الوداع يا بونابرت
عود إلى التاريخ
يعتبر فيلم الوداع يا بونابرت ليوسف شاهين – على حد علمي – أحد الأفلام المصرية القلائل، إن لم يكن الوحيد, الذي يتناول الاحتلال الفرنسي لمصر فى عام ۱۷۹۸. والفيلم – الذي تقل مدة عرضه عن الساعتين – يعتمد على اليسير من الحقائق والوثائق التاريخية، ويركز أساسًا على أسرة مصرية واحدة ترمز في الفيلم إلى المجتمع المصري وأساليبه المختلفة في التعامل / التعايش مع الاحتلال. ويلاحظ أن يوسف شاهين في قراءته للتاريخ يبتعد عن التصورات النمطية السائدة للاحتلال الفرنسي مقدمًا للمشاهدين صيغة فريدة لتلك الحقبة التاريخية، وهو ما سأحاول توضيحه فيما يلي.
منذ بداية الفيلم يجد المشاهدون أنفسهم في خضم صراع تلك العائلة المصرية، بما يحمله مفهوم “العائلة” من قيم كالترابط والاتحاد في وجه الاحتلال الفرنسي الجديد، حيث يمثل أفراد هاتين المجموعتين شخصيات الفيلم الرئيسية. ويستهل يوسف شاهين فيلمه بصورة نمطية للمحتل / الآخر، فنجد الجيش الفرنسي محملاً بـ “تراث الرجل الأبيض” وقد جاء لحماية التجار الفرنسيين المقيمين في مصر من جهة ولإعادة “حقوق” المصريين إلى أصحابها بعدما اغتصبها منهم المماليك من جهة أخرى. وما تلبث تلك الأسطورة أن تخضع للتفكيك عندما تتبدى للمشاهدين الأهداف الحقيقية للوجود الفرنسي في مصر. فمجيئهم بدعوى حماية وإنقاذ المصريين – من وجهة نظرهم – إنما يستتبع قيامهم باستغلال والإساءة إلى المصريين وأرضهم وثقافتهم وتاريخهم. وهم مع ذلك – الفرنسيين – يعتبرون أنفسهم في رحلة “عذاب” تذكرنا بالغزوات الصليبية من قبل، إلا أنهم هنا يرون أن معاناتهم تلك هي في سبيل “البدو” “البدائيين“. وفي ادعائهم بحمل نور الحضارة والتنوير إلى إخوانهم المسحوقين، يقومون في نفس الوقت بمحاولة محو تلك الثقافة التي أتوا لـ “حمايتها” ولا يألون جهدًا في إظهار احتقارهم لتراث المصريين الديني. وهنا تصل أحداث الفيلم إلى ذروتها حين ينتهك الفرنسيون حرمة الجامع الأزهر فيتخذون أرضًا للمعركة، وهو المكان الذي يمثل أسمى معاني العقيدة والثقافة والهوية التي يدعون وجودهم لنصرتها وحمايتها.
من جهة أخرى، يقدم الفيلم عائلة مصرية “تهاجر” من الإسكندرية إلى القاهرة للمشاركة في النضال ضد الفرنسيين، بما يحمله مفهوم الهجرة من أهمية في سياق التاريخ العربي، وما يوحي به من قيم الكفاح والمعاناة في سبيل المبادئ والمعتقدات. ونجد أن أفراد الأسرة المهاجرة قد تم تقديمهم في صورة المقموع / الذات التى تخوض معركة في سبيل الحفاظ على الهوية ضد المحتل ؛ فنرى شخصية بكر حاملاً لواء المقاومة ضد “الكفار“. كذلك نشاهد نساء الأسرة في صورة نمطية أخرى، منهمكات في الأعمال المنزلية وإنجاب الأطفال. كما أنه بطبيعة الحال لابد من “خائن” يمثله في الفيلم علي – وهو الأخ الأصغر لبكر – الذي يختلط بالفرنسيين ويتعلم لغتهم. وإذا كان علي يضطر مجبرًا إلى القتال فهو في الوقت ذاته يتعرض للاستبعاد من الآخرين الذين ينبذونه كما لو كان أجنبيًا.
لكن يوسف شاهين سرعان ما يعمل على تفكيك تلك الصورة العامة النمطية على مستويات عدة. ففي حالة بكر، لا يقدمه الفيلم في صورة البربري الجاهل كما يراه الفرنسيون، وإنما هو نموذج المسلم المستنير الذي يقف في وجه الجهل والخزعبلات. فهو محارب منظم محدد الأهداف، وبدلاً من الاستغراق السلبي في الآمال نراه تتملكه روح المبادرة فيستعين بالآخرين ويستشير غيره قبل تنفيذ مخططاته. وهو نموذج للفدائي المتسامح الذي لا يلجأ للقتال إلا عندما تضطره الظروف إلى ذلك، وعندها فإنه يتبع سبيل التعقل.
وليس بكر في واقع الأمر المثال الوحيد على قيام يوسف شاهين بقلب التصورات الشائعة، فمجموعة النساء اللاتي يظهرن في الفيلم نموذج آخر لذلك. فعلى الرغم من عدم إضفاء أية خصائص مميزة عليهن إلا أنهن يتمتعن بالتواجد والفعل. فالأم – إضافة إلى دورها في القيام على شئون البيت – هي إحدى الشخصيات ذات الصوت المسموع فيما يتعلق بأمور السياسة. ونجد أن العمة نفيسة هي على النقيض من النساء الأخريات – اللاتي يصورهن الفيلم في صورة نمطية –، حيث تعلن نفيسة بصراحة شديدة ووضوح تام أنها ستذهب لـ “تحارب“. كما نرى مقدار ما لناهد حبيبة علي من تأثير عليه، فهي التي تدفعه إلى القتال دفعًا. ونلاحظ أن معظم الشخصيات النسائية الأخرى في الفيلم ذات صوت قوي مسموع، وتتمتعن بوجهات نظر مستقلة. وهكذا يتضح لنا أن يوسف شاهين هنا – كما في أفلامه الأخرى – يسعى إلى تقديم صورة للنساء مغايرة بل ومناقضة للصورة النمطية للمرأة على أنها تابعة دومًا للرجل. فالأعمال التي تقوم بها النساء في الفيلم لا تقتصر على إطار الحيز الخاص – رغم وجوده في الفيلم – وإنما يمتد نشاطهن أيضاً بشكل بارز في إطار العام. ونساء الفيلم من اللاتي يعملن على جمع شمل رجالهن وقت الأزمات.
ولعل تلك النقطة هي مما يلفت الانتباه في فيلم يتناول فترة تاريخية يكاد التاريخ الذكوري يتجاهل تسجيل الدور الذي لعبته المرأة فيها سواء بالسلب أو الإيجاب. وصحيح أن نساء تلك الحقبة لم تتمتعن بالتحرر الكامل من حيث المساواة التامة، إلا أن وجودهن كعوامل فعالة في تشكيل حركة التاريخ هو جدير بالملاحظة. وإذا كانت النساء في فيلم يوسف شاهين لا تشغلن حيزًا زمانيًا طويلاً على مدار الفيلم إذ قلما تظهرن على الشاشة، إلا أن المشاهد التي تظهرن فيها على قلتها – هي مشاهد مؤثرة لا تنسى, تبقيهن حاضرات في أذهاننا. وهو أمر نجده في معظم أفلام يوسف شاهين التي لا تدور حول شيء واحد بعينه وإنما تتناول كل شيء. فهو يقوم بتقديم مجموعة أفكار وليدة ثم يترك لمشاهديه حرية الاستعانة بتجاربهم وتفسيراتهم الخاصة في خلق العمل الفني، وهو بذلك يقوم بقلب المفاهيم السائدة على مستوى آخر، ألا وهو مفهوم التأليف هذه المرة.
أما المثال الثالث على سعي يوسف شاهين عكس التيار فيتبدى من خلال علي, الشخصية الرئيسية في الفيلم. فمن الملاحظ أن شخصية علي هي في الواقع أكثر شخصيات الفيلم نماءً. فهو “الخائن” من وجهة نظر مواطنيه المصريين، ومع ذلك يخرج إلينا آخر الفيلم ولم تمسسه التجربة بسوء. فهو الشخصية الوحيدة التي ترفض الآخر المحتل في نفس الوقت الذي يقرر فيه التعرف على هذا الآخر وفهمه. وهو لا يقل وطنية عن أي من المصريين الآخرين وإنما يختلف عنهم في تعريفه لمفهوم المقاومة. فبدلاً من الرفض التام للآخر ومحاربته، يختار علي سبيل تعلم لغته ومعرفة ذلك الآخر عن قرب، ثم أخذ أفضل ما لديه مع ترك ما هو ليس في حاجة إليه. وخلال عملية الانتقاء هذه لا يقدم علي أية تنازلات عن وطنيته. فهو يدرك حجم الضرر الواقع على وطنه، وهو ما يشير إليه الفيلم مرارًا عندما يواجه على صديقه الجنرال. وجدير بالملاحظة أن علي هو صاحب الشعار الذي يتبناه فيما بعد أفراد المقاومة: “مصر حتفضل غالية عليَّ“, تلك المقولة التي يستخدمها ردًا على كل من يتهمه بأنه “خائن“.
والفيلم يستعين بشخصيات أخرى – مثل الأب – بغرض الكشف عن الجوانب الحقيقية لشخصية على, هؤلاء يتعاونون مع الفرنسيين من أجل تحقيق مصالحهم الخاصة، المادية والسياسية وغيرهما. وما يقومون به يندرج تحت ما يصفه الفيلم بعملية “التطبيع“، وهي كلمة تحمل مدلولات سلبية في سياق اللحظة التاريخية الآنية. على عکس ذلك يظل علي الشخصية الوحيدة التي تختلط بالفرنسيين بدافع الفضول والسعي نحو أنواع أخرى من المعرفة تختلف عما تربى عليه. كما أن علاقته بالفرنسيين – والتي تكاد تكون إيروطيقية أحيانًا – إنما تعبير عن انجذابه إلى الآخر، وهو انجذاب لا يؤثر مطلقًا على حسه الوطني. ويتضح ذلك جليًا في النهاية عندما يحيّي صديقه الجنرال قائلاً “وداعا بونابرت” – والتي يمكن أن نسمعها: “وداعًا بونابرت إلى غير عودة” – في مشهد تصاحبه في الخلفية أغنية سيد درويش “أنا المصري“، بما يحمله ذلك من رمزية تنبع من مضمون الأغنية الوطني من جهة وكونها صادرة عن صوت مغن يحتل موقع الصدارة في الثقافة والتراث المصري العربي. ويمكن القول أن شخصية على نموذج حي لما يطلق عليه فرانتز قانون المرحلة الثالثة من مراحل التطور في علاقة الذات بالآخر، حيث تبدأ الذات / المقموع في الاعتراف بوجود الآخر / القامع، دون فقد المرء لقيمه وقوميته.
وتقف شخصية الجنرال في موقع موازٍ لشخصية علي، حيث يمثل الجنرال الشخصية الفرنسية الوحيدة في الفيلم المقدمة في صورة تكتسب عناصر ذاتية وإنسانية. فهو مثله مثل علي قادر على رؤية الجوانب الإيجابية والسلبية للاحتلال، كما أنه هو الشخصية الوحيدة التي تقف أحيانًا في صف المطالبين بحقوق المصريين، ومما هو ما هو جدير بالملاحظة أن نهاية الفيلم تشهد موقفًا يعبر فيه الجنرال لعلي عن قدر ما تعلمه منه وذلك ردًا على تعليق على مشيرًا إلى ما تعلمه من معلمه العظيم – أي الجنرال. أن هذا العرفان والاعتراف بالفضل والإحساس بالمساواة والمصلح ة المشتركة هي المشاعر التي مكنت هاتين الشخصيتين من بناء صداقة متينة رغم خلفياتهما المتناقضة, وهي صداقة تقوم على الصحبة أكثر من علاقات القوى. فلا عجب أن يكونا هما الوحيدان في الفيلم اللذان يسهل على كل منهما التعامل والتحاور مع أفراد ينتمون إلى المعسكر الآخر.
لقد أوردت فيما سبق بعض الأمثلة على كيفية قيام يوسف شاهين بتفكيك نظام القيم السائد، وما يقدم لمشاهديه / متلقيه من منظور يتميز بالسماحة والإنسانية. فهو يرى المحتل الفرنسي على حقيقته وينجح مع إیجاد موقع وسط للتعامل معه. وهكذا يمكن القول بأن يوسف شاهين يقدم لنا مأزق المثقفين العرب المعاصرين في علاقتهم بالغرب – ولعله هي يشغل يوسف شاهين شخصيًا، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار اهتمامه مؤخرًا بالسيرة الذاتية. هنا يجد المثقف نفس في مأزق الاختيار، ممزقاً بين هاتين القوتين المتضادتين. فالمتوقع من المثقف العربي – مثله في ذلك مثل علي – إما أن يرفض الآخر تمامًا أو أن يوصم بـ “الخيانة“.
ويوسف شاهين – بأسلوبه ما بعد الحداثي والذاتي في تصویر علي – يبدو كما لو كان يقول أن الحل يكمن في الحفاظ على الجذور الثقافية مع الانفتاح على مظاهر الاختلاف. وعلي هو الشخصية الوحيدة في الفيلم التي تحقق ذلك مع تمتعه بحالة التصالح الكامل مع نفسه. فهو لا يصل إلى أية نتائج بشأن ما هو صالح للاقتباس وما ينبغي تركه واستبعاده سوى بعد محاولت استيعاب ثقافة الآخر. ويقوم يوسف شاهين من خلال علي – الناطق بلسانه – بإعادة قراءة للتاريخ وبالتالي إعادة كتابته. فهو يعود إلى التاريخ باحثًا عما هو خفي بين طيّات ما هو جليّ، ناقلاً الماضي إلى إلى سياق الحاضر، مستخلصاً رؤية تؤيد الانتقاء المتعقل بدلاً من المصادرة التامة.
استوحت الفنانة عدالت الدجوى شكل وتفاصيل هذه الصورة من أوصاف وصور الملابس التى وردت فى كل من وصف مصر وكتاب إدوارد لين المصريون المحدثون. والصورة لسيدة من طبقة أمراء المماليك في أبهى زينتها. يلاحظ طول أكمام الصيديرية التى كان يطلق عليها “اليلك” عندما تكون بطول الفستان أو السروال كانت ربطة الرأس تتكون من طاقية وطربوش تلف عليها عدة مرات قطعة من الموسلين في لون زاه جدًا. أما الضفائر فهى خصلات من الحرير تزيد من طول خصلات الشعر مزينة “بالبرق” وهى قطع ذهبية صغيرة تربط بالضفائر.
وليد الحمامصي. مدرس مساعد الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة. درس الأدب في كل من جامعة القاهرة والجامعة الأمريكية بالقاهرة. كتب رسالة ماجستير وهي دراسة مقارنة بين عملين لأليس ووكر وحنان الشيخ. تضم اهتماماته الأدب المقارن والسينما وقضايا الجندر.