١٨ ديسمبر ٢٠٢٣
معنى عنوان المقال: النفاج: عبارة عن فتحة أو ممر صغير، يربط بين منزل وآخر، أو بين سلسلة من منازل الجيران، حيث تجد بين كل بيت والآخر فتحة طويلة تتسع بالكاد لعبور شخص واحد، ويستخدم لزيارة الجيران بين بعضهم البعض دون تكلف عناء الدخول من الباب الرئيسي.
النص :
(1)
في عام ٢٠١٨ ظننا أننا وصلنا ذروة المعاناة، كل حدث وشيء يدعو إلى الإنتفاضة، أنباء عن غرق أطفال في طريقهم إلى المدرسة لأن مركب مهترئ هو الوسيلة الوحيدة لتوصيلهم، صفوف تمتد إلى أيام وليالي في طرمبة البنزين، لاتوجد سيولة ومعاناة مضاعفة في البنوك، وندرة في الخبز حتى أصبح نفسه رفاهية.
كفتاة في الثامنة عشر من عمري حملت عبء كل ذلك وكأنني السبب فيه وحدي، وتحملت مسؤولية صمتي، وكنت ألوم كل من حولي أننا من قبلنا الهوان.
إلى أن شرقت شمس السابع عشر من ديسمبر في الدمازين، كسر شخص ما قيد صوته، فتحررنا جميعنا، توحدنا وهتفنا بملىء الصوت “الشعب يريد إسقاط النظام“. ديسمبر أعادت لنا حياة ظننا أنها سلبت وإلى الأبد، وبعثت أمل لم نختبره من قبل.
سقط النظام بالفعل ولم يصدق أحد أن هذا حدث بعد ٤ أشهر فقط من الإنتفاضة، كنا معدين أنفسنا لسنوات من القمع والسواد حتى نرى النور. إجتاحنا الفرح وأنشغلنا بنشوة الإنتصار فلم نعِد نفسنا إلى ما هو آت، صعدنا إلى السماء لنُقذف إلى الأرض مجدداً بدموية فض الإعتصام. لقد شهد السودان مثل هذا الهلاك من قبل ولكن لم يتجرأ أحد أن يستحضره إلى وسط العاصمة بمرأى من الجميع، وكأنه يبعث رسالة إلى العالم “أنا لا أبالي“. الجدير بالذكر؛ لم ينقطع نفسنا، بل نهضنا مجدداً وتحضّرنا إلى معركة أصعب زلزلنا عندها الأرض بموكب ٣٠ يونيو رداً على الطاغية بأن الرصاص لن يردينا. أحسنَا الظن أن الطغاة قد إستوعبوا الدرس وأن هذا الشعب أنهى بصوته عهد الأنظمة الشمولية وحكم السلاح. شهدنا بعدها فترة من التذبذب السياسي الذي أدى أخيراً بعام ٢٠٢٠ إلى إستقرار سياسي، و حكومة مدنية برئاسة عبدالله حمدوك. وها أنا بعد عامي العشرين ولأول مرة بحياتي أشهد رئيساً غير عمر البشير. ليغدرنا العسكر مجدداً بالإنقلاب العسكري، وإعتقال الحكومة المتخذة. وبعد عامين من المقاومة لإحضار حكم مدني يشبهنا وإستقرار سياسي ندعو له منذ ٥ أعوام، إندلعت الحرب. أما نحن، ضحايا الأنظمة الشمولية منذ الإستقلال ندفع الثمن مجدداً بلا سابق إنذار، تهدمت حياتنا كأنها لم تكن، و نطالب بالمزيد. نفسنا لن ينقطع وسنسعى إلى وطن يشبه مثابرتنا، لن نتوقف أن ندعو للسلام.
وطننا الذي نحبه ومحفور في قلوبنا.
(2)
الخامس عشر من إبريل
صباح مرتبك، كأن الشمس تخشى السطوع.
التاسعة صباحاً أطلق جندي ما الرصاصة الأولى فأستحضر الهلاك لأمتي، إشتباكات مسلحة بين الجيش السوداني و قوات الدعم السريع وسط العاصمة الخرطوم.
إعتدنا مثل هذه الصباحات، فقد سبقه فض الإعتصام، و من بعده الانقلاب العسكري، لابد أنها أحد الفترات الصعبة، ينقطع فيها الإنترنت، إجازة غير مدفوعة الأجر و تذبذب سياسي مرة أخرى. و بالتأكيد سنعتاد كل هذا بعد مدة و تعود الحياة إلى مجراها الطبيعي. لم يحدث ذلك. شريط أحمر بالقنوات الإخبارية ” إشتباكات مسلحة بمناطق متفرقة بالعاصمة و أنباء عن وفيات برصاص طائش“
السماء، لم تعد هي السماء، يجتاحها السواد، دوي قذائف، و إنفجارات.
اعمدة الدخان تغطي سماء الخرطوم.
الثانية ظهراً تحديداً بتوقيت العاصمة الخرطوم، حدثت أبي هاتفياً لبعده عنا، و أن الأمر ليس بالخطورة التي تعتلي القنوات، نحن بخير، لسخرية القدر بدأ القصف الجوي في حينها و بلا سابق إنذار، تلوت الشهادة، و أدركت عندها فقط؛ أنها الحرب.
لا أذكر ما حدث بعدها، الجدير بالذكر، لم نمت، يقول علماء النفس أنها الصدمة النفسية، تنسى الحدث؛ و يبقى الألم.
الليلة الأولى لن تنتهي أبداً بداخلنا، لا مكان آمن بعد الآن، لم ينم أحد، و القصف الجوي صار أبشع كوابيسنا. كلنا نهيئ أنفسنا، ليس للهرب بل للموت. أمي تتماسك من أجلنا، و أخوتي كل يحاول إدراك الأمر بعد لينتهي بإنهيار عصبي الواحدة تلو الأخرى. أنا أسمع صوت أنفاسي، و الأصوات ضبابية من حولي.
صباح اليوم الثاني لم يكن كما عهدناه من الصباحات، توارت الشمس خلف الدخاخين وإنخرس الطير حداداً على ما جرى. وأبي ينتظر البشرى، صُلح سريع؛ ليهدأ قلبه، قُدر له – وهو بمكان بعيد عن هذا العبث وبمأمن – أن يكون جزءاً ليس بعاطفته فقط بل بحواسه من أصعب الأحداث علينا؛ القصف الجوي.
مضى اليوم بترقب، متى ستكون اللحظة الحاسمة؟ نهايتنا أم نهاية الكابوس.
أحسنا الظن أن النهار أصعب ما قد نخوضه، ليأتي الليل، تداهمك كل فواجع النهار ويلتف حولك الخوف حتى يكاد يلتهم روحك. تنغمس في شتات أفكارك، ولا منجى.
(3)
مكالمة هاتفية من جدتي لتطمئن على حالنا حددت مصيرنا بأكمله، على بعد أقل من كليومتر يقبع أكبر معسكرات الدعم السريع والقصف الجوي لن يغفر. أُتخذ القرار النهائي في دقائق ونفذ بعدها بساعتين، سنغادر المنطقة بلا عتاد على وجه السرعة وتحت أصوات الرصاص الحي، وعلى بعد شارعين منا وفوق رؤوسنا مضاد الطيران رداً على الهجوم، حملنا ما هو ضروري فقط وخلّفنا ورائنا كل شيء، بلا وداع، بهلع ونرجح فقط الفناء، تاركين حياة بأكملها.
وجهتنا كانت إلى ضواحي العاصمة حيث بيت جدي الأكبر، حتى وقتها لم نصدق أن مازالت هنالك حياة بمكان ما، لابد أن الحرب هي النهاية؛ بل كانت بداية لمرحلة جديدة. لاتقتصر المعاناة فقط على الرصاص والقذائف، الحرب أكثر من ذلك، بالتأكيد لا تحتسب إحصائيات الوفيات، جارتنا التي فعلياً قد توفيت خوفاً، توقف قلبها لحظة قصف جوي. هل تبث الأخبار كوننا مجبرين على بدء حياة جديدة من الصفر بعد أن هدم كل ما لدنيا بلا سابق إنذار؟ أننا صحونا في يوم لنجد أن عالمنا بأكمله قد تهاوى؟
خرجنا في ثلاث سيارات متفرقة، إنقسمت فيها أسرتي وجيراننا، مخاطرة لم نتوقع فيها سوى الفناء ولكنها تستحق المحاولة، على الأقل تبيّن أن هنالك بصيص أمل للنجاة.
قبل أن نصل الضواحي، كانت الصدمة، الحياة أكثر من عادية على بعد كيلومترات فقط من الهلاك، الكل يتجهز للعيد حيث الأسواق مفتوحة والدكاكين مزدحمة وبائعي الخضار يسوقون لما لديهم، الكل يتجول كأن شيئاً لم يحدث.
تلقفتنا أحضان جدتي، لنطلق عنان الحسرة وأنين مكتوم قسرياً وخيبة من الحياة. بكاء طويل، رجالاً ونساءاَ، نبكي نحن على ما جرى وهم فرحاً لسلامة وصولنا. بعدها بدأ أقربائي بالتهافت علينا.
جدتي الحنونة وهي تستقبلنا بعد هول مارأيناه.
الكل يود الإطمئنان على “بنوت منعم“، كما هو الحال في الريف، الكل طيب ويشعر بالمسؤولية تجاه الآخر.
جيران جدتي الطيبين وهم يطمئنون على حالنا.
أما نحن كنا فقط نشعر الذهول، لا شيء منطقي في الأيام الثلاث الماضية. لم نأكل منذ آخر عشاء ببيتنا ولم ننم منذ أول يوم في الحرب.
الجدير بالذكر أن كل ذلك كان أقل مرارة بفعل محبة عائلتي وكرم أهل القرية.
نعينا فقيدنا على مواقع التواصل الاجتماعي حيث توفي خالي برصاصة مباشرة في الرأس، فهذا ما كنا نستطيع فعله فقط ومازلنا نحاول الإستعياب، كيف يمكن أن نفقد كل شيء دفعة واحدة وما زالت الحياة تستمر هنا؟
هذا يوما السابع الآن، الوضع آمن ومريح منذ مدة، محفوفين بالمحبة والكرم. ظننا أنه مع الوقت سيبدأ أثر الصدمة بالزوال فبدأ عوضاً عنه سؤال ماذا سنفعل الآن؟ يداهمنا بشراسة، بعد كل تلك الخسارات الفادحة أين سنعيش؟ و كيف سنعيش بعد أن فقد كل منا مصدر دخله؟ هل سنلتقي مجدداً بخالتي وأعمامي وأولاد خالتي وعمومتي؟ ربما قد يكون هنالك أمل، بعيد أم قريب يقول المثل “الضفر ما بطلع من اللحم“. ولكن .. هل سنلتقي بأصدقائنا مجدداً، الجيران؟ أو الزبير صاحب الدكان، لطالما كان ودوداً معنا فقط دون الأخرين، يبرر ذلك بأن أبي شيخ و البركات تلازمه.
هل سنلتقي بمارِيّا، كانت تعمل معنا منذ عامين، حيث نزحت من الحرب في الجنوب وإلتجأت بموطن كان لها! هل سنراها مجدداً؟ كيف ستعيش؟ هل سيحميها بيت القش من القصف الجوي؟ وبيتنا المصنوع من الطوب كاد أن يتهدم فوق رؤوسنا من قوة الإهتزاز؟
في أول يوم في الحرب إستغربنا هدوئها، و هي تهم بإكمال نظافة البيت، حتى طلبنا منها أن تهرع لأطفالها فالوضع غير مبشر.
هاتفتنا بعدها بساعات، “أهرعو لتحت السراير، إحتمو من الرصاص“، كيف أن تحمل همنا وهي في العراء تواجه الهلاك.
(4)
أمضينا ٥٠ يوماً في الحرب، حيث زحفت الإشتباكات المسلحة حتى وصلت منطقة بيت جدي. إعتدنا صوت القصف الجوي، وأزيز الطائرة الإستكشافية على مدار٢٤ ساعة. لايمر اليوم دون إطلاق رصاص حي، وأصبح من الإثارة القبض على عربة دعم سريع متسللة، لم يعتاد الناس فقط نبأ الموت بل أصبحوا يستلذوا به عندما يقترن بإسمهم.
أتخِذ قرار آخر، نحن محاصرين مجدداً ولم يبقى مكان للذهاب إليه، حيث وصل الهلاك حتى مسقط رأسي بشمال كردفان. سنغادر السودان إلى مصر، لاخيار آخر.
عندما كنا على مشارف المغادرة أو الفرار إن صح التعبير و كما تنعتنا القنوات الإخبارية، إستغربت إحساسي بعد كل سنوات النضال تلك، أنا أريد هذا بالفعل و أبغض كل ما يدور عكس ذلك، حتى الأماني بأن تتوقف الحرب و نعود لديارنا، لم أعلم أنه اليأس و إدراكي بأنه لن يعود شيئاً كما كان، أو تأثير الصدمة النفسية.
وجهتنا كانت نحو الشمال، و منها إلى الحدود لنفر بجلدنا بحثاً عن حياة. يوم خروجنا النهائي كانت أول مرة نرى الخرطوم مجدداً منذ ثالث أيام الحرب، جلست وأختي في المقعد الأمامي منتهزين فرصة وداع أخيرة لديارنا. لم يعد هنالك ديار، الفوضى تعم الأمكنة، لامدنيين وفقط أثار إنفجارات ودمار في أماكن متفرقة، سيارات محروقة وسط الطريق، ومدرعات وعربات عسكرية محطمة على جانبيه، نشوة الإنتصار بأعين عساكر أحد الطرفين، و نحن منكسرين مطأطين الرأس لنحافظ على حياة قد تسلب فقط إن رفعناه قليلاً، الشوارع فارغة من الحياة والناس.
هذه ليست دياري بعد الآن.
في باص السفر جلست بقربي طفلة في عمر الحادي عشر، من خلال حواري معها أدركت أنها لم تخرج من دائرة منطقتهم السكنية من قبل، تسائلت أهي محمدة إذ لم تتعلق بالخرطوم كما فعلنا، أم هي مفسدة حيث سلبت الديار الوحيدة التي ألفتها من قبل.
أختي الكبرى تتأمل الطريق، حيث كانت أول مرة أراها تبكي بعد مرور٥٠ يوماً من الحرب، خلفنا هذه المرة كل شيء بلا أمل رجعة. و لاشيء سيعود كما كان.
أختي الكبرى وهي تحمل هموم الدنيا على اكتافها.
(5)
مكثنا في أحد مدن الشمال لساعات، حيث وصلنا هناك عصراً لتبدأ رحلتنا الجديدة إلى الحدود صباح اليوم التالي. مضينا الليلة بين توتر، حسرة وخوف من المجهول، وزاد الوضع سوءاً مايسمي “بالكُبسة” وهي وصف لشدة العاصفة الترابية.
جاء الصباح، قضيناه في ضيافة خضر والأم الحنونة –من أستضافونا بمنزلهم– هم أقربائي من الدرجة الثانية وكانت تلك أول مرة أقابلهم فيها. ودودين حفونا بالكرم. وداعهم كسر قلبي، كيف يمكن لشخص تمضي معه ساعات يذرف دموعاً كتلك، ربما لأني تذكرت كل الوداعات التي لم أحظى بها.
بدأنا الرحلة، كان طريق الشمال من أجمل طرق السفر التي مررت بها. يضاهي الطريق إلى الغرب، و كلُ يتفرد بمعالمه، كنت سعيدة بحق لأول مرة منذ ما يقارب الشهرين. كدت أنسى ذلك الشعور، لم ينبع ذلك من الرحلة فقط، فهذه أول مرة أرى أختي الصغرى تستعيد بريق عينها، تلك التي كانت تعكس إنكساراً وهي فقط في السابعة عشر من عمرها! أخيراً هي متحمسة لشيء ما منذ سنوات!
من جانب آخر أختى الكبرى، وكأن قلبها يتمزق كلما إبتعدنا أكثر عن الديار. يزداد وجهها شحوباً وأضحى ينطوى على حزن نبيل، كلما أطلت النظر إليها كلما إزداد خوفي يصيبها مكروه، فقط إكتفيت بإحتضانها من حين لآخر عسى أن تحسن الظن أنها مواساة.
لقد هون علينا هذه الأحاسيس مساعد السائق في الباص، لقد كان ودوداً وإبتسامته لاتفارق وجهه، ويأتي مسرعاً إليك بمجرد النظر إليه، كأنه يدرك ماواجهنا من معاناة فيحاول تقليل مراراتها بلطف غير مسبوق. بالفعل؛ كلما أنقبض قلبي نظرت إليه ليبتسم ويهم لي بالماء، أشكره وأحاول التنفس لكي لا يتحول هذا لنوبة هلع جديدة وأحاول التفكير بمسراتي الصغيرى بعيداً عن هذا الهلاك.
وصلنا إلى حلفا وهي تبعد نصف ساعة من الحدود، مكثنا الليلة هناك، قابلنا أصدقاء قدامى لنا، لنترافق في الرحلة. لم نجد سوى غرفة واحدة فارغة لإزدحام المدينة، لذا قررنا أن نضع فيها الأمتعة ونستغل باقي الوقت في إستكشافها حتى موعد رحلتنا في الصباح. جلسنا منهكين في الأرض أمام الفندق بعد منتصف الليل، نستدرك فيها حالنا وأن الحرب إندلعت بالفعل وها نحن في الحدود تقريباً ونمضي الليلة بأكملها بشوارع مدينة نراها لأول مرة في حيواتنا، سنهجر بلادنا بعد ساعات دون عودة وها نحن نأكل الشيبس ونضحك ساخرين من الألم.
عند الثانية صباحاً مر بنا شباب، إعتذروا لنا عن سوء الوضع كأنهم السبب الأساسي فيه، وكيف لنا أن نمضي الليل في الشارع وهم موجدين، تنازلوا لنا عن غرفتهم والحسرة بصوتهم، سيمكثون هم الليل خارجاً لنبيت نحن بأسرَتهم. لطف آخر قلل مرارة المأساة، وفاجعة أن لاأحد منا يستحق كل هذا.
(6)
الخامسة صباحاً بتوقيت حلفا الجديدة، كنا جاهزين تماماً للتحرك نحو عربة سفرنا –وهي هايس صغيرة– أحضر والد صديقاتنا توكتوك حيث هو وسيلة التنقل الوحيدة هناك، ومضينا في طريقنا.
المكتوب على السيارة يوصف حالنا تماماً. المصدر: إسراء الريح
التوتر كان خانقاً حيث وصلنا خبر جديد من السلطات المصرية أن التأشيرة الآن مطلوبة من الجميع نساءاً وأطفالاً وكبار سن، ونحن بصدد يوم واحد لننجو من القرار. كان من المفترض أن تتحرك عربتنا في السادسة ولكن أحد الأسر التي ترافقنا تأخرت ولم نتحرك سوى بالثامنة، لم نمضي ربع ساعة في الطريق حتى تعطلت بنا العربة لنخسر مزيداً من الوقت مع تصاعد وتيرة القلق من المجهول، هل سنصل في الوقت المناسب؟ حيث يجب أيضاً أن نستكمل إجراءاتنا قبل الثالثة ضهراً فدخلنا في سياق غير عادل مع الوقت. وصلنا المعبر السوداني لنجد الآلاف قد تحركوا بعد القرار الجديد، الجميع في حالة فزع وهلع، في ظل غياب تام للسلطات السودانية. الجميع خائف فلا مخرج آخر من الحرب سوى هذا، وقد يغلق بوجهنا في أي وقت. بعد معافرة أستطعنا إكمال الإجراءات لتضيع أمتعتنا وسط الزحام، كأن بلادي تتمسك بنا و تمنعنا من الخروج، تهمس لنا ألا نتخلى عنها للهلاك.
لحظة وصولنا للحدود المحايدة أغلقت السلطات المصرية حدودها مبكراً حيث وصل الآلاف بأمل العبور، تعسرت أمامنا السبل، ولم يبقى سوى الإنتظار متكئين على أمل كاذب. قضينا ثلاث ليالي في الصحراء، ننام على الأرض في كراتين، نعيش على الماء و السكريات لعدم توافر وجبات كاملة هناك. راهنا بكل شيء لنصل هنا، تاركين ورائنا والدتي العزيزة، تخلينا عنها لأن كان يجب على أحدنا أن ينجو بصغيرتنا من هول الحرب. لم يتبقى مكان للذهاب إليه، وهنا النقطة الفاصلة، ننجو أو نعلق بهول الحرب. مذهلوين من التجربة، و كيف أنتهى بنا الحال هنا؟ قبل سنوات رأيت حدث بأحد القنوات الإخبارية، سورييون عالقين بحدود أحد الدول الأروبية، كيف أنتهى بي الحال في نفس الخبر؟ أختى الكبرى تتماسك من أجلنا، حتى تجمدت الدموع بعينها، و ينفطر قلبي كلما نظرت لصغيرتنا، لطالما سعينا لأن نوفر أفضل الأوضاع لها و ها نحن مكبلين، والدتي تقطع قلبها علينا، كلما هاتفتنا نمسح الدموع و نبلع الحسرة بمراراتها لنصدر لها كيف نحن بخير، و كلنا نعلم أننا جميعنا مفجوعين.
لم نستطع عبور الحدود المصرية.
(7)
كانت والدتي تمكث بإحدى قرى الشمال، حين سمحت لنا بالذهاب إلى الحدود وهي نفسها من كانت تخاف أن نتأخر بعد العصر خارج المنزل.
أُغلقت الحدود المصرية بوجهنا، ولم يعد هنالك شيء لفعله. سنحمل عتادنا عائدين لنقطع ٨٠٠ كيلومتر أخرى رجوعاً إلى عطبرة. كلما هاتفتنا أمي عبرنا لها عن إمتنانا للتجربة، وكم نحن محظوظين لأننا لم نسافر من دونها وقد كتب الله لنا ألا نفترق.
خلال الثلاث أيام في الحدود جمعتنا المعاناة مع أفراد الهايس، حيث كنا ثلاث أسر وفرد، هنالك أفنان الطبيبة تعتلي وجهها إبتسامة واثقة، أخذت قرار النجاة بوالدها الكهل تاركة ورائها والدتها المريضة، وصفناها بالشجاعة فهي أيضاً فقط في العشرون من عمرها! هنالك الخالة فتحية، و بناتها الثلاث، باعت كل شيء تملكه وراهنت على هذه المحاولة، خسرت كل شيء بالفعل و كانت تبكي كثيراً على حال كل منا على حدة، قلبها كبير وحنونة، لكن الحرب سلبتها كل شيء. أما نحن فقد أمضينا الأيام السابقة بين إنهيارات متقطعة وضحك كثير على ما حال، نظرنا بعين القهر والألم و تعالى صوت ضحكنا.
طريق العودة كان أشد تعباً، ربما لخيبة أملنا
في رحلة العودة نجر اذيال الخيبة. المصدر: إسراء الريح أختى الصغرى مثقلة بمستقبل كانت تتلهف له، في الطريق رأينا سراباً قالت ضاحكة ” شوفي طموحاتنا” وإنفطر قلبي من جديد، لماذا تحمل ذات ال ١٧ ربيعاً حجم هذا اليأس؟ و لما نحن مكبلين الأيدي هكذا رغم قسمنا الدائم بحمايتها وتسهيل حياتها. هذا منبع مشاكلي معها دائماً تكره كوني أراها طفلة؛ هي حقاً كذلك ولكنها شاخت مذ الخامسة عشر كونها شهدت مقتل أصدقاء لها، وعرفت الظلم والغدر وحملت كره لا قدرة لقلبها الصغير به. شهدت فض الإعتصام، و الآن تعيش في الحرب، فقدت حياتها قبل أن تبدأ ومثيلتها وصديقتها الصدوقة من جانب آخر، فقدت أبيها، وهي طفلته الوحيدة.
و الحرب لا تتوقف!
(8)
في قرية تبعد عن المدينة ب ٤٠د وتجربة لأول مرة لنا بحياتنا في الريف، كانت أمي تحمل هم عدم تأقلمنا هناك، حياة ليست جديدة فحسب بل مختلفة تماماً عن كل ما رأيناه طيلة حياتنا. لا تدري أين سنمكث، و كارثة السيل قد هدّمت منزل جدي الأكبر هنا وهو مهجور لسنوات في الأصل، ماذا سنفعل الآن و كل الأبواب أغلقت بوجهنا؟
في رحلة العودة قضينا ٢٤ ساعة في الطريق، وصلنا في الصباح الباكر، حيث وجدنا القرية بأكملها سهرت ليلاً بإنتظارنا، تلقفتنا أيدي المحبة وكان ترحيباً مبهجاً لنا بعد تعب السفر، تهاتفت علينا النساء لم أرهن في حياتي من قبل وأحتضنني حضن مغترب قد عاد، حاملات صواني الإفطار وأواني الشاي، في غضون ساعة كان الرجال قد رتبو لنا مكاناً لنمكث فيه، وتم القيام بكل الترتيبات الواجبة فما علينا إلا حمل أمتعتنا والذهاب. لطف أزال مرارة التجربة الجديدة، و كل ما مضى!
لحظة وصولنا إلى البيت الجديد تهافتت علينا بنات في سننا، ودودات ومحبوبات مكثن معنا حتى الليل وشرحت لي إحداهن التفاصيل اليومية من أين أملأ إبريق الوضوء، وكيف أعلق وأنزل مصلاة المشكيت. بتعاون نستقبل الصباح ندخل أسرتنا ونرتب الحوش، نغسل المواعين بطشت البلاستيك، نملس تراب الحوش و الغرف ونرشه بالماء لتحدث نوعاً من الترطيب للجو. نستقبل اللبن عند الخامسة صباحاً حيث يحضره لنا المختار إبن قريبتي صاحبة المنزل، بعد حلبه من المواشي، ويسارع محمد إبنها الآخر بإحضار متطلبات الإفطار.
طشت البلاستيك لغسل المواعين.
يأتي العصر فنذهب لحلقة الوعظ، حيث تدرسنا شيخة السارة، ويأتي المغرب ليجتمع عندنا بنات الحي لنسهر بونس وضحك ولعب حتى العاشرة. القرية بأكملنا تطمئن على حالنا من وقت لآخر، طيبون وكل يحمل مسؤولية الآخر على عاتق الواجب، أصبحنا ممتنين للرحلة نفسها، فقد مكنتنا أن نرى جانباً من بلادي لم نعهده، وكرست فينا معنى الديار مجدداً بعد أن نسيناه.
(9)
طقوس لمة الجبَنَة “القهوة السودانية” كانت أحب الأوقات إلي، تحّضر القهوة مع المكسرات ويجتمع كل بنات الحي بأحد البيوت.
لمة الجبنة مع بنات الحي.
في البادئ إعتقدت أن جميعهن من المنطقة نفسها ولكن كل منهن قد مزقها هلاك الحرب ونزحو بأرواحهم من هولها إلى هنا، رغم ذلك تعتلي كل منهن إبتسامة الود وجهها. هنالك رحيق نادراً ما ألتقي أشخاصاً مميزين مثلها، فهذه العهد، فريدة الإسم، وفية، ولوفة، ممتعة والأقرب لي فكراً، حافظة لكتاب الله، كما أنها مولعة بالفن، تحب العلم أيضاً ومولوعة بشغف التعلم، لها حلم محدد بالخطوط العريضة وشغف تذبذب بفعل الحرب.
تقبع الآن بأحد قرى الشمال، تقوم بواجباتها المنزلية بكفء حيث هي أكبر أخواتها، تعتني بالكل حتى والداها و تحمل مسؤولية أن يكون الكل بخير، تستغل فراغها لحزنها النبيل، وتحسرها على تبدد أحلامها أمام عينها، تستشعر اليأس بداخلها وما أن يأتي شخص، ترسم إبتسامة عريضة بوجهها لتمارس ودها المفرط ومحبتها ولطفها دون مبالاة أقل حقوقها، أن تحزن.
وتلك دعاء، طيبة العينين وملامحها تدج بالمرح، كانت تدرس الهندسة بأحد جامعات الخرطوم العريقة، و أحبت بالفعل مجالها قبل أن توقف الحرب كل شيء. بجانب أهل المنطقة، هنا مناسك، طيبة الخاطر صاحبة أجمل إبتسامة، حنينة القلب ومحبة لمساعدة غيرها، سخّرت نفسها لنا منذ أن أتينا، تخلق جواً مرحاً بفكاهتها، وتبكي حد الألم لتألم إحدانا، إتخذناها أخت، كما رحيق وعااهد.
تلك الطقوس ببساطها كانت تعيد لي إحساساً بالإنتماء فقدته، ومرحاً لم أعتقد أنني سأشهده مجدداً، هؤلاء البنات أحيين بداخلي ما أعتقدت أنه فنى، وحياتنا أقل مرارة اليوم فقط بفضلهن!
(10) والنهاية
أنا ممتنة بالفعل لكل تلك التجارب، وخصيصاً رحلتي إلى الحدود ذهاباً وإياباً، غيَر هذا نظرتي للحياة بأكملها، لم يسبب لي ذلك يأساً بقدر أن إيماناً قد خُلق من العدم أننا سنجد حياة أخرى لنعيشها، بفضل محبة من حولنا، وإستقراراً مؤقتاً بعد أشهر من التزعزع النفسي والجسدي، أن هناك حياة تبقت بالفعل في مكان ما، ويمكننا نحن أيضاً أن نجاريها. الحرب لم تنتهي، ولكننا بالفعل وجدنا سبلاً أخرى للتعامل معها، لن نلتفت فقط على ما جرى، قابلنا الطيبون و نجونا بفعل المحبة وزرنا مناطق ببلادي لم نحلم بها من قبل، لن نستسلم للهلاك، وبددنا سواداً إجتاحنا بتقبل ما حدث لنا والمضي قدماً لإنقاذ ما تبقى، كان الإعتراف بحقيقة كهذه موجعاً، و لكن هي الحياة، لاتتوقف عند حزن وتمضي أسرع مما نعتقد.
لم يكن هذا بسهولة قوله، ولكننا قد عشنا بالفعل سنوات من النضال، الآن فقط غيرنا مسارنا، سنناضل في سبيل حياتنا هذه المرة، وليس الوطن. نحن الشباب في ربيع حياتنا، لقد كان كل ماشهدناه مفجعاً بالفعل ولكن أمامنا العمر بأكمله، لم يفت الأوان بأن نبدأ من جديد في أي مكان، كل شيء سيسير على ما يرام مع مرور الوقت، فقط إن لم نستسلم و نرضى بفقدان كل شيء.
لم نفقد كل شيء طالما نحن أحياء، بإمكاننا خلق حياة من العدم فقط للتعايش.
أما بلادي، فأنا على يقين بأنها ستكون بخير، بأناسها الطيبين لن تستطيع الحرب سلبهم هذا، سنظل نرفض حرب العبث هذه وندعو لسلام يشبه شعبي، بلادي ستبقى البداية والمنتهى، سنحملها بداخلننا أينما ذهبنا، ستبقى بذكراها الجميلة، و لن يستطيع أي هلاك أن يزعزع ذلك.
أعتدت قول أن هذه بلادي ولن تؤذيني. لكني فهمت ذلك بالطريقة الصعبة.
سنجد يوماً ما نفاجاً من نور، وندرك أن الخسارات الفادحة لم تكن النهاية.
ستهدينا الحياة نفاجاً من نور في يوم ما.
شارك: