النسويـة والتاريـخ: مقالات مختـارة فـي دراسـات (النـوع)
هـدى الصـدة
يتضمن هذا الكتاب مقالات مختارة في الدراسات النسوية و(النوع) والتاريخ مترجمة من الإنجليزية إلى العربية بهدف توفير المادة العلمية اللازمة لتشجيع البحث في هذا المجال وتيسير إنشاء برامج دراسات المرأة والنوع في الجامعات العربية عامة، والمصرية على وجه الخصوص. فلقد شهدت الآونة الأخيرة طفرة في تأسيس برامج دراسات المرأة في المنطقة العربية، بعضها يتم التدريس فيها باللغة الإنجليزية، مثل الجامعة الأمريكية بالقاهرة، والبعض الآخر يتم التدريس فيها بالعربية والإنجليزية، مثل جامعة بيرزيت بفلسطين، ولكنها برامج تعاني من نقص حاد في المادة العلمية والنظرية المتاحة باللغة العربية، وفي جامعة القاهرة، على سبيل المثال، نجد اهتمامًا واضحًا في أقسام اللغات، وخاصة قسم اللغة الإنجليزية، بمناهج البحث النسوي في الأدب في أبحاث الأساتذة وطلاب الدراسات العليا، الأمر الذي ينعكس بالضرورة على المناهج الدراسية، وذلك على الرغم من غياب برنامج متخصص في دراسات المرأة. أما بالنسبة لبقية أقسام الكلية، فنلمس غياب الاهتمام بمناهج البحث النسوي في معظم أقسام الكلية، هذا مع اعتبار إقبال الطلاب واهتمامهم بالبحث في موضوعات متعلقة بدراسات المرأة، ولكنهم يفتقدون التدريب والاطلاع على مناهج البحث النسوى ودراسات النوع في دراستهم، كما يجدون صعوبة في الحصول على المادة النظرية باللغة العربية.
وهذه هي المجموعة الثالثة في سلسلة إصدارات مؤسسة المرأة والذاكرة في النسوية والعلوم الاجتماعية والإنسانية، والمجموعة الثانية من المقالات المترجمة من الانجليزية التي اخترتها لتقديم الفكر النسوى إلى الباحثين والباحثات العرب. فقد صدرت المجموعة الأولى سنة ٢٠٠٢ من المجلس الأعلى للثقافة بعنوان أصوات بديلة: المرأة والعرق والوطن في العالم الثالث، وكانت أول مجموعة أقوم بتحريرها بهدف تعريف القارئ العربي بالفكر النسوي، حاولت من خلالها الإجابة عن سؤال عادة ما يطرح على النسويات العربيات، وهو هل النسوية اختراع غربی صرف ومن ثم هل يعتبر تبني أو استخدام النظريات النسوية في مقاربة القضايا الثقافية والسياسية العربية شكلا من أشكال الاغتراب الثقافي أو الاستسلام للهيمنة الثقافية للغرب؟ ألح علىّ هذا السؤال بعد أن كنت قد شاركت سنة ١٩٩٩ في اختيار مجموعة من الكتب في النظريات النسوية وفي الدراسات النسوية عن الشرق الأوسط وذلك ضمن مشروع الترجمة في المجلس الأعلى للثقافة، والذي استقل لاحقا واستقر في المركز القومي للترجمة. فقد نتج عن نشر هذه الترجمات تزايد الاهتمام بالمقاربات النسوية في الدراسات الإنسانية والاجتماعية، كما ترتب عليه إثارة الجدل حول ماهية الفكر النسوى وارتباطه بالغرب ومن ثم دوره في نشر الثقافة الغربية ومدى ملاءمته لثقافتنا وهويتنا. ولهذا، كانت الفكرة المفتاح لمعظم هذه المقالات هي سياسات التمثيل (politics of representation) وسياسات الهوية (identity politics). وتركزت اختياراتي في هذا الكتاب على مقالات معظمها بأقلام نساء من العالم الثالث يحاورن النسويات الغربيات ويتحدين الفكر النسوى المتمركز حول الغرب وأوروبا أو المنحاز لقضايا النساء الغربيات من الجنس الأبيض والمنتميات إلى الطبقة المتوسطة، ويتجاهل مطالب واحتياجات نساء من دول العالم الثالث، وأيضا نساء يعشن في الغرب ولكنهن فقيرات أو عاملات أو من أصول أفريقية، أي جميع الفئات الأقل حظًا والفئات المهمشة في المجتمعات الغربية. حاولت من خلال اختياراتي للمقالات أن أسلط الضوء على الإسهامات النظرية والعملية التي أضافتها نساء من العالم الثالث أو من الأقليات العرقية في الغرب للفكر النسوي، والتي أثرت في مساره، وأعادت ترتيب أولويات البحث وطورتها، كما نجحت في خلق مساحات أكثر براحا وتقبلا لأصوات مختلفة ومتنوعة من نساء من مختلف بلدان العالم، بحيث بات من المستحيل الآن الحديث عن الحركة النسوية في المفرد وأصبحنا نتحدث عن الحركات النسوية، دائما في صيغة الجمع. تطرقت تلك المقالات إلى قضايا الاختلاف وسياسات الهوية، وسياسات الموقع، كما تعرضت إلى قضية التمثيل، أي من له الحق في الحديث بالنيابة عن النساء، مع الأخذ في الاعتبار الاختلافات الموجودة بين النساء على مستوى الطبقة والعرق والوطن والموقع الجغرافي، إلى آخر تلك الاختلافات التي تميز النساء عن بعضهن البعض. انتقدت المقالات المركزية الغربية في إنتاج المعرفة النسوية، وعبرت عن رفض جيل جديد من النسويات للثنائيات المتضادة في الفكر الغربي، وطرحت النسويات مفاهيم حول النسوية العابرة للثقافات والنسوية المتأثرة بنظريات ما بعد الاستعمار.
بالنسبة إلى مجموعة المقالات التي بين أيدينا الآن، فالهدف المباشر من ترجمتها إلى العربية هو إتاحة الفرصة لطلاب الدراسات العليا والباحثين والباحثات في التاريخ للتعرف على قضايا وموضوعات أثارتها النسويات في العقدين الماضيين بشكل مكثف، فكان لها أثر بالغ في كتابة ودراسة التاريخ كتخصص أكاديمي. الفكرة المفتاح في مجمل المقالات التي بين أيدينا الآن هي المراجعة والتدقيق في عملية إنتاج المعاني وفي كتابة التاريخ. جاءت اختياراتي لهذه المقالات وفق بعض الاعتبارات التي أوردها فيما يلي:
أولاً، تنتمى المقالات إلى ما درج على تسميته بالفترة “ما بعد التحول اللغوي“
وتعني التركيز في كتابة التاريخ على تحليل التمثيلات النصية باعتبار أنها مكملة وكاشفة للرواية التاريخية الرسمية. يستند هذا المنهج في كتابة التاريخ إلى فرضية غياب الموضوعية في الكتابة التاريخية بشكل أساسي، وأن الرواية التاريخية، أيّة رواية، هي بالضرورة تمثيل معبر عن رؤية أو وجهة نظر، وأن هذه الرؤية يتم التعبير عنها من خلال اللغة المحملة بالدلالات والمعاني المضمرة وفقًا لسياقات التعبير والتلقي. وعلى هذا الأساس تقترب الرواية التاريخية من النص الأدبي، ونقرأ المصادر التاريخية مستخدمين أدوات ومناهج التحليل الأدبي لكي نستكشف المعاني المضمرة والدلالات المتعددة للنص. ولقد طرأ هذا التحول اللغوي في الدراسات النسوية كنتيجة للقاء وتفاعل النسوية مع نظريات ما بعد البنيوية وكتابات ميشيل فوكو وجاك ديريدا، ولكنه كان أيضا نتيجة الطفرة التي حققتها الباحثات النسويات في إنتاج معرفة تاريخية عن النساء في مختلف العصور أدت إلى تسليط الضوء على إنجازات النساء ومشاركتهم في الأحداث التاريخية المختلفة والتي تم تهميشها في الروايات التاريخية الرسمية، الأمر الذي أكد على فاعلية النساء ودحض مقولات منحازة ضد النساء بشكل عام وفي الرواية التاريخية بشكل خاص. لقد ترتب على تلك الطفرة المعرفية عن الماضي ظهور منهج نسوى نقدى تحدى سطوة الروايات الكبرى على غرار ما فعله ليوتارد، وخلخل مركزية الفكر الذكوري الذي وضع “الرجل” (أو بالأحرى بعض الرجال) واهتماماته ومنظوره في بؤرة الحدث التاريخي وقلل من أهمية كل ما لا علاقة له بمركز السلطة، مثل عالم النساء والرجال المهمشين. ففي التاريخ الأدبي على سبيل المثال، ونتيجة عملية منظمة من البحث والتنقيب عن كاتبات في العصور المختلفة، تم اكتشاف مجموعة كبيرة من الكاتبات اللاتي سقطن من التاريخ الأدبي بسبب تجاهل النقاد لهم ولأعمالهم بدعوى ضعف مستواها أو قلة أهميتها مقارنة بأعمال أخرى بأقلام رجال من نفس الجيل. ترتب على هذه الاكتشافات حركة فكرية نقدية أعادت قراءة التاريخ الأدبي كما أعادت تقييم معايير الجودة والتميز الأدبي، فألقت بالضوء على العلاقة الوثيقة بين عملية إنتاج وتحديد معايير الجودة الأدبية وبين النخبة الثقافية في لحظة تاريخية معينة، بحيث تصبح تلك المعايير التي يتم وفقها الإشادة بعمل فني دون الآخر مرتبطة برؤية واهتمامات ومصالح تلك النخبة المسيطرة. والخلاصة، كان للطفرة الهائلة في إنتاج معرفة تاريخية من منظور نسوى والتي أماطت اللثام عن ديناميكيات السلطة والقوة في تشكيل الرواية التاريخية أثر بالغ في وعينا بالماضي وعلاقته بالحاضر. ولهذا، يمكننا القول إن هذا التحول اللغوي في الدراسات الإنسانية عامة والتاريخية على وجه الخصوص قد فتح الباب على مصراعيه لمشروعات فكرية تسائل السائد والمستقر معرفيًا وسياسيًا فتتحداه وتعيد صياغته.
ثانيًا، وبناء على ما تقدم، تشترك المقالات المختارة في خاصية محاورتها لما
هو سائد ومستقر في الفكر الغربي بشكل عام، بالإضافة إلى مساءلتها لما توصل إليه الفكر النسوي في مرحلة من مراحل تطوره، أي إن المقالات تحاور ما أضحى سائدا ومستقرا في النظرية النسوية الحديثة ذاتها، على مستوى المفاهيم والمصطلحات والفرضيات. ومن هذا المنطلق فهذه المقالات تقوم بعملية نقد الذات، أو مراجعة المنطلقات والمفاهيم وفقا لمتغيرات تاريخية أو سياسية.
ثالثًا، معظم المقالات تعد مقالات مؤسسة في النظرية النسوية عامة، مقالات أثارت جدلا واسعا في الأوساط الأكاديمية الغربية وتمت مناقشتها في الدوريات والمحافل الثقافية. لا تشكل هذه المقالات الكلمة الأولى والأخيرة في النظرية النسوية أو في القضايا المطروحة، ولكنها جزء أصيل ومهم في مسار الفكر النسوى الغربي، وكما أثارت الجدل في الأكاديمية الغربية، أتوقع وأتمنى أن تثير جدلا في الأوساط البحثية العربية.
رابعًا: تطرح المقالات المختارة أسئلة محورية عن كتابة التاريخ، عن من يكتب ولماذا، عن تقاطع الخطابات المتعارضة في التاريخ، عن أهمية تحديد موقع المؤرخ لتحقيق الموضوعية.
خامسًا: تهتم كاتبات المقالات المختارة بتأصيل المصطلحات المستخدمة
والتاريخ لها وهو أمر هام للغاية خاصة في سياق مشروع يهتم بتقديم النظريات النسوية الغربية مترجمة إلى العربية. لماذا؟ ما زال هناك مقاومة للفكر النسوي في المحافل الثقافية العربية بدعوى غربته وغربيته، ومن ثم تهديده للهوية العربية. يستند التيار الرافض للفكر النسوي العربي إلى افتراضين رئيسيين: الافتراض الأول يتعامل مع الفكر العربي أو المثقفة العربية على أنها متلقٍّ سلبي للأفكار التي ترد من الغرب، وهو افتراض يكرس لدونية الثقافة العربية في تفاعلها أو صدامها مع الثقافة الغربية. الافتراض الثاني يرى أن المفاهيم والنظريات جميعها مكبلة بالسياق التاريخي الجعرافي الذي أفرزها، وهو افتراض يحصر المفاهيم في لحظة المنشأ ولا يلتفت للتطورات والتغيرات التي تطرأ على هذا المفهوم عندما ينتقل جغرافيًا وثقافيًا وتاريخيًا. وسوف أفصل هذه الفكرة بالإشارة إلى ترجمة مصطلح gender إلى العربية، وهو مصطلح لا يزال محل جدل وخلاف ولم يتم الاتفاق على ترجمته إلى العربية إلى الآن (انظر/ى مقدمة المترجمة).
سادسًا: بعض المقالات تقدم نماذج عملية لمناهج الكتابة التاريخية من منظور نسوی.
1 – سفر المفاهيم عبر الثقافات
تحدث إدوارد سعيد عن سفر النظريات2 وما يتبعه من تغير أو إحلال وتبديل للمفهوم عند احتكاكه ببيئة جديدة وتفاعله مع تحديات مختلفة. جون سكوت أيضًا لها مداخلة هامة تقول فيها إن انتقال الصوت من مكان إلى آخر يحدث ترددات (reverberations) تشكل بالضرورة صوتًا جديدًا أو صوتًا مختلفًا، وتستخدم مفهوم الترددات لتقييم مسار النظرية النسوية في القرن العشرين، وتتصدى للفكرة الشائعة عنها باعتبارها منتجًا غربيًا خالصًا وذلك بتتبع وإبراز مساهمة الناقدة جوليا كريستيفا، التي ولدت وتلقت تعليمها في بلغاريا، وتأثرت بكتابات باختين، ثم أتت إلى فرنسا وأصبحت من مؤسسات النظرية النسوية الفرنسية. فكرة سفر المفاهيم أو النظريات يترتب عليها تحرير الترجمة من سجن لحظة المنشأ (moment of origin or inception)، أو تعريف مفهوم ما وفقًا لمعناه في الثقافة المنتجة له، ووفقًا لتصور جامد عن هذه الثقافة المنتجة، أي تجاهل تفاعلها واحتكاكها المستمر والمتجدد مع ثقافات أخرى، ثم تجاهل تداعيات المفهوم أو تجلياته بعد سفره إلى مكان جديد وتفاعله مع معطيات جديدة وأجندات مختلفة.3 ومن هذا المنطلق، فالمفاهيم والمصطلحات والنظريات يطرأ عليها تغييرات وتحويرات بحكم انتقالها من مكان إلى آخر، من ثقافة إلى ثقافة أخرى ومن عصر إلى آخر. وينسحب هذا على ترجمة المصطلحات، ففي العلوم الإنسانية لا توجد بالضرورة ترجمة واحدة صحيحة وترجمات أخرى غير صحيحة، ولكن توجد ترجمات معبرة عن رؤى/ مناهج مختلفة في قواعد التواصل عبر الثقافات، أو مناهج مختلفة في التفاعل مع الخطابات المحلية والعالمية السائدة. فالترجمة، أيّة ترجمة، تعبر بالضرورة عن موقع واهتمامات المترجمة.
وإذا تأملنا بعض الترجمات التي ابتدعتها الباحثات العربيات لمفهوم الـ gender مثل “النوع“، و“النوع الاجتماعي“، و“الجنوسة“، و“الجندر“، ثم “الاستجناس“، نجد أن جميع الاختيارات لها أسبابها ونتائجها. فنجد أن “نوع” تحاكي ظهور مفهوم الـ gender في بداياته، ففي الستينيات كان gender مفهومًا في النحو، ولم يكن له أية دلالات نسوية كما هو الحال الآن، استخدمته النسويات في السبعينيات لخلق معان جديدة للتأكيد على فكرة أن التمييز بين الرجل والمرأة لا علاقة له بالطبيعة، أي إنه ليس مسألة بيولوجية، وإنما مسألة اجتماعية وثقافية. وبالتدريج، اكتسب مفهوم الـ gender معان ودلالات مستحدثة، إلى أن استقر في اللغة ودخل القاموس الإنجليزي. مفهوم “النوع” بالعربية، إلى الآن لم يكتسب دلالات الـ gender إلا في بعض الأوساط الأكاديمية والتنموية، وهي الأوساط التي تستخدم المفهوم في مجال عملها، وإذا استرشدنا بمسيرة الـ gender في اللغة الإنجليزية، يمكننا القول إن استقرار دلالاته الجديدة ليس مستعبدًا وهو مرتبط بشيوع استخدامه. فاللغة العربية، وجميع اللغات، تجدد نفسها حتى تكتسب كلمات أو مصطلحات معان جديدة معبرة عن متغيرات مستجدة.
مصطلح “النوع الاجتماعي” يعبر عن محاولة للتأكيد على فكرة أن الاختلافات بين الجنسين متعلقة بالتنشئة الاجتماعية، أي إنه يتضمن شرحًا للمفهوم والتأكيد على المعنى الذي ارتأته مجموعة كبيرة من التسويات العربيات مفيدًا. مصطلح “جندر” يبرز الأصل الغربي للمفهوم، ولا يجد غضاضة في ذلك على اعتبار أن كثيرًا من المفاهيم والمصطلحات الحديثة في العلوم الإنسانية والاجتماعية تنتجها الثقافة الغربية وتستوعب في السياق العربي دومًا. أما “الجنوسة“، فهو مستمد من جذر عربی يسمح بتصريفه، وهو أيضًا على وزن أنوثة وذكورة، مما يساعد على دمجه واستخدامه بالعربية، الأمر الذي حذى بالناقدة سامية محرز إلى تفضيل استخدامه بوصفه مبتكرًا ويساعد في تمكين النسويات العربيات في خلق معانٍ جديدة في تناغم مع الثقافة العربية.4 أما مفهوم الاستجناس، فصاغته عبير عباس مترجمة هذه المجموعة من المقالات لأسباب لها علاقة بتعدد طبقات المعنى والسياق والتوافق مع خصائص اللغة العربية، الأمر الذي تشرحه باستفاضة في مقدمة المترجمة. باختصار، تنوع الترجمات هو انعكاس لتنوع المناهج والأجندات البحثية.
2 – سفر المفاهيم عبر الوقت داخل الثقافة الواحدة
بالإضافة إلى سفر المفاهيم عبر الثقافات، فللمفاهيم رحلات أخرى عبر الوقت داخل الثقافة الواحدة. في يناير 2008، قامت مجموعة المرأة والذاكرة بعقد ورشة عمل عن ترجمة مصطلحات نسوية إلى العربية. حضر الورشة باحثات ومترجمات مشتركات في مشروع لترجمة سلسلة من الكتب التي تحتوى على مقالات متخصصة في دراسات (النوع) في تخصصات أكاديمية مختلفة، مثل (النوع) والعلوم السياسية، و(النوع) والدراسات الدينية، و(النوع) والنقد الأدبي، و(النوع) وعلم الاجتماع، و(النوع) والتحليل النفسي، وهو المشروع الذي نتج عنه هذا الكتاب. كان الهدف من الورشة مناقشة المصطلحات والمفاهيم والتنسيق بين كل المشاركات في العمل بهدف الاتفاق على المصطلحات وتوحيدها بقدر الإمكان. تم الاتفاق على معظم المصطلحات ولكن توقفنا نحن المشاركات عند مفهوم gender، ولم نتمكن من الوصول إلى اتفاق على ترجمة له للأسباب التي ذكرتها سابقًا. لم نتوصل إلى إجماع فاتفقنا على إدراج جميع الترجمات المقترحة في القاموس الشارح glossary ورأينا أن كل مترجمة لها حرية اختيار المصطلح الذي تراه. استند منطق القرار، قرار إدراج جميع الصيغ المطروحة، إلى تسليمنا بعدم وجود كلمة واحدة صحيحة، وأن اختيار الكلمة، أية كلمة، هو اختيار مرتبط بمنهج المترجمة أو تفسيرها أو استخدامها المفهوم في البيئة العربية، ولكن، وبعد تأمل المناقشات الثرية التي دارت بين المشاركات، اتضح جانب آخر لم يلق اهتمامًا كافيًا في فهم الصعوبات التي تتخلل مشاريع الترجمة، أعني بالتحديد عملية سفر المفاهيم أو النظريات عبر الوقت وداخل الثقافة الواحدة. فمعنى gender في السبعينيات كما استخدمته الباحثات النسويات يختلف اختلافًا كبيرًا عن معناه في التسعينات كما استخدمته جوديث باتلر. فدلالات المفهوم في السبعينيات تركزت على التأكيد على التشكيل الثقافي والاجتماعي للجنسين، ثم جاءت جوديث باتلر لتطور مفهوم النوع وتطرح نظرية أنه عملية أدائية تعتمد في استمراريتها وانتشارها على التكرار والمحاكاة ولتؤكد على كون “النوع” سيرورة process ليست مرتبطة بالضرورة بالجنس البيولوجي للإنسان.5 وعلى هذا الأساس، ارتبطت الترجمات المختارة بمراحل استخدام المفهوم في النصوص الأصلية، واختلفت بناء على التطور الذي طرأ على المفهوم، ولم تتشكل فقط بموقف المترجمة وأجندتها. هذا بالنسبة لترجمة بدراسات النوع والتحديات التي تواجهها.
تستهل جون سكوت مقالتها “النوع: فئة مفيدة في التحليل التاريخي” بالتأكيد على أن الكلمات لها تاريخ وأن الوعي بهذا التاريخ يجنبنا مخاطر تجميد المصطلحات والنظريات والمواقف. تستعرض تاريخ مصطلح (النوع) في الأدبيات الأنجلو–ساكسونية وتسلط الضوء على التطور الذي طال المفهوم والمصطلح خاصة على يد الباحثات النسويات. تستعرض سكوت استخدامات النوع المتباينة من قبل النسويات على مدار سنوات عديدة حيث يتطور المفهوم ويكتسب معان ودلالات جديدة وثرية، كما تركز على بعض الأمثلة السلبية التي استخدم فيها مصطلح النوع كمرادف للمرأة، أو باعتباره مفهومًا محايدًا ومنفصلاً عن السياسات النسوية التي يفترض أنها غير محايدة، ومن ثم يبرر عدم التعرض لعلاقات القوة غير المتوازنة وذلك بهدف الحصول على القبول والشرعية داخل المؤسسات الأكاديمية المحافظة والطاردة للنظريات الراديكالية. تتطرق سكوت أيضًا إلى استخدامات لمفهوم (النوع) في إطار نظريات مستقرة مثل النظرية الماركسية أو نظرية التحليل النفسي، وتلقى بالضوء على التناقضات المضمرة في تلك المناهج. تنتهى إلى تعريف النوع كما يلي: “إن (النوع) عنصر مكوِّن للعلاقات الاجتماعية ومكوَّن عبرها، وهو يقوم على الاختلافات المتصورة بين الجنسين، كما أن (النوع) وسيلة أولية دالة (signifying) على علاقات القوة وفي حين أن التغيرات في تنظيم العلاقات الاجتماعية يتوازى دائمًا مع التغيرات في صور تمثيل القوة/ السلطة، لا يتبع التغيير بالضرورة اتجاهًا واحدًا” (ص 53). وتنتهى إلى أن استخدام النوع كفئة تحليلية يسمح بكتابة تاريخ جديد وطرح أسئلة جديدة والاهتمام بتاريخ المقهورين.
تركز جون سكوت في مقالتها على تاريخية المفاهيم وتغيرها وفقًا لمستجدات زمنية ومكانية وأيديولوجية. كما تتطرق موهانتي إلى نفس النقطة حين تؤرخ للخلفيات الفكرية وراء استخدام مصطلحات العالم الأول في مقابل العالم الثالث، ثم الشمال في مقابل الجنوب، ثم عالم الثلث وعالم الثلثين، لتنتهى إلى أنها تفضل الأخير، ويشير عالم الثلث إلى الأقليات الاجتماعية التي تمتلك القوة والسطوة على مجريات الأمور، أما عالم الثلثين فيشير إلى الأغلبيات الاجتماعية الموجودة في جميع أنحاء العالم، ترتبط هذه المصطلحات بنوعية الحياة التي تعيشها الشعوب وهي ليست مبنية على ثنائيات جغرافية أو أيديولوجية كما هو الحال في منظومة المصطلحات السابقة عليها. فكرة سفر المفاهيم داخل الثقافة الواحدة تلقى بالضوء على ديناميكية الفكر النسوى وتساعد على الوعي بالتغيرات والتحولات التي طرأت عليه ولا تزال، كما أنها تضع في الصدارة التحديات التي يواجهها أي مشروع لترجمة مفاهيم ونظريات في حركة مستمرة.
والقاموس النسوي مليء بمفردات مثل مراجعة، وإعادة النظر أو إعادة تقييم، وهي كلمات تبرز خاصية هامة في الفكر النسوى من حيث تسليط الضوء على العلاقة بين إنتاج المعرفة من ناحية والموقع الجغرافي والتاريخي المتغير من ناحية أخرى. ولقد اخترت مقالتين لكل من موهانتي وهارتسوك تراجع فيهما الباحثتان مقالات شهيرة لهما كتبتاها في الثمانينيات. ففي مقالتها المنشورة سنة ١٩٨٦ بعنوان تحت أعين غربية“6 ترفض موهانتي هيمنة النسوية الغربية على صياغة وتحديد أجندة العمل النسوي في مناطق متفرقة في العالم، بحيث تتجاهل هؤلاء النسويات الاختلافات بين النساء وتباين مواقعهن في العلاقة مع السلطة. كما انتقدت موهانتی منشأ المرأة من العالم الثالث بشكل جامد وجوهراني، ومحاولات النسويات الغربيات في الحديث بالنيابة عنهن وتمثيل قضاياهن، أي إنها وقفت ضد كل المقاربات التبسيطية والسطحية التي ساوت بين النساء وقضاياهن ومن ثم عتمت على اهتمامات النساء المهمشات في صالح إبراز قضايا النساء اللاتي يمتلكن القدرة على الحديث. ربطت موهانتي في مقالتها بين أطروحتها عن ضرورة الوعي بالاختلافات بين النساء، وبين موقعها كنسوية من العالم الثالث تعيش تحت أعين النسويات الغربيات يتحدثن باسمها ويحددن أولولياتها وفقًا لتصوراتهم عن أولويات العمل النسوي، دون الالتفات إلى احتياجاتها وأولوياتها النابعة عن موقعها، فشعرت بأنها موضوع أو مفعول به وليس فاعلاً، أو مسلوبة الفاعلية، ومن ثم جاء رفضها لنموذج نسوى لا مكان لها فيه.
أما في المقالة التي بين أيدينا والمنشورة سنة ۲۰۰۲ تعود موهانتي مرة أخرى لتتناول نفس الموضوعات ولكن من موقع مختلف. فعلى المستوى الخاص، فهي تكتب الآن من داخل المؤسسة الغربية وليس من خارجها كما كان الحال في الثمانينيات، وباعتبارها من أهم المنظرات النسويات في العالم. أما على المستوى العام، فهي تكتب في إطار واقع تعافي شهد تطورًا هائلاً في الفكر النسوى وفي مؤسسة دراسات النساء، فأضحى أكثر وعيًا بقضايا الاختلاف والصوت والفاعلية. تشير موهانتي أيضًا إلى صعود الحركات الأصولية والهيمنة الرأسمالية العالمية وانتشار الفكر اليميني وترى أن لهذه التحولات في المناخ السياسي والاقتصادي العالمي دلالات هامة في تحديد أولويات البحث النسوي. تستخدم موهانتي ذات الإطار التحليلي الذي يلقي بالضوء على ارتباط القوة بالمعرفة في البحث النسوي عبر الحدود الثقافية وذلك بالتركيز على العلاقة بين الكوني والخصوصي في إطار النسوية الغربية، ولكنها تطرح أسئلة جديدة وفقًا لمتغيرات السياق. ترى موهانتي أن القضية النسوية المحورية الآن تتلخص في ممارسة نسوية فوق قومية ومناهضة للرأسمالية والعولمة. ترى أن تلك الرؤى المناهضة للسائد سوف تأتي من مواقع المهمشين والمقهورين لأن الموقع المهمش يسمح بمنظور معرفی متميز قادر على تحقيق رؤية أكثر اشتمالاً. تلتقى أطروحة موهانتي عن الموقع المعرفي المتميز لدى المقهورين والربط بين التجربة أو الموقع المغاير بالقدرة على شرح وتحليل المجتمع الرأسمالي، تلتقى مع أطروحة هارتسوك القائلة بتميز الموقع المعرفي لدى الفئات المهمشة والمقهورة. تخلص موهانتي إلى ضرورة الربط بين النسوية وحركات مناهضة العولمة.
وعلى نفس نهج المراجعة تسير مقالة نانسي هارتسوك المضمنة في هذه المجموعة، حيث تعود الناقدة في ٢٠٠٣ إلى مقالتها المنشورة سنة ١٩٨١ وعنوانها: “المنظور من موقع نسوي: استحداث نوعي لأرضية مادية تاريخية نسوية” لتراجع بعض أطروحاتها ولتشتبك مع الانتقادات التي وجهت إليها. تستند نظرية المنظور من موقع نسوى إلى فرضية أن المعرفة وكل المعارف تنبع من وترتكز على موقع العارف الاجتماعي والسياسي بل والجغرافي أحيانًا. تستند أيضًا إلى فرضية أن الفئات المهمشة اجتماعيًا أو سياسيًا أو جغرافيًا أكثر قدرة على مساءلة الواقع والمستقر بحكم بعدها النسبي عن مركز السلطة. استرشدت هارتسوك بالفكر الماركسي، حيث تتجلى نظرية المنظور من موقع البروليتاريا وقدرتها على استحداث نظرة نقدية لعلاقات القوة بين الطبقات من واقع حياتهم. وبالقياس، ترى هارتسوك أن تجربة القهر والتهميش التي تعاني منها النساء في المجتمعات الذكورية تخلق لديهن وعيًا مزدوجًا بفضل موقعهن الهيكلي والمادي في النظام الاجتماعي وتفسح المجال لرؤى جديدة وآفاق غير مرئية لمن يملكون سلطة الخطاب السائد.
تتساءل هارتسوك في مراجعتها: كيف نصيغ نظرية راديكالية تفضح علاقات التسيد والسيطرة دون اختزال العالم إلى قطبين متناحرين وإغفال درجات القهر والسيطرة داخل كل قطب، أو كيف نتحدث من منطلق الموقع النسوى ولا نتجاهل الاختلافات بين النساء من البيض والسود، بين نساء العالم الثالث ونساء العالم الأول. هذه التباينات في المواقع وما تنتجه من صراعات معرفية وسياسية ما زالت تمثل تحديًا لبلورة منظور نسوي مرتبط بالموقع.
الحديث باسم النساء ومحاولات تحديد صوت النساء الأصلي أو محاولات كتابة تاريخ النساء من واقع خبراتهن وأصواتهن يظل من أكثر الموضوعات المثيرة للجدل في الأدبيات النسوية. فمع تسليط الضوء على عدم الحيادية في كتابة التاريخ والتي أدت الى استبعاد الفئات المهمشة من الرواية التاريخية، سعت النسويات، مثلما سعت مجموعات مهمشة تاريخيًا أخرى، إلى التركيز على استكشاف والإنصات إلى أصوات النساء بشكل مباشر وليس عبر كتابات تتحدث بالنيابة عنهن. فنلمس الاهتمام المتزايد بالسير الذاتية واليوميات وما يجيء على لسان أصحاب الشأن. أي عندما نتحدث عن المرأة العربية مثلاً، يجب أن نفسح المجال لامرأة من العالم العربي ليصبح صوتها ممثلاً لقضايا وهموم كل النساء العربيات، إلخ. لا أقلل من أهمية تمثيل متوازن للأصوات المتعددة ولا أشكك في خطورة استبعاد فئات متعددة من تمثيل قضاياها، إلا أن التمادي في هذا التركيز خلق شكلاً آخر من أشكال الجوهرانية التمثيلية حيث أصبحت أصوات النساء الأصيلة منشأ يستخدم في صراعات سياسية وأصبح سلاحًا لإخراس الخصوم ولإضفاء الشرعية على خطابات متباينة.
تتطرق جون سكوت في مقالتها “التجربة: الظهور للعيان” إلى مسألة تمثيل أصوات النساء وتجاربهن في التاريخ، فتستعرض كيف أصبحت التجربة مصدرًا مهمًا في إعادة كتابة تاريخ المهمشين والمستبعدين وفي تفكيك افتراض الموضوعية في التاريخ، فكانت من أهم الوسائل المنهجية في التاريخ النسوى. إلا أنها تتوقف عند استخدامات للتجربة تحول الهوية إلى جوهر ثابت، وتذهب إلى ضرورة تحليل سيرورة التعبير عن التجربة وإعادة تعريفها وتسليط الضوء على أن التجربة في حد ذاتها هي “إنشاء بفعل خطاب” فهي “فعل تأويلي وشيء يحتاج إلى التأويل على الدوام” وإن ما يعد تجربة ليس أمرًا دالاً على ذاته ولا هو بالأمر المباشر في وضوحه، بل هو دومًا محل نزاع ومن ثم فهو دومًا سیاسی” (ص150). ترجح سكوت قراءة النص التاريخي قراءة أدبية تركز على اللغة وتحليل الخطاب لتجنب القراءات المباشرة والأحادية.
تشتبك مقالة مرینالیني سينها مع سؤال مشابه: كيف نتعرف على صوت المرأة الهندية وسط غيوم الخطابات الاستعمارية والقومية المتصارعة؟ تذهب سينها إلى أن المشكلة تكمن في السؤال نفسه، حيث لا يمكن فهم أو كتابة تاريخ النساء بمعزل عن مجموع التقاطعات مع فئات أخرى مثل العنصر والطبقة والأمة والجنسانية. تتطرق مع سينها إلى مسألة الصياغة الجديدة لهوية المرأة الهندية في القرن العشرين وتستشهد بتحليل بارثا تشاترجي لمأزق الإصلاحيين في الهند الذين سعوا إلى تحديث الأمة وفقًا للنموذج الغربي وفي ذات الوقت حاولوا التمسك بهوية قومية جوهرية لدعم مطالب الاستقلال. كان الحل في إنشاء المرأة الهندية كرمز للهوية الهندية الأصيلة التي تنفتح إلى العالم الحديث ولكنها تظل متمسكة بتقاليد وأسس “الأسرة الهندية“. من ناحية، يمكننا اعتبار هذا الحل حلاً مبتكرًا في سبيل بناء جماعة حديثة لا تحاكي النموذج الغربي (Chatterjee 1996، 217)7 ولكنها من ناحية أخرى كرست لازدواجية وتناقضات عميقة تجاه النساء ووضعهن في العصر الحديث. تتكرر هذه الصيغة، أي مطالبة النساء بأن يكن “حديثات ولكن محتشمات” كما عبرت الناقدة الإيرانية أفسانه ناجمابادی (Najmabadi 1991، 49) 8 في أغلب البلدان التي عانت من الاستعمار، وتظل النساء والتمثيلاتهن موضع جدل وصراعات سياسية وأيديولوجية حتى يومنا هذا، تنتهي سينها إلى أن الكتابة التاريخية النسوية تشدد على “أهمية القيام بتأريخ الشروط التي تنشأ في ضوئها السياسات والهويات… وتجذب الانتباه أيضًا نحو عملية كتابة التاريخ نفسه بصفتها ممارسة تدخلية… تعيد خلق الماضي لحساب الحاضر” (ص۹۳).
أما فرون وير فتلفت النظر إلى أهمية التقاطعات في تحليلنا وتركز على إغفال قضايا العنصر في التأريخ النسوى، وذلك بسبب الأسلوب الذي اتبعته النسويات في تناول قضايا الاختلاف. ففي أحيان كثيرة نجد افتراض أن البياض هو اللون الطبيعي، والسواد هو المختلف، الأمر الذي عزز بشكل غير مباشر سيادة العنصر الأبيض على الأسود، وبالتبعية أدى إلى ازدراء للمرأة السوداء. تذهب وير إلى أن هذا الافتراض يتجاهل حقيقة أن البياض هو أيضًا منشأ له تاريخ، كما يتجاهل ما تطلق عليه وير “الارتباط التعالقي“، أي واقع أن الأنوثة البيضاء يتم إنشاؤها في إطار يتصل بالتصورات عن الأنوثة السوداء، فتصبح الأولى هي الأنوثة المعيارية والثانية هي الأنوثة المنحرفة. تشير وير إلى دور التراث الاستعماري لبريطانيا في تحديد هذه الإنشاءات وارتباطها بعضها البعض. فمنشأ المرأة البيضاء كرمز للطهر والتميز يقع في تضاد ثنائي مع منشأ المرأة السوداء الخانعة والمجنى عليها في الثقافة الإمبريالية. تلفت وير النظر أيضًا إلى أثر تلك التصورات على صنع الرواية التاريخية المعاصرة التي تكتبها الصحفيات وكاتبات يقدمن للقراء مشاهدات وروايات عن وقائع شاركن فيها، أي وقائع “حقيقية” ومستندة إلى تجارب ملموسة، ولكن تتلون هذه الوقائع بالتصورات التاريخية عن السيادة العنصرية والنوع. وتتساءل وير: كيف يمكن للنسويات سرد الواقع المعيش من منظور راديكالي يتصدى للروايات الشائعة عن التسيد العنصرى والنوعي؟ فترى أنه لكي تستمر النسوية في كونها حركة اجتماعية وفكرية تناهض الانحيازات السائدة عليها أن تعي العلاقة الوطيدة بين تصورات النوع وتصورات العنصر وكونهما وجهين لعملة واحدة.
تتناول مقالتا هبة أبو غديرة وسوندرا هيل موضوعات من التاريخ العربي الحديث. تمضى هبة أبو غديرة في طريق البحث عن أصول المفاهيم والمصطلحات وتستخدم “الطب” كمنشأ تحليلي لتفسير التطورات التاريخية في مصر في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حين أصبح العلم الحديث، وبالتحديد هنا الطب، “المرجعية العقلانية غير الرسمية” في الدولة الحديثة، فتلقى بالضوء على دور طب الاستعمار، أو الطب الحديث الذي أدخله الإنجليز في مصر، في توجيه عملية تحديث مصر وإعادة تنظيم علاقات القوة بين الجنسين داخل المجتمع المصري. تتبع الباحثة ما أسمته بعملية أنجلزة الطب في أواخر القرن التاسع عشر وإعادة تشكيل المفاهيم والممارسات والأطر التي يمارس من خلالها، مما أدى إلى حصر ممارسة مهنة الطب في فئة دون غيرها، أعضاؤها ذكور من الطبقة العليا من الحضر ويتكلمون الإنجليزية، وإقصاء فئات أخرى. وكان من أهم الآثار المترتبة على ذلك إبعاد الحكيمات المصريات وتقليص صلاحياتهن في علاج أمراض كثيرة إلى جانب القبالة. تعزى الباحثة هذه التغيرات في أدوار وصلاحيات ممارسي الطب إلى سيادة طب الاستعمار المحمل بثقافة غربية ذكورية أدت إلى تذكير الطب النسائي المصري وحصره في أيدى فئة محدودة. ومن ناحية أخرى، تتطرق الباحثة إلى دور الأطباء العصريين في تشكيل خطاب قومي عن المرأة يعزز من أدوارها في المنزل، ومن دورها كأم عصرية مسئولة عن صحة أفراد أسرتها، أي إنهم ساهموا في صياغة خطاب طبي معنى “بالحياة المنزلية” ومصاغ بلغة قومية. تلقى الباحثة الضوء على نقاط التماس بين الخطاب العلمي القومي الذي استخدمه الأطباء في مخاطبة النساء وخطاب الاستعمار، حيث استوعب القوميون الكثير من الافتراضات الثقافية الشائعة في العصر الفيكتوري عن ضعف ومرض المرأة الحامل أو المرضعة، وطبقوها في تعاملهم مع النساء. وتذهب الباحثة إلى أن كلا الخطابين، خطاب الاستعمار والخطاب القومي، أدى إلى استعمار أجساد النساء المصريات، الحكيمات منهن وربات المنزل، وذلك بحصرهن في أدوار محدودة مقارنة بالأدوار التي كن يؤدينها قبل دخول الطب الحديث وسطوته.
وتأتي أهمية هذه المقالة بسبب مقاربتها لتاريخ الطب الحديث من منظور يأخذ في الاعتبار تقاطع النوع مع عملية تأسيس الدولة القومية الحديثة. فلقد شهد العقدان الماضيان ازدهارًا ملحوظًا في الأدبيات التي تنقد الخطاب الحداثي المهيمن في فهمنا لتاريخ الشرق الأوسط عامة والتاريخ العربي على وجه الخصوص. فمن الأفكار الشائعة إلى الآن مقولة إن العصر الحديث عزز بشكل لا يقبل المناقشة من حقوق النساء حين أتاح لهن فرص التعليم والعمل، وأن جميع الانحيازات التي تواجهها النساء ما هي إلا بقايا مترسبة من تقاليد العصور الماضية. ولقد كشفت الأبحاث الجديدة عن بعض الانحيازات ضد النساء التي وردت على المجتمعات العربية في العصر الحديث، وارتباطها بالوجود الاستعماري وسطوته على البلدان التي استعمرها. فعلى سبيل المثال، بينت الأبحاث العلاقة بين أيديولوجيا الحياة المنزلية، أو فكرة أن المنزل هو مملكة المرأة وأن دورها الأساسي كأم وزوجة يتحقق داخل المنزل وليس خارجه، وهي فكرة توظف لإقصاء النساء من المجال العام، وبين الفكر الفيكتوري في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في إنجلترا، وهو الفكر الذي دخل المجتمع المصري من خلال الترجمات التي كانت تنشر في الصحف والمجلات في القرن التاسع عشر،9 كما دخل، كما بينت الباحثة بشكل جيد، من خلال عملية أنجلزة الطب في مصر.
أما سوندرا هيل، فتتناول في مقالتها “المنهج النسوى والسيرورة والنقد الذاتي: مقابلات مع نساء سودانيات” مشروعها لكتابة تاريخ شفاهي للنسويات السودانيات كمثال لمراجعة بعض مناهج البحث والفرضيات النسوية. اهتمت الباحثات النسويات على مدار عقود بسؤال: كيف نكتب تاريخ النساء، ونوثق لتجاربهن المستبعدة من التاريخ الرسمي، وكيف نتمكن من الإنصات إلى أصواتهن بشكل مباشر مع الأخذ الاعتبار علاقات القوة غير المتوازنة بين راوية السيرة أو المبحوثة، وبين الباحثة أو المؤرخة التي تملك سلطة نقل الرواية وكتابتها، ومن ثم سلطة التحكم في التمثيل والصوت؟ ولهذا، ركزت الباحثات النسويات على أهمية الانتباه إلى السيرورة process، إلى تفاصيل العلاقة بين الراوية والمؤرخة، وذهبن إلى ضرورة ضمان الشفافية والأمانة، فتحرص الباحثة على إطلاع المبحوثة على كافة تفاصيل البحث كما تحرص على استشارتها وإشراكها في الخطوات المختلفة، كلها إجراءات ومحاذير الهدف منها هو إنتاج بحث أو رواية تاريخية تراعي مصلحة الطرفين وتحقق أهداف البحث النسوي في تغيير علاقات القوة غير المتوازنة أيًا كانت أسبابها.
تشتبك هيل مع بعض فرضيات المنهج النسوي الذي يعلى من شأن السيرورة في المقابلات الأنثروبولوجية على حساب المحصلة، ليس بهدف الرجوع عن محاولات الباحثات في تحقيق قدر معقول من التوازن في علاقات القوة، ولكن بهدف تسليط الضوء على العلاقات المعقدة بين طرفين تحمل كل منهما تصورات عن الآخر بحكم موقعها وخلفيتها الثقافية والأيديولوجية والطبقية، وهي خلفيات قد تطغى على المشترك النسوى المفترض بينهما. تستدعى مقالة هيل تحفظات جون سكوت على التعامل المبسط للتجربة النسائية بوصفها مرادفًا للحقيقة ومن ثم تذهب كلاهماإلى ضرورة انتباه الباحث والباحثة إلى تعقيدات إنشاء المعاني والروايات التاريخية وارتباطها بموقع الراوية وأهدافها وجمهورها المتخيل الذي تحرص على مخاطبته. تعترف هيل في مقالتها أنه أحيانًا، وبسبب تلك التعقيدات، قد لا تستطيع الباحثة النسوية تحقيق الهدف النسوى المرغوب: “إن “حلمى بلغة مشتركة” هو حلم قد حطمته هذه المقابلة، غير أنه ربما كان ذلك مبعثه أننى على الرغم من استدعائي لشكل من أشكال “النسوية” نسيت في الوقت نفسه شيئًا من الأنثروبولوجيا والسياسة والتاريخ” (ص٢٤٦).
أخيرًا، قررت إضافة مقابلة لي في هذه المجموعة المترجمة على الرغم من نشرها بالعربية في مجلة ألف سنة 1999 وذلك بسبب مناسبتها للموضوعات المطروحة في هذا الكتاب وتطرقها لقضايا تناولتها باختصار هنا في المقدمة. حاولت في المقابلة تقديم المشروع الفكري للمرأة والذاكرة وتوضيح دلالات استخدام المنظور النسوى وأهميته في قراءة التاريخ الثقافي العربي. وحين كتبت سامية محرز مقالتها عن “ترجمة الجندر“، اشتبكت مع المقابلة معى باعتبارها محاولة لترجمة مفهوم “الجندر” ودراسات “الجندر” إلى العربية.10
أملى أن تثير هذه المقالات نقاشًا مثمرًا وإبداعًا ثريًا.
1- ناقشت هذه الفكرة في مقالة سابقة لي عنوانها: “دراسات النوع في العالم العربـي: تأملات وتساؤلات عن تحديات الخطابات والموقع والتاريخ” ألقيت في مؤتمر عقد في بيروت في 4 – 7 نوفمبر ۲۰۰۹ ونشرت أعمال المؤتمر في كتاب عنوانه النسوية العربية: رؤية نقدية، تحرير جين سعيد المقدسي، رفيف رضا صیداوی ونهی بیومی. بیروت، تجمـع الباحثـات اللبنانيات ومركز دراسات الوحدة العربية، ۲۰۱۲.
2 – Edward Said, “Traveling Theory,” in The World, the Text and the Critic. London: Faber and Faber, 1984, pp. 226-247
3 – Joan Wallach Scott, “Feminist Reverberations,” Differences: A Journal of Feminist Cultural Studies, Volume 13, Number 3, Fall 2002, pp. 1-23
4 – أنظر مقالة سامية محرز حيث تذهب إلى أن مصطلح الجنوسة هـو الأنسـب ضـمـن كـل الاختيارات الأخرى لأنه يبرز ديناميكية المفهوم ويبتعد عن تثبيته في جوهر جامد، مقارنـة مثلاً باستخدام “جندر” وهو مصطلح أجنبي منقول إلى العربية. وترى أيضًا أن عدم الاتفـاق على مصطلح الجنوسة كترجمة مبتكرة لـ gender يدل على قصـور مـن قبـل الباحثـات النسويات وعدم قدرتهن على خلق معانٍ جديدة تسمح بإدماج دراسات النـوع فـي الثقافـة العربية. فـ “الجنوسة“، من وجهة نظرها، صياغة مبتكرة تتبع قواعد الصرف العربي كمـا تعتمد على جذر عربي يسمح بإدماج المفهوم في اللغة ومن ثم في الثقافة، عوضًا عن استخدام مصطلحات، مثل” النوع” أو “الجنس” أو “الجندر” التي في رأيها “تعزز من الأفكـار الداعية إلى الانفصال والاختلاف.
Samia Mehrez, “Translating Gender”, Journal of Middle East Women’s Studies, Vol. 3, No. 1 (Winter 2007), pp. 106 – 127.
5 –Judith Butler, Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity (1990), 2nd edition. London and New York, Routledge, 1999
6 – Mohanty, Chandra Talpade, 1986, “Under Western Eyes: Feminist Scholarship and
Colonial Discourses.” Boundary 2 12(3): 333 – 58.
7 – Partha Chatterjee, “Whose Imagined Community?”, Mapping the Nation, ed. Gopal
Balakrishnan, with an Introduction by Benedict Anderson (London and New York: Verso, 1996), 214-245.
8 – Afsaneh Najmabadi, “The Hazards of Modernity and Morality” Women, State, and Ideology in Contemporary Iran”, Women, Islam and the State, ed. Deniz Kandiyoti
(Philadelphia: Temple University Press, 1991), 48 – 76..
9 – أنظر المقدمة في كتاب عائشة تيمور وتحديات الثابت والمتغير في النصف الثاني من القـرن العشرين، تحرير هدى الصدة (القاهرة، مؤسسة المرأة والذاكرة، ٢٠٠٤) ص ۹ – ۱۱.
10 – Samia Mehrez, “Translating Gender.”, Journal of Middle East Women’s Studies, Vol. 3,
No. 1 (Winter 2007), pp. 106 – 127.