التكنولوجيا فرصة لتطوير الشكل أيضًا عن طريق اختيار الخطوط وألوانها والتنوع في اللغة أيضا، إضافة لإمكانية دمج وصلات إليكترونية بكل ما تعنيه وتحتويه من أفكار ودلالات دون عناء النقل والتوثيق المعتاد.
وبالتالي خلقت تكنولوجيا المعلومات، بإمكاناتها التقنية، تفاعلاً كان مفقودًا بين المتلقى مع النص المكتوب، واستحدثت نوعية تواصل لا يسمح بها النص الشفاهي أو المكتوب، وقد نال الخطاب النسوى من منافع تكنولوجيا المعلومات قسطًا وافرًا، فلم يعد التفكير النسوى بعيدًا عن التناول والنقاش من مؤيديه أو معارضيه، كما لم يعد حكرًا على أهل الاختصاص، فقد تناولته عديد من الصفحات الشخصية (المدونات) وغيرها من المواقع بأطيافها المختلفة دون حيطة، واقتحمت أسوار ومعاقل المحميات المغيبة او المسكوت عنها، فعلى سبيل المثال لدينا من المدونات والمواقع ما قدم نصوصًا تفاعلية عديدةً بدايةً من حق النساء في الصحة الجنسية وصولاً لدعم حقوق المثليات، وما بينهما.
اختلفت الآراء حول المكاسب التي حققتها التكنولوجيا ما بين من يرى فيها عالماً طوباويًا سعيدًا بمساحات التعبير المفتوحة، ورأى آخر يعتبرها مجالاً محفوفًا بالمخاطر يهدد الهوية وصلابة العرف وينذر بانهيار قيمي لما هو سائد خاصة في المجتمعات الشرقية. وبين حجرى الرحى تقف المدافعات عن النسوية في مجتمع يترقبهن بالمرصاد ويحاسبهن عن كل ما يصدر من أفعال تخرج عن ثقافة القطيع والمعتقدات الجمعية. وفي هذا الخضم جاءت المدونات كحل سحري لهذه المعضلة، إذ أنها تتيح التسجيل بأسماء مستعارة أو وهمية وهو ما نطلق عليها المجهولية (anonymity). واختارت العديد منهن أسماء تعبيرية مثل: بنت القمر، أحلامي المبعثرة، شئون صغيرة، زبيدة، زنوبيا، بنت مصرية، بنت عادية، بنوتة، ودون جملاً تعريفية عن ذواتهن مثل:
“إن الكلام امتياز الرجال فلا تنطقى، وإن التغزل فن الرجال فلا تعشقي، وإن الكتابة بحر عميق المياه فلا تغرقي، وها أنا ذا قد عشقت كثيرًا، وها أنا ذا قد سبحت كثيرًا، وقاومت كل البحار.. ولم أغرق“
“أنا من أنا“
” أنا = أنا “
و لربما من خلال ابتداع مثل هذه الجمل التعريفية أمكن لهؤلاء الفتيات أن يؤكدن ذواتهن بعيدًا عن الوصمة التي يوشمن بها عادة نظرًا لكونهن إناثًا.
تاريخيا.. جاء ظهور الإنترنت لتداول حماية المعلومات العسكرية بإن الحروب الباردة. ولأنه من السائد أن العلوم العسكرية تعد مجالاً للذكور، فقد اقتصرت علوم التكنولوجيا والفضاء النتى على الذكور عقود طويلة ظلت خلالها النت فضاءً خاصًا بالرجال وقيم الذكورة دون غيرها. إلى أن أتيحت شبكة المعلومات للجميع وبدأت تفتح آفاقًا جديدةً من حرية التعبير الآمنة للمرأة، بعد أن كان النت مساحة افتراضية لسيطرة الذكور على التكنولوجيا وسبل الاتصال الواسعة.
1. التدوين يتحرر من قواعد الكتابة المألوفة
أتاحت المدونات فرصة حرة للكتابة دون الالتزام بقواعد الكتابة المألوفة، فلم يعد من الضروري أن تتقيد كل المدونات بالكتابة بالعربية الفصحى، حيث صيغت العديد منها بالعامية فقد ساهم الاتصال الحر في كسر جمود اللغة وتفاعلت معها التعليقات وغيرها من مستويات الاتصال المرئية والمسموعة الأخرى. وقد كشفت الكتابة الحرة عن أقلام جديدة من النساء اللاتي مثلن تجديدًا في الخطاب النسوى من حيث صك مفردات لغوية حديثة إضافة لجرأة المضمون. ونسوق هنا أغلب التدوينات المتاحة على مدونة الحرملك، بداية بالتدوين عن حق «زبيدة» في غزل الرجال، وصولاً إلى رواية حالها حين ختان ابنها وموقفها المعلن في رفض ختان الذكور. كما شاع شكل جديد من الكتابة على مستوى إرسال «التعليقات» وهي تلك اللغة التي تمتزج فيها الحروف اللاتينية ببعض الأرقام الحسابية العربية والربط بينهما في قاموس عفوى اعتاد فهم إشارته نسبة كبيرة من مرتادي الفضاء الافتراضي.
2. تفاعل حر على عدة مستويات
أتاحت المدونات بتقنياتها الحديثة إمكانية إضافة تعليق أو صوت أو صورة ممازجة أكثر تفاعلاً بين الكتابة والتكنولوجيا في الفضاء التدويني. وقد ساعدت تلك التقنيات على إيجاد وسائل اتصال فريدة بين الكاتبة والمتصفح، تسمح بالتفاعل المستمر بينهما، وتتيح المدونات من خلال خاصية التعليق فرصة للقراء أن يتحولوا من متلقيين لنص التدوين إلى مشاركين في إنمائه وتفعيل تفاصيله عن طريق كتابة ملاحظاتهم على النص بالإيجاب أو السلب وسريان حالة من دينامكية التفاعل بين المدونة والقارئ (4).
3. التدوين.. نصوص لا تعرف القدم
لا يعرف عالم التدوين القدم أو التاريخ، فبإمكان التفاعل أن يحيى نص التدوين للحوار من جديد في أي وقت فور تسجيل تعليق حديث عليها، كما يمكن لصاحبة المدونة أن تعيد نشر النص مرة أخرى وقتما يحلو لها وتسمح التقنيات بتحديث النص بكل الوسائل الممكنة. وبالتالي لا تعرف المدونات القدم بل هي نصوص دائمة الحيوية يضاف لها الجديد من التعليق والصورة والصوت وقتما شاءت الكاتبة أو المتصفح/ ة.
4. المدونات والتوثيق الإليكتروني
يعد التوثيق الإليكتروني للتدوينات آلية مهمة ليس فقط لإحياء النصوص وقتما شاءت الكاتبة أو القارئ/ة وإنما يعد سبيلاً لتقييم مادة تعكس تطور فكر الكاتبة وأحيانا تناقضه، إضافة لحفظ تنوع التعليقات، ويعد هذا التوثيق الآلى سبيلا لفهم الأحداث وتصاعد الأفكار وكشفًا للتوجهات الغالبة لصاحبة المدونة،(5) فعلى سبيل المثال قد نجد بعض التدوينات الداعمة لحقوق النساء في العمل وحرية التعبير ويتخلل بعضها تدوينات أخرى حول أهمية حجاب المرأة واعتباره فرضًا من فروض الله.
المدونات السياسية هي أولى المدونات التي خرجت إلى الفضاء الافتراضي، وربما لعب ذلك دورًا في جذب الأنظار إلى المدونات بشكل عام، ودارت العديد من المناقشات حول أهمية المدونات، وبخاصة السياسية في خلق فرص لوجود إعلام بديل بما يكسر احتكار القنوات الحكومية والجرائد للمعلومات، فالمدونون السياسيون في الغالب لهم انتماءاتهم السياسية التي تظهر من خلال تناولهم للقضايا وكشف المسكوت عنه في قضايا مثل التعذيب في السجون وحالات التحرش الجماعي أو حتى إعدام الخنازير.
ولم تكن هذه المدونات حكرًا على الرجال بل أدلت النساء بدلوهن في الشأن العام أيضًا والسياسي على وجه الخصوص. وربما كانت تجربة مدونة منال وعلاء مثالاً جيدًا لتعاون زوجين حقوقيين على استخدام التكنولوجيا في فضح ممارسات السلطة وانتهاكاتها.
وحصدت مدونة نورا يونس (6)- والتي يمكن أن تصنف ضمن المدونات السياسية– إقبالاً كبيرًا نظرًا لمصداقيتها العالية، وتقوم المدونة بالتدوين باللغتين العربية والإنجليزية، ومن خلال تدويناتها غطت أحداثًا ساخنة مثل إضراب الضرائب العقارية وإضراب عمال غزل المحلة، وقضايا التعذيب، واعتصام اللاجئين السودانيين والذي نالت عنه جائزة حقوق الإنسان الأولى، كما اشتركت في تنظيم حملات عديدة لحرية التعبير والمطالبة بإطلاق سراح المدونين المقبوض عليهم.
عادة ما تخضع وسائل الإعلام المصرية للرقابة الذاتية، حتى الوسائل المستقلة غالبًا ما تخضع لحسابات وتوازنات بعينها…، ولكن المدونات السياسية عامة قدمت نموذجًا متحررًا من الرقابة التقليدية فوفرت المعلومة حسب توجهات صاحباتها، وأطلقت لها المساحة في تقديم المعلومة مثلا تريد شكلاً ومضمونًا.
والغريب هو نجاح تلك المدونات في عكس الهوى السياسي العام للمعارضة، فقد كان لهذا الفضاء الافتراضي دورٌ كبيرٌ في تحفيز المعارضة وضم فئات جديدة لها، ومن الممكن رصد أداء المدونات السياسية إبان فترة الانتخابات الرئاسية، وقد طرحت المدونات رسومًا سياسية ساخرة إضافة إلى تدوينات تحث على التغيير، وعجت المدونات بعديد من التعليقات المطالبة بالتغيير من جميع الأطياف السياسية.
ومن المهم أن نرصد دور مدونة منال وعلاء (7) واشتراكها مع عدد من المدونات الأخرى في الدعوة إلى مظاهرات سياسية تجرى على أرض الواقع ومنها مثلا مظاهرة “كنس السيدة” والتي تبنتها عديد من الحركات الشبابية الاحتجاجية مثل حركة شباب من أجل التغيير، وتوالى دور المدونات على المستوى السياسي ومنها الدعوة لإضراب 6 أبريل وتغطية الاعتصامات والاحتجاجات النوعية الأخرى لعمال السكة الحديد أو الضرائب العقارية وغيرها.
ومن اللافت أن نلحظ أن عديدًا من المدونات التي صممتها نساء وفتيات قد اندمجت في حركات التغيير بل جاء البعض منها محرضًا رئيسيًا لها بما ساهم في كسر النمطية السائدة عن الفتيات والنساء، كونهن عاجزات عن القيام بفعل سياسي لافت أو عاجزات عن الالتحام مع قضايا الديمقراطية العامة.
وتظل المبادرات الأولى تحصد النتائج الأولى، فعلينا أن نذكر أن المدونات الأولى كانت لرجال خاصة في مجال المدونات السياسية بالتحديد، وعلى سبيل المثال مدونة «الوعى المصرى» (8) للمدون وائل عباس والتي بادرت بطرق القضايا السياسية وتبنت تغطية أنشطة كفاية، وأول ما رصد واقعة التحرش الجماعي بوسط البلد. واعتبرت مدونة الوعى المصرى أحد المصادر المهمة لقضايا الساعة التي مرت بها المعارضة في الآونة الأخيرة.
سمح الفضاء الإليكتروني بتحرير اللغة من كلاسيكياتها المألوفة كما أتاح مجالاً رحبًا للمبادرات الأدبية، والتي أبرزت عديدًا من الأقلام الجريئة طرقت موضوعات حياتية خاصة ما يتعلق بنمطية الرؤية للمرأة والنظر لها باعتبارها تلك المؤنث فاقد الأهلية، كذا بالموضوع الرئيسي للزواج والجنس. وتنوع أدب التدوينات النسوية فجاء بعض منه شعرًا کما جاء في مدونة بنت عادية جدًا (9) ونظم قصيدة شعرية بعنوان تاء ونون:
قالوا بأنى فتنة
في كل واد تستعر
قالوا بأن ملاحتي
هتك يباغت كل سر
قالوا بأن مصيبتي “أنى…”
فهل لي أن أفر؟؟؟!
قالوا بأن التاء عار
…………….
قالوا بأن النون عار
قالوا بأن الحرف إن رق استبيح بلا اختيار
إلخ
وفي مجال المقالة تناولت التدوينات قضايا شائكة عن موضوعات نسوية مثل المساواة والأحوال الشخصية..، فقد قدمت مدونة أفكار مبعثرة (10) تدوينة بعنوان العزف على أوتار المساواة والتي جاء فيها “وإذا تحدثنا عن المساواة في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة استل الغالبية سيف تمرد المرأة على الدين والتقاليد والعادات ويا ويلاه، المرأة تريد أن تتحرر وتتحلل من القيم وتتشبه بالغربيات المنحلات وليس هذا فحسب بل تريد أن تتشبه بالرجل فتريد أن ينبت لها شارب ويصبح صوتها أجش وتريد أيضًا ويا للعار من الرجل أن يحمل ويلد بدلاً عنها” “فلنترك هذه التهم المعلبة والاتهامات الجاهزة جانبًا ولنتحدث بهدوء رغبة في الوصول للطريق المفتوح وليس الوقوف في طريق مسدود“.
وهناك تدوينات تناولت القضايا النسوية باللغة العامية ومنها مدونة «قررت أكون عانس» (11) والتي تعرضت لنمطية الرؤية للنساء العوانس ونمطية الزواج الذي يكرس أدوار النساء داخل الأسرة. كمثال على ذلك ما ورد في مدونة «قررت أكون عانس».
«بس تخيلوا لو كان الزواج عائق في سبيل أهدافك وأحلامك هتعمل إيه»؟ هتقولوا لى أزاى الزواج يكون عائق؟ أنا هشرح إزاى هو عائق، أنا هتكلم من خلال المجتمع اللى أنا عايشه فيه، اللي هو مجتمع كلية الإعلام بالإضافة لتجارب ناس من حواليا، یعنی نقدر نقول أن البوست هيكتسب نظرة شخصية في معالجته“
هو ائتلاف من المدونات المهتمات بالمرأة وحقوقها وهن معنيات على الأكثر بجمع التدوينات المختلفة الداعمة لحقوق النساء كما ينسقن احتفاليات متخصصة بيوم المرأة المصرية والعالمية.. والمقصود بـ «ليلى» بطلة رواية الباب المفتوح للطيفة الزيات، وتلك المرأة التي تشعر بالقهر وتطالب بحقوقها المسلوبة وهو مصطلح متعارف عليه بين المدونين.
في أكتوبر 2008 رشحت مدونة كلنا ليلى لمسابقة أفضل مدونة عربية مهتمة بحقوق النساء. والجدير بالذكر أن مدونة «كلنا ليلي» قدمت نصوصًا نسائية مهتمة بالمساواة في أطر أدبية وتحديدًا في إطار قصصى، ومنها على سبيل المثال أنها ليلي التي تعيش بيننا ولكننا غالبا لا نراها.
«بعزم وهمة تتابعت خطوات أم باسم على طرقات حي الدرب الأحمر، بصوتها المجلجل تلقى بالتحية لوجوه تناثرت على جانبي الطريق رجالاً ونساءً. البعض يبادلها التحية والبعض الآخر يومئ بابتسامة. وجهها يحمل لونًا قمحيًا تشرب دفء الشمس، عينان سوداوان متوقدتان، وملامح متناسقة، ويحمل أيضًا صلابة وتصميم يسدلان ستارًا ناعمًا على حقيقة أنها امرأة ترى في نفسها جمالاً رغم أعوامها التي تعدت الخمسين وتخفيه وراء الصوت العالي المقتحم و الخطوات المتسارعة النشطة».
«التحية التي تلقيها كل صباح هي أكثر من مجرد تحية، فسهام أو أم باسم شخصية صاخبة ذات حضور، تجيد فن العلاقات العامة وتعلم جيدًا أن التحية والصوت المشرق المجلجل هما جزء من صورة تحرص أن ترسخها في نفوس وعقول من حولها عن نفسها، صورة بنت البلد الجدعة، سيدة يعتمد عليها وقت الحاجة. ووقت الحاجة في حي قديم ومتهالك مثل الدرب الأحمر يمكن أن يكون مصدرًا لرزق ودخل كبير، فالجميع يحتاجون من وقت لآخر إلى مهارة الحرفي الشاطر لإصلاح مختلف الأعطال وخاصة في مجال السباكة، وسهام هي أول ست في الدرب الأحمر، أول امرأة في القاهرة، أول سيدة في مصر وربما في العالم العربي تقتحم هذا المجال الشاق بجرأ رأة نادرة و بعزم مدهش….. إلخ».
أثارت المدونات النسائية سؤالًا ملحًا حول ما تقدمه المدونات النسائية وهل يعتبر نوعًا جديدًا من الأدب أم لا؟؟ وتأتى إجابة هذا السؤال في ضوء النظر للاعتبارات التكنولوجية الجديدة والتي عملت على تحرير فعل الكتابة من كلاسيكياته وإتاحة مساحة من الارتجال والحيوية المصحوبة بالتفاعل والتي وسمت الأنواع الأدبية التي أنتجتها النساء في الفضاء الإليكتروني والتي يندر وجودها في النصوص الأدبية الأخرى.
ورغم أن إجابة هذا السؤال مازالت محل سجال، تظل التدوينات الأدبية شاهد على ميلاد أقلام نسائية جديدة غنية بالمفردات الحديثة التي تفرضها التكنولوجيا وحداثة اللغة ومبتكرات الأجيال الجديدة، ويصعب التعامل معها بطرق التقييم التقليدي وحسب مناهج التقييم الكلاسيكية للنصوص، بل قد يكون من الأفضل التفكير في مناهج لتقييم الادب التكنولوجي في ضوء معطياته الجديدة من سهولة المبادرة وطرق موضوعات بكر وإقبال جمهور عريض عليه والتعاطي معه في تفاعل جديد في كمه وكيفه (13).
«لقرون سكتت زبيدة، والآن تتكلم، لتنتزع من الرشيد حق كتابة تاريخها».
الحرملك من أوائل المدونات النسوية.. وقرأنا في مضمونها عن قرب.
1- الذات
من خلال كتابتها، تظهر رغبة زبيدة في تقديم ذاتها كامرأة غير موصومة أو منتقصة أو مختومة بختم القبيلة، وذلك من خلال مناقشة القضايا الشائكة والمسكوت عنها والدفاع عن حقوق النساء وتفنيد آراء المجتمع التي تتسم بالرجعية، وتتخذ النسوية كمنطلق لها للدفاع عن هذه القضايا، كما تظهر قناعاتها العلمانية من خلال آرائها أو ردودها على المعلقين على تدويناتها، أما لغتها فتتأرجح ما بين السخرية والتهكم الشديدين واللغة الرشيقة الجذابة خاصة في التدوينات التي لها صبغة أدبية، وتستخدم الكاتبة مزيجًا من العربية والعامية في أغلب كتابتها، ولم تستخدم الإنجليزية إلا في تدوينة واحدة من أوائل ما كتبت، وكان من تعليقات القراء أن استخدام اللغة الإنجليزية إنما هو قناع تختفي وراءه للتعبير عن ذاتها بشكل أكثر جرأة، والملاحظ أنها لم تستخدم اللغة الإنجليزية كلغة للتدوين مرة أخرى على الرغم من تمكنها منها وربما أرادت بذلك أن تثبت أنها لا تحتاج أقنعة تختفى وراءها للتعبير عما تريد البوح به، بالطبع عدا قناع الاسم ذاته.
2- قضايا النساء
الشغل الشاغل لهذه المدونة هو مناقشة كل ما يخص قضايا النساء في إطار مجتمعي سواء كان ذلك يمثل تجربة شخصية في حياة الكاتبة أو هو مجرد هم عام، وهي في ذلك تعرضت لموضوع الحجاب في ثلاث تدوينات متتالية بعنوان “واحجاباه واه واه” أوردت فيها العديد من الأسباب وراء انتشار الحجاب ومدى استفادة الإسلام السياسي منه، وفندت في هذه التدوينات آراء المدافعين عن الحجاب.
ولقد عالجت هذه المدونة مسألة استحقاق المرأة ونديتها للرجل في شئون كثيرة مثل الأعمال التي تمنع المرأة من ممارستها مثل الرئاسة والوظائف القيادية والتقدم لكليات الشرطة والعمل كوكيلات للنيابة؛ وعمل المرأة كقاضية والذي تناولته في أكثر من موضع منها تدوينة “حول الزعم بأن عم عزوز يصلح قاضيًا” وكان منطقها في الدفاع عن حق المرأة في تولى هذه المناصب هو أن المقياس الذي يجب أن نعود إليه هو الكفاءة والاستعداد والدرجة العلمية، ودللت على ذلك بالعديد من الأمثلة الحية لنساء تفوقن في مجالات عدة مثل نهلة رمضان بطلة رفع الأثقال والتي سترفض إن حاولت التقدم لكلية الشرطة وهكذا.
هاجمت «زبيدة» تسلط الذكر على حيوات النساء في مصر؛ واعتبارهن كائنات تابعة للذكر المتفوق دائمًا، ونلاحظ حساسيتها المدهشة في التقاط تفاصيل صغيرة مثل مناداة المرأة باسم الذكر الموجود في عائلتها، وتزايد خوف النساء بسبب ضغوط المجتمع عليهن، واعتبار النساء عورة والتلويح بهن وبأعضائهن في أي مشاجرة أو معايرة بين الرجال، هذا بالإضافة لكل الحقوق المسلوبة من الفتيات في أوقات الخروج والتحكم في الجسد والتجهيل العمدي لهن فيما يخص الجنس.
وقد برزت لدى زبيدة ذات ساخرة وثائرة؛ وقد اتخذت من مدونتها ميدانًا لتلك السخرية ولهذه الثورة، إذ كانت أولى مدوناتها بيانًا تعلن فيه ثورتها على الرشيد الذي امتلك طويلاً حق انتزاع كتابة تاريخها، وقررت هي استرجاع هذا الحق، وتثور في هذا البيان على قيم المجتمع البالية الخاصة بالأنثى (مثل تقديس الحياء).
3- زبيدة والجنسانية
تعد مناقشة القضايا الجنسية في سياقاتها المختلفة من أهم ما يشغل كاتبة هذه المدونة، فهي مهمومة بطرح هذه القضايا من منظور يختلف عن وجهة النظر التي يتبناها المجتمع والتي يتبعها القطيع دون وعي، وبدا ذلك في أول تدويناتها بعد البيان السابق ذكره، فتحدثت في هذه التدوينة عن خبرتها مع جسدها بعدما تجاوزت سن الثلاثين ووعيها بهذا الجسد منذ كانت طفلة والأعباء التي يعلقها المجتمع على هذا الجسد كلما نما.
اجترأت الكاتبة على فتح العديد من الموضوعات في هذا الصدد، مثل: حق المرأة في التغزل بجسد الرجل، فلطالما كان هذا الغزل حقًا حصريًا للرجل، وعددت من خلال أكثر من تدوينة بعنوان ” كم أنت جميل يا عزیزی” مفاتن الرجل بصورة ايروتكية بديعة مهمومة بشكل أساسي بقضايا المرأة والجنس وحق المرأة في التمتع بالجنس، كما قامت بترجمة أحد نصوص “مناجاة المهبل” (15) وكانت هذه المناجاة تحكى تجربة امرأة تم اغتصابها في البوسنة، أما في تدوينة “مأساة صغيرة” فتقص علينا الكاتبة قصة عن الحيض وتهم النجاسة التي تواجه المرأة الحائض ليس فقط دينيا إنما مجتمعيا، إذ هي مطالبة بإخفاء آثار هذا الحيض عن كل الرجال فتعزل ملابسها وتظل في قلق جنوني طوال هذه الفترة كي لا تفضح ظاهرة طبيعية وقديمة قدم الوجود، والعديد والعديد من التابوهات التي تحطمها «زبيدة» بكل يسر في تفنيدها للأحكام التي تخص حياة النساء الجنسية والتي يعتبرها الكثيرون من المسلمات، فنجدها تطرح مقاييس جمال المرأة وتناقشها بتلك الخاصة بالرجل، مثل أهمية نزع الشعر الزائد فلم يكون ذلك واجبًا على المرأة وحدها؟ وناقشت الكاتبة في أكثر من موضع مفهوم الفضيلة لدى النساء ومحددات هذا المفهوم، والتي من ضمنها ألا تكون المرأة قد قبلت أحدًا من قبل، وأن تكون مختنة وعذراء، وبينت كيف يقوم المجتمع بالالتفاف حول هذه المحددات ويتواطأ بشكل ما للحفاظ عليها بشكل مظهري لا أكثر، وعكست مناقشتها لإحدى حملات مناهضة التحرش والتي كان شعارها “لسه فيكي رجالة يا مصر” عكست وعيًا نسويًا استثنائيًا فلقد انتقدت هذا النوع من الخطاب، إذ أن الرجال هم ذاتهم المتحرشون، كما أن اعتبار الرجال هم حراس الفضيلة ومن يقومون بحماية النساء يلغى دور هؤلاء النساء في الدفاع عن حقوقهن والتصدي لما يتعرضن له من انتهاك. ولم يفت الكاتبة التعرض لموضوع الثقافة الجنسية، ولقد تناولته من خلال تدوينة “مبادرة استلطاف” فتحدثت بإسهاب حول شكل القضيب وجماليته وجهل أغلب النساء بشكله وما يسببه ذلك من صدمة لاحقة عند رؤيته تؤدى بالنساء إلى الشعور بالخوف أو القرف أو حتى النفور من العضو الذكرى، وناقشت أيضًا جهل كل من النساء والرجال بمواضع اللذة والاستثارة وكيفيتها لدى كل منها.
ومن جهة أخرى ناقشت الكاتبة الإجهاض كموضوع خلافى من أكثر من جانب. ففي الجانب العلمي ذكرت الكاتبة اعتبار الجنين عبارة عن مجرد خلايا من جسد الأم وحقها في التخلص من هذه الخلايا، أما على الجانب الاجتماعي فطرحت فكرة قدسية الأطفال والتجريم الشديد للإجهاض والذي تراه غير متسق مع إباحة أحكام الإعدام.
4. زبيدة وصورة الرجل والأنثى
الرجل في كتابات «زبيدة» شريك وند وليس عدوا، ولا نجد الصورة النمطية التي يلصقها المجتمع بالمدافعات عن حقوق المرأة اللاتي يكرهن الرجل ويرونه عدوهن الأول ويجب استهدافه وتدميره، فنجده هنا الحبيب الذي تتغزل فيه والتي تدافع عن حقه أيضًا إذا استلب، ففي تدوينتين نجدها تهاجم ختان الذكور باعتباره انتهاكًا لجسد الذكر وتحكمًا في جسده دون سؤاله عن رأيه وإحدى هذه التدوينات يحكى تجربتها الشخصية مع ابنها ومحاولات الطبيب الحثيثة لإقناعها بتختينه، وفي تدوينة بعنوان “الحرملك بيمسي عالسلاملك” كتبت زبيدة مدحًا مطولاً لكل الرجال الذين مروا في حياتها أو قرأت لهم وكانت لهم وجهات نظر تقدمية وعاملوا النساء بندية واحترام؛ مما يعنى أنها لم تقع في فخ التعميم أو إصدار أحكام إطلاقية على نوع اجتماعي بأكمله، لكن ذلك لا يمنعها من مهاجمة كل العقول الرجعية التي تطل علينا في الإعلام أو الحياة، فتسخر من أحد الدعاة الجدد الذي يحاول أن يجعل الحلال كوول cool بدلاً من كونه “خنيق” ومن شيخ آخر يرى أن التفرقة بين الزاني وغير الزاني تكون بالرائحة.
وقد أظهرت «زبيدة» مستوى آخر من التميز إذ رغم أن النساء بمختلف أعمارهن ومشاكلهن هن بطلات هذه المدونة بامتياز، فقد خصصت زبيدة مساحات من كتاباتها للحديث عن النساء اللاتي يحاولن إعادة إنتاج القهر وتوريثه لأجيال قادمة ويمكن تعريفهن في ثلاثة نماذج:
1- اللاتي يدعين أن النساء حصلن على حقوقهن: وقد قامت الكاتبة بتناول هذا النموذج في تدوينة “هذا النوع من النساء” وأوضحت أنه بالنظر إلى نوعية حياة هذه الفئة تحديدًا ستجدهن مقهورات إلى حد كبير ولا يعين الغبن الواقع عليهن.
2- النساء اللواتي يبكين أخلاق القرية الضائعة: وهذا النوع من النساء يمكن تصوره من خلال مذيعة برنامج “صبايا” والذي تطل فيه المذيعة على البنات لتقوم بوعظهن وتحذيرهن من مغبة التخلى عن الفضائل والأخلاق التي تميز النساء
3- النموذج الثالث هو نموذج المرأة التي تريد أن تعود إلى عصر الحريم والذي تراه «زبيدة» اختيار وطريقة حياة وليس مجرد عصر، وكل من تقبل أن تعيش بهذه الطريقة فإنما تتخلى طوعًا عن إنسانيتها وفرادتها ككائن مستقل.
مما لا شك فيه أن الفضاء الالكتروني فتح مساحات حرة للنساء للتعبير عن ذواتهن على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي وخاصة فيما يتعلق بالشئون الجنسية، بحيث نالت النساء من التكنولوجيا نصيبًا لا بأس به، وتطرح الدراسة التي بين أيديكم عددًا من التساؤلات حول مدى إسهام الفضاء الالكتروني في تغيير واقع النساء، وما هي الآفاق المأمولة أمام النساء في التكنولوجيا. كما نرصد احتياج متزايد لتقييم واقع التدوين النسوي في ضوء التجربة العالمية للتدوين النسوى.
*صيدلانية وباحثة في مجال حقوق الإنسان.
**مديرة الموقع الإلكتروني لمؤسسة المرأة الجديدة.
(1) العرب وعصر المعلومات، تأليف د. نبيل على– كتاب عالم المعرفة.
(2) A study-Post Resistance by Hanneen Hanfy
(3) Animations
(4) understanding group interaction in blogosphere, Nitin Agrwal and others
(5) https://bint3adia.blogspot.com
(8) https://misrdigital.blogspirit.com
(9) https://bint3adia.blogspot.com
(10) https://afkaar-bella.blogspot.com
(11) https://3ansscool.blogspot.com
(13) https://www.mcluhan.utoronto.ca/academy/carolynguertin/cyberfeminism.htm
(14) https://el7aramlek.blogspot.com
(15) مناجاة المهبل (vagina monologue) شكل فني يتم من خلاله التعبير عن تجارب المرأة الجنسية المختلفة– الإيجابية أو السلبية– من خلال الكتابة على لسان المهبل وبدأت هذه الحركة الفنية إيف انسلر وتم عرض بعض هذه النصوص على المسرح في أكثر من دولة.
العرب وعصر المعلومات، تأليف د. نبيل على – رقم 184- الفصل السابع والثامن الأبعاد الاجتماعية والثقافية على التكنولوجيا – دار عالم المعرفة
Haneen Hanafy.
(POST)RESISTANCE:CYBERSPACE AND WOMEN’S VOICES IN THE ARAB WORLD, A Thesis Submitted to The Department of English and Comparative Literature, in partial fulfillment of the requirements for the degree of Master of Arts, AUC
https://el7aramlek.blogspot.com
https://www.mcluhan.utoronto.ca/academy/carolynguertin/cyberfeminism.htm
https://bint3adia.blogspot.com
https://afkaar-bella.blogspot.co