انتشار الإسلام في جنوب شرق آسيا من القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن الثامن عشر
ترجمة:
بقلم:
المنهجيات والمنظومات والمصادر
لدراسة النساء والثقافات الإسلامية المداخلات تبعا للموضوع
انتشار الإسلام في جنوب شرق آسيا
من القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن الثامن عشر
مع بداية القرن الخامس عشر، كانت شواهد القبور وغيرها من المصادر شاهدة على قيام دول إسلامية في العديد من المناطق في جنوب شرق آسيا، بجزرها وشبه جزيرتها. ففي شمال سومطرة كانت هناك دول إسلامية منذ أوائل القرن الثالث عشر، كما كان هناك مسلمون في شرق جاوه في القرن الرابع عشر، وشهدت شبه جزيرة الملايو تأسيس العديد من السلطنات.
وقد عثر في سامودرا على شاهد قبر لشخص يدعى عبد الله بن محمد بن عبد القادر، توفي سنة ٨٠٩هـ. / ١٤٠٦م، وكان من نس ل الخليفة العباسي قبل الأخير، مما يؤكد أن شمال سومطرة كانت قد أصبحت بالفعل، مع بدايات القرن الخامس عشر الميلادي، من المناطق التي يرتادها الرحالة المسلمون في العالم.
ويشهد توالي شواهد القبور من شبه جزيرة الملايو على الوجود المتواصل للدول الإسلامية هناك. فقد تأسست “ملقا ” حوالي سنة ١٤٠٠م، لتصبح أكبر دولة تجارية يديرها أهل الملايو في جنوب شرق آسيا. وكان “بارامسوارا” أول حكامها، وكان بوذيا هندوسيا، ولكن يبدو أنه تحول إلى الإسلام في أواخر أيام حكمه (في الفترة؟ ۱۳۹۰ – ١٤١3/ ١٤١4م) عندما اتخذ اسم “السلطان اسکندر سياه“. وكان خلفاؤه المباشرون مسلمين، ولكن يبدو أنه قد حدثت ردة قصيرة الأمد إلى البوذية – الهندوسية في عهد رابع ملوكهم، “بارامسوارا ديوا سياه” (الذي حكم في الفترة ١٤٤٥–١٤٤٦م)، ولكنه أسقط من عرشه وخلفه أخوه نصف الشقيق، السلطان “مظفر سياه” (الذي حكم في الفترة ۱٤٤٦ – 1450م)، والذي استقر الإسلام بعده بوصفه دين النخبة في ملقا، والتي أصبحت مركزا مهما للتجارة والعلم الإسلاميين في المنطقة. ويعتقد أن ملقا رعت أسلمة المناطق الأخرى في شبه جزيرة الملايو. ويؤرخ قبر محمد شاه أول سلاطين الباهنج، بسنة ٨٨٠هـ./ ١٤٧٥م. وقد عثر في جوهور على قبر جدة لم يذكر اسمها لسيد يدعى “المرحوم منصور“، مؤرخا بسنة ٨٥٧هـ. /١٤٥٣م.
وهناك شاهد قير على أهمية خاصة عثر عليه في بنجكالان كمباس في نيجيرى سمييلان بشبه جزيرة الملايو، وهو شاهد قبر شخص يدعى “أحمت ماجانا” أو “ماجانو“، وما يميز شاهد القبر هذا هو أن الكتابة التي وردت عليه مكتوبة على جزأين، أحدهما بلغة الملايو المكتوبة بالأحرف العربية، والآخر بنفس اللغة مع استخدام حروف “الكاوي” التي كانت سائدة ما قبل الإسلام. ويحمل هذا القبر تاريخا يرجع إلى عام ۱۳۸۹ بتقويم “الساكا” الهندي، أي ١٤٦٧ – ١٤٦٨م، وهو النموذج الوحيد الذي عثر عليه لكتابة مزدوجة اللغة في شبه جزيرة الملايو، مما يوحي بأن هذه المنطقة من شبه الجزيرة كانت تمر آنذاك بمرحلة تحول ثقافي.
وقد زار الرحالة الصيني المسلم “ما هوان” ملقا في الأعوام التالية: ١٤١٣ – ١٤١٥م، و ١٤٢١ –١٤٢٢م، و١٤٣١ – ١٤٣٣م. وتؤكد تقارير رحلاته أن الحاكم والرعية كانوا جميعا مسلمين. على أن ما رواه عن زيارته لجاوه (التي زارها سنة ١٤١٦م) يثير بعض الالتباس. ففي القرن الرابع عشر كان هناك من النخبة الجاوية في بلاط ماجاباهيت من يدفنون كمسلمين، كما تشي بذلك شواهد القبور في تراولان وترالابا شرقي جاوه. ولكن “ما هوان” يقول أن جاوه لم يكن بها إلا ثلاثة أصناف من الناس: المسلمون في الغرب، والصينيون الذين كان الكثيرون منهم مسلمين، والجاويون المحليون الهمجيون الذين كانوا يعبدون الشياطين. فهل يعني ذلك أنه لم يتعرف على جاويين مسلمين على الساحل الشمالي لجاوه، أم أن من تحول منهم إلى الإسلام كانت له حرية مطلقة في اختبار سلوكه الثقافي حتى أنه ظنهم مسلمين من الغرب أو مسلمين صينيين؟ أم أن انتشار الإسلام على الساحل كان أقل منه في الداخل في شرق جاوه آنذاك؟
استمرت بالقطع مجموعات شواهد القبور الإسلامية في تراولان وتر الايا، والتي توثق لوجود نخبة جاوية مسلمة من القرن الرابع عشر إلى القرن الخامس عشر، حيث كان البلاط البوذي – الهندوسي قد دخل في فترة اضطرابات وانحدار. والمقابر هناك مؤرخة بالتواريخ التالية: ١٣٢٩ ساكا/١٤٠٧م، و ١٣٤٠ ساكا / ١٤١٨م، و ١٣٤٩ ساكا / ١٤٢٧م، و ۱۳۸۹ ساكا/ ١٤٦٧م، و ١٣٩٧ ساكا / ١٤٧٥م، و١٥٣٣ ساكا / ١٦١١م، كما أن أحد الشواهد استخدم التاريخ الهجري ٨٧٤هـ. / ١٤٦٩ – ١٤٧٠م باسم “زين الدين“، ولكن من المحتمل جدا بالطبع أن يكون زين الدين هذا من سكان جاوه الأصليين.
وفي غريسيك بشرق جاوه أيضًا، هناك شاهد قبر لشخص يدعى مالك إبراهيم، مؤرخ بعام ٨٢٢هـ./ ١٤١٩م، وكان قد ولد في فارس، وربما كان تاجرا توفي في غريسيك، وصنع شاهد قبره (مثل العديد من الشواهد المبكرة في شرق سومطره) في کامباي بغوجرات، بيد أن الذاكرة المحلية تعرفه بأنه واحد من أوائل دعاة الإسلام في جاوه، والمعروفين إجمالا بـ. “والي سانغا” أي (الأولياء التسعة). وليس هناك من دليل تاريخي موثوق به يدل على أن مالك إبراهيم كان داعية بالفعل، بل أن كل القصص التي تروى حول “والي سانغا” شديدة الاختلاف في صيغها المحلية، ومتضاربة في مصادرها، وليس لها من توثيق معاصر يدعمها.
فإذا ما عدنا إلى شمال سومطره، حيث تعود الأدلة الأولى على انتشار الإسلام إلى القرن الثالث عشر، فسنجد شواهد القبور أيضًا تؤكد وجود سلطنات في تلك المنطقة حتى القرن الخامس عشر. ويعود تاريخ أول سلاطين دولة آتشيه الجديدة التي بدأت تتسع، وهو “علي مغايت شاه” إلى سنة ٩٣٦هـ. / ١٥٣٠م.
وكان للإسلام تواجد آنذاك أيضًا في شمال بورنيو/ كاليمانتان، وهنالك شاهدا قبر في الملايو يعودان إلى فترة مبكرة ويرجعان إلى بروناي، وقد نقشا بالخط العربي. ونجد أن أحد الشاهدين مؤرخ بسنة ٨٣٥هـ. / ١٤٣٢م، ولكن اسم صاحبه غير مقروء، أما الآخر فصاحبه يدعى “شريف هود“، ومؤرخ بسنة ٩٠٥هـ. / ١٤٩٩م.
ومن المؤكد أن مناطق أخرى في شمال شرق آسيا شهدت مقدم مسلمين إليها، ولا شك أيضًا في تحول بعض السكان المحليين إلى الإسلام قبل نهاية القرن الخامس عشر، ولكن مع غياب أدلة محلية مثل شواهد القبور أو المساجد المبكرة، فليس لدينا ما نستطيع الاستناد إليه باطمئنان حول تلك التطورات. هذا فضلا عن أن شواهد القبور نفسها ليست بالأدلة المرضية في أحوال كثيرة، فهي تدلنا على أن مسلما دُفن في منطقة معينة في فترة زمنية معينة، وفي معظم الأحيان أن سلطانا ما كان يحكم آنذلك، ولكنها لا تستطيع أن تنطق بأشياء من قبيل عدد المسلمين في ذلك الوقت، عدا الحاكم؛ ومدى تغلغل تأثير الإسلام في المعتقدات والعادات المحلية؛ وما إذا كانت عملية التحول إلى الإسلام قد جرت في سلام أم أثارت صراعات، إلخ.
ولكن من حسن الحظ وجود مصدر أوروبي مبكر ذي قيمة خاصة كان قد فقد لقرون ولكن اكتشف في باريس سنة ۱۹۳۷م، ويلقي الضوء على منطقة جنوب شرق آسيا، بما في ذلك أسلمة تلك المنطقة. هذا المصدر هوكتاب مجمع الشرق (Suma Oriental) من تأليف صانع وبائع أدوية من لشبونة يدعى “تومي بيرس” (Tome Pires) كان في جنوب شرق آسيا في الفترة ١٥١٢– ١٥١٥م، أي مباشرة بعد الغزو البرتغالي لملقا سنة ١٥١١م. كان الرجل ابن زمانه بالطبع، وكانت الهوة الثقافية بين هذا المسيحي البرتغالي والمسلمين من السكان المحليين شديدة الاتساع بطبيعة الحال. ولكن بيرس كان شديد الفطنة في ملاحظاته، نزيها في تسجيل مشاهداته الكثيرة التى كانت في فترة شديدة الأهمية، ولم تنسب لروايته عن جنوب شرق آسيا في زمانه أي أخطاء مهمة أو سوء تفسير منه، ليبقى كتابه مجمع الشرق مصدرا لا يقدر بثمن عن حالة انتشار الإسلام (وغيره من الموضوعات الأخرى الكثيرة بالطبع) في أوائل القرن السادس عشر، بالرغم من أننا يجب أن نستخدمه كأي مصدر آخر، بعين ناقدة.
كتب بيرس عن دور ملقا كمركز إسلامي رئيسي وكداعمة لنشر الإسلام في الدول المجاورة. وأخبرينا كذلك بأن معظم ملوك سومطرة على امتداد مضايق ملقا في زمانه كانوا مسلمين، من آتشيه في الشمال إلى بالمبانغ في الجنوب، في حين كانت معظم الدول على الساحل الغربي لا تزال “وثنية“. ووصف ملك آتشيه بأنه “رجل من المور، ذو فروسية بين جيرانه“. وفى باساي شمالي سومطره، كان هناك تجار من جميع أرجاء العالم الإسلامي: بنغاليون وأتراك وعرب وفرس وغوجيراتيون (كانت غوجيرات نفسها تمر آنذاك بمرحلة التحول إلى الإسلام، وكان الكثير من الغوجيراتيين في سومطره يدينون بالهندوسية)، وهنود آخرون، ومالايويون وجاويون وسياميون (غير مسلمين).
كان ملوك باساي وثنيين، وقد مر نحو مائة وستين عاما على كسر شوكتهم بفعل حيل التجار المور في مملكة “بيس” الذين أحكموا قبضتهم على ساحل البحر ونصبوا ملكًا موريًا من طبقة البنغاليين. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، كان ملوك باساي من المور دائما، بيد أنهم لم يستطيعوا حتى الآن أن يحولوا سكان المناطق الداخلية عن دينهم. ومع ذلك … فمن لم يصبحوا بعد من المور يتحولون كل يوم، ولا يحظى أي وثني منهم بأي قدر من الاحترام إلا إذا كان تاجرًا.
تذهب رواية بيرس إذن إلى أن أسلمة سومطره التي كانت تجري على قدم وساق في زمانه، كانت صادرة، في جانب كبير منها، عن اهتمامات مجتمع التجارة الإسلامي الدولي. على أن الصورة التي رسمها لجاوه في تلك الفترة توحي بنمط مغاير.
فوفقا لرواية بيرس، كان غرب جاوه الناطق بالسندانية لا يزال هندوسيا: “لا تسمح مملكة “سندا” بدخول المور إليها إلا فيما ندر، خشية أن تؤدي حيلهم إلى أن يفعلوا ما فعلوه في جاوه“.
كان ملك المنطقة الداخلية الناطقة بالجاوية، في وسط وشرق جاوه لا يزال بوذيا – هندوسيا (وثنيا) في أيام بيرس، وكان مع المسلمين على امتداد الساحل الشمالي ولكن بالرغم من هذا الصراع، يورد بيرس إشارة مهمة إلى عملية محاكاة ثقافية بين تلك المجتمعات الإسلامية على الساحل الشمالي:
إن هؤلاء السادة المور [الحكام] … هم سادة عظام، وعندما يتحدثون عن الاحترام والتحضر يقولون أن كل شيء والثروات موجودة في البلاط، ويتحدثون عن شؤون “غوستي بات” (رأس بلاط مجاباهیت) باحترام شدید.
ولا تشبه عملية التحول إلى الإسلام والتي رآها في ساحل جاوه ما ذكره عن سومطره. فقد كان الأجانب الذين استقروا في جاوه مسلمين في الأصل، وأسسوا بها مجتمعات إسلامية، ثم أخذوا يصبحون جاويين:
في الوقت الذي كان فيه الوثنيون منتشرين على امتداد ساحل جاوه، تقاطر الكثير من التجار، بارسيون وعرب وغوجيراتيون وبنغاليون ومالايويون ومن جنسيات أخرى، وكان من بينهم الكثير من المور. وبدأوا يتاجرون داخل البلاد ويغتنون. ونجحوا في بناء المساجد، وجاء الملالي من الخارج وكانوا كثيري العدد حتى أن أبناء هؤلاء المور كانوا قد أصبحوا بالفعل جاويين وأثرياء ….. وفي بعض الأماكن تحول السادة الجاويون الوثنيون أنفسهم إلى الديانة المحمدية، واستولى هؤلاء الملالي والتجار المور على تلك الأماكن. واستطاع آخرون أن يحصنوا أماكن سكناهم واتخذوا لأنفسهم رجالا يبحرون في سفنهم الشراعية، كما قتلوا السادة الجاويين ونصبوا أنفسهم سادة… ولم يكن هؤلاء السادة جاويين ضاربين بجذورهم في البلاد، بل كانوا منحدرين من أصول صينية أو بارسية أو كلينغية [من الهنود] ومن الجنسيات الأخرى التى ذكرناها في السابق. بيد أن نشأتهم بين علية القوم من الجاويين، إلى جانب ثرواتهم التي ورثوها عن أسلافهم، والتي كانت أكثر تأثيرا، مكنتهم من اتخاذ مكانة في طبقة النبلاء وفي نظام الدولة، أهم من تلك التي كانت لأقرانهم في المناطق الداخلية.
وكتب بيرس أيضًا عن عملية التسامح والتفاعل الديني في جاوه، مشيرا إلى أهل الزهد الذين كانوا هناك قبل الإسلام على النحو التالي:
هناك نحو خمسين ألفا من هؤلاء في جاوه، وهناك ثلاث أو أربع طرق منهم. بعضهم لا يأكل الأرز ولا يشرب الخمر، وكلهم على عذرية لا يعرفون النساء … ويعبد المور هؤلاء الرجال ويعتقدون فيهم اعتقادا عظيما، ويخرجون لهم الزكاة، وتعمهم الفرحة إذا زار أحدهم دورهم … وقد رأيت أحيانا عشرة العشرة أو اثني عشر منهم في جاوه.
ويورد بيرس أن ساحل جاوه قد عمه الإسلام وامتد به شرقا حتى سورابايا، ولكن السكان من سورابايا إلى الشرق كانوا لا يزالون بوذيين– هندوس، وكان حرق الأرامل لا يزال يمارس إذا كان الزوج المتوفي من السادة. وكانت تلك المنطقة قريبة من بالي التي قاومت التحول إلى الإسلام واستمرت على تفاعلها الثقافي والسياسي الوثيق مع دول بالي الهندوسية حتى أواخر القرن الثامن عشر.
وإلى الشرق من جاوه، كانت مادورا لا تزال على وثنيتها عندما زارها بيرس. وكذلك أيضًا كان حال جزيرة كاليمانتان التي لم يكن قد عمها الإسلام بعد. بيد أن بيرس يذكر أن كبير السادة (أى كثير سادة بروناي) تحول مؤخرا إلى الإسلام. ولم تكن بالي، ولا لومبوك، ولا سومباوا قد تحولت إلى الإسلام بعد. ولكن في “جزر البهار” في مالوكو (باندا، وسيران، وأمبون، وتيرنات، وتيدور، وغيرها) كانت قد تأسست دول إسلامية بالفعل. فبالنسبة لتيدور على سبيل المثال، يذكر بيرس (على أساس ما سمع، إذ أنه لم بزر تلك المنطقة على حد علمنا) أن من بين سكانها البالغ عددهم ألفين، كان الملك ومائتان آخرون مسلمين. أما السكان الماكاساريسي والبوغي في جنوب سولاويسي – الذين كانوا يعتبرون بعد ذلك من المحاربين المسلمين الأشد بأسا – فلم يكونوا قد تحولوا إلى الإسلام بعد.
حملت الحملة الهولندية الأولى على إندونيسيا (١٥٩٥–١٥٩٧م) عند عودتها إلى هولندا مخطوطين كتبا، بالجاوية، ويعودان بالتأكيد إلى القرن السادس عشر. وليست لدينا أية معلومة أخرى عن مصدرهما، ولكن الخط الذي كتبا به يوحي بأنهما يعودان إلى الساحل الشمالي. وللمصدرين أهمية كبيرة في إثبات الآتي: (۱) أن التعاليم الإسلامية كانت موضع دراسة جادة في جاوه آنذاك، (۲) أن التصوف كان أهم أنماط الفكر والممارسة الإسلامية آنذاك (بل نستطيع أن نقول باطمئنان أنه كان النمط المهيمن)، (۳) أن هذا النمط من التصوف كان من المرونة بحيث يستطيع استيعاب المفاهيم الجاوية التي كانت قائمة قبله. وقد قام “دروس” (Drewes) بتحقيق المخطوطين، ويحمل أحدهما عنوان Een Javaanese primbon uit de zestiende eeuw، بينما حمل الآخر عنوان The Admonitions of Seh Bari. والفكر الديني الذي يحمله العملان يسير على الأصول الصحيحة للإسلام، حتى أننا قد نجد نفس التعاليم في أي مجتمع إسلامى آنذاك. بيد أن الملاحظ هنا أننا نجد بعض المفاهيم الإسلامية العامة ترد بمصطلحات جاوية لا عربية. فبينما نجد العربية مستخدمة في مصطلحات مثل: القرآن، والشيطان (إبليس)، والملائكة، والرغبة (كلمة “نبسو” من كلمة “نفس” بالعربية)، نجد مصطلحات جاوية أيضًا مثل “بانجيران” أي الله، و“سامباهيانج” أي الصلاة (إلى جانب كلمة “صلاة” بالعربية)، و“أتابا” أي الزهد، و“سوارغا” أو “سيارغا” أي السماء، و“سوكسما” أي الروح اللامادية الدفينة، وهكذا.
وتفيد الأدلة التي عثر عليها حتى الآن في وضع ترتيب زماني مبدئي لانتشار الإسلام في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. ويمدنا المخطوطان الجاويان اللذان وصلا إلى أيدينا برؤية عميقة لا تقدر بثمن، عن محتوى التعاليم الإسلامية في جاوه في القرن السادس عشر، والتي يمكن أن تؤكد على الدور الحيوي الذي لعبه التصوف في انتشار الإسلام في تلك الفترة. ويمدنا تومي بيرس بالكثير من التفاصيل عن القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي كانت مؤثرة آنذاك، ولكن علينا بالطبع أن نأخذ في الاعتبار بعده ثقافيا عن المجتمعات التي كان يصفها. وليس هناك، للأسف، إلا القليل الذي نستطيع أن نضيفه بثقة. فقد أثارت الفترة المبكرة من انتشار الإسلام في منطقة الملايو وإندونيسيا الكثير من التخمينات ومن الخلافات، بيد أن الأدلة شديدة المحدودية في طبيعتها وكميتها، حتى أن الكثير لا يزال غامضا علينا.
على أن الصورة تزداد وضوحا إذا ما انتقلنا إلى القرن السابع عشر. فهناك ما يكفي من مصادر لإثبات أن منطقتين بإندونيسيا – آتشيه ووسط جاوه – على وجه الخصوص، كانتا مسرحا لأنشطة دينية كبرى.
وقد أنتجت آتشيه كما هائلا من الأدبيات الدينية بلغة الملايو، تنسب إلى أربعة من أعظم الكتاب الإندونيسيين على وجه الخصوص. أول هؤلاء “حمزة بانسوري” الذي توفي في مكة سنة ١٥٢٧م.ثم تلاه اثنان من أبناء سومطره، هما “سيامس الدين” من باساي (المتوفي عام ١٦٣٠م)، و“عبد الرءوف” من سينغكيل (حوالي ١٦١٥–١٦93م)، ثم أبرزهم وهو الغوجيراتي “نور الدين الرنيري” الذي عاش في آتشيه من عام ١٦٣٧ إلى ١٦٤٤م وخلال عهد السلطان “إسكندر مودا” (حكم في الفترة ١٦٠٧– ١٦٣٦م)، أعظم ملوك آتشيه، حظيت الأدبيات الإسلامية برعاية ملكية. وقد دخل الملك الطريقة النقشبدنية، على يد “سيامس الدين” الذي كان يحظى بنفوذ سياسي كبير. وقد اعتنق كل من سياسس الدين وعبد الرءوف والرنيري عقيدة مراحل الفيض الإلهي السبعة، ولكن الرنيري حمل عليها حملة شعواء بعد ذلك بعد وصوله إلى آتشيه ورماهم بالزندقة. وفى عهد السلطان “إسكندر الثاني” (حكم في الفترة ١٦٣٦ – 1٦٤١م) كان الرنيري هو محط دعم السلطان، على أنه فقد هذه الحظوة في عهد الملكة “تاج العالم” (حكمت في الفترة ١6٤١ – ١٦٧٥م) والتي خلفت “إسكندر الثاني“، فعاد إلى الهند. وفي ذلك الوقت، أصبح عبد الرؤوف الكاتب الرئيسي في بلاط آتشيه فكتب أعمالا في الفقه الشافعي والتصوف، كما وضع أول تفسير كامل للقرآن بلغة الملايو، والذي أرخه “ريدل” (Riddell) مبدئيا بحوالي سنة ١٦٧٥م.
كان للأدبيات التي أنتجها هؤلاء الكتاب، والمرتبطة ببلاط آتشيه، تأثير عظيم في منطقة الملايو – إندونيسيا بأسرها، حيث عثر على بعضها مترجما إلى الجاوية وغيرها من اللغات الإندونيسية. وربما يكون أشهرها كتاب بستان السلاطين الرنيري، وهو موسوعة من سبعة أجزاء تغطي موضوعات الخلق، وأعلام المسلمين، وغزوات الرسول (ص) والعلوم مثل علم الفراسة والطب.
كما يوجد أيضًا عمل آخر شهير، مجهول المؤلف، وهو تاج السلاطين، أو ما هكوتا سيغالا راجا – راجا، والمأخوذ عن مصادر فارسية في الفترة ١٦٠٢ – ١٦٠٣م. وربما يكون قد كتب في بلاط آتشيه، ولكن ذلك غير مؤكد. ويحتوي هذا العمل على تعاليم دينية بشأن الإنسان والله، والكثير من التعاليم حول سياسة الرعية. وتشتمل أعمال حمزة بانسوري على أقدم أمثلة معروفة للشعر المالايوي “السياير” بقافيته الرباعية المتكررة والمعروفة.
ومن الجدير بالتذكير هنا، أن الأدبيات المالايوية الكلاسيكية لم تشتمل على الأعمال الإسلامية فقط، فقد ورث المؤلفون المالايويون ثقافة ما قبل الإسلام في المنطقة، فاشتملت أعمالهم الكلاسيكية على أعمال مثل كتاب حكايات سري راما المستوحى من کتاب رامایانا، وكتاب حكايات بانداوا جايا المستوحى من كتاب مهابهارتا.
وفي جاوه أيضا، شهد مطلع القرن السابع عشر تقدما ملحوظا في التحول إلى الإسلام. وبالرغم من أن الأدلة الخاصة بما قبل بدايات القرن السابع عشر مبعثرة ومتشرذمة بشكل محبط، إلا أنه يبدو أن التحول إلى الإسلام قد لاقى بعض المقاومة آنذاك.
ومن الواضح أن فكرة أن يكون المرء مسلما وجاويا في آن واحد لم تكن شائعة القبول. ونشير هنا إلى وجود مخطوطة جاوية غير مؤكدة التاريخ ولا المصدر، ولكنها ترجع بلا شك إلى مكان كان يشهد وقت كتابتها مرحلة التحول إلى الإسلام. وتميز تلك المخطوطة بوضوح بين ديانة الإسلام والديانة الجاوية. (وقد قام “دروس” بتحقيق تلك المخطوطة ونشرت بعنوان (An Early Javanese Code of Muslim Ethics). ويبدو أن أسرة “ماتارام” الحاكمة التي كانت في سبيلها، في أوائل القرن السابع عشر، إلى بسط هيمنتها على جاوه بعد سلسلة من الحروب، لم تكن قد تحولت بعد بشكل كامل إلى العقيدة الجديدة. ويدل على ذلك استمرار استخدام تقويم “ساكا” الهندي في شؤون بلاط الحكم.
وقد شهد عام ١٦١٣م جلوس أعظم ملوك “ماتارام” على العرش، وكان يعرف بالسلطان “أغونغ ” (أي السلطان العظيم)، وذلك رغم استخدامه لألقاب أخرى خلال معظم فترة حكمه (١٦١٣ – ١٦٤٦م). وقد تفرغ في السنوات الأولى من حكمه للغزوات العسكرية ضد الدول المنافسة له في وسط وشرق جاوه، وكانت تلك عملية شديدة العنف عالية الكلفة، توجت بحصار ناجح لسورابايا، ثم استسلامها في سنة ١٦٢٥م. وفي ذلك الوقت، كانت شركة الهند الشرقية الهولندية (فوك VOC) قد استولت على ميناء جايكيرتا الجاوي – جاكرتا حاليًا، عاصمة إندونيسيا – وأطلقت عليه اسم “باتافيا“. وقد أصيب أغونغ بالطبع بالقلق إزاء هذا التدخل في الجزيرة التي كان ينتوي الهيمنة عليها بالكامل. لذلك قام سنة ١٦٢٨ و ١٦٢٩م بإرسال جيوش الماتارام لمحاصرة المقر الهولندي الحصين. وقد مثل الحصار الأول تهديدا حقيقيا للشركة، ولكن نجت باتافيا في النهاية. أما الحصار الثاني، فكان كارثة محققة للجاويين، حيث اكتشفت الشركة مخازن المؤن في غرب جاوه، والتي يحتاجها المهاجمون الجاويون، فقامت بتدميرها.
في أعقاب تلك الكارثة التى حلت بالسلطان أمام أسوار باتافيا، واجه تحديا لسلطته وتمثل في سلسلة من الثورات المحلية عليه، ولكنه استطاع إخمادها جميعا بالقوة العسكرية. وكان أكثرها تهديدا له هو تمرد العديد من القرى (أوردت شركة “فوك” أنها ٢٧ قرية) في المناطق الداخلية بالقرب من بلاط الحكم، ويبدو أن هذا التمرد كان بقيادة بعض الزعماء الدينيين المتجولين المتمركزين في ضريح تيمبايات المقدس، حيث مدفن الولي” سنان بايات” في جنوب وسط جاوه. ولا نعلم شيئًا عن حياة “بايات” عدا بعض الأساطير المحلية، ولكن المؤكد أن مقبرته لا تزال حتى اليوم مقصد الحجيج ومحط سلطة روحية عظيمة.
بعد أن قمع سلطان أغونغ التمرد العسكري سنة ١٦٣٣م، قام بالحج إلى ضريح تيمبايات على ما يبدو ليسترضي القوى العلوية التي كانت تعارضه. وتروى الأساطير الجاوية (التي وصلتنا فقط في نسخ لاحقة) أنه اتصل بروح سنان بايات وتلقى منه علوم التصوف السرية.
كان للدور الرائع الذي لعبته ملكة لاحقة كل الفضل في حفظ مصادر أدبية ألقت الضوء على قيام أغونج بالحج إلى تيمبايات وحالة التصالح بين البلاط الجاوي والإسلام، الذي أصبح هذا البلاط يمثله. تلك السيدة هي الملكة “راتو بالكوبونا” (توفيت عام ۱۷۳۲م)، زوجة الملك “باكوبوانا” الأول (حكم في الفترة ۱۷۰٤ – ۱۷۱۹م) وجدة “باكوبوانا” الثاني (حكم في الفترة ١٧٢٦ – ١٧٤٩م). ففي إطار دفعها لنشر الإسلام في البلاط، في أوائل أيام حكم حفيدها (سنتناوله لاحقا) قامت بإحياء الأدبيات الروحانية التي تعود إلى أيام السلطان أغونغ. وقد وصلتنا تلك الأعمال في نسختها التي كتبت على أيام تلك الملكة في القرن الثامن عشر، بالإضافة إلى شذرات أخرى، مما مكننا من تكوين فكرة معقولة عن أهمية حج السلطان أغونغ إلى تيمبايات.
ليس هناك من شك في أن أغونغ حج إلى تيمبايات. فقد تلقت شركة “فوك” في تلك السنة تقارير تفيد بأن الملك قد ذهب إلى تيمبايات “حتى يقدم الأضاحي هناك“. وفى تيمبايات نفسها، لا تزال البوابة الاحتفالية التي أقامها أغونغ هناك قائمة، وقد نقش عليها تاريخ بتقويم الساكا هو ١٥٥٥ ماسا ٤ [٤ شهر ماسا عام ١٥٥٥]، والذي يوازي تقريبا شهري أكتوبر ونوفمبر سنة ١٦٣٣م. وفي تلك السنة توقف البلاط عن استخدام تقويم الساكاً الشمسي – قمري، وبدأ في استخدام التقويم الإسلامي القمري، ولكن مع الحفاظ على الترتيب الزمني السابق على التقويم الإسلامي، ليوجد بذلك تقويما فريدًا هو التقويم الجاوي (ج).
وفي سنة ١٥٥٥ج / ١٦٣٣ – ١٦٣٤م أيضًا، أعاد أغونغ علاقاته مع أعداء الماضي في سورابايا، فاستحضر أكبر أمراء ذلك البلاط الأحياء، “بانجيران (الأمير) بيكيك“، إلى ماتارام، وربط بين الأسرتين بأواصر الزواج. ونستخلص من التعليقات الافتتاحية في صيغة لاحقة نقلا عن راتو باكوبوانا، نجد أن بيكيك قد جلب معه إلى ماتارام كتابا بالجاوية هو كاريتا سلطان إسكندر (Carita Sultan Iskandar)، وهو رواية قصصية بالغة الرومانسية تقوم أساسا على ما ورد عن الإسكندر الأكبر، “ذي القرنين“، في القرآن الكريم (الكهف ۸۲ – ۹۸). وتشير افتتاحية نسخة سنة ۱۷۲۹م إلى أن الحكاية كانت مكتوبة في الأصل بلغة المالايو، ثم ترجمت إلى الجاوية بأمر من بالجيران (بيكيك) سورابايا، الذي جلبها بعد ذلك معه إلى ماتارام.
هناك عمل آخر تم تأليفه في ذلك الوقت أيضا، وهو النسخة المطولة التي وضعت في البلاط بالجاوية لـ. سيرة يوسف، وهي أيضًا رواية قصصية لقصة سيدنا يوسف في مصر، والتي وردت في القرآن في سورة يوسف. وفي فترات لاحقة وقريبة أصبحت النسخة الأقصر، والأكثر شيوعا من هذه القصة تقال في جاوه في المناسبات الدينية، وفي طقوس التحول، وللوفاء بالعهود، وفي الاحتفالات السنوية لتطهير القرية. وقد نشرت وزارة التعليم والثقافة الإندونيسية جزءا من هذا العمل سنة ١٩٨١م، نقلا عن الأصل الذي لا يعرف مكانه الآن، والمؤرخ جمادى الأولى سنة ١٥٥٥ج، والموافق لنوفمبر ١٦٣٣م، وهو نفس التاريخ المذكور في نقش بوابة أغونغ في تيمبايات. ويذكر أيضًا أنه قد كتب في قرية مارانج وهي القرية المتاخمة لتيمبايات. وهكذا يبدو أن قصة يوسف بالجاوية، على الأقل في صيغتها المطولة، كانت قد كتبت في نفس زمان ومكان حج السلطان أغونغ إلى تيمبايات. وقد قامت الملكة راتو باكوبوانا بإنتاج نسخة جديدة منها أيضا، بعد ذلك بقرن من الزمان، تماما كما فعلت مع قصة الإسكندر.
ويبدو أن هناك عملا ثالثا نتج عن تلك الحجة أيضا، ففي نهاية النص الخاص بسنة ۱۹۸۱م من سيرة يوسف التي ذكرناها سالفا، هناك مقطع افتتاحي من عمل آخر يحمل عنوان كتاب أصولبيه (Kitab Usulbiyah). وعلى ذلك، فيبدو أن هذا العمل أيضًا كان موجودا سنة ١٥٥٥ ج /١٦٣٣م. وينتهي هذا المقطع بفقرة تؤكد أن لهذا العمل قوة تأثير علوية:
إن قوة بركة [هذا الكتاب]
هي كما لو كان المرء ذاهبا إلى الحج،
ونفس بركة تقديم الطعام
لشخص بائس،
ونفس بركة تلاوة القرآن.
بركته كبركة من يقاتل في حرب مقدسة:
جسده لن يبلي
وسيدخل الجنة مجيدا ….
ولكل من يقرأ هذا…
سيتكشف
علم الصوفية السري
وستمحى كل خطاياه
ويهبه غير المتجسد [الله] نعيمًا عظيمًا،
ويغفر له
وقد نشرت راتو باكوبوانا النص الكامل لهذا العمل أيضًا في القرن الثامن عشر، وذكرت هذه النسخة بوضوح أن لهذا العمل قوة تأثير علوية. ومن الواضح أن قصة أصولبيه هي حكاية جاوية الأصل للشخصيات الرئيسية في الإسلام، وتدور أحداثها في بيئة جاوية بالطبع، وتصل إلى ذروة الأحداث في لقاء يسلّم فيه يسوع (نغيسا) بسمو مكانة محمد (ص).
كذلك نشرت راتو باكوبوانا عملا رابعا سنة ۱۷۲۹ – ۱۷۳۰م، وهو سلوك غاروا كانكانا (Suluk Garwa Kancana)، ويبدو أنه يعود أيضًا في الأصل إلى عهد السلطان أغونغ. فقد ذكر في بدايته أنه “من سوسونان راتو” وهي إشارة غير واضحة، ولكنها ربما تعني أنه من السلطان أغونغ. وهذا العمل عبارة عن قصيدة شعرية حول تعاليم الملكية الجاوية من منطلق الزهد والتصوف الإسلامي. وفيه نصح للملك:
لتكن آيات الكتاب رعيتك.
ليكن الورع قوسك،
ليكن الذكر كنانتك،
والقرآن سهامك….
ولتنمحق
الرغبة والمتع الحسية
ولتنهزم الدعة…
وعندما تنصب ملكا،
فلترتد رداء الملك:
ليكن الحق تاجك
والطريقة [الصوفية] درته.
جاهد دائما،
وليكن السارينغات [القانون] إزارك.
وتوحي تلك السطور بأنها تمثل فلسفة السلطان أغونغ السياسية، والمتمثلة في التزاوج بين التصوف الإسلامي والتقاليد العسكرية للملكية الجاوية. وربما تكون أيضًا دروس الملك التي يقال أنه تلقاها من روح “سونان بايات” سنة ١٦٣٣م.
لقد حدثت مزاوجة أغونغ بين الهويتين الجاوية والإسلامية في ثقافة البلاط في وقت كان الإسلام ينتشر فيه في بقية أنحاء الأرخبيل. وقد سبق وصفنا للتطورات التي شهدتها آتشيه. وفي بانتين بغرب جاوه، قرأ الملك بانغيران راتو المعمر في حكمه (حكم في الفترة ١٥٩٦ – ١٦٥١م) كتابات المتصوفة وتراسل مع مفكرين مسلمين عبر مساحات شاسعة وحتى شبه الجزيرة العربية، وكان نور الدين الرنيري من بين من تراسل معهم. وفى سنة ١٦٣٨م أصبح أول حاكم في جاوه اتخذ لقب “سلطان” بشكل مؤكد (بالرغم من أن الروايات الجاوية القديمة أطلقت هذا اللقب على الحكام المسلمين منذ أواخر القرن الخامس عشر)، كما سعى إلى إقراره من قبل شريف مكة، فأصبح اسمه السلطان أبو المفاخر محمود عبد القادر. وبعد ذلك بفترة وجيزة، أرسل أغونغ أيضًا بعثة إلى مكة، عادت إليه بالموافقة على اتخاذه لقب سلطان، فاتخذه سنة ١٦٤١م، وأصبح اسمه السلطان عبد الله محمد مولانا ماتاراني. وكان بذلك أول حاكم من ماتارام يحمل لقب سلطان، وآخر من حمله أيضًا لأكثر من قرن من الزمان.
على أن انتشار الإسلام في بلاط جاوه في عهد السلطان أغونغ لا يبدو أنه استمر في عهد ابنه وخليفته “أمانغكورات” الأول (حكم في الفترة ١٦٤٦ – ١٦٧٧م)، والذي يعرف في التراث الجاوي باعتباره مثال الطاغية الجاوي. فقد كان مسؤولاً عن مقتل العديد من كبار وجوه الدولة، ومنهم حموه المُسن، “بانغيران بيكيك سورابايا“. وفي عام ١٦٤٨م كتب “رييكلوف فان غوينس” (Rijklof Van Goens) سفير شركة “فوك” عن “أمانغكورات” الأول قائلاً: “أسلوبه غريب في الحكم، … يقتل بموجبه كبار السن لإفساح مكان للشباب“، غير مدرك أنه أمر لا يقبله الجاويون كما لا يقبله المراقبون الأوربيون أيضا. وفي عام ١٦٤٨ – ١٦٤٩م أمر الملك بإعدام الزعماء الدينيين، وحسب رواية “فان غوينس” (الذي لم يشهد هذا الحدث بنفسه) جمع “أمانغكورات” الأول كبار رجال الدين في المملكة أمام البلاط، مع أسرهم، وبإشارة منه، وخلال نصف ساعة، كان ۲۰۰۰ “رجل دين” قد قتل، وكان العدد الإجمالي للقتلى بين خمسة وستة آلاف رجل وامرأة وطفل. وكان من الطبيعي أن يثير طغيان “أمانغكورات” أكبر تمرد في القرن السابع عشر، والذي بدأ سنة ١٦٧٠م ليسقط بلاطه سنة ١٦٧٧م. ولما أدركه اليأس، توجه ابن الملك وخليفته صوب شركة “فوك” ملتمسا منها المساعدة على استعادة ملكه.
وبين سبعينات القرن السابع عشر وأواخر عشرينات القرن الثامن عشر، ظهر نمط عام في الحكم، تحالفت بموجبه أسرة ماتارام مع شركة “فوك” لتستطيع أن تدافع عن نفسها في مواجهة سلسلة من حالات التمرد. وقد أضر ذلك بادعاه الأسرة مشروعيتها كملكية جاوية، وبهويتها الإسلامية في آن واحد. ومال أعداء الأسرة إلى التأكيد على انتمائهم الإسلامي ورفضهم للأسرة لاعتمادها على “كفار” الشركة. وكانت قوات شركة “فوك” نفسها في واقع الأمر، تتكون من مجموعة صغيرة من مسيحيي أوروبا. وكان للشركة دائمًا حلفاء محليون، فضمت قواتها المحلية مسيحيين أمبونيزيين، وهندوس بالينيين، وأيضًا أمبونيزيين مسلمين، وغيرهم من المسلمين. وقد وصفت المصادر الجاوية هؤلاء المحاربين بمسلمي شركة “فوك” (kumpeni selam). ومع ذلك، فقد كان على رأسها مسيحيون أوروبيون وينظر إليها أعداؤها على أنها قوة “كافرة” في الأساس.
وفي أواخر عشرينات القرن الثامن عشر وضعت الحرب الأهلية – بما فيها التدخلات العسكرية لشركة “فوك” أوزارها أخيراً. ويبدو أن زمرة قوية داخل القصر قررت آنذاك وجوب إعادة لم شمل أسرة ماتارام وقوى الإسلام (بما فيها القوى العلوية). وكانت الشخصية الرئيسية في ذلك “راتو باكوبوانا“. وكانت تلك السيدة شخصية قوية في البلاط على الأقل منذ استيلاء زوجها على العرش سنة ١٧٠٤م، ليكون “باكوبوانا” الأول. وكانت من رواد النخبة المثقفة في البلاط، حيث أخرجت سنة ١٧١٥م أقدم نسخة جاوية تصلنا حتى الآن من سيرة ميناك، وهي عبارة عن رواية مغرقة في الأسطورية تتناول شخصية الأمير حمزة عم الرسول (ص)، وربما تكون مقتبسة عن نسخة أسبق كتبت بالمالايوية. كما كانت متصوفة ورعة، على دراية واسعة بالقوى السائدة البلاط الجاوي، وفاعلاً سياسيًا رئيسيًا، وجدة معظم النخبة الملكية تقريبًا، في نهاية حياتها.
وقد واتتها الفرصة سنة ١٧٢٦ عندما جلس على العرش حفيدها باكوبوانا الثاني. كانت راتو باكوبوانا آنذاك في أواخر الستينات من عمرها، فاقدة البصر، ولكنها كانت لا تزال ذات تأثير كبير في البلاط. وكان حفيدها في السادسة عشرة من عمره فقط، فكان لين العريكة، ومادة مثالية لاستخدامها هي ومؤيديها.
أعادت راتو باكوبوانا إحياء الأعمال التي تحمل قوة تأثير خارقة، والتي تعود إلى عهد السلطان أغونغ، والتي وصفناها سابقا، وهي: إسكندر، ويوسف، وأصولبيه، وسلوك غاروا كانكانا، فأخرجتها في طبعة جديدة في ١٧٢٩ – ١٧٣٠م، أي ١٦٥٤ج، وذلك مع اقتراب الذكرى المئوية لقيام أغونغ بالحج إلى تيمبايات سنة ١٥٥٥ ج. وليس هناك من شك في صدور هذا العمل عن نية روحانية، حيث أن مخطوطات ۱۷۲۹ – ۱۷۳۰م تشير إلى هذا الغرض بوضوح، كما تشير بوضوح أيضًا إلى قوة راتو باكوبوانا الروحية الخاصة. فنسختها من أصولبيه تنص على أن الكتاب قد وضع لأن راتوا باكوبوانا
“التي حظيت بحبه سبحانه وتعالى، والتي حظيت بشفاعة النبي الرسول“، كانت:
تسعى لجعل حكم حفيدها الملكي
على أكمل وجه.
لأن شمسها استقرت، حقا
على ذرى الجبال،
حيث بلغت من الكبر عتيا
وقاربت على الكمال.
وتساوي هذه المخطوطة بين أصولبيه والقرآن حيث تدعي أن الكتاب يحتوي على كلمات الله نفسها، وفي إحيائها لكتاب غاروا كانكانا كانت الملكة تحث باكوبوانا الثاني على العيش حياة الملك المتصوف الزاهد. وبعد وفاة راتو باكوبوانا في يناير ۱۷۳۲م، وقد ناهزت الخامسة والسبعين، حمل آخرون مشعل إشاعة الإسلام في دوائر البلاط.
شهد عهد باكوبوانا الثاني تطورات عكست إحساسًا أقوى بالهوية الإسلامية في البلاط، وورعا أكبر في الحياة العامة، ومقاومة أشد لتأثير وحضور شركة “فوك“. فعندما خرج الصينيون المحليون (وكان بعضهم على الأقل مسلمين) لمحاربة الشركة الهولندية سنة ١٧٤١م، انضم إليهم الكثير من الجاويين. وفي يوليو ١٧٤١م، تمت مهاجمة حامية شركة “فوك” في البلاط (ثم في كارتاسورا) بأوامر من باكوبوانا الثاني، وحوصرت وأجبرت على الاستسلام. وتم تحويل الأوربيين قسرا إلى الإسلام، وتوزيعهم على السادة الجاويين ليكونوا من أتباعهم، كما تحطمت القلعة.
وفي أواسط عام ١٧٤١م أصبح باكوبوانا الثاني سيد الحرب المقدسة المنتصر، والقاضي على الكفار. غير أن المد الحربي في الساحل الشمالي لجاوه تبدل في تلك الفترة، وأمسكت شركة “فوك” بزمام المبادرة، وأدرك باكوبوانا الثاني خطورة ما اقترفه بمهاجمة الشركة، فبدأ يسعى للتصالح مع الأوربيين، الذين كانوا متشككين بالطبع في ملك استولى على حاميتهم في البلاط وحول رجالهم إلى الإسلام. ولكن الملك حقق نجاحا أكبر، على عكس مراده، في إقناع المحاربين المناهضين لشركة “لوك“، والذين كانوا يعتقدون أنه في جانبهم، بأنه في واقع الأمر حليف غير دائم على أفضل تقدير، ومرتد في أسوأ تقدير، فانقلبوا عليه وغزت جيوش المتمردين كارتاسورا في يونيو ١٧٤٢م، وأجبر الملك على الفرار. وعندما كان هائما على وجهه في البرية في منطقة جبل “لاوو” غارقا في تأملاته، يبدو أنه اكتسب المزيد من الدعم الروحي من روح “سونان لاوو” المحلية، ثم من تصوفه السابق الذي كان قد غاب عنه. ومع ذلك، ففي ذلك الوقت، كان الإسلام قد استقر بالفعل بوصفه العنصر الديني في الإحساس الجاوي بالهوية.
أما في الفليبين، فهناك من الأدلة ما يشير إلى وجود مسلمين محليين منذ القرن الرابع عشر. وفي عام ١٤١٧م أرسل ثلاثة من حكام سولو المسلمين بعثة إلى الصين. وبحلول عام ١٥٠٠م، كانت هناك دول إسلامية في جنوبي الفليبين، ولكننا لا نعلم عنها إلا القليل. وفي سبعينات القرن السادس عشر تم إرسال ثري أسباني يدعى “فيغيروا” إلى الجنوب لعقد معاهدات مع حكام جولو (سولو) المسلمين في ماغينداناو، أو إعلان الحرب إن لم تتسن المعاهدة. واستمرت الاتصالات المتقطعة بين القيادة الأسبانية في مانيلا، والمسلمين في الجنوب، وكان من بين أهداف الأسبان تقليص غارات العبيد المسلمين على جزر فيسايان الوسطى التي كان يجري تنصيرها آنذاك. ولكن في سنة ١٦٠٢م اشتدت إغارة ما غيندانا و حتى المناطق الناطقة بلغة تاغالوغ شمالا، في جنوب لوزون، ووقع أسبان وفليبينيون في الأسر.
وكان من بين الأسبان الذين تعرضوا للأسر في إحدى غارات سنة ١٦٠٣م أحد الآباء الجزويت، هو الأب ميلكور هورتادو، والذي اقتيد إلى مقر قيادة الحاكم سيرونغان. وهناك عومل الرجل باحترام بالغ ووجد نفسه في نقاش غني مع آسريه حول الأمور اللاهوتية. ومن الواضح أن الإسلام كان قد استقر آنذاك في ماغينداناو تحت قيادة متمكنة، وقد لاحظ المؤرخ “هـ …… دي لا كوستا” (H. de la Costa) أن السادة الماغينداناو كانوا “قد اقتربوا كثيرا من الوصول إلى فكرة الملكية الإقطاعية” (1967).
وفي سنة ١٦٠٩م أوقع الأسبان هزيمة كبيرة بالمهاجمين الماغينداناو، ثم عندما تحول هؤلاء لمهاجمة دولة بروناي المسلمة لحقت بهم هزيمة مدوية. ويبدو أن الخسائر كانت فادحة حتى أن السادة المسلمين في الجنوب لم يسمع عنهم آنذلك إلا القليل. ولم يتمكن الماغينداناو من الإغارة مرة أخرى على فيساياس إلا سنة ١٦١٣م، ولم يستطيعوا القيام بإغارة كبرى إلا سنة ١٦٣٤م في ذلك الوقت، وعندما عاد المسلمون الجنوبيون إلى الظهور مرة أخرى في الوثائق التاريخية الأسبانية، كانت ماغينداناو قد أصبحت سلطنة موحدة تحت إمرة السلطان “كودرات“. غير أن تفاصيل هذا التطور السياسي في أوائل القرن السابع عشر غير معروفة لنا.
واستمرت حروب الأسبان ضد مسلمي ماغينداناو وسولو، كما استمرت غارات عبيد سولو، دون أن يتمكن الأسبان من إخضاع “المورو“، وحوالي سنة ۱۷۱۹م كانت سولو أيضًا قد تحولت إلى سلطنة موحدة. وتمتعت كل من ما غينداناو وسولو بأدوات الدول الإسلامية الأكثر تطورا، من حيث وجود ملوك ومحاكم ونظام بيروقراطي أولي على أقل تقدير.
وكان من أبرز وجوه القرن الثامن عشر، السلطان عالم الدين سلطان سولو (حكم في الفترات ١٧٣٥ – ١٧٤٨م، ثم ١٧٦٤ – ١٧٧٤م)، وقيل أن أمه كانت من البوغيس في جنوب سولاويسي. وكان إصلاحيا، أكثر من الارتحال في جنوب وشرق آسيا، وكان يتحدث المالايوية والعربية، وقام بمراجعة قوانين سولو، ونظم القوات المسلحة للدولة، وتمت في عهده ترجمة بعض أجزاء القرآن على الأقل إلى لغة سولو. وفي عام ١٧٣٧م وقع معاهدة مع الأسبان، وتوطدت علاقته مع الجزويت، وبعد النزاع السياسي الذي وقع سنة ١٧٤٨م ترك سولو وذهب إلى الأسبان في زامبوانغا حيث تحول إلى الكاثوليكية، وأطلق على نفسه اسم فرناندو الأول من جولو. على أن الأسبان تشككوا في صدق تحوله إلى الكاثوليكية وخضوعه لهم، وخشوا أن يكون ذلك مجرد خدعة لمهاجمة حامية زامبوانغا من الداخل، فقبضوا عليه وأرسلوه إلى مانيلا، ولكن القوات البريطانية الغازية أطلقت سراحه سنة ١٧٦٢م. وعادت الحروب بين سولو والأسبان.
وبحلول أواسط القرن الثامن عشر كان الإسلام أكثر استقرارا في جنوب الفليبين عما كان عليه عند بداية التواجد الأسباني في الأرخبيل. وبالرغم من الانقسام العرقي لمسلمي الجنوب فمن الواضح أنهم كانوا يشكلون جزءا من عالم جنوب شرق آسيا الإسلامي الأوسع.
لا تنطق مصادر تلك الفترة – المحلية منها والأجنبية على حد سواء – إلا بأقل مما يشفي غليلنا حول الديناميات الاجتماعية والثقافية المحلية. وهناك المزيد الذي يمكن القيام به بالطبع لاستكشاف مكانة ودور النساء في تلك المجتمعات التي تحولت إلى الإسلام، ولكن الأمل ضعيف في القيام بتحليل شامل حقيقي. حيث كانت الملكة راتوا باكوبوانا الجاوية من الشخصيات البارزة في القرن الثامن عشر، ولكن لا يرد سوى القليل عن مثل تلك الشخصيات في المصادر، وحتى فيما يتعلق براتوا باكوبوانا فلا زلنا نود لو نعرف عنها المزيد.
وكثيرا ما تظهر المرأة في حوليات المحاكم. وقد ذكرت المصادر الهولندية أن النساء المحليات كانت منهن التاجرات والخليلات والأرستقراطيات والعاهرات. ولكن الانطباع الذي يرسخ لدينا هو قلة ما سجل عن حياة النساء المحليات في تلك الفترة. ولم تبدأ وثائق جنوب شرق آسيا التي تحولت إلى الإسلام في إبداء آفاق أكثر ملاءمة لتحليل أوضاع النساء في تلك المجتمعات إلا في القرن التاسع عشر. وما زال هذا الجهد البحثي في بداياته.
Martin van Bruinessen, Tarekat Naqsyabandiyah di Indonesia. Survei historis, geografis, dan sosiologis, Bandung 1992. The origins and development of the Naqshabandi order in Indonesia, in Der Islam, 67:1 (1990), 150-79.
H. de la Costa, The Jesuits in the Philippines, 1581-1768, Cambridge, Mass, 1967
G. W. J. Drewes (ed, and trans.), Een Javaanse primbon uit de zestiende eeuw, Leiden 1954.
The admonitions of She Bari, The Hague 1969.
An early Javanese code of Muslim ethics, The Hague 1978.
Cesar Adib Majul, Muslims In the Philippines, Quezon City 1973.
Tomé Pires, The Suma Oriental of Tomé Pires, ed. And trans. Armando Cortesão, 2 vols., London 1944.
M. C. Ricklefs, War, culture, and economy in Jana 1677-1726. Arian and European imperialism in the early Kartasura Period, Sydney 1993.
The seen and unseen worlds in Java, 1726-1749. History, literature and Islam In the court of Pakubiovana II, St. Leonards, N.S.W. 1998.
A history of modern Indonesia since c. 1200, Basingstoke, U.K. 20013.
Mystic synthesis in Java A history of Islamization from the fourteenth to the early nineteenth centuries, Eastbridge (forthcoming).
Peter Riddell, Earliest Quranic exegetical activity in the Malay-speaking states, in Archipel 38 (1989), 107-24.