الخريطة الزمنية
مقدمة
بمرور ٢٥ عامًا على المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الذي أقيم في القاهرة في سبتمبر ١٩٩٤، ومع إقامة قمة نيروبي, في الفترة ما بين ١3 -14 نوفمبر ٢٠١٩ لمراجعة وبحث كيفية تحقيق مخرجات عمل مؤتمر القاهرة ٩٤ بشكل كامل. ننبش في الذاكرة المكتوبة ونحاول زيارة المحطات التاريخية الفارقة التي أسهمت في تشكيل لحظة مؤتمر القاهرة ٩٤, والتي تُعد لحظةً مهمة في تاريخ حركة الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية على المستويين, العالمي والمحلي. فمؤتمر القاهرة هو الوقع الأول الذي اعتُرف فيه بالحقوق الإنجابية بصفتها حقًا أصيلاً ضمن حقوق الإنسان، إضافة إلى أنه كان مساحة لتسليط الضوء على الصراعات الحادة ما بين النسويات من ناحية والقوى الدينية “الأصولية” (الإسلاميين والفاتيكان) من ناحيةٍ أخرى, المرتبطة بملكية النساء لأجسادهن، وقدرتهن على حرية التصرف فيه، وارتباطها بوضعهن الطبقي والعرقي والجغرافي. الوجود القوي للنسويات المنحازات للعدالة الاجتماعية أثناء المؤتمر وتحضيراته كان من أهم العوامل التي أثرت في مخرجات المؤتمر.
ما حُقق في القاهرة ٩٤ لم يكن وليد اللحظة، بل كان نتيجة لتاريخ طويل من سياسات سكانية محلية ودولية ترمي عبء الفقر على الفقراء، وترى أجساد النساء – خاصةً أولئك اللاتي يقعن في مواقع أكثر تهمیشًا – کوسيلة لتحقيق أهدافها. فسواء كان التعقيم القسري للنساء الملونات في الولايات المتحدة الأمريكية، أو برامج تنظيم الأسرة التي فرضتها الجهات الدولية المانحة على دول العالم الثالث، وكانت غطاءً لانتهاكاتٍ عديدة بحق نساء العالم الثالث, يظل الهدف واضحًا: رسم وتخطيط المجتمعات بالطريقة التي تخدم مصالح بعينها، وتبقي على امتيازات دول الشمال والطبقات الحاكمة الوطنية في الجنوب العالمي. لم تقف النسويات الملونات أو نسويات الجنوب العالمي مكتوفات الأيدي، بل استطعن تشكيل حركة مبنية على خطاب نسوي تقاطعي, يكشف زيف “المبادئ” التي تتلون بها السياسات السكانية، وينتقد خطاب النسويات الليبراليات اللاتي تعميهن امتيازاتهن عن الانتهاكات المرتكبة بحق نساء أخريات أقل امتيازًا. تمكنت النسويات الملونات في الشمال العالمي ونسويات الجنوب العالمي من طرح موقف نقدي من مبدأ “الحق في الاختيار“، الذي كان مهيمنًا على حركة الحقوق الإنجابية المطالبة بتقنين الإجهاض في الولايات المتحدة الأمريكية, بتفكيكهن للظروف التي يُمارس “الاختيار” فيها، مشيرات إلى الطبقة والعرق والسياسات الاقتصادية والعوامل الثقافية بصفتها عوامل تضع حدودًا للاختيارات المُتاحة أمام النساء.
وبالنظر إلى الأثر الذي تركه للمؤتمر في واقعنا المحلي، يمكننا رؤيته كنقطة ذروة للعمل على مناهضة ختان الإناث، حيثُ أسهمت إقامة المؤتمر في القاهرة في إتاحة الفرصة للنسويات المصريات من أجل تنظيم جهودهن والتشبيك مع مجموعات نسوية وتنموية أخرى، لتوسيع شبكة عملهن، والوصول إلى أكبر قدر ممكن من الناس خارج القاهرة وداخلها. فمنذ السبعينيات، أخذت “ماري أسعد” و“عزيزة حسين” على عاتقيهما خلق معرفة مرتبطة بختان الإناث وتجمعيها, لم تكن هذه المعرفة معزولة عن النساء المصريات, بل كان حديثهن وعملهن مع النساء من خلال أبحاثهن هو حجر الزاوية الذي تراكمت عليه المجهودات المبذولة في ما بعد. ونتيجةً لذلك، استطاعت “قوة مناهضة الختان” (FGM Task Force) خلق خطاب نسوي تقاطعي, يرى الأبعاد المختلفة لممارسة الختان, ويستخدمه كمفتاح لفهم موقعية النساء في المجتمع للصري، وقراءة العنف الواقع على أجساد النساء من خلاله، ويتطور ويأخذ أبعادًا جديدة مع استمرار القوة في الحركة.
في هذا الإطار، يحاول هذا البحث رصد الدور الذي لعبته النسويات الملونات ونسويات الجنوب العالمي والنسويات المصريات في اشتباكهن مع السياسات السكانية التي تفرضها الدول والهيئات الدولية، وكيف أسهم وجودهن في الكشف عن طبقيتها وأبويتها وعنصريتها، وفي إعادة توجيه المساحات الدولية لتكون مساحة لفرض أجنداتهن عبر التفاوض, وذلك بهدف إعادة توجيه الموارد لإشباع احتياجات النساء الأقل امتيازًا في ما يتعلق بحقوقهن وصحتهن الإنجابية والجنسية. ويتخذ البحث مؤتمر القاهرة ٩٤ كنقطة تاريخية نستطيع من خلالها رسم الخطوط العريضة للقوى الدولية والمحلية التي تشكل سياسات تؤثر في حيواتنا اليومية وترسم الأطر التي باستطاعتنا الحركة فيها. فيما يحاول البحث رصد جزء من تاريخ السياسات السكانية في مصر وارتباطها بالأوضاع السياسية وبتوجهات الدولة المصرية في الحقب التاريخية المختلفة، وكيف أثرت هذه التغيرات في أوضاع النساء المصريات، التي تسهم الطبقة التي ينتمين إليها في تشكیل جزء كبير من واقعهن كنساء, ورؤية الطريقة التي اشتبكت بها النسويات المصريات في “الموجات” النسوية المختلفة مع السياسات السكانية، وكيف تمكنت قوة مناهضة الختان في مصر من ترك أثر في حيوات النساء من خلال التنظيم، والانتشار، وتشكيل خطاب يحاول أن يفهم توازنات القوى المرتبطة بختان الإناث بصفته ممارسة اجتماعية مُطبعة ومقبولة.
يعتمد البحث على أوراق بحثية وكتب، تناقش تاريخ الخطابات والمصطلحات والمفهومات المرتبطة بالحقوق والصحة الجنسية والإنجابية على المستوى العالمي، بدايةً من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وصولًا إلى القاهرة ٩٤. ورأينا أنه لفهم الأثر الذي تركه مؤتمر القاهرة فينا محليًا، ينبغي الرجوع للتاريخ والنظر لأربعة محاور أساسية؛ أولها فهم طبيعة وشكل الأسرة من واقعنا المحلي، والنظر إلى الظروف المختلفة التي أثرت في بنية الأسرة وعلى موقع النساء فيها، مما أخذنا إلى محور الثاني: وهو فهم سياسات الدولة المصرية الوطنية الحديثة في الحقب التاريخية المختلفة تجاه “السكان“، وكيف تعاملت تلك السياسات مع الأسرة باعتبارها الموقع الأول الذي يجري إنفاذها من خلاله، ولأننا معنيات بفهم الحركة النسوية كحركة سياسية تشتبك مع هذه السياسات، تحدثنا في المحور الثالث عن الطرق التي اشتبكت بها الحركة النسوية مع السياسات السكانية للدولة، وكيف تناولت أهداف الحركة في القرن العشرين الأسرة وأجساد النساء، وأخيرًا حاولنا من خلال هذا الرصد التاريخي فهم موقعية النساء في بنى السلطة المختلفة، وأثر هذه الخطابات في محورة حياة النساء حول أدوارهن الإنجابية / أدوار إعادة الإنتاج وفي نفس الوقت عزلهن عن الإسهام في صناعة السياسات التي تخصها. الغالبية العظمى من المصادر مكتوبة في الأصل بالإنجليزية، مما كان يضعنا طوال مراحل البحث والكتابة تحت الشعور بالمسئولية تجاه أي من المعلومات التي سنمررها بالعربية، ولذلك حاولنا أن نغطي للوضوعات التي نراها مهمة لفهم لحظة القاهرة ٩٤
بعد الانتهاء من كتابة المسودة الأخيرة من البحث, مررناه على الدكتورة عايدة سيف الدولة ، وهي إحدى المؤسسات لقوة مناهضة ختان الإناث في مصر، وإحدى النسويات المصريات اللاتي حضرن مؤتمر الدولي للسكان والتنمية في القاهرة ١٩٩٤, لمراجعته ولإبداء ملاحظاتها على ما استطعنا الوصول إليه من معلومات مكتوبة فيه. كما مررناه على مجموعة من النسويات1 المصريات المهتمات بقضايا العدالة الإنجابية في مصر, للأخذ بآرائهن في الطريقة التي تناولنا بها المؤتمر، وحتى يشرن للنقاط التي تحتاج إلى التطوير في كتاباتنا، في محاولة منا لإشراك المزيد من المهتمات بالموضوعات التي يتناولها البحث في كتابته.
تطورت الخطابات حول التضخم السكاني في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بدايةً من تقديمه كمسألة تهدد بقاء البشرية، حيثُ استند حضور مؤتمر العالم للسكان, الذي أُقيم في روما سنة ١٩٥٤ واستضافته في دورته الثانية مدينة بلجراد سنة ١٩٦٥, إلى النظرية المالتوسية2 في التعامل مع التضخم السكاني كسبب أساسي لزيادة نسب الفقر، وكعائق أمام تحقيق أهداف التنمية التي كانت تتلخص في الحد من الجوع في العالم3، أثناء تلك الفترة, كانت قد تبلورت أدبيات كثيرة حول التضخم السكاني، مفادها أن “عدد سكان العالم ينمو بوتيرة متسارعة” والخطر المترتب على ذلك هو “خطر المجاعات الجماعية” 4. وبناءً على ذلك بدأت الكثير من الحكومات تتعامل مع قضية التضخم السُكاني بصفتها قضية أمن قومي، ودعمت برامج تنظيم الأسرة التي كانت تقوم على وضع مسئولية السيطرة على التضخم السكاني على عاتق الأفراد من خلال الترويج لاستخدام التكنولوجيات الطبية للسيطرة على إنجابية النساء باستخدام وسائل منع الحمل، بل والدفع بها 5. كانت هذه بداية خروج موضوع التضخم السكاني من نطاق اهتمام العلماء السكانيين إلى نطاق اهتمام المجتمع الدولي. 6
أضافت الوثيقة الصادرة عن المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان, الذي أُقيم في طهران سنة ١٩٦٨، بعدًا جديدًا إلى لخطاب حول التضخم السُكاني، فلقد قدمت الوثيقة التضخم السكاني باعتباره مشكلة عالمية وجب إيجاد حلول لها، ووصفته بأنه عائق أمام تمتع الأفراد, ذكور وإناث, بجميع حقوقهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ونصت الوثيقة على أن “النمو السكاني يمثل عائقًا كبيرًا في بعض مناطق العالم أمام النضال ضد الجوع والفقر“، ومن ثم فهو “يعوق التحقيق التام لحقوق الإنسان“. وبالرغم من إدماج لغة حقوق الإنسان في النقاشات المرتبطة بـ “أزمة التضخم السكاني“، فإن هيمنة الآليات المالتوسية الجديدة على الحلول المقترحة للأزمة السكانية اقتصرت على اتباع منهجية “التحكم السكاني“، وذلك بالترويج لوسائل منع الحمل وبرامج تنظيم الأسرة7.
مثل مؤتمر العالم للسكان (The World Conference on Population) الذي أُقيم في بوخارست سنة١٩٧٤، ويعد نقطة مهمة في تاريخ النقاش حول الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية، فعلى عكس المؤتمرات السابقة، كان ممثلي الحكومات هم الفاعلون الرئيسيون فيه، بالإضافة إلى المشاركة النشطة لممثلي المجتمع المدني الذين اجتمعوا لمناقشة العلاقة بين التنمية و“أزمة التضخم السكاني“. مثَّل هذا المؤتمر حضورًا قويًا لممثلي الدول الأقل تنمية، وتضمنت مخرجات المؤتمر برنامج عمل، وافقت عليه ۱۳۷ دولة من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، انتقدوا فيه الخطاب المالتوسي الجديد المهيمن على نقاشات “التضخم السكاني“، مقرين بأن التضخم السكاني هو “نتيجة لانعدام التنمية وليس مسببًا لها“، وأن المشكلة ليست في ندرة الموارد بل في توزيعها غير العادل8. تضمن برنامج العمل أنه على الحكومات “بغض النظر عن أهدافها السكانية الشاملة، احترام وضمان حقوق الأفراد في تحديد عدد أطفالهم والفروق الزمنية ما بينهم، بطريقة حرة ومسؤولة ومبنية على معلومات دقيقة“. وبهذا أصبح الحق في التحكم في عدد أفراد الأسرة مبنيًا على قرار الأفراد والشركاء وليس على السياسات السكانية للحكومات كما كان من قبل9.
هذا بالإضافة إلى أن “للأفراد والأزواج الحق الأساسي في تقرير عدد أطفالهن /م والمدة الزمنية ما بينهم“.
لم تُضَّمن تلك الصياغة في المسودة الأولى من برنامج العمل، واعترض الكثير من ممثلي الدول الحاضرين على تضمين مصطلح “الأفراد” في الصياغة النهائية، لأنه يُمكِّن غير المتزوجين من الوصول إلى وسائل منع الحمل، بجانب أن تلك الصياغة حملت اعترافًا ضمنيًا بالأسر الموجودة خارج الإطار المغاير الثنائي، أي في إطار الزواج10. تحدثت الوثيقة أيضًا عن الدور الحوري للنساء في تنفيذ السياسات السكانية وأقرت بأن المساواة بين الرجال والنساء في الأسرة والمجتمع هي إحدى ركائز تنفيذ أهداف التنمية وأن تحسين أوضاع النساء اجتماعيًا واقتصاديًا سيسهم في تقليل عدد الأسر، لأن بامتلاك النساء القرار، سيصبحن المحددات الأساسيات الأعداد أسرهن11.
جاء هذا الإقرار بالتوازي مع دفع النسويات الليبراليات المشتغلات بالتنمية في الولايات المتحدة الأمريكية بنهج “النساء في التنمية” (WID)، في سبعينيات القرن العشرين، حين طالبن بإدماج نساء العالم الثالث في برامج وممارسات هيئات المعونة الأمريكية، وأشرن إلى الانحياز الذكوري في السياسات والبرامج التي تتبعها هيئات المعونة الكبرى مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، والأمم المتحدة (UN)، وهيئة الأغذية والزراعة (FAO)، والبنك الدولي، مما ينتج منه تجاهل النساء وحرمانهن من الفوائد الناتجة عن عمليات التنمية وبرامجها المختلفة. وبرهن على ذلك بالإشارة إلى عدم وجود أي تحسن ملحوظ ناتج من السياسات التنموية في أوضاع النساء الاقتصادية. نتج من ذلك تعديل بيرسي سنة ١٩٧٣ لقانون المساعدات الخارجية الأمريكية (Percy Amendment to the US Foreign Assistance Act), الذي طالب بضرورة انتباه الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) للبرامج والمشروعات والأنشطة الي تسعى إلى إدماج النساء في الاقتصادات الوطنية للدول الأجنبية 12. تلك المفاوضات حدثت أثناء الموجة النسوية الثانية في الولايات المتحدة الأمريكية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين, هيمنت نساء الطبقة الوسطى من البيضاوات على تلك الموجة وعلى المطالب المرفوعة فيها، التي ركزت بالأساس على المطالبة بعمل تعديلات تشريعية في ما يتعلق بوضع النساء في العمل, وبالمساواة في الأجور، وفرص العمل، وبحق النساء في استخراج بطاقات ائتمانية، وحقهن في التقدم للحصول على قروض عقارية. 13 لم يكن اكتساب الحق في العمل خارج المنزل مصدر اهتمام كبير بالنسبة للنساء السوداوات المنخرطات في حركة النساء آنذاك. لأنهن كن منخرطات بالفعل في العمل بسبب أوضاعهن الاقتصادية. وبالرغم من أن كلاً من النساء البيضاوات أو السوداوات أجمعن على النضال من أجل حقهن في استخدام وسائل منع الحمل وحقهن في الإجهاض, اهتتمن النساء السوداوات أيضًا برفع مطالب متعلقة بوقف التعقيم القسري للسوداوات /ين والملونات/ ين وذوات/ ذوي الإعاقة، الأمر الذي لم يُشكل أولوية للنساء البيضاوات المهيمنات على الحركة 14.
استُخدمت الآليات المالتوسية الجديدة على مدار التاريخ في استهداف فئات سكانية محددة، من خلال إقرار سياسات وبرامج سكانية تستهدف المهاجرين /ات والأقليات العرقية والإثنية وذوي/ ذوات الإعاقة وجموع الفقراء / الفقيرات من دول الجنوب والشمال15. ومنذ أواخر الستينيات، لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دورًا محوريًا في تقديم المساعدات المالية والتقنية لنشر برامج تنظيم الأسرة ودعمها بمساعدة الهيئة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، واستخدمت أساليب ضغط مختلفة لفرضها على حكومات الدول الأقل تنمية. وفي سبعينيات القرن العشرين, أصبح صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية (UNFPA) الوكالة الأساسية متعددة الشراكات (multilateral) المعنية بمجال السكان 16. فلقد أنفقت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية 3.9 مليار دولار أمريكي على الأنشطة السكانية في الفترة ما بين منتصف ستينيات القرن العشرين، وحتى ۱۹۹۳, وخصصت الجزء الأكبر من هذا الإتفاق للدول الأفريقية 17، فيما ارتفع معدل الإنفاق على الأنشطة السكانية المختلفة في أفريقيا بنسبة ٣٠٠% في الفترة ما بين ۱۹۸۳ و ۱۹۹0, وذلك بمساعدات الصندوق الدولي للأنشطة السكانية التابع لهيئة الأمم المتحدة والهيئة الأمريكية للتنمية الدولية، وفي سنة ۱۹۹۱ مثَّل نصيب برامج تنظيم الأسرة نحو ثلث حجم الدعم 18.
وبالنظر إلى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية في ما يتعلق بسياسات إتاحة استخدام وسائل منع الحمل أو منعها، نجده تاريخًا مبنيًا على السياسات العنصرية والطبقية والأبوية والاستعمارية. ففي البداية, كان استخدام وسائل منع الحمل وإجراء عمليات الإجهاض أفعالاً مشروعة اجتماعيًا وقانونيًا في الولايات المتحدة الأمريكية، حتى مُنِع تداول أي أدبيات مرتبطة باستخدام وسائل منع الحمل والإجهاض في أواخر القرن التاسع عشر، وجُرم الإجهاض في أواخر القرن ذاته الثام (ماعدا ولاية كنتاكي). جاء هذا التجريم في إطار سياسات معاداة المهاجرين (nativism), التي ترى أن هناك تفاوت بين نسبة خصوبة الأشخاص “الأسمى“, أي الأغنياء والمتعلمين والبروتستانت البيض، والأشخاص “الأدنى“، أي الفقراء وغير المتعلمين والكاثوليك واليهود والمهاجرين والمرضى نفسيًا وجسديًا وذوي الاحتياجات الخاصة و(المنحرفين) جنسيًا19 والمجرمين. تبنى منظرو الانتحار العرقي (racial suicide) وروجوا لخطاب حتمية “انقراض” العرق الأبيض إذا استمر الأشخاص “الأفضل” في استخدام موانع الحمل، لكن مع فشل هذا الخطاب في تغيير النمط الإنجابي للنخبة، تغيرت التكتيكات في الأعوام ما بين ١٩١٠ و۱۹۲۰، فبدلاً من تجريم استخدام وسائل منع الحمل لإجبار الأشخاص “الأفضل” على الإنجاب، روح هؤلاء المنظرين لإصدار تشريعات تتبع وسائل منع الحمل للأشخاص “الأدنى” 20. وفي بدايات سنة ١٩٠٧, تبنت الولايات المتحدة الأمريكية سياسة عامة تعطي للحكومة الحق في “تعقيم الأشخاص غير الواعين (unwilling and unwitting people)، ونتج منها تشريعات في أكثر من ٣٠ ولاية تفيد بأن “المجانين” و“المختلين عقليًا” و“الاعتماديين” و“المرضى” هم أشخاص “لا يستطيعون تنظيم قدرتهم الإنجابية“، مما “يبرر” تعقيم الحكومة لهم قسريًا21 22. تزايدت شعبية فكرة “التحكم السكاني” مع دمار الاقتصاد أثناء أعوام الكساد العظيم التي بدأت سنة ۱۹2۹، ساعدت التقارير التي تفيد بارتفاع معدلات الخصوبة لدى الأسر، وتعتمد على برامج الإغاثة الحكومية, في إثارة الغضب الاجتماعي ضد “إنجاب العاطلين“، دفعت هذه السياسة بتوزيع وسائل منع الحمل على الفقراء من خلال منظمات الرعاية الاجتماعية 23. في الإطار ذاته، عندما استحوذت أمريكا على حكم جزيرة بورتو ريكو سنة ۱۸۹۸, كانت السيطرة على السكان في بورتو ريكو أولوية قصوى بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، من خلال الترويج لفكرة أن الزيادة السكانية ستتسبب في كوارث اقتصادية واجتماعية، وبناءً على ذلك أقرت سياسات عامة تستهدف التحكم بالنمو السكاني. أضفى القانون رقم ١١٦ لسنة ۱۹۳۷ الطابع المؤسسي على برنامج التحكم السكاني الذي فرضه الاحتلال الأمريكي، ووضعه مجلس “تحسين النسل“، الذي مولته الحكومة الأمريكية وآخرين من الممولين الفرادي24. روّحت السياسة الأمريكية للتعقيم الدائم من خلال زيارات العاملين في مجال الصحة للمنازل، وتقديم الدعم المالي لإجراء العملية، والتمييز لمصلحة النساء المُعقمات في التوظيف والعمل مما دفع النساء إلى الخضوع لعمليات استئصال الرحم أو ربط الأنابيب. كان عدم إتاحة معلومات حول العملية وما يترتب عليه من موافقة النساء غير المبنية على معلومات صحيحة جزءًا من الاستراتيجيات القسرية المُتبعة. فوفقا لدراسة أجريت سنة ١٩٦٨، أكثر من ثلث النساء لم يعرفن أن التعقيم عبر ربط الأنابيب هو وسيلة منع حمل دائمة ولا يمكن عكسها25.
تعتبر الهند من ضمن النماذج الأكثر شهرة في ما يتعلق بالضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية وصندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية على حكومات الدول الأقل تنمية لتبني سياسات سكانية قائمة على مبادئ التحكم السكاني وتحديد النسل, ففي سبعينيات القرن العشرين, أقرت الحكومة الوطنية في الهند أهدافها السكانية، متغاضية عن قوانين التعقيم الإجبارية الموجودة في العديد من الولايات الهندية, وصممت العديد من الحوافز السلبية والعقابية على العائلات كبيرة العدد, مما أدى إلى ممارسة انتهاكات واسعة النطاق التي مست تحديدًا الطبقات الاجتماعية الأكثر فقرًا26. طُبقت هذه الإجراءات القسرية تحت ضغط كبير من هيئات المعونة الدولية مثل الهيئة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، والبنك الدولي، وصندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية (UNFPA). ففي سنة ١٩٦٥, رفض الرئيس ليندون جونسون (رئيس الولايات المتحدة الأمريكية حينها) مد الحكومة الهندية بمعونة غذائية في الوقت الذي كانت فيه الهند مهددة بحدوث مجاعة، حتى وافقت الحكومة على الترويج لعمليات التعقيم وتقديم محفزات للمواطنين لإجرائها 27. أعطى البنك الدولي قرضًا بقيمة ٦٦ مليون دولار أمريكي لمشروع تنظيم الأسرة الهندي, لدعم عمليات التعقيم في الفترة ما بين ۱۹۷۲ –۱۹۸۰ يُعد هذا المبلغ هو الأكبر من بين المعونات الدولية التي تقدمها للمؤسسات الدولية لدول الجنوب، في آسيا وأفريقيا 28.
وضحت النقاشات المُثارة لاحقًا في مؤتمر العالم الثاني للسكان الذي أقيم في المكسيك سنة ١٩٨٤، تناقضًا كبيرًا في انحيازات الدول الحاضرة وانعدام وجود إرادة سياسية لدى الحكومات والدول لتنفيذ سياسات تحيِّدهم عن التحكم بأجساد النساء وتقر بأحقيتهن في امتلاك أجسادهن وانجابيتهن وجنسانيتهن, فمن ناحية، جاءت التوصيات بإضافة حق الأفراد والشركاء في تلقي المعلومات والتعليم والوسائل اللازمة لتمكينهن/ م من التخطيط لعدد أطفالهن/ م والمدة الزمنية ما بينهن/ م بشكل حر ومسئول، وبأن تكون التشريعات والسياسات المرتبطة بتنظيم الأسرة وبالبرامج القائمة على أساس الحوافز غير قسرية أو تميزية، على أن تتسق مع حقوق الإنسان المُعترف بها 29. وعلى الناحية الأخرى، بدأ الصراع حول الحق في الإجهاض، فبعد إصدار قرار “رو ضد ويد” 30 في أمريكا والتأسيس للمجموعات النسوية تحت شعار “الحق في الاختيار” وانتشار مجموعات “الحق في الحياة” المناهضة للإجهاض، أعلن ممثلو كل من الولايات المتحدة الأمريكية والكرسي الرسولي للفاتيكان موقفهم الموحد المناهض للإجهاض أثناء المؤتمر, الذي يوصي بعدم تضمين الإجهاض كإحدى وسائل تنظيم الأسرة، فيما صرح الرئيس ريجان (رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وقتها) في المؤتمر بأن التمويلات الفدرالية المرتبطة ببرامج تنظيم الأسرة متاحة فقط للمؤسسات الأجنبية غير الحكومية التي لا تروِّج للإجهاض بصفته إحدى وسائل منع الحمل31. إذ مارست الجهات المانحة الدولية مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) والبنك الدولي ضغوطات كبيرة على حكومات الدول الأقل تنمية لتبني برامج تنظيم الأسرة المبنية على استخدام وسائل منع الحمل الأنثوية على نطاق واسع, وتضمينها في سياساتهم الداخلية 32. في الوقت ذاته, كانت الصين قد تبنت سياسة الطفل الواحد سنة ۱۹۷۹, وألحقتها بسياسة شديدة الصرامة لتحديد النسل سنة ۱۹۸۲، واستخدم الحزب الشيوعي الصيني المنطق المالتوسي الجديد لتبرير السياسة، من منطلق السيطرة على التضخم السكاني لتحقيق نسب دخل أعلى للأفراد, واستخدم الحزب هذه السياسة عنصراً أساسيًا لتشكيل سياساته الاقتصادية والسياسية في هذه الفترة 33. حازت سياسة الطفل الواحد في الصين على انتباه واسع من المجتمع الدولي, لكن رفض مؤتمر المكسيك إصدار موقف علني مناهض لسياسات الحكومة الصينية، ومن ثم قُيِدَت مخرجات المؤتمر السابق (بوخارست) بالأهداف السكانية للحكومات بطريقة تسمح للحكومات بالتدخل القسري في ما يتعلق بتنظيم الأسرة 34. بينما اعتمدت حق الرجال في التحكم في القرارات المرتبطة بالإنجاب وعدد الأطفال. وضحت الوثيقة النهائية الصادرة عن هذا المؤتمر أن الموقع المحوري للنساء في تنظيم الأسرة كان غير مرئي في السياسات السكانية المتبعة 35.
أثناء ثمانينيات القرن العشرين، وقبل المؤتمر الدولي للتنمية والسكان الذي أقيم في القاهرة سنة ١٩٩٤, تأسست مجموعات مختلفة من النساء الملونات في الولايات المتحدة الأمريكية (نساء من أصول أفريقية ومن السكان الأصليين ومن أصول لاتينية ومن أصول آسيوية)، فيما بدأت الكثير من المجموعات النسوية في الجنوب العالي (في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية) والشمال بالاعتراض القوي على سياسات التحكم السكاني وبرامجه، وفي توضيح أوجه العنصرية والطبقية والأبوية التي تحملها تلك السياسات, باستهدافها النساء الفقيرات والمهمشات ونساء المجتمعات الأصلية, أقامت النسويات هذا العمل من خلال تنظيم حملات ضد وسائل منع الحمل الدائمة التي يتحكم فيها مقدمو الرعاية الطبية تحكمًا کاملاً، أو التي تمثل خطورة شديد على صحة النساء 36، وعملن على تطوير إطار “العدالة الإنجابية“, جاء هذا في مواجهة تركيز حركة “الحقوق الإنجابية” متمثلة في مجموعات “الحق في الاختيار المعنية بتقنين الإجهاض من دون النظر أو الالتفات إلى تجارب النساء الملونات التي تعرضن فيها للتعقيم القسري وللاستخدام القسري لوسائل منع الحمل طويلة المدى. طورت النساء الملونات مفهوم العدالة الإنجابية لتوضيح أن التحكم في الخصوبة والأجساد والجنسانيات النسائية ووصمها يرتبط بالأنظمة الاجتماعية والسياسية المبنية على أساس الطبقة والعرق والجندر والجنسانية والجنسية (nationality) 37. تضمن النقد المقدم لخطاب “الحق في الاختيار” عرض وتوضيح الحدود المرسومة للنساء الملونات المبنية على عرقهن وطبقتهن الاجتماعية، التي تؤطر ممارستهن لـ “حقهن في الاختيار” في ما يتعلق بحيواتهن الإنجابية. فبالنسبة إليهن, يرتكز مفهوم الاختيار على الأفكار النيوليبرالية، التي تضع الحقوق الفردية على رأس أولوياتها، وتتعامل مع تحكم الفرد في جسده باعتباره المُرتكز الأساسي للحرية. هذه الرؤية للحرية الفردية تتعامى عن السياق الاجتماعي الذي يمكن فيه الفرد الاختيار، وتقلل من شأن الطرق التي تتحكم بها الدولة في الشعوب، وتهذب أجساد الأفراد، وتمارس سلطتها على جنسانيتهن وجندرهن وإنجابيتهن 38. فالاختيار يتطلب وجود بدائل متاحة ومحمية قانونيًا، تستطيع النساء اللجوء إليها لتحديد ما يحدث لأجسادهن؛ مما يتجاهل حقيقة أن العقبات الاقتصادية والمؤسسية التي تواجه النساء الملونات تجد من اختیاراتهن 39. وضعت الحركة الوضع الاقتصادي والاجتماعي للنساء الملونات على رأس أولوياتها بالتركيز على التفاوت في نسب الفقر ما بين البيض والملونين وعدم قدرة النساء الملونات على الوصول لخدمات الرعاية الصحية الأساسية ولخدمات التأمين 40.
عملت المجموعات المتبنية الإطار العدالة الإنجابية على أربعة محاور أساسية: أولها إعادة تعريف الحقوق الإنجابية لتشمل الاحتياجات الخاصة بمجتمعاتهن؛ ثانيها قيادة المعركة ضد مبادئ برامج التحكم السكاني والعمل على إرساء الترابط ما بين الحق في الإنجاب والحق في عدم الإنجاب؛ ثالثها التنظيم على أساس الهوية العرقية والإثنية لخلق مساحات تقاوم القهر الداخلي والخارجي في المجتمعات والحركات التي ينتمين إليها, لفرض أجندتهن والانخراط في الحركات الاجتماعية الأخرى؛ رابعها الترويج لفهم جديد للشمولية السياسية وبناء الحركات الاجتماعية التي تعبر الانقسامات التاريخية وتخلق تحالفات جديدة 41.
أشارت نسويات الجنوب إلى ما قدمته الحكومات من دعم وتوفير لخدمات تنظيم الأسرة للنساء بدلاً من تقديم خدمات الرعاية الصحية الأساسية التي تفتقدها غالبية النساء الفقيرات, وأجرين الكثير من الأبحاث التي تفيد بأن إتاحة فرص تعليم ذات جودة جيدة للنساء وتمكنهن من القراءة والكتابة وضمان حرية الحركة لهن ستشكل استراتيجيات أكثر فاعلية على المدى الطويل في خفض معدلات الخصوبة، مقارنةً ببرامج تنظيم الأسرة المُتبناة دوليًا 42. ففي المستندات التي جُمِّعت لمؤتمر القاهرة ٩٤، أشرن إلى أن العسكرة والأنماط الإنتاجية والاستهلاكية في الشمال العالمي تؤدي دورًا أكبر في الإضرار بالموارد البيئية والاقتصادية في الجنوب العالمي أكثر من التضخم السكاني, المقدم من دول الشمال بوصفه أزمة تهدد بقاء البشرية 43. تطلب المنظور النسوي للحقوق والصحة الجنسية والإنجابية تغيرًا جذريًا وهيكليًا في بني توزيع السلطة والموارد وفي البني الجندرية القائمة, مما لم يلق رواجًا في سياق تهيمن عليه فلسفة برامج تنظيم الأسرة وصحة الأمومة والطفولة التي تعاملت مع أجساد النساء كوسائل وأدوات لتحقيق أهداف السياسات السُكانية، واستباحت تحكم الدول فيها ووفقًا للأهداف السكانية للحكومات وتغافلت عن تقديم أي تغيرات جذرية للقضاء على اللامساواة الهيكلية44.
في مؤتمر العالم لحقوق الإنسان الذي أُقيم في فيينا سنة ،۱۹۹۳، دفعت النسويات الحاضرات بالقول بأن الأمم المتحدة تمتنع عن الاعتراف بحقوق النساء بصفتها حقوقًا أصيلة ضمن حقوق الإنسان، مشيرات أيضًا إلى عدم اعترافها بالحقوق والصحة الجنسية والإنجابية 45. ونتيجة لذلك، أوضحت الوثيقة الصادرة عن المؤتمر أن للنساء الحق في الوصول إلى خدمات للرعاية الصحية والنفسية ذات جودة عالية طوال مراحل حيواتهن، وأكدت حق النساء في الحصول على أوسع نطاق من خدمات تنظيم الأسرة. أقرت الوثيقة أيضًا بمبدأ عدم تجزئة حقوق الإنسان، وحثت الدول على ضمان تمتع النساء بحقوقهن على قدم للمساواة والقضاء على جميع أشكال التمييز ضد النساء 46.
تشرح جودیث تاكر العوامل المختلفة التي تؤثر في مواقع النساء في ما يتعلق بتوازنات القوى/ السلطة الاجتماعية المختلفة، متحدثة عن الأسرة بصفتها أحد المواقع الرئيسية التي تشكل معالم حيوات النساء. وتدعو لرؤية الأسرة باعتبارها مؤسسة ناتجة من متطلبات الإنتاج المادي وإعادة الإنتاج المادي والاجتماعي, وفي الوقت نفسه مساحةً تعكس هيكل / تراتبيات القوى الاجتماعية 47. ومن ثم لا تتشكل ملامح الأسرة فقط من وظيفتها في الإنتاج المادي، بل أيضًا من وظيفتها في إعادة إنتاج ظروف الوجود. تؤثر متطلبات الإنتاج في حجم العمل والسلطة داخل الأسرة وتقسيمه. وفي الوقت ذاته, استلزمت متطلبات إعادة الإنتاج تخصيص أدوار الرعاية وتربية الأطفال وتقسيم الأدوار على أساس الجنس والسن، ومن هنا حُددت أدوار النساء في الإنجاب / إعادة الإنتاج داخل وحدة الأسرة 48. وفي مصر أدت الطبقة دورًا محوريًا في مدى انخراط النساء في الإنتاج من عدمه، ومن ثم في مدى محورة / مركزة حياتهن حول أدوارهن الإنجابية وفي موقعهن في الأسرة. ومن خلال دراستها لمصر في القرن التاسع عشر، رصدت جوديث تاکر نمطين من الأسرة؛ الأول هو نمط الأسرة الممتدة كبيرة العدد، أبوية النسب (patrilineal) التي عندما تتزوج إحدى نسائها، فهي تنتقل بالكامل لعائلة زوجها، وتصبح كل أنشطتها وأطفالها وحتى حريتها في الحركة خاضعة لسيطرة أقاربها الجدد، ومن ثم كانت عائلات الطبقات العليا تتعامل مع النساء كخسارة محتومة، وكان يُنظر لزواجهن بإحدى الطريقتين؛ إما يعتبرونه فرصة لعمل تحالف مع عائلة أخرى، وإما تجرد العائلة الابنة من ميراثها وممتلكاتها حتى لا تنقل ممتلكات العائلة إلى عائلة زوجها 49. أما النمط الثاني، فهو نمط الأسرة النووية, القائمة على الشراكة بين الزوج والزوجة, والتي لديها عدد أطفال أقل نسبيًا، تسري عليها أيضًا القواعد الأبوية، لكن تتمتع فيها المرأة بقدر من الحرية وتشارك في الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية وتتعامل بصفتها شريكًا تجاريًا لزوجها. كانت الطبقة تؤدي دورًا محوريًا في اتباع العائلات أو الأسر لأحد النمطين، فبالنسبة للطبقات العليا، عزلت النساء في الحريم ولم يكن من المسموح لهن الانخراط في أى أعمال أو أنشطة خارج المنزل، وذلك لاحتياج عائلات الطبقات العليا إلى الحفاظ على عددهم الكبير, بينما لم تتمكن الطبقات الدنيا سواء في المدن أو الريف من تحمل عزل النساء في المنزل، وساهمت النساء في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية 50. ومن هنا، أكد نظام الحريم مركزية الدور الإنجابي لنساء الطبقات العليا في تشكيل نمط حياتهن، بينما اعتبرت الأسر الأفقر النساء شريكًا مُنتِجًا، وتشكل هذا الفصل على أساس الطبقة بالنظر إلى احتياج كل طبقة لعمل النساء للإسهام في الإنتاج 51.
وضحت جوديث تاكر، أن “مشاركة النساء في الإنتاج الاجتماعي” أي انخراط النساء في السياسة وفي العلاقات الاجتماعية خارج إطار الأسرة، تؤدي هي الأخرى دورًا شديد الأهمية في تحديد موقع النساء في توازنات القوى الختلفة، ورصدت دور نشأة “الدولة” في خلق مجال عام منفصل تمامًا عن المجال الخاص, ونتيجة لهذا الفصل، ولتحديد النساء في أدوارهن الإنجابية، أقصيت النساء من الجمال العام بكل ما يحمله من علاقات اجتماعية غير أسرية وصناعة للسياسات المختلفة، فكلما زاد الفصل بين المجالين العام والخاص، تفرقت النساء عن بعضهن وأصبحن أكثر عرضة لممارسة أفراد عائلاتهن من الذكور السلطة عليهن 52. وإضافةً لذلك، فالتعريفات الأيديولوجية السائدة لأدوار النساء، وللمحددات المفروضة على اختیاراتهن وسلوكهن، التي جرى ترسيخها وإعادة إنتاجها من خلال الأسرة والتربية والثقافة الشعبية والرسمية, تؤدي دورًا مهمًا في تشكيل الإطار الذي تتحرك فيه النساء، وتؤكد أن تعزيز بعض الصفات, التي غالبًا ما تكون سلبية وتضع النساء في مرتبة أدبي اجتماعيًا، هو شيء متأصل في الظروف المادية التاريخية, التي تتدثر بمرور الوقت، لكنها تُستدام وتتطور في خضم عمليات الإنتاج وإعادة الإنتاج المستمرة، مما يرسخ لتبعية واضطهاد النساء 53. وفي الكثير من الأحيان – خاصةً في الأوقات التي تشهد تغييرات جذرية سريعة في أوضاع النساء الاجتماعية على المستوى السياسي أو الاقتصادي– يصبح التمسك بالأيديولوجيا السائدة وما تحمله من أفكار حول أدوار النساء وأوضاعهن هو الطريق للاستقرار والاستمرارية 54.
أثناء الاحتلال العثماني لمصر، أثرت التغييرات الهيكلية التي فرضها محمد علي في نظام الإنتاج المصري، وفي مدى انخراط النساء في العمل، وبعد فشل مشروعه الاقتصادي، تدهورت أحوال الفلاحين بسبب فقدان أراضيهم الزراعية، فساءت أوضاعهم الاقتصادية وتراكمت عليهم الديون. تحملت النساء هذا العبء بالإضافة إلى عبء رجوعهن للمنزل وفقدان أنشطتهن الاقتصادية لأي وزن في النظام الاقتصادي الجديد55. وأثناء فترة الاحتلال البريطاني بعدها، حاول البريطانيون دفع القطاع الزراعي، كخطوة أساسية لتقليل الدين الخارجي، ولتحسين البنية التحتية الزراعية، وحاولوا مواجهة مشكلة إفلاس الفلاحين عبر إعادة هيكلة نظام الضرائب والسخرة والتجنيد، لكن استمرت الضغوطات على صغار الملاك، واستمر عدد الفلاحين الذين لا يمتلكون أراضيهم في الزيادة 56. بالنسبة للكثيرين, كانت خياراتهم محصورة ما بين البقاء في مناطقهم والعمل بصفتهم عمالاً زراعيين مأجورين، أو الهجرة إلى المدينة والبحث عن فرص عمل, في الوقت الذي اتسم فيه حكم الخديوي توفيق بتوسيع المناطق المبنية والتخطيط العمراني للمدينة وزيادة التدخل الغربي اقتصاديا وثقافيًا في مصر57.
في هذا الإطار، واجهت النساء الفقيرات – خاصةً للمهاجرات من الريف إلى المدينة – عقبات كبيرة في طريق حصولهن على فرص عمل بسبب عدم امتلاكهن للمهارات أو التدريب اللازمين سنة ١٩٠٧، كانت الكتلة الأكبر من النساء العاملات دون أجر (unpaid labour) تمثل النسبة الأكبر من العمل النسائي، وشكلت نسبة النساء العاطلات (unemployed) ثلاثة أضعاف نسبة الرجال, وفي إطار عدم وجود قطاع صناعي قوي في القاهرة، عملت الغالبية من النساء في قطاع الخدمات وهو مجال زهيد الأجر 58، اتجهت الكثير منهن للعمل بالجنس التجاري، بسبب قلة أجور الأعمال التقليدية المخصصة للنساء وعدم وجود فرص عمل، وبالرغم من عدم وجود إحصاءات واضحة لأعداد النساء العاملات بالجنس التجاري في هذه الفترة، تفيد بعض التقديرات بأن عدد العاملات بالجنس التجاري السري قد يكون من 35 – 40 أضعاف الأعداد الرسمية، وهذا يعني أن عدد العاملات بالجنس التجاري سنة ۱۹۲۱ قد يكون نحو 35.000 – 40.000 عاملة مقارنةً بعدد ٩٠٦ مسجلات في السجلات الرسمية 59.
الحداثة الوطنية في مصر والأسرة والإنجاب
تقول أمنية الشاكري إنه في بداية القرن العشرين وفي فترة ما بين الحربين العالميتين، اكتسبت الأسرة النووية موقعًا مهمًا لفرض وإعادة إنتاج ضوابط التنظيم الاجتماعي، طبعت الأسرة كمؤسسة اجتماعية النشاط الجنسي أحادي الزوج بالترويج لضوابط الحياة الأسرية الحديثة، التي تكون فيها الأسرة صغيرة العدد وتكون ملتزمة بقواعد النظافة الشخصية الخاصة بالطبقة الوسطى إذ نظرت النخبة الوطنية للنسبة الكبيرة في وفيات الأطفال باعتبارها نتيجة لعدم التزام الأمهات الفقيرات بقواعد النظافة، وكانت تُناقش مسائل الإنجاب وإعادة الإنتاج في إطار سياسات الإصلاح الاجتماعي وإعادة تنظيم المجتمع وتحديثه (modernization) 60.
تطلب ذلك السير في عملية ثنائية خاصة، يتمحور الشق الأول فيها حول تثبيت النساء في الأدوار الإنجابية وتولي مسئولية تربية الأطفال “الأصحاء والحديثين والمنظمين” ويتمحور شقها الثاني حول إدارة تنظيم النسل الذي نُظر إليه بصفته موضوعًا سياسيًا يخص الأمة ومن ثم أُحيل الحديث فيه إلى مجال السياسة الذي يتحكم فيه الرجال “بحكم قدرتهم المحلية كأرباب أسر أو بحكم قدرتهم السياسية كمصلحون اجتماعيين“, ومن هنا أقصيت النساء تمامًا من تشكيل الخطابات السياسية للمرتبطة بالإنجاب 61.
“تطلب خلق الأسرة الحديثة (بالأحرى المواطنين المحدثين) خلق ميول جديدة (الحوكمة الذاتية وتحسين الذات) وعادات جديدة للنظافة العامة والشخصية، وتنمية إدراكات جديدة تتناسب مع نظام العالم الحديث“، وفي هذا الإطار عُرفت الأمومة باعتبارها وظيفة اجتماعية ينبغي أن تقوم على ضوابط علمية وصحية وتهدف إلى تنمية أنماط جديدة من الأطفال الأصحاء القادرين الذين لن يموتون في سن مُبكر، ما يعني أنهم سيكونون قادرين على الانخراط في الإنتاج، ومن ثم نُظر إلى النساء باعتبارهن “مركز التخلف” و“مجال التغيير الضروري للمشروع القومي” في الإطار ذاته، أُقيمت برامج رعاية الأمومة والطفولة في منتصف عشرينيات القرن العشرين, التي كانت تقوم على مبادئ وضوابط الأسرة الحديثة بتركيزها على العادات الصحية وعادات النظافة الشخصية، واستهدفت بشكل أساسي النساء الريفيات أو اللاتي ينتمين إلى الطبقة العاملة 62.
كانت الحكومة أحد الفاعلين الأساسيين في مأسسة عملية تغيير وإعادة تشكيل الممارسات المرتبطة بأنماط الأمومة لنساء الطبقات الفقيرة (سواء الريفيات أو المدينيات)، وذلك من أجل تخفيض عدد الوفيات من الأطفال والذي كان يُنظر إليه باعتباره نتيجة لجهل النساء الفقيرات بقواعد النظافة الشخصية والتغذية السليمة، من خلال التركيز على رعاية ما قبل الولادة والعلاج المبكر للزهري وبذل جهود لتحسين مهارات الدايات وتقديم رعاية ما بعد الولادة، التي شملت مراكز الرعاية, ومستوصفات الأطفال، وإقامة أحاديث فردية وجماعية عن النظافة الشخصية ومهارات الأمومة 63. كان للجمعيات الخيرية أيضًا مثل مبرة محمد علي – التي أنشأتها وأشرفت عليها النسويات الأوليات اللاتي تقع أغلبيتهن في الطبقة العليا – ومستوصفات هدى شعراوي والاتحاد النسائي المصري، دور كبير في تلك (عملية تحديث / مديَّنة الأمهات الفقيرات) من خلال إدارة مستوصفات للنساء والأطفال الفقراء, وإنشاء مركز لتعليم الفنون المنزلية (الحياكة والنسج والتطريز) والصناعات اليدوية, وتقديم تدريبات مهنية وتعليم القراءة والكتابة, وعمل محاضرات وفي قلب كل ذلك, نشر كتيبات تعليمية وعمل زيارات صحية لنشر وتطبيع عادات النظافة الشخصية والتربية ورعاية الأطفال 64.
تزامنًا مع تطلع النخبة المصرية للاستقلال عن البريطانيين، عندما تحول مجال “السكان” إلى مساحةٍ جديدة تفرض الدولة الوطنية هيمنتها وسيادتها من خلالها في فترة ما بعد الاستقلال، حاولت النخبة تأكيد سيطرتها عليه، فاستخدمت آليات التعداد والتصنيف باعتبارها الوسيلة الأكثر فاعلية لملاحظة التغييرات في أنماط السكان الوطنيين، لقياس العلاقة بين عدد السكان والأراضي القابلة للزراعة والمسائل المتعلقة بنوعية السكان؛ مثل قياس متوسط الوفيات، وحجم الأسر, والطبقة والمكانة الاجتماعية، ومستوى التعليم، وعلاقة كل ذلك بالممارسات الإنجابية للنوعيات المختلفة 65. في أواخر عشرينيات القرن العشرين, كان يُنظر إلى مشكلة السكان باعتبارها مشكلة سكان بعينهم, فكانت الأولوية للسيطرة على هجرة العمال الصعايدة والنوبيين من الجنوب, وحماية المراكز الحضرية الكبيرة في الشمال من التواجد الكثيف لهاتين الفئتين، خاصةً من فيهم بلا مأوى ولا عمل, وكان يُنظر إلى هجرة العناصر الفقيرة على الجانب الآخر من البحر المتوسط لمصر باعتبارها أمرًا خطيرًا ومهددًا للبنية الاجتماعية والاقتصادية لمصر. بعد أقل من عشرة سنوات، أصبح التعامل مع سكان مصر باعتبارهم كتلة متجانسة يمكن ملاحظة صفاتها الكمية ووضعها كمحل للدراسة والملاحظة والتشريع من أجل إحداث التحول الصحيح للعالم الاجتماعي، ورسم وتحديد أنماط المواطنة الطبيعية، وليس كمجموعة من السكان المتباينين, أي النوبيين والصعايدة والأجانب 66.
بعد أزمة الكساد العظيم 67 (۱۹۲۹)، اكتسب موضوع السكان ثقلاً أكبر في النقاشات السياسية المصرية, بسبب التردي الشديد الذي وصلت له حالة العمال الزراعيين اجتماعيًا واقتصاديًا، بينما سعت النخبةمن خلال صحف التيار العام والدوريات البنية المتخصصة، والصحافة النسائية والمؤسسة الدينية, إلى تقديم الزيادة الكبيرة في عدد السكان، وسوء الصحة العامة، وانعدام المبادئ الأساسية للنظافة الشخصية, بوصفها مسببات أساسية لمشكلة الفقر في مصر وليس التوزيع غير العادل للممتلكات والثروة. واتجه إصلاحيو الطبقة الوسطى لتقديم مسألة الإصلاح الاجتماعي، من خلال إدارة السكان باستهداف الفلاحين وتنظيمهم, إلى إدماجهم في أنماط الحياة والممارسات الاجتماعية المناسبة من أجل تقدم العالم الحديث ومدنيته بتنظيم مشروعات لإعادة بناء الريف وبرامج القرية النموذجية, واستهداف النساء من خلال برامج صحة الأمومة والطفولة في المناطق الدينية والريفية 68. وكما تشير أمنية الشاكري، تعامل الإصلاح الاجتماعي مع هاتين الفئتين تحديدًا كأهداف للتحسين الأخلاقي والمادي، وذلك لارتباطهما المباشر بعملية الإنتاج، باعتبارهما الفئتين المسؤولتين عن إعادة الإنتاج لقوة العمل (العمال) واستخراج الثروة من الأرض.
نتج من الاهتمام المتزايد بالسكان انعقاد أول مؤتمر وطني تحت عنوان “تحديد النسل” برعاية الجمعية الطبية المصرية سنة ۱۹٣٧. تأثرت النقاشات في المؤتمر بكتاب “ويندل كليلاند“، وهو أول كتاب يناقش المشكلة السكانية في مصر بصورة شاملة, وصدر سنة ١٩٣٦. 69 رأى كليلاند أن “دراسة موارد مصر الحديثة المعروفة تؤدي بنا إلى استنتاج أنها غير كافية إلى حد بعيد لإعالة ذلك العدد الكبير من السكان على أي مستوى معيشة أعلى مما هو قائم, وعلاوة على ذلك، إذا كانت نوعية الناس لها أي أهمية، فحينئذ لا بد من إحداث تحديد للأعداد بطريقة ما (…) إن كثافة السكان وندرة الأرض الزراعية، ومستويات المعيشة شديدة الانخفاض، ومعدل البطالة المرتفع بين العمال الزراعيين، تشير جميعها إلى اكتظاظ السكان، وأن الحل هو سياسة سكانية تدخلية تدعو إلى استعمال تحديد النسل” أرجع كليلاند أصل المشكلة إلى أن “العاملين الفقراء والفلاحين ينجبون بلا قيود باعتبارهم أناسًا نصف أحياء يفتقرون إلى الحماس ويعانون سوء التغذية، وأنهكتهم الأمراض المجهدة كالبلهارسيا والانكلستوما التي استنزفت حيوية الطبقة العاملة وقللت كفاءة الفلاحين” 70.
اختلف حاضرو 71 المؤتمر ما بين مؤيد ومعارض لسياسات تحديد النسل، وكانت حججهم خير تمثیل للطريقة التي ترى بها أيديولوجياتهم المختلفة الشعوب تحديدًا الفقراء والنساء, وكيف تعاملوا جميعًا مع الأجساد والذوات النسائية باعتبارها مساحة للتنظير, وفرض الهيمنة, والتنظيم والتوجيه، أي بمعنى آخر، بما يتوافق مع مصالح الأمة والدولة من وجهة نظرهم ويُبقي على امتيازاتهم الاجتماعية والطبقية كرجال وأغنياء. فأي حديث عن تحديد النسل أو تحسينه هو مؤشر على أي من النساء يرى رجال الدولة أن لها الحق في الإنجاب، بل وفي بعض الأحيان من منهن ينبغي تشجيعها عليه، ومن هي المستهدفة بسياسات المنع، بينما لم تمثل رؤى النساء، حق نساء الطبقات العليا اللاتي ساهمن بقدر كبير في إعادة تشكيل وترسيخ أنماط أمومتهن في المجتمع الأكبر، لأدوارهن الإنجابية أي أهمية.
كان من أبرز الموضوعات التي نوقشت في المؤتمر هو العلاقة ما بين كفاءة العمالة وإنتاجية السكان والتضخم السكاني، رأى مناصرو تحديد النسل أن معدلات المواليد المرتفعة هي ما أدت إلى انخفاض مستوى المعيشة، فأطفال الأسر كبيرة العدد يعانون تدهور حالتهم الصحية لأن التزايد المستمر في عدد الأسرة لا يقابله زيادة في مستوى الدخل، مما يؤدي إلى سوء ظروف التغذية والإسكان، والعمالة المبكرة للأطفال؛ وعلى الجانب الأخلاقي، فإن الأسر كبيرة العدد لا تستطيع تقديم التربية الأسرية المناسبة لأطفالها مما يؤدي إلى انعدام الانضباط والفساد الأخلاقي للمجتمع. ومن ثم يؤثر ارتفاع معدلات المواليد في كفاءة العمالة، وتؤدي النسبة العالية للوفيات بين الأطفال (٦٥% من إجمالي الوفيات سنة ١٩٣٧) إلى عدم تحقيق أكبر قدر ممكن من إنتاجية الدولة، وقد وصل بهم الأمر إلى حساب التكاليف التي تتحملها الدولة في مصاريف الولادة والتعليم والتغذية، مشيرين إلى أن مثل تلك التكاليف تعد إهدارًا لموارد الدولة لأن الأطفال يموتون دون الوصول لسن يسمح لهم بـ “إفادة الدولة بجهودهم الإنتاجية 72“.
فيما مثل تحسين النسل (اليوجينيا) أحد المحاور التي نوقشت باستفاضة, فمن منطلق تحسين نوعية المواطنين, دافع بعض مقدمي فكرة تحسين النسل عن ضرورة “القضاء على العيوب العقلية والبدنية في جسد الجماعة الوطنية“، وذلك بإحدى الطريقتين؛ إما بالتحسين الإيجابي للنسل، أي تشجيع الأسمى على الإنجاب والتكاثر، وإما بالتحسين السلبي للنسل، أي منع الأفراد الأدنى عقليًا وبدنيًا من الإنجاب. رأى بعض المدافعين عن ضرورة تحسين النسل من أجل النهوض بالأمة أن تحديد النسل هو إحدى طرق التحسين السلم للنسل, ولم يكتفوا بالتشجيع على استخدام وسائل منع الحمل بل اقترحوا أيضًا التعقيم والحبس في حالات الضرورة لمنع الحمل. وتتمثل الحالات الضرورية بالنسبة لهم في حرمان أصحاب الأمراض العقلية والبدنية والمجانين وضعاف العقول من الإنجاب والتكاثر حتى “لا يضاعف عددهم جيل بعد جيل وتنشر أمراضهم ونقائصهم بين أفراد الجماعة“، واقترحوا أيضًا عدم تقديم خدمات الرعاية الاجتماعية لهم كطريقة تجبرهم على عدم التكاثر73.
اعترض بعض للدافعين عن ضرورة تحسين النسل على تحديد النسل, لأنهم رأوا أن تقليل الأعداد يعني تقليل كل أعداد السكان بما يتضمن تقليل أعداد الأشخاص الأصحاء والأصلح. وقدم بعضهم مقترح بتشريع قانون يلزم المقبلين على الزواج بإجراء فحوصات لضمان صحة الزوجين وعدم إصابتهم بأي أمراض (خاصةً الأمراض المنقولة جنسيًا)، جاء هذا في إطار استشهاد المجلات والدوريات العلمية الأشهر في مصر بتجارب ألمانيا النازية مع التعقيم وترخيص الزواج من أجل تحسين النسل 74.
جاءت معارضة تحديد النسل من منطلق قومي وإسلامي، قائم على الاهتمام بتكوين طبقة حاكمة وطنية قادرة على النهوض بالمجتمع وقيادته نحو طريق التقدم والحداثة. تحدث أصحاب ذلك الرأي عن تحديد النسل باعتباره “معاديًا للقومية“، وبأنه “انتحار وطني“، وذلك لأن الطبقات الوسطى هي التي ستتجه إلى استخدام أساليب تنظيم الحمل، مما سيقلل من تكاثر هذه الطبقات “المنتجة والمبدعة” وإنجابيتها، وسيترتب عليه نتائج وطنية ضارة. رأى هؤلاء أيضًا ضرورة رؤية أعداد السكان باعتبارها قوة حيوية للدولة، وعارض بعضهم فكرة حتمية الارتباط العكسي ما بين زيادة عدد السكان ومستوياتهم المعيشية، فبالإشارة إلى إمكانية الاستعانة بالتقنيات الجديدة في الري والعلاج الطبي زهيد الثمن، يمكن التحسين من مستويات الصحة العامة 75. بينما أشار بعضهم إلى تعارض تحديد النسل مع الاحتياجات الدفاعية والعسكرية للدولة القومية، بإقامة مقارنة بين النقاشات الدائرة في مصر والسياسات المتبعة في إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية، التي تشجع على التكاثر والتناسل بإعفاءات الآباء ضريبيًا، وتفضيل أرباب الأسر عن العزاب في أعمال القطاع العام. جاءت هذه المقارنات في وسط حالة من استنكار رغبة مصر في تقليل عدد السكان في الوقت ذاته الذي تشجع فيه الدول المُحارية على زيادته، وفي إطار هذا الخطاب, دُعيت النساء للصريات لإنجاب المزيد من الجنود للأمة و“تجاهل أفكار تحرر المرأة المضللة“. أشار أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الذين حضروا المؤتمر إلى أنه بالأولى أن تكون مصر هي الرائدة في ما يتعلق بموضوع الرعاية الاجتماعية للفقراء، التزامًا بمبادئ الشريعة الإسلامية، بدلاً من الدول الأوروبية التي تضمن الحق في الأبوة والتعليم الجاني. وانتقد عدم وجود سياسة فعالة لحل مشكلة الفقراء من العاملين، والاتجاه بدلاً من ذلك في طريق تحديد النسل، في إشارة منه لواجب الدولة في حماية وإبقاء مؤسسة الأسرة 76.
اقترح بعض الحاضرين التفكير في تنظيم النسل بناءً على الطبقة، بمعنى تشجيع الطبقات الفقيرة من الريف والحضر على استخدام وسائل منع الحمل وحث الطبقات الغنية “الأصلح” على التكاثر. رأى مقدمو هذا الاقتراح أن الطبقات الدنيا هي الأكثر خصوبة، وأرجعوا ذلك إلى ثلاثة أسباب؛ أولها “أن العناصر الفقيرة هي الأقل إدراكًا لأعباء الحياة الزوجية وأقل اهتمامًا بحالة أطفالها“؛ وثانيها “أن الكثير من هؤلاء الناس تزوجوا مبكرًا لأنهم ينظرون إلى الزواج من الناحية الجنسية فقط“؛ وثالثها “أن الكثير من الفقراء يجهلون تمامًا بأساليب تحديد النسل” 77. قدم بعض الحاضرين نقدًا لتلك الحجة مشيرين إلى أن الفلاحين يكثرون من ذريتهم عمدًا، وذلك لأن أطفال الفلاح هم المعيلين الأساسيين له، وهم الذين يساعدوه في أعمال الزراعة والحصاد، إلى جانب أن الأطفال بالنسبة للفلاح يمثلون “رأس المال والثروة“. وجاء الرد على تلك الانتقادات بأن مقدميها قد انفصلوا تمامًا عن حياة الفلاحين الحقيقية والمعاصرة، وأن حقيقة حياة الفلاح ذي الأسرة كبيرة العدد تتسم بالانخفاض الشديد في مستوى المعيشة 78.
شهد مؤتمر ٣٧ أول فتوى دينية من مفتي الديار المصرية فيما يتعلق بإجازة استخدام وسائل منع الحمل, وقال الشيخ عبد الماجد سالم أنه يجوز استخدام وسائل منع الحمل إذا وجد احتمال أن يتصرف الطفل على نحو شرير بسبب التدهور الديني المجتمعي العام، أو إذا لم يكن هناك ضمان لتلقي الطفل العدفة اللازمة بسبب الضغوط الاقتصادية التي يواجهها الأبوين79. اعترض حسن البنا – المؤسس والمرشد العام لجماعة الإخوان للمسلمين – على الفتوى، وأوضح أن الإسلام يأمر بالإكثار من النسل وبحض عليه ويدعو إليه من منطلق وجوب الجهاد مما يتطلب وجود جيش إسلامي كبير العدد واستعداد عسكري دائم، وأضاف حسن البنا أن تلك القاعدة في الإسلام لها استثناءات، ولكن الاستثناءات لا يمكن أن تبيح ما هو محرم، أي تحديد النسل.
بينما رفض حصر النقاش حول السياسات السكانية المرتبطة بالقومية المصرية فقط، بل رأى أن “الإسلام لا يتقيد بالتقسيم السياسي في الوطن الإسلامي العام، فهو عقيدة ووطن وجنسية، وأرض المسلمين في نظره وطن واحد, ما يعني أن الزيادة في جزء منه قد تسد نقصًا في جزء آخر“. رأى حسن البنا وعيسى عبده (أحد أعضاء الجماعة) أن تحديد النسل القائم على الخوف من الفقر يعكس عدم إيمان بكرم الله, وساوی حسن البنا ما بين قتل الأطفال وتحديد النسل بـ “منع الحياة من المجيء للوجود” من خلال استخدام وسائل منع الحمل. قال عيسى عبده إن التدخل في مسألة الإنجاب مباح في حالات الضرر سواء الضرر على صحة الأم أو الضرر الواقع على المجتمع من “النسل غير السليم“، فيما وجه اللوم إلى الدولة العلمانية لعدم اهتمامها بمصير الأسرة، فقد تركت رب الأسرة يتحمل وحده أعباء فترة ما بين الحربين الاقتصاديين، ودعا إلى التشجيع على الإنجاب باعتباره “النموذج المثالي للأسرة“، وإلى إقامة مشروعات الرعاية الاجتماعية 80.
اعتمد بعض من الأطباء الحاضرين على التركيز على الأخطار الصحية في ما يتعلق بالإنجاب المفرط ولكنهم عملوا أيضًا على توضيح الفوائد الأخلاقية لاستخدام وسائل منع الحمل، واعتبروا الإجهاض الجنائي 81 أحد النتائج شديدة الخطورة المترتبة على عدم المعرفة الواسعة بوسائل منع الحمل، لم يكن هناك إحصائيات شاملة عن الإجهاض، لكنهم افترضوا أن النساء الأفقر سيلجأن إلى الإجهاض الجنائي بسبب الفقر واليأس، وأصحاب هذا الرأي رأوا أن “تنظيم النسل العلمي وسيلة للقضاء على الإجهاض الإجرامي المرتبط بالطبقات الدنيا التي تشكل خطرًا على المجتمع وقيمه“. ورأوا أيضًا أن استخدام وسائل منع الحمل يشجع على الزواج في سن مبكر دون أن يحمل الأزواج أعباء الإنجاب، فالزواج “يرقى بالفرد اجتماعيًا وأخلاقيًا“، ويساعد على منع العلاقات المحرمة مما يجنب المجتمع المشاكل الأخلاقية الكبيرة المرتبطة بالانحرافات الأخلاقية مثل “الدعارة والزنا والمثلية الجنسية والإجهاض والامتناع عن الزواج“، ورأوا أن وجود عدد كبير من غير المتزوجين في المجتمع يُعتبر “أحد أسباب اللانظامية الاجتماعية 82“. رأى بعض المعارضين لاستخدام وسائل منع الحمل من المنطلق الأخلاق نفسه, أن استخدام وسائل منع الحمل هو شكل من أشكال “الانحراف الجنسي“، وتحدثوا عن خطورة الأعمال “غير الطبيعية” أثناء الممارسة الجنسية، وأوضحوا أن “الإنزال خارج الفرج” ينجم عنه أمراض مثل سرعة القذف والعجز الجنسي عند الرجال والأمراض العصبية والنفسية عند النساء، خاصةً اللاتي لا يصلن للرعشة الجنسية 83.
كانت زاهية مرزوق، عضوة الجمعية المصرية للدراسات الاجتماعية، الصوت النسائي الوحيد في هذا المؤتمر، وقد عبرت في كلمتها عن استيائها من سيطرة الرجال على المؤتمر كله، وانتقدت إهمال كل الخطابات والحجج لدور النساء في الإنجاب. بنت زاهية حجتها على أن أعمال الإنجاب وتربية الأطفال هي بالأساس مهام نسائية وقالت إنه حتى تقوم النساء بهذه المهام بالشكل الصحيح فينبغي أن تتجنب مخاطر الزواج المبكر والإنجاب المفرط، وحذرت من انتشار التشرد, وإجرام الأطفال، والانطواء، الذين ينتجن من إنجاب الأطفال غير للرغوب فيهم، وأشارت إلى دراسات نفسية للتدليل على الأذى النفسي الذي يلحق بالأطفال إذا ما تواجدوا في أسرة كبيرة العدد 84. تناول عباس عمار مسألة تحرير المرأة، ووجه النقد للحركة النسائية المصرية لعدم وضعها موضوع تحديد النسل على أجندتها، وتساءل كيف يمكن للنساء أن تتحرر إذا كان الإنجاب يشغل كل وقتها، وأن تنظيم النسل سيساعد النساء على القيام بواجباتهن في الإصلاح الاجتماعي في مصر، إلى جانب القيام بواجباتهن المنزلية 85.
“الأسرة أساس المجتمع، وقوامها الدين والأخلاق والوطنية” المادة ٤٨ من دستور ١٩٥٤
“تعنى الدولة بإنشاء المنظمات التي تيسر للمرأة التوفيق بين العمل وبين واجباتها في الأسرة“
المادة ٤٣ من دستور ١٩٥٤
جاءت هذه المواد من دستور ١٩٥٤ لتعكس مركزية الأسرة النووية في إعادة الإنتاج الاجتماعي والبيولوجي, وأنها المساحة الأولية لإنفاذ سياسات التشكيل الاجتماعي للأفراد, وإنتاج أنماط الأنوثة والذكورة “الطبيعيين“، وترسيخ أنماط الأخلاق التي تحافظ على استدامة البنية الاجتماعية اللازمة للإنتاج وتراكم الثروة. وفي هذا الإطار، فالأسرة هي الموقع الأول حيثُ تُقوَّض أجساد النساء، وتُمارس عليها الهيمنة والتحكم وتُعد لأداء الدور الاجتماعي المنوط بها، وتُوجَّه ناحية السلوك الإنجابي الذي يتماشى مع السياسات السكانية للدولة وما يترتب عليها من إطار أخلاقي.
حاول جمال عبد الناصر رفع جزء من الأعباء الإنجابية التي تقع على عاتق النساء وتعوقهن عن الانخراط والإسهام في الإنتاج، وذلك بتحميل الدولة جزء من مسئوليات إعادة الإنتاج/ الإنجاب، فلقد أعطى القانون رقم ١٤ لسنة ١٩٦٤ الحق لكل الحاصلين على درجات تعليم متوسط أو فوق متوسط في التعيين في القطاع العام بغض النظر عن نوعهم الاجتماعي، فيما ألزمت قوانين العمل أصحاب العمل بإعطاء إجازة وضع مدفوعة الأجر للنساء حديثات الولادة مدة خمسين يومًا, وألزم أصحاب العمل في الأماكن حيث تتخطى العمالة النسائية ١٠٠ امرأة بتوفير خدمات الرعاية النهارية للأطفال، ومنع أصحاب العمل من فصل النساء الحوامل أو اللاتي يقضين إجازة الوضع 86. وبالرغم من التحسينات التي كان لها أثر كبير في انخراط النساء في مجالات التعليم والعمل في الحقبة الناصرية، فالتغييرات لم تمس العلاقات الأسرية التي أسست لها الحقبة السابقة 87، بل تعامل عبد الناصر مع مؤسسة الأسرة باعتبارها مساحة يسري عليها عملية التخطيط القومي لتصبح الأسرة ذاتها موضوعًا للتشكيل والتخطيط ثم تصبح بدورها جزءًا فاعلاً في تنفيذ تلك العملية 88.
ومن نفس منطلق خطورة التزايد السكاني على مستويات الفقر والتعليم والصحة وتحقيق الرفاه, والتعامل مع السكان كأحد مكونات الإنتاج التي يجب تحسين نوعيتها، والدعوة لضرورة إعادة التوازن ما بين الإنتاج المادي والإنتاج البيولوجي؛ شُكلت “اللجنة القومية لمشكلات السكان” داخل هيكل المجلس الدائم للخدمات العامة من أجل دراسة الاتجاهات السكانية في مصر، وبحث أثر الزيادة السكانية على التنمية الاقتصادية، وتقييم أساليب التأثير في الاتجاهات السكانية لتحسين مستوى رفاه الفرد والأسرة والمجتمع وتقديم توصيات لسياسة سكانية تتوافق مع أهداف مصر القومية وتحسن وضع مصر الدولي. ووكلت للجنة الفرعية الطبية مهام نشر الثقافة الجنسية على مستويات مختلفة باستخدام وسائط سمعية وبصرية وفتح عيادات تنظيم الأسرة لاختبار مدى التجاوب مع استخدام وسائل منع الحمل المختلفة 89.
سنة ١٩٥٤، تشكلت لجنة وزارية تضم علماء سكان (ديمجرافيين) وعلماء اجتماع ومعلمين وعلماء نفس وصحفيين ورجال دين، لتعمل كل فئة في مجالها على بحث بنية الأسرة وحجمها المثالي، ولرصد نماذج السلوك الإنجابي بين فئات الشعب المصري المختلفة، وتحليل بيانات الإحصاء السكاني، وقياس مدى قبول استخدام وسائل منع الحمل وفقًا لتقسيمات الفئات السكانية المختلفة. جاءت تلك الجهود في إطار محاولة لوضع سياسة سكانية شاملة للحد من السكان, وفي سنة ١٩٦٥, بدأ الانتقال من مرحلة البحث إلى مرحلة تنفيذ برامج تنظيم الأسرة بتأسيس “المجلس الأعلى لتنظيم الأسرة” الذي يتلخص دوره في نشر عيادات تنظيم الأسرة والدعاية لخدماتها في كل أنحاء البلاد للحد من السكان. “حشدت برامج تنظيم الأسرة أيديولوجيات القومية والتقدم القومي التي أكدت أن تنظيم الأسرة هو جزء من تقدم الدولة ورفاه شعبها” 90.
عادةً ما توسم فترة جمال عبد الناصر بـ ” نسوية الدولة“، لكن في الحقيقة نسوية الدولة هي الوجه الآخر لـ “أبوية الدولة“، إذ تكون الدولة متداخلة في كل مناحي حياة الأفراد، ولا تسمح لهم بأي نمط من أنماط التنظيم المستقل أو القاعدي، بل تفرض عليهم أنماط التنظيم الاجتماعي من أعلى. احتكرت دولة عبد الناصر تشكيل الخطاب السياسي بكل أشكاله، بما يتضمن احتكار “الخطاب النسوي“، ومن ثم فهذا النمط من “النسوية” لم يتخذ من مطالب النساء – أيًا كانت طبقتهن الاجتماعية – أو احتياجاتهن أو أولوياتهن مركزًا له، بل على العكس تجاوب مع بعض مطالب الحقبة السابقة بما يتوافق مع أهداف الدولة في الإنتاج وتحقيق الرفاه الاجتماعي. فأثناء هذه الحقبة استطاعت بعض النساء من الاستقلال المادي عن أسرهن، لكن استمر تثبيتهن في نمط الأسرة النووية بما يتوافق مع أدوار إعادة الإنتاج وما تتضمنه من إنجاب مخطط وفقًا للسياسة السكانية للدولة، فالإجراءات التي حملت بعضًا من أعباء الأعمال الإنجابية عن عاتق النساء، حدثت في إطار المنطق الحدائي الذي يتعامل مع إدماج النساء في التعليم والعمل بكونها آليات لتحجيم إنجابيتهن، وليس حقوقًا أصيلة لهن.
“تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة وعملها في المجتمع، ومساواتها بالرجل في كافة ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية“
المادة 11 من دستور ۱۹۷۱
توضح هذه المادة سيطرة الخطاب الديني الذي لم تخلُ منه الخطابات حول الأسرة وأجساد النساء في الحقب السابقة، وأصبح ذلك التوجه مهيمنًا في عهد أنور السادات، الذي شكلت سياسات الانفتاح الاقتصادي أحد معالمه البارزة وكان لها أثر كبير في موقع النساء في المجتمع والأسرة. فبعد عقدين من الاستحواذ الكامل من الخطاب الناصري على كل ما له علاقة بالحياة السياسية والاجتماعية، بوصول أنور السادات للسلطة، في محاولة منه للقضاء على بقايا الناصرية، تحالف مع الإخوان المسلمين 91 وأصدر قرارات بالسماح لهم بإعادة إصدار نشرتهم الشهرية “الدعوة” وتوزيعها في الجامعات. وسمح لقيادات الجماعة بالرجوع من منافيهم وأصدر قرارات بالإفراج عن المحبوسين 92.
كانت الهجرة لدول الخليج هي الحل الأوقع للطبقات الوسطى والعاملة، وذلك في إطار التردي الشديد للأوضاع الاقتصادية الناتجة من سياسات الانفتاح في سبعينيات القرن العشرين، فانخفاض المرتبات في القطاع الحكومي مقارنة بالتضخم في الأسعار كان له أثر شديد السلبية في أوضاع الطبقات الوسطى والعاملة، خاصةً النساء منها نظرًا لأن القطاع العام كان الموقع الأساسي لتوظيف النساء 93. شهدت نهاية السبعينيات نقاشات عامة حادة حول مدى الرغبة في توظيف النساء ضمن قوة العمل، وركز المعارضون لعمل النساء من الإسلاميين والعلمانيين على الآثار السلبية التي تترتب على الأسرة والأطفال بسبب انخراط النساء في العمل، فيما وجهوا اللوم للنساء على المواصلات العامة والإنتاجية المنخفضة. لم يختلف موقع الدولة عن الخطابات الأبوية والذكورية التي هيمنت في تلك الفترة حول “إشكالية” عمل النساء، فلقد قدمت الدولة للنساء العاملات بالقطاع العام الكثير من الحوافز من أجل دفعهن لأخذ إجازة دون مرتب, أو للعمل بدوام جزئي لرعاية أطفالهن. وبالرغم من كل هذه الضغوطات على النساء العاملات حتى يبقين في منازلهن، استمرت الغالبية العظمى منهن في العمل 94.
دفعت سياسات الانفتاح وما ترتب عليها من تضخم في الأسعار، نساء الطبقة العاملة سواء من المدينة أو الريف إلى الانخراط في قوة العمل، تجسد هذا الانخراط بقوة في شركات القطاع العام الصناعي، فبينما كان الغالبية من الذكور يسعون إلى أجور أفضل من خلال العمل في القطاع الخاص أو الهجرة إلى دول الخليج. فضلت النساء العمل في القطاع العام لما يتضمنه من مواصلات مدعومة وخدمات رعاية للأطفال وإجازة أمومة. وبالرغم من تزايد الاعتماد على العمالة النسائية في هذا القطاع أثناء هذه الفترة كقوة عمل أكثر استقرارًا، استمر مدراء المصانع في التعامل مع النساء باعتبارهن عمالة مكلفة بسبب احتياجهن الإجازة الأمومة ولرعاية الأطفال، فيما صرف بعض المديرين حوافز للعمال المهرة من الذكور حتى يبقوا عليهم ضمن قوة العمل، حتى في بعض الحالات التي شهد فيها مديرون بعض أماكن العمل نجاح النساء وإنتاجيتهن العالية، كان مديرون الدرجة الأعلى يرددون عدم ملائمة النساء لهذا النوع من العمل (الإنتاج الصناعي) بسبب انشغالهن بمسئولياتهن تجاه أسرهن95.
رجوعاً إلى التحكم في السكان وتحديد النسل، ربطت السياسة السكانية في مصر في عهد أنور السادات ما بين الحد من الزيادة السكانية والتنمية، وهو ما يتماشى مع سياسات الانفتاح المفروضة والمتبعة حينها، استهدف برنامج السكان المناطق الريفية بالأساس واعتمد على سياسة “البيع بالإقناع” (soft sell) واستخدام أسلوب في سرد المعلومات والتواصل مع الجهات المعنية، وذلك لتجنب بروز جهات معارضة لبرامج تنظيم الأسرة – خاصةً الإسلاميين، وقام على توظيف كوادر محلية من الشابات والفلاحات، كان يُوظف واحدة لكل قرية ويعملن جميعًا تحت إشراف مجلس قروي محلي، ولم يكن عملهن يقتصر على نشر المعرفة بخصوص تنظيم الأسرة فقط بل كن يعملن أيضًا على مجموعة من الأنشطة التنموية الأخرى96.
في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، اعترضت بعض هيئات التمويل الدولية مثل الهيئة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) على المنظور التنموي المُتبع في السياسة السكانية المصرية، ورأت أنه غير فعال, ومارست ضغطًا كبيرًا على الحكومة المصرية لتوجيهها نحو برنامج مباشر للتحكم في خصوبة السكان. قدمت الهيئة الأمريكية للتنمية الدولية أكبر تحويل للحكومة المصرية لدعم برامج التحكم السكاني، الذي بدأ سنة ١٩٧٧. بين عامي ۱۹۷۷– ۱۹۸۳ قدمت الهيئة ٨٧ مليون دولار أمريكي ووعدت بتمويل إضافي قدره ۲۰ مليون دولار أمريكي سنة ١٩٨٥. هددت الهيئة الأمريكية للتنمية الدولية بقطع الدعم عن الحكومة المصرية إذا لم تستجب الأخيرة لشروط الهيئة، عشية توقيع عقد التجديد سنة ۱۹۸۳، وبالفعل قبلت الحكومة المصرية بشروط الهيئة، التي اعتمدت أول خطواتها إجراء مسحًا ممولاً من الجهة المانحة حول انتشار استخدام وسائل منع الحمل. وأفادت نتائجه بـ “محدودية استخدامها 97“. وفي سنة ١٩٨٥، اقترحت الهيئة الأمريكية للتنمية الدولية إنشاء المجلس الوطني للسكان، ومن خلاله قدمت خطة سكانية جديدة تعمل على التوسع في تقديم خدمات تنظيم الأسرة في القطاعين الحكومي والخاص, وتعتمد على خطاب حق الأزواج في “الاختيار الحر” في تحديد عدد أطفالهم والفروق الزمنية في ما بينهم، وبالرغم من أن المسح قدم انخفاض معدل الخصوبة في مصر من ٦.6 في أواخر الستينيات إلى ٣.٩ في أوائل التسعينيات، رأت الهيئة أن معدل الخصوبة ما زال شديد الارتفاع. وفي إطار تعاون الحكومة المصرية وانصياعها للأهداف السكانية التي حددتها الهيئة الأمريكية للتنمية الدولية, قدمت الهيئة تمويلاً قدره ۱۰۲ مليون دولار لقطاع السكان في مصر بين عامي ۱۹۸۳– ۱۹۸۸. 98
استهدفت برامج تنظيم الأسرة النساء بإتاحة وسائل منع الحمل الأنثوية فقط . كانت حبوب منع الحمل هي الوسيلة الأكثر استخدامًا بين النساء المصريات حتى منتصف الثمانينيات، لكن أفادت أبحاث منظمات المجتمع المدني تحت إشراف الهيئة الأمريكية للتنمية الدولية أن النساء المصريات لا يستخدمن حبوب منع الحمل وفقًا لتعليمات القائمين على عيادات تنظيم الأسرة، فبعض النساء تنقطع عن اتخاذ الحبوب بسبب آثارها الجانبية عليهن. فيتوقفن عن اتخاذها إذا كن غير ناشطات جنسيًا أو إذا تغيب أزواجهن، ويتأثر التزامهن بالتعليمات بالمعرفة غير الدقيقة التي يشاركها المحيطين من العائلة والأصدقاء. وبناءً على ذلك رأت الهيئة أن النساء المصريات “غير مسئولات” في استخدامهن لوسائل منع الحمل مما يعيق تحقيق أهداف التحكم السكاني المرجوة، وبناءً على ذلك بدأت الهيئة في تقديم في وسائل أكثر “فاعلية” مثل اللوالب التي تستمر فاعليتها لمدة ثمانية أعوام ولا يمكن للمستخدمة إزالتها بنفسها دون بعض المخاطر الصحية. ففي أواخر الثمانينيات، أتاحت عيادات وزارة الصحة للوالب التي كانت تأتي بدعم كبير من الهيئة الأمريكية للتنمية الدولية وروَّجت لها، بينما أدخلت أساليب الحقن ((Depo-provera injection and Norplant injection التي استهدفت بشكل أساسي النساء الفقيرات من القرى المصرية، وكانت مدعومة أيضًا من الهيئة الأمريكية للتنمية الدولية 99.
من منطلق أن رفع الدعم عن السلع والخدمات الأساسية سيجعل تكلفة الإنجاب عالية، مما سيدفع بالأزواج لتقليل عدد أطفالهم بـ “إرادتهم الحرة“, أجبرت هيئات التنمية الدولية الحكومة المصرية على تبني سياسات لتحرير اقتصادها وخصخصة القطاع العام وتبني خطط رفع الدعم التدريجية، وهي الهيئات نفسها التي قدمت دعمًا ماديًا كبيرًا لتوفير وسائل منع الحمل لتنفيذ سياسات التحكم السكاني في مصر 100.
عادة ما تُوثق بوادر الحركة النسوية المصرية مع بداية حركة الاستقلال الوطني في بدايات القرن العشرين 101, لكن في الحقيقة كان للنساء وجودًا قويًا في التحركات الشعبية للقاومة للاحتلال العثماني وما قبله، وكانت أجسادهن محلاً لفرض التقويم وسيطرة الدولة، وكان المجال الخاص المُتمثل في الأسرة مجالاً للتفاوض والمقاومة من خلال اللجوء للمحاكم المحلية، حيثُ كانت النساء من جميع الطبقات، المدنيات والريفيات, تتقدم للمحاكم المحلية لعرض قضاياهن. كانت نساء الطبقات العُليا يوكلن شخصًا للترافع عنهن، بينما كانت النساء الفقيرات من المدن والريف يتقدمن بأنفسهن ويحكين تجاربهن المرتبطة بعملهن والمرتبطة أيضًا بحيواتهن الشخصية مثل قضايا الطلاق والتملك 102.
في مطلع القرن العشرين, بدأت الحركة النسوية (الرسمية) في التشكيل وكانت جزءًا من الحركة الوطنية المصرية، تصورت الكثير من النساء المنخرطات في الحركة آنذاك أن حركة التحرر الوطني ستضمن لهن بعض من الحقوق التي طالبن بها قبيل الاستقلال, لكن بعدما تمكن الوفد من السلطة وبدأت كتابة الدستور اكتشفت النساء المنخرطات في الحركة حينها أن مطالبهن لم تُضمن في الدستور، ومن ثم أُسس الاتحاد النسائي المصري بحلول عام ۱۹۲۳ ليكون منبرًا تستطيع نساء الطبقات الوسطى والعليا رفع مطالبهن من خلاله 103. رفع الاتحاد النسائي المصري مطالب سياسية ونسوية واقتصادية مرتبطة بوضع النساء، وكانت عضواته يناقشن تلك المطالب في إطار الخطاب الوطني المهيمن حينها، بمعنى آخر، كانت حُجة الاتحاد ترتكز على تحسين أوضاع النساء من أجل تحسين أوضاع الوطن أو الأمة, بما أنهن المربيات الأساسيات. وهو خطاب يستند بالأساس إلى قصر أعمال التربية والتنشئة على النساء ويتخذ من أدوارهن الإنجابية مركزًا له. حرص الاتحاد أيضًا على عدم اتخاذ مواقف خلافية في ما يتعلق بالدولة والدين، ورفع مطالب متعلقة بتحسين أوضاع النساء في الأسرة من خلال تشريع قانون للأحوال الشخصية يمنع تعدد الزوجات للرجال، ولا يعترف بالطلاق الشفهي، ويمنح النساء الحق في حضانة أطفالهن بعد الطلاق، ويلغي بيت الطاعة، ويحدد الحد الأدنى لزواج الإناث. تضمنت المطالب أيضًا إصلاحات متعلقة بتوفير مساحة تمكن النساء من الطبقات الوسطى والعليا من الخروج من المجال الخاص، وتمهد بيئة لوجودهن في المجال العام، فتمحورت المطالب حول توفير فرص تعليم وعمل للنساء بالتساوي مع الرجال، وإعطاء النساء حقوقهن السياسية الكاملة مثل الحق في التصويت 104.
لم يكن الجسد أو الحقوق الإنجابية والجنسية محلاً للمطالب النسوية الأولى، ولم يكن هدف النسويات نقد السياسات السكانية، بل أسهمن في إنفاذها عبر دفعها من خلال قنوات التنظيم الأولى التي انخرطن فيها، مثل الجمعيات الخيرية التي – كما أشرنا سابقًا – أدت دورًا محوريًا في عملية تحديث الأمهات الفقيرات, وتسييد أنماط أمومة نساء الطبقات الوسطى والعليا، والنظر إلى النساء الفقيرات باعتبارهن المسئول الأول عن النسب العالية لوفيات الأطفال، مما يؤثر بالسلب في الإنتاج، وذلك بسبب فقرهن وعدم وعيهن بقواعد النظافة الشخصية السليمة. بمعنى آخر، أسهمت الموجة الأولى من الحركة النسوية في ترسيخ فكرة أن التضخم السكاني هو السبب الأساسي للفقر، محيدة بذلك النظر إلى التوزيع غير العادل للثروة والأملاك, وأن النساء الفقيرات هن السبب الأساسي في موت أطفالهن واستدامة الفقر والمرض لأن إنجابيتهن تورثهما. ولعل تعامل الحركة النسوية الرسمية/ الليبرالية مع موضوع العمل بالجنس عقب الاستقلال الوطني يوضح لنا الإطار الذي نظرت من خلاله هذه الفئة من النساء/ النسويات إلى أجساد النساء الأقل امتيازًا، وكيف أسهمن في وضع أطر وضوابط على السلوك الأخلاق والجنسي للنساء بالحملة التي نظمنها من أجل إلغاء تقنين العمل بالجنس، وكيف رسخن لدور الدولة الوطنية في تقويم أجساد النساء وذواتهن.
عملت النسويات على رفع مطالب متعلقة بالمساواة بين النساء والرجال في المجتمع المصري، لكنهن في الوقت نفسه كن جزءًا من حركة نسوية عالمية يهيمن عليها الخطابات الغربية، مما كان يضعهن في موقع مهمش داخلها باعتبارهن الممثلات الوحيدات لدولة تسودها قوانين استعمارية وتميز لمصلحة الأجانب من البيض (Capitulary laws)105, عملت النسويات المصريات، وعلى رأسهن هدى شعراوي وسيزا نبرواي، على تشكيل جبهة وطنية مناهضة للعمل بالجنس التجاري بالتحالف مع المؤسسات القادرة على تعبئة الرأي العام المصري مثل الأزهر. جاءت هذه الحملة في إطار حملة أوسع من أجل إلغاء القوانين الاستعمارية التي تميز لمصلحة الأجانب في مصر. وفي إطار مؤتمر المكتب الدولي لمناهضة الإتجار بالنساء والأطفال (International Bureau for the Suppression of the Traffic in Women and Children IBS)، الذي أقيم سنة ١٩٢٤, نددت هدى شعراوي بالدور الذي تؤديه القوانين التمييزية لمصلحة الأجانب في تقنين “الرذيلة المنظمة“، إذ كانت المنظمات الدولية مثل الـ IBS وغيرها تُقدم خدمات رعاية، و“إصلاح أخلاقي“، وملاجئ للعاملات بالجنس التجاري من الأوروبيات في مصر. وطالبت هدى شعراوي في هذا للمؤتمر السلطات الاستعمارية بأن تتنازل عن سلطتها وتسمح للسلطات المحلية بإغلاق أماكن العمل بالجنس التي يديرها أجانب, وبالمثل طالبت سيزا نبراوي في مؤتمر التحالف الدولي لحق النساء في التصويت، الذي أقيم في باريس سنة ١٩٢٤، بإعطاء السلطات المصرية صلاحية قانونية على مواطنيها من أجل تسهيل محاكمة أصحاب بيوت الدعارة من الأجانب. في سنة ۱۹۲۹، في مؤتمر التحالف الدولي لحق النساء في التصويت, الذي أقيم في برلين حينها، صدر قرارًا ينص على وجوب تمہید سلطات الاستعمار الطريق للسلطات المصرية من أجل السيطرة على الأخلاق والصحة العامة 106.
وقعت هدى شعراوي على التوصيات التي قدمتها إحدى عضوات رابطة اليقظة الوطنية البريطانية للمكتب الدولي لمناهضة الإتجار بالنساء والأطفال (IBS)، سنة ۱۹۳٠، التي نصت على ضرورة تشريع قانون لإلغاء جميع المنازل المُرخصة للعمل بالجنس التجاري، ووقف تسجيل العاملات بالجنس، ووقف الكشف الصحي عليهن، وإصلاح قانون العقوبات كي يتضمن عقوبة شديدة على الطرف الثالث, أيًا كان جنسه, لاستغلاله عدم أخلاقية الآخرين، وتشريع قانون لحماية المارة في الشارع من ملاحقة (العاملات بالجنس), وتجريم للمثلية الجنسية. فيما تضمنت توصياتها العمل على ثلاثة محاور تعليمية، أولها تعزيز ثقافة الصحة الاجتماعية (Social Hygiene) ونشر معايير أخلاقية لا تفرق بين النساء والرجال؛ وثانيها التوعية بالمسئولية الاجتماعية والحاجة إلى العمل على علاج فعال للأمراض المنقولة جنسيًا بالتوازي مع محاضرات للتوعية بهذه الأمراض؛ وثالثها التوعية بالحاجة إلى العمل الإصلاحي / العلاجي (على المستوى الاجتماعي والأخلاقي وعلى مستوى الصحة العامة) (remedial work)، وفي الإطار نفسه، أشارت سيزا نبراوي إلى أن مشكلة القوانين الاستعمارية التي تميز لمصلحة الأجانب، لم تُحل بعد مما يجرد أي جهود منظمة من الدولة لمناهضة العمل بالجنس وإلغائه من معناها 107.
في سنة ١٩٣٧، أُلغيت القوانين الاستعمارية التي تميز لمصلحة الأجانب، مع تحديد فترة انتقالية مدتها ١٢ سنة، لكن لم تتخذ الحكومة المصرية أو السلطات السياسية أو الشرطة إجراءات صارمة من أجل إلغاء تقنين العمل بالجنس, مما أحبط بشدة النسويات المصريات ودفعهن للتنسيق مع النشطاء البريطانيين المناصرين لإلغاء الدعارة. فعندما طُرحت فكرة تنظيم مؤتمر المكتب الدولي لمناهضة الإتجار بالنساء والأطفال (IBS) سنة ۱۹۳۹ في مصر، تحمست النسويات المصريات لذلك كثيرًا، لكن لم يُقام المؤتمر بسبب تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية أثناء الحرب العالمية الثانية. وفي النهاية, أغلقت المنازل العمل بالجنس التجاري بموجب قرار عسكري سنة ١٩٤٩، وسنة ١٩٥٣ جُرِّم العمل بالجنس في إطار الإجراءات الإصلاحية الناصرية.
سعت الحركة النسوية لتحسين وضع النساء في الأسرة الحديثة والنووية، برفع مطالب مرتبطة بقانون الأحوال الشخصية، الذي كان وما زال محلاً للنزاع الدائم بين القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة، ومع أن النسويات طالبن بمنع تعدد الزوجات في هذا القانون، فقد جاء قانون الأحوال الشخصية لسنة ١٩2٩ مقرًا بحق الزوج في التعدد، وذلك لأن بعض الكتاب رأوا حينها أن مصر بحاجة إلى الزيادة السكانية 109. وبالرغم من صدور قرار إداري سنة ١٩٦٧ بمنع استخدام الشرطة لإرجاع الزوجة لمنزل الزوج 110، فإن “بيت الطاعة” ما زال موجودًا في قانون الأحوال الشخصية المصري. وبينما أحدثت التغييرات الهيكلية التي جاءت نتيجة للإجراءات الإصلاحية في العهد الناصري، تزايدًا في القبول الاجتماعي لوجود النساء في الحيز العام وانخراطهن بنسب كبيرة في التعليم والعمل، فإن تلك التغييرات لم تفكك العلاقات داخل الأسرة من الناحية القانونية أو الاجتماعية أو تمسها.
لم يكن هناك مجال للتنظيم النسوي، شأنه شأن أي تنظيم سياسي آخر, في فترة جمال عبد الناصر. وعقب تولي أنور السادات السلطة، لم يكن هناك مجال للتنظيم السياسي المستقل سوى للإخوان المسلمين، ومع ذلك اهتم نظام أنور السادات بحشد النساء من خلال تنظيمات جديدة، إذ أعطى تعليمات للسكرتارية العامة للحزب العربي الاشتراكي (الحزب الوحيد حينها) بإنشاء منظمات للشباب والنساء منفصلة عنه, لكنه عارض وجود أي منظمات نسوية مستقلة تحمل أجندتها الخاصة في عهده 111، بل ومنعها. وفي إطار “عقد النساء” الذي أطلقته الأمم المتحدة بدايةً من 1975, أنشأ النظام المصري منظمة نسائية مصرية أكبر كجزء من إعادة التنظيم السياسي للحزب العربي الاشتراكي، فيما أنشأ “اللجنة الوطنية للنساء“,التي ضمت كل النساء اللاتي يتخذن مواقع قيادية في الهيئة التنفيذية للحزب112. وفي هذا الوقت, هيمنت السيدة الأولى جيهان السادات على الخطابات المرتبطة بحقوق النساء، وعلى الناحية الأخرى, كان أي صوت نسوي/ نسائي مستقل يُقمع، وهذا ما حدث مع نوال السعداوي التي تُعتبر من أوائل النسويات اللاتي ناقشن موضوعات لها علاقة بجنسانية النساء وبالختان وبموقع النساء داخل الأسرة المصرية من حيث ممارسة العنف والسيطرة على أجساد النساء.
أعلنت جيهان السادات في المؤتمر الدولي الأول للنساء الذي أقيم في المكسيك أن دور المنظمة النسائية التابعة للحزب العربي الاشتراكي واللجنة الوطنية للنساء هو إنهاء التمييز التشريعي في ما يتعلق بالعلاقات داخل الأسرة وبموقع النساء. وفي الواقع, اهتمت المنظمتين بموضوعات تنظيم الأسرة وبرامج رعاية الأمومة والطفولة وتعليم الإناث، ولم تتعرض لأي من الموضوعات الخلافية المرتبطة برؤية الإسلام السياسي لموضوع استخدام النساء لوسائل منع الحمل، أو بإحداث أي تغيير تشريعي هيكلي في قانون الأحوال الشخصية حينها 113.
لكن عقب اغتيال وزير الشئون الدينية في مصر سنة ١٩٧٦، بدأت القطيعة ما بين نظام أنور السادات والإخوان المسلمين، وظهرت رغبة الدولة في تمييز نفسها اجتماعيًا ودوليًا عن الإسلاميين ببناء جبهة معارضة للإسلام السياسي من الرجال والنساء، وفي العام نفسه, بدأت جيهان السادات في إطلاق حملة لتعديل قانون الأحوال الشخصية في ما يتعلق بقضايا الزواج المتعدد للرجال والطلاق وحضانة الأطفال. جاء هذا في إطار طلب نظام أنور السادات للدعم السياسي والاقتصادي الدولي خاصةً من الأمم المتحدة، ومن ثم جاءت هذه التعديلات لتحسين وضع النظام دوليًا 114، لكن استطاع الإسلاميون حشد الرأي العام المصري ضد تعديلات قانون الأحوال الشخصية بالترويج لأن جيهان السادات والنساء/ النسويات اللاتي يدعمن تلك التعديلات يحاولن تقليد النساء الغربيات, وأنهن قد انفصلن عن النساء المسلمات العاديات اللاتي أدركن حكمة الإسلام خلف التقسيم الجندري وتوزيع الأدوار داخل الأسرة، وجادلوا بأن هذه التعديلات ستتحكم في حق الرجل في الزواج الثاني مما يتعارض مع الشريعة الإسلامية ويتماشى مع العلمانيين المناهضين للشريعة والحكم الإسلامي، وكما تقول ميرفت حاتم، فقد لعب الإسلاميون على وتر الرجولة بالإشارة لأوجه تهديداحتكار الرجال للسلطة في القضايا المتعلقة بالزواج والطلاق أثناء حملتهم ضد التعديلات. وفي عام ١٩٧٩، صدر قرار رئاسي بتعديل قانون الأحوال الشخصية، وهو ما وضع النسويات اللاتي ينتمين للحركة الديمقراطية في موقف حرج، لأن التعديلات فُرضت بطريقة غير ديمقراطية، بقرار رئاسي وفي فترة حل مجلس الشعب، وفي الوقت نفسه, كانت تلك التعديلات تحمل تعديلاً إيجابيًا مصلحة النساء نسبيا 115.
بعد اغتيال السادات، وتولي حسني مبارك للسلطة, قمعت الدولة كل أشكال المعارضة السياسية، في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، فتنامي الوعي في دوائر السلطة بضرورة توزيع السلطة كجزء من عملية التحرير السياسي، وأدت تحركات الإسلاميين في القاهرة وصعيد مصر إلى سماح الدولة لهم بالعمل من داخل مؤسسات الدولة لاحتوائهم. ففي انتخابات ١٩٨٤, تحالف الإسلاميون مع حزب الوفد الجديد, وفي انتخابات ۱۹۸۷ تحالفوا مع حزب العمل. وعبر هذين التحالفين استطاع الإخوان المسلمون أن يكونوا جزءًا من للعارضة داخل مجلس الشعب، مما ضاعف النزعة الأبوية للتشريعات الصادرة عن مجلس الشعب في ما يتعلق بالمسائل الاجتماعية116. سنة 1985، حكمت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية تعديلات قانون الأحوال الشخصية، لأنها لم تكن تعديلات طارئة ولم تستدعِ إجرائها في إطار لم يوجد فيه مجلس شعب. في الوقت ذاته، تشكلت لجنة لحماية حقوق النساء والأسرة للحشد من أجل تمرير قانون جديد يتجاوب مع الاحتياجات الاجتماعية التي طرحتها تعديلات ۱۹۷۹، وتجنبًا لزيادة التوترات ما بين النساء/ النسويات والإسلاميين قدمت الدولة تعديلات جديدة للقانون لمجلس الشعب, وجرى إقراره في ٢ يوليو ١٩٨٥. 117 جاء هذا في إطار موقف الدولة الضعيف في نهاية “عقد “المرأة” الذي أطلقته الأمم المتحدة، إذ تراجعت عن تعديلات تشريعية منحت النساء مكتسبات جديدة، ومن ثم كان على الدولة الوقف لتقليل الإحراج في المجتمع الدولي 118.
في نفس الإطار، سعى حسني مبارك للحصول على الدعم الدولي، فوقعت مصر على اتفاقية السيداو سنة ۱۹۸2، ومن ثم أعلنت مصر التزامها بمكافحة أشكال التمييز ضد النساء، وفي الوقت نفسه ساعدت التعديلات في قانون تنظيم الجمعيات على إتاحة فرصة فتح منظمات مجتمع مدني معنية بحقوق الإنسان وحقوق النساء 119، وبالفعل أنشئت مراكز كثيرة من ضمنها على سبيل المثال لا الحصر، مركز دراسات المرأة الجديدة الذي استمرت عضواته في الاجتماع إسبوعيًا لمدة عامين منذ ١٩٨٤ وحتى ١٩٨٦، لقراءة ومناقشة الأدبيات النسوية العربية والعالمية حتى قررن إنشاء إصدارة يكتبن فيها عن موضوعات مرتبطة بأوضاع النساء في مناحي الحياة المختلفة، تقول هالة شكر الله، وهي إحدى مؤسسات المرأة الجديدة، إنه من خلال قرائاتهن قد أدركن أن النساء كن جزءًا من حركات التغيير الاجتماعي تاريخيًا، لكن عندما كانت هذه الحركات تتمكن من تحقيق أهدافها, كانت النساء يتعرضن للتهميش وتجاهل مطالبهن ودفعهن للعودة إلى المنزل, ولهذا استنتجت مجموعة المرأة الجديدة ضرورة أن يكون هناك حركة نسائية متمثلة في التنظيمات النسائية المختلفة حتى تستطيع النساء فرض قضاياهن على المجتمع وعلى الحركات الاجتماعية الأخرى. تأسست المجموعة بشكل رسمي سنة ١٩٩١, 120 وكانت أغلب عضواتها من النساء المنخرطات في الحركة الطلابية اليسارية في السبعينيات.
سنة ۱۹۸۹, قرر للمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة (The UN Economic and Social Council ECOSOC) إقامة المؤتمر الدولي الثالث للتنمية والسكان, ليكون اللاحق على المؤتمرين الذي أقيما في بوخارست سنة ١٩٧٤ وفي الكسيك سنة 1984, 121 سنة ۱۹۹۰، عين الأمين العام للأمم المتحدة الدكتورة نفيس صادق التي كانت المديرة التنفيذية لصندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية (UNFPA) لتكون الأمينة العامة للمؤتمر الدولي للتنمية والسكان, تعاونت الـ UNFPA وإدارة السكان (Population Division) التابعة للأمم المتحدة خلال عمليات التحضير للمؤتمر من أجل تنسيق المهام اللوجستية والإدارية، وذلك بهدف كتابة مسودة نهائية لبرنامج العمل الذي سيُناقش في القاهرة 122. شملت التحضيرات للمؤتمر ثلاثة اجتماعات تحضيرية مركزية في نيويورك، يتخللها موائد مستديرة واجتماعات تحضيرية إقليمية ووطنية ومحلية. في الاجتماع التحضيري الأول, في مارس ۱۹۹۱، أقر الموضوع العام للمؤتمر ليكون “السكان والنمو الاقتصادي الدائم والتنمية المُستدامة” (Population, Sustained Economic Growth and Sustainable Development) 123, قررت اللجنة التحضيرية للمؤتمر والـ ECOSOC ستة موضوعات فرعية للمؤتمر، واقترحت تنظيم اجتماعات مع خبراء ومتخصصين في كل موضوع فرعي للخروج بأساس علمي تقوم عليه اقتراحات المؤتمر. كانت الموضوعات السنة الفرعية: (1) السكان والبيئة والتنمية (۲) السياسات والبرامج السكانية (۳) السكان والنساء (٤) تنظيم الأسرة والصحة ورفاه الأسرة (٥) النمو السكاني والتركيبة الديمغرافية (6) التوزيع السكاني والهجرة. أقيمت خمسة من هذه الاجتماعات في ۱۹۹۲, وأقيم الأخير في يناير ۱۹۹۳. ١24 بالإضافة لذلك، قُبل طلب مصر لاستضافة المؤتمر وبالرغم من الاعتراضات الكبيرة التي جاءت من جانب الإسلاميين في فترة ما قبل المؤتمر على إقامته في مصر، ضمنت الحكومة المصرية للأمم المتحدة أن المؤتمر سينعقد في موعده ومكانه كما كان مخططًا له 125. وفي الفترة ما بين أغسطس ۱۹۹۲ ومايو ۱۹۹۳، أقيمت خمسة مؤتمرات إقليمية للسكان من أجل مراجعة الخبرات في ما يتعلق بالسياسات السكانية واقتراح آليات عمل للمستقبل 126. وفي مايو ١٩٩٣, أُقيم الاجتماع التحضيري الثاني للمؤتمر، بحضور ممثلي عن ١٥٤ دولة ونحو ٤٠٠ من ممثلي المنظمات غير الحكومية، واتفقوا على هيكل لمسودة برنامج عمل مؤتمر القاهرة، الذي بُني على إطار نظري قدمته الدكتورة نفيس صادق ويمثل مخرجات للمؤتمرات الإقليمية والاجتماعات مع الخبراء والمتخصصين. تناولت موضوعاته ثلاثة محاور أساسية؛ أولها عدم الفصل ما بين السكان والتنمية المُستدامة (Sustainable Development)؛ وثانيها الاحتياج للعدالة والمساواة الجندرية؛ وثالثها أهمية تلبية احتياجات الصحة الإنجابية لكل الشعوب، بما يتضمن تنظيم الأسرة 127. وفي اجتماع لاحق على الاجتماع التحضيري الثاني, قالت دكتورة نفيس صادق إن الهدف الأساسي للاجتماع التحضيري الثالث سيكون التفاوض والاتفاق على صياغة شبه نهائية لكل أقسام مسودة برنامج عمل القاهرة ٩٤، والعمل على ترك أقل قدر ممكن من نقاط عدم التوافق للمؤتمر نفسه، وأضافت أن اقتراحات ممثلي الحكومات والمنظمات غير الحكومية والخمسة مؤتمرات الإقليمية والسنة اجتماعات مع الخبراء والمتخصصين ومخرجات اجتماعات الكثير من المنظمات غير الحكومية قد أُخذت في الاعتبار أثناء إعداد المسودة المبدئية لبرنامج العمل، وأن أكثر عدد من التعليقات جاء من المجموعات النسوية وكانت مرتبطة بالعدالة الجندرية وتمكين النساء وتغيير الأدوار الجندرية التقليدية للنساء والرجال 128.
وفي اجتماعها الثالث عشر، في الفترة ما بين ١٧ يناير حتى ٤ فبراير ١٩٩٤, قدمت لجنة القضاء على التمييز ضد النساء (السيداو)، وشُكلت مجموعة عمل لعرض مخرجات مؤتمر العالم لحقوق الإنسان الذي أقيم في فيينا سنة ۱۹۹۳, ولتحضير مقترحات لمؤتمر القاهرة، تضمن تقرير مجموعة العمل التابعة للسيداو أنه على مؤتمر القاهرة تناول الدائرة المفرغة من أمية النساء والفقر ومعدلات الخصوبة والتمييز في الأعمال الرسمية وغير الرسمية، وأن النساء هن أفقر الفقراء، وأن القضاء على التمييز الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي هو الأساس لتحقيق السياسات السكانية المرجوة 129.
في يناير ١٩٩٤، عُقد المؤتمر الدولي لصحة النساء (International Women’s Health Conference) في البرازيل, بعد عدد من اجتماعات النسويات على المستويات المحلية والوطنية لمناقشة قضايا السكان والصحة الإنجابية التي عُقدت على مدار سنة ١٩٩٣، كان الهدف من المؤتمر هو الوصول لاستراتيجية في ما يتعلق بالسكان والصحة والعدالة الإنجابية في مؤتمر القاهرة، حضره نحو ۲۲۷ امرأة من ۷۹ بلد، وقدم البيان الصادر عن المؤتمر معارضة قوية للسياسات السكانية التي لا تناقش حق النساء في معيشة آمنة وفي الحرية من الفقر والقمع، أو السياسات التي لا تحترم حق النساء في الاختيار الحر المبني على إتاحة معلومات صحيحة، وحقهن في خدمات رعاية صحية لائقة. وأكد البيان أن خدمات الصحة الإنجابية يجب أن تكون متاحة بجودة جيدة وبتكلفة غير عالية، وأن الإجهاض يجب أن يكون آمن وقانوني. وحث الحكومات على إعادة توجيه النفقات العسكرية نحو البرامج الاجتماعية، وأوصوا بأن تنشئ الأمم المتحدة لجنة للحقوق الإنجابية للنساء 130.
في بيان صدر عن الدكتورة نفيس صادق في عام ١٩٩٤ بمناسبة اليوم العالمي للنساء، أعلنت أن الحقوق والصحة الإنجابية ستكون أحد أهم محاور المؤتمر، وأنه لضمان حق النساء في الصحة ولتمكينهن من حقوقهن الإنجابية ينبغي وجود خدمات صحية ذات جودة جيدة وتتضمن بدائل مختلفة وآمنة وفعالة لتنظيم الأسرة بالتوازي مع وجود تعليم وإتاحة معلومات بخصوص هذه البدائل 131. وأضافت أنه وفقًا لبعض الإحصاءات فهناك ٤٠ مليون حالة إجهاض سنويًا، يحدث الكثير منها في ظروف غير آمنة، وأن الإجهاض غير الآمن يمثل أحد العوامل المهمة في نسبة الوفيات المرتفعة من الأمهات، ومن ثم فالإجهاض قضية صحية وتتطلب التفاعل العاجل معها، وأضافت أن برامج الصحة لا بد أن تلبي احتياجات النساء في كل مراحل حيواتهن، وأن تحارب الأمراض المنقولة جنسيًا مثل الـ HIV، واستطردت قائلة إن تنظيم الأسرة لا يعتمد فقط على مدى إتاحة وسائل منع الحمل، فالتجارب السابقة أثبتت أن برامج تنظيم الأسرة تعمل بشكل أكثر فاعلية في الأماكن التي تحاول عمل تغيير شامل في ما يتعلق بوضع النساء 132.
في محاضرة نظمتها مؤسسة ميثاق الأرض (Earth ledge) ولجنة المواطنين الساميين للقاهرة ٩٤ (Eminent citizens Committee for Cairo) ، في 30 مارس ١٩٩٤، قال تيموثي ريث، مستشار وزارة الخارجية الأمريكية، إن تمكين النساء وحقوقهن ورفاههن هي أشياء مركزية لتحقيق الأهداف السكانية وأهداف التنمية المستدامة (sustainable development goals)، وإنها من أولويات حكومة كلينتون وتمثل محورًا مهمًا في السياسة الخارجية الأمريكية في فترة ما بعد الحرب الباردة 133. جاء هذا في إطار انهيار الاتحاد السوفيتي سنة ۱۹۸۹ وتقديم أمريكا لنفسها باعتبارها القوة العظمى وحاملة لواء الليبرالية في العالم 134، وقال إنه أصبح هناك موضوعات جديدة ومعقدة ومتداخلة في ما بينها تحل محل المواجهات العسكرية بين الشرق والغرب، وتصبح بدورها هي المحددة للأمن العالمي (global security)، من ضمنها التدهور البيئي وعدم الوصول لخدمات صحة الأمهات, أو لموانع الحمل، أو للإجهاض الآمن والأمراض المنقولة جنسيًا مثل HIV، وانتهاكات حقوق الإنسان، ورأى أن التضخم السكاني هو مركز هذه الموضوعات،
وأضاف أن الزيادة السريعة والمستمرة في نسب السكان ستدمر أي أمل في تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في الدول النامية (developing world). ولدعم هذه الأجندة، أعلن ريث أن إدارة الولايات المتحدة الأمريكية ستوفر نحو ٦٠٠ مليون دولار أمريكي للأنشطة السكانية سنة ١٩٩٥. ١٣٥
وصلت تعبئة منظمات المجتمع المدني والمنظمات والمجموعات النسوية أثناء التحضيرات لمؤتمر القاهرة ذروتها في الاجتماع التحضيري الثالث، الذي أقيم في أبريل ١٩٩٤ وحضره ١٧٠ من ممثلي الدول ونحو ۱۲۰۰ ممثل/ ة لقرابة ٥٠٠ منظمة غير حكومية من جميع أنحاء العالم 136. شهدت أيام الاجتماع التحضيري الثالث مفاوضات حول تفاصيل المسودة الأخيرة من برنامج عمل القاهرة، واتفق الحضور على نحو ٨٥% من صياغة البرنامج، لكن كان هناك نقاط خلافية حادة ضمنها إدراج الإجهاض غير الآمن بصفته أحد أهم قضايا الصحة العامة، وكان الاعتراض على الصياغة المتعلقة بالإجهاض قادم بالأساس من الكرسي الرسولي للفاتيكان (The Holy See) وبعض ممثلي الدول، معللين اعتراضهم بأن هذه الصياغة ستتطلب “تقنين الإجهاض” 137. وبغياب الموافقة بالإجماع، وُضعت مصطلحات “الصحة الإنجابية” و“تنظيم الخصوبة” و “تنظيم الأسرة” و“الأمومة الآمنة” بين أقواس, مما يعني أنها غير متفق عليها وما زالت محلاً للتفاوض أثناء مؤتمر القاهرة 138. أسهمت للنظمات غير الحكومية فى المفاوضات من خلال استراتيجيات مختلفة, فبعضها كان مُمثل في الوفود الوطنية، بينما تشكل تكتل نسوي (Women’s aucus) فاعل، وخلق وجود ناشطات/ این متخصصات/ ين في مجالات السكان والصحة الإنجابية وحقوق النساء والبيئة فرصًا لنقاشات ثرية، وعمل تحالفات وورش عمل وتبادل غير رسمي للمعلومات بخصوص هذه القضايا 139. أثناء القراءة الأولى للمسودة قُدِّمت المئات من التعديلات في صياغة برنامج العمل الكون من ١٤ فصلاً، وعملت أمانة المؤتمر على تجميع هذه المقترحات، ثم مراجعة مسودة كل فصل من برنامج العمل وكتابة مسودته النهائية لمناقشة النقاط التي لم تلقَ موافقة بالإجماع في المؤتمر. حدث هذا في مجموعات عمل مفتوحة وغير رسمية، بينما نُظِّمت بعض الاجتماعات المغلقة للوصول إلى حلول وسط في النقاط الخلافية في برنامج العمل. ثم عرض رئيس كل مجموعة كل فصل من فصول البرنامج على مجموعته على أمل الوصول إلى أكبر قدر ممكن من التوافق حول الصياغات الموضوعة بين أقواس. حضرت أمانة المؤتمر، المسودة النهائية لبرنامج العمل, التي تضمنت الأهداف السكانية لمدة عشرين عامًا، وقدمت توصيات للعمل وتقديرات للاحتياجات من الموارد, وبُنيت على مخرجات الاجتماع التحضيري الثاني للمؤتمر، والمؤتمرات الإقليمية, والدور الثامن والأربعين لانعقاد الأمم المتحدة، والاجتماعات مع المتخصصين، والكثير من الكتابات المقدمة للأمانة من كل الفاعلات والحاضرين 140.
بالتوازي مع بدء فعاليات الاجتماع التحضيري الثالث, نظمت عشر نساء ممثلات لمجموعة متنوعة من المنظمات غير الحكومية مؤتمرًا صحفيًا، ردًا على هجوم الحلف الديني بقيادة الكرسي الرسولي للفاتيكان على كل ما هو متعلق بالحقوق والصحة الإنجابية، الذي صرح قبلها أن برنامج عمل المؤتمر “لا يمتلك رؤية أخلاقية متماسكة” 141. قالت ساندرا كبير، وهي إحدى المتحدثات في المؤتمر والمديرة التنفيذية لتحالف صحة النساء في بنجلاديش (The Bangladesh Women’s Health Coalition) إن النساء في بنجلاديش لا يحارين فقط الظروف الاقتصادية الصعبة والحدود الثقافية، بل قد تنامت حديثًا قوة دينية أصولية تستهدف النساء، وقالت سونيا كوريا التي تمثل منظمة IBASE البرازيلية، إنه بالرغم من فصل الدولة عن الكنيسة في البرازيل، ما زالت الكنيسة الكاثوليكية في روما تمارس الهيمنة على القرارات الحكومية في ما يتعلق بالصحة الإنجابية، بينما أشارت إربنا دينكا، مؤسِّسة منظمة شباب من أجل الشباب (Youth for Youth Foundation) التي تعمل على توفير تعليم جنسي للمراهقين، إلى أن النساء في رومانيا يتعاملن مع الإجهاض كأحد أساليب منع الحمل بسبب عدم وجود خدمات لتنظيم أسرة، أو معلومات متاحة بشأنها. وفي نهاية للمؤتمر الصحفي، صرحت مارجرت ثيو, وهي مديرة مشاريع منظمة تنظيم الأسرة في كينيا، أن لا أحد يمتلك الحق على إجبار النساء على الإنجاب أو العكس، أو استخدام وسيلة معينة لمنع الحمل دونًا عن غيرها، أو حق له الحق في الامتناع عن الإدلاء بالمعلومات الكافية حول الاختيارات والبدائل 142.
بعد انتهاء الاجتماع التحضيري الثالث، أعلنت دكتورة نفيس صادق في مؤتمر صحفي، أن لا الأمم المتحدة ولا مسودة برنامج العمل يقترحان تقنين الإجهاض، بل إن برنامج العمل يلفت انتباه العالم للأضرار الصحية المترتبة على الإجهاض غير الآمن، الذي يتسبب في نحو ٢٥٠ ألف من وفيات الأمهات سنويًا 143. وقالت إنه من المرجح الوصول لتسوية (compromise) في اللغة حول الإجهاض قبل المؤتمر, وأكدت أن الإشارة للقضية في إطار الصحة الإنجابية لا بد أن يراعي القوانين الوطنية والعمليات التشريعية الخاصة بكل دولة، وأضافت أن برنامج العمل طرح مسألة صحة النساء الإنجابية وحمل المراهقات للنقاش. وأفادت بأن تقديرات إسهام الجهات للائحة الدولية ستشكل ثلث الاحتياجات من الموارد, وأن الولايات المتحدة الأمريكية التي أعلنت توفير ٥٨٥ مليون دولار لسنة 1995، وعدت بأنها سترفع التزامها المادي إلى 1.2 مليار دولار بحلول سنة ٢٠٠٠. 144
شارك في التحضيرات للمؤتمر الكثير من منظمات المجتمع المدني وضمنها المنظمات التنموية المصرية التي عملت على محاور مرتبطة بالحقوق والصحة الجنسية والإنجابية في العقدين السابقين؛ مثل مناهضة ختان الإناث وزواج القاصرات. وبالمثل، تميز المؤتمر بحضور قوي لمنظمات المجتمع المدني النسوية المصرية, والمنظمات والمجموعات النسوية من الجنوب العالمي ومن النساء الملونات في الولايات المتحدة الأمريكية. شهد المؤتمر نقاشات حادة حول موضوعات محددة مثل الإجهاض والختان والحقوق الإنجابية وتضمين مصطلحي “جندر” و“الأفراد” في ما يتعلق بالحق في الوصول لخدمات تنظيم الأسرة ووسائل منع الحمل 145. تعكس هذه الموضوعات الانحيازات السياسية للفاعلين فيها المرتبطة بامتلاك النساء لأجسادهن. يعتبر مؤتمر القاهرة ٩٤ علامة فارقة في ما يتعلق بوضع الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية عالميًا، وترك أثرًا فينا محليًا، وزرع بذورًا لنسويات الجنوب العالمي والنسويات الملونات والفقيرات من الشمال العالمي مكنتهن من فرض أجنداتهن على حكومات دولهن وعلى المجتمع الدولي.
بحلول القاهرة ٩٤ كان قد تشكل حلفًا دينيًا قويًا يشمل الدول التي تهيمن عليها الأيديولوجية الدينية، بقيادة الفاتيكان، وكان الهدف الأساسي لهذا التحالف هو حماية الأسرة النووية الأبوية التقليدية، القائمة على المغايرة الجنسية والعلاقة الأحادية وعلى ممارسة الجنس في إطار الزواج فقط، باستخدام حجج مرتبطة بالخصوصية الثقافية للمجتمعات والأسس والشرائع الدينية. وفي هذا الإطار، قدم التحالف الديني حججًا مناهضة للحق في الإجهاض واستخدام وسائل منع الحمل الصناعية حتى في إطار الأسرة/ الزواج، واعترضوا على “الأنماط الأسرية المنحرفة” التي يخلقها برنامج عمل المؤتمر. سعى التحالف الديني لتحجيم الأثر المتزايد للمنظمات والمجموعات النسوية من خلال الضغط لحذف أي إشارة لها علاقة بالإجهاض الآمن وحقوق “الأفراد” في تحديد عدد أسرهم, والفروق الزمنية بين الولادات والحقوق الإنجابية والصحة الجنسية للمراهقين, والأنماط الأسرية المختلفة من برنامج عمل المؤتمر 146. بينما أثبتوا اعتراضهم على تضمين مصطلح “جندر” في برنامج العمل، وكانوا مصرين على استبدال “جنس” بها 147.
بالنظر إلى كل ما سبق في ما يتعلق بموضوع السكان، أتى برنامج عمل القاهرة (Programme of Action) لیعكس جهود نسويات الجنوب والنسويات الملونات من الشمال، وتتحدث روزاليند بيتشيسكي عن هذا التحول ملخصة إياه في نقطتين أساسيتين, أولهما هو الانتقال إلى لغة الحقوق الإنجابية للنساء والاعتراف بأنها حق أصيل ضمن حقوق الإنسان، وبناء وعرض خطابات نسوية تقاطعية مرتبطة بالصحة الجنسية والإنجابية والحقوق الإنجابية، بعد أن كان المهيمن لمدة عقود هو المنطق المالتوسي الجديد الذي يرى التحكم والسيطرة على إنجابية النساء إحدى آليات تحقيق الأهداف السكانية للحكومات والدول, التي تكون بدورها مبنية على العلاقات السياسية والاقتصادية وتوازنات القوى الموجودة عالميًا ومحليًا. وثانيهما هو تبني برنامج العمل في لغته لمبادئ المساواة الجندرية، التي تضمن مسئولية الرجال في ما يتعلق بالأعمال المنزلية وأعمال رعاية الأطفال التى عادةً ما تكون موكلة للنساء، وتضمن أيضًا مبادئ تمكين النساء في ما يتعلق بالجنس والإنجاب وربطهما بوضع النساء اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، ورأى تمكين النساء والتغيير الهيكلي في علاقات القوة الجندرية هدفًا في حد ذاته ومن الضروري تحقيقه من أجل تحقيق التنمية المُستدامة 148.
تُرجع روزاليند هذه التغييرات لتفاوضين سياسيين أساسيين في الجبهات الحاضرة للقاهرة قبل المؤتمر وأثنائه: أول تفاوض جاء من ناحية المجموعات والمشروعات المرتبطة بتنظيم الأسرة والسكان والذين فهموا التهديد القوي الذي يمثله هجوم تحالف القوى الدينية على رأسها الفاتيكان على مشروعاتهم وميزانيتهم، بينما أدركوا الأثر الكبير للنسويات في المؤتمر ومخرجاته, ومن ثم تحالفت المجموعات والمشروعات العاملة على تنظيم الأسرة والسكان مع منظمات حقوق النساء والمجموعات النسوية وقبلوا بمصطلح “الحقوق الإنجابية” الذي قدمته تلك المنظمات. التفاوض الثاني مرتبط بالتغير الذي أحدثته مناصرات حقوق النساء والنسويات المنخرطات في تطوير اللغة والخطابات، مما أضاف إلى البُعد السياسي في طرحهن بخصوص الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية, فبعدما كان التوجه السائد هو التعامل مع تلك القضايا من منظور صحي وطبي، حدث تغير لتناوله من منطلق حقوق الإنسان. جاء ذلك في إطار تنامي دور النساء العاملات بحقوق الإنسان وتأثيرهن, بهدف لفت المجموعات النسوية إلى أنهن بحاجة إلى تشكیل خطاب قوي مرتكز على لغة سياسية. إذ شكل خطاب حقوق الإنسان أداة سياسية فعالة لإعادة تعريف “الحقوق” وامتلاكها، وللضغط على الحكومات والمنظمات الدولية والحركات الاجتماعية الأخرى التي يتقاطع معها العمل النسوي 149.
أثناء القاهرة ٩٤, أثارت المجموعات المناصرة لحقوق النساء والنسويات من الحضور الموضوعات المرتبطة بأجساد النساء وجنسانياتهن وانطلقن بعده في العمل على الموضوعات المطروحة، كل منهن في موقعها المحلي وبناء على أولويات العمل، إذ عملت النسويات في البلاد التي تهيمن عليها الكنيسة الكاثوليكية مثل الفيليبين ونيجيريا وبلاد أمريكا اللاتينية على الضغط من أجل تقنين الإجهاض وتقليل وفيات الأمهات والتوعية بالجنس الآمن واستخدام الواقي الذكري, وركزت النسويات في مصر والسودان والصومال وكينيا ونيجيريا على ختان الإناث 150.
كانت الحملات اللاحقة على مؤتمر القاهرة ٩٤ في ما يتعلق بختان الإناث نتيجة لتراكم العمل الذي أدته ماري أسعد وعزيزة حسين في هذا المجال في العقدين السابقين. تتحدث ماري أسعد عن دافعها للعمل على قضية ختان الإناث قائلة إنها اكتشفت في سياق دراستها مدى تهميش “صحة النساء” في مجالات البحث والدراسة والعمل، وإنها جاءت من عائلة ومجتمع يُمارس فيهما الختان باعتباره جزءًا من التقاليد، وأضافت أن ما استوقفها هو حديث صديقاتها عن الختان باعتباره فعلاً غير مؤذي، ورأته
ممارسةً مرتبطة بوضع النساء وموقعيتهن في المجتمع وبحقوقهن وكرامتهن، وأنها لم تستطع العمل على تنظيم الأسرة ومحو الأمية في إطار عملها للمجتمعي مع بنات ونساء حي الزبالين في المقطم دون التطرق للتشويه/ للأذى الذي تتعرض له أولئك النساء بسبب الختان، ومن ثم تعاملت معه باعتباره أساسًا لبقية عملها المجتمعي/ السياسي 151. وفي ورقة لها نُشرت سنة ۱۹۸٠، التي كانت خطوة في رحلة عملها لتجميع وكتابة أدبيات بخصوص الختان في مصر خلال الأربع سنوات السابقة, رسمت ماري أسعد بوادر الخطاب وآليات العمل التي بُنيت عليها قوة مناهضة ختان الإناث (FGM Task Force) وطورتها في ما بعد. بنت ماري أسعد ورقتها على دراسة أجرتها سنة ۱۹۷۹, حيثُ عقدت مقابلات مع ٥٤ امرأة من أحد الأحياء الفقيرة في القاهرة للمساعدة على اختبار أسئلة تسهم في إجراء دراسات أشمل لفهم مدى انتشار ممارسة الختان وكيف تجري العملية ومن الذين يجرونها، وما الذي يدفع الأمهات لإخضاع بناتهن لها من خلال الاستماع لهن, واستنتجت أن الاستمرار في ممارسة ختان الإناث لمدة قرون هو نتيجة لقدم وجود معرفة كافية به، فأغلب النساء يُخضعن بناتهن له لسببين رئيسيين، الأول هو الاعتقاد بأن البظر سيتحول إلى قضيب مع مرور الوقت، ومن ثم فإن قطعه هو ما يتيح للفتيات الدخول إلى عالم النساء والعبور إلى الاكتمال الأنثوي, وهو ما يجعلهن مستعدات لممارسة حياتهن الجنسية داخل إطار الزواج 152، والثاني – وهو السبب الأكثر أهمية كما تشير – هو أن الختان يستخدم بصفته وسيلة للحفاظ على “عفة النساء” باعتباره يخفف من “طبيعة” رغبتهن الجنسية “المفرطة“، إذ يعتبر المجتمع العذرية أهم ما تمتلكه للمرأة غير المتزوجة، ومن ثم تحاول هي وبقية أفراد عائلتها فعل أي شيء للحفاظ على غشاء بكارتها حتى تفقده في إطار الزواج 153. وبناءً على ذلك، يصبح الختان ممارسة مهمة، خاصةً في مجتمع يضع حدودًا شديدة الصرامة على ذوات النساء والرجال ويميل إلى الفصل بينهم، ويُعامل فيه الزواج باعتباره ضرورة اقتصادية تكتسب النساء فيه قيمتهن الذاتية من ممارسة أدوارهن الأسرية بصفتهن زوجات وأمهات 154. لذلك استمرت النساء في ممارسة الختان باعتباره عادة، وإعادة إنتاج الألم المرتبط به بسبب إيمانهن الراسخ بفوائده الأخلاقية والجسدية على بناتهن، وبأنه ضمان لزواجهن, مما يعني ضمان أمانهن الاقتصادي والاجتماعي 155. تحدثت ماري أسعد أيضًا عن العمل البحثي الذي بذلته نوال السعداوي مع ١٦٠ امرأة من القاهرة، الذي استنتجت فيه أن أغلب النساء اللاتي تحدثت معهن لم يدركن مدى الأذى الذي يسببه الختان، وأنهن يعتقدن أنه جيد لصحة بناتهن ولطهاراتهن ونظافتهن الشخصية 156، وعن دراسة طه أحمد باعشر (T. A. Basher) ,المستشار الإقليمي للصحة النفسية التابع لمنظمة الصحة العالمية لمنطقة الشرق الأوسط، الذي عقد مقابلات مع سبعين امرأة من الطبقات الوسطى الذي وجد أن ٧٠% من نساء الطبقة الوسطى اللاتي عقد معهن مقابلات يفضلن التوقف عن هذه الممارسة، في حين أن اللاتي يدافعن عن استمراريتها بنين رأيهن على حجج مرتبطة بضرورة التحكم في الرغبة الجنسية للنساء وأخرى مرتبطة بالنظافة الشخصية وأخرى مرتبطة بالممارسة الدينية باعتبار الختان سنة عن الرسول ي 157.
وذكرت المشروعات التي كانت في طور التحضير في ذلك الوقت، ومن ضمنها مشروع جمعية القاهرة لتنظيم الأسرة (Cairo Family Planning Association) بقيادة عزيزة حسين، الذي استهدف إنهاء الختان باستخدام آليات تعليمية وقانونية، وصُمِّم لفهم مدى انتشار الممارسة إضافة إلى العوامل التاريخية والثقافية والدينية، التي تعزز من استدامتها لتشكيل آلية عمل فعالة يستطيع من خلالها المشروع التواصل مع الآباء والأمهات لشرح الأضرار الصحية والنفسية التي يتسبب فيها الختان 158. ومن خلال ملاحظتها أن أغلب النساء لم يعرفن موقف الأزواج والرجال والدايات والأطباء والقادة الدينيين والحكومة من ممارسة الختان (سواء بالقبول أو الرفض)، اقترحت ماري أسعد أنه من الممكن أن يكون هناك تغيير في المواقف الاجتماعية تجاه الممارسة من خلال دعم هذه الفئات المؤثرة اجتماعيًا لمناهضة الختان 159، واقترحت أيضًا أنه على النساء المتعلمات بدء تبني القضية والحديث عنها وقيادة الحركة من أجل القضاء على الختان, وذلك بالتركيز على نشر معلومات حول الأسباب الاجتماعية والثقافية التي تعزز من ممارسته، وما يترتب عليه من نظرة النساء لأنفسهن ولأدوارهن في المجتمع 160. بنت ماري أسعد هذا الاقتراح على ما توصلت إليه بعد المقابلات، وهو أنه بالرغم من غياب التغيير الاجتماعي والاقتصادي اللازمين، فإن سرد بعض المعلومات البسيطة حول الختان للنساء غير المتعلمات يدفعهن للتشكيك في صوابية ختان الإناث, وتفسر هذا التشكيك بأنه قادم من بعض القيم الجديدة والنامية في المجتمع المصري, المرتبطة باحترام الطب الحديث وتطور النظرة لذوات النساء وأدوارهن الاجتماعية, والأهم من ذلك هو حقيقة أن تجربة الختان في حد ذاتها صادمة (traumatic), لذا مجرد طرح هذا التساؤل أو قول معلومة من شخص محل للثقة، سواء كان مقدم خدمة طبية أو صديق، سيلقى رد فعل إيجابي 161.
سنة ١٩٧٩, بعد اجتماع منظمة الصحة العالمية الذي عُقد في السودان، الذي عرضت فيه ماري أسعد مخرجات بحثها، تشكلت لجنة متعددة التخصصات مؤلفة من نسويات وعلماء اجتماع، وأطباء أمراض النساء، وأطباء نفسيين ومحامين وباحثين في الفقه الإسلامي، وعملت هذه اللجنة تحت رعاية جمعية القاهرة لتنظيم الأسرة (بقيادة عزيزة حسين)، وكانت تجتمع مرة شهريًا لتبادل المعلومات وبحث آليات العمل الممكنة للمستقبل. وعلى الناحية الأخرى، تشكلت لجنة تابعة لوزارة الصحة، ونظمت اجتماعات لمناقشة مخرجات دراسة ماري أسعد ومتابعة مخرجات اجتماع منظمة الصحة العالمية 162. وفي سنة ١٩٨٥، شارکت جمعية القاهرة لتنظيم الأسرة في تأسيس اللجنة الأفريقية للقضاء على الممارسات التقليدية (The Inter-African Committee for the Elimination of the Harmful Traditional Practices) ومقرها جينيف وأديس أبابا، واللجنة الوطنية للقضاء على ختان الإناث في مصر (EFC), التي انبثقت منها اللجنة المصرية لمنع الممارسات التقليدية الضارة بالنساء والأطفال كمنظمة مستقلة في سنة ۱۹۹۲، وتضمنت أنشطتها السفر في جميع محافظات مصر لشرح الأخطار الصحية المترتبة على ختان الإناث 163. وبالفعل، بدأ العمل على الأرض والتشبيك مع الهيئات والمؤسسات المحلية في قرى ومحافظات مصر المختلفة يجني ثماره، ففي عام ۱۹۹۱، أعلنت قرية دير البرشا إدانتها لختان الإناث علنًا بمساعدة الهيئة الإنجيلية القبطية.
بالتوازي للعمل في مصر، شنت النسويات السودانيات أيضًا حملات لمناهضة ختان الإناث طوال فترة السبعينيات والثمانينيات، لكن حُجِمت هذه التحركات مع صعود الإسلاميين للحكم. وقد حرصت الطبيبة السودانية النسوية “ناهد طوبيا” على زيارة القاهرة أثناء التحضيرات للمؤتمر الدولي للتنمية والسكان للتأكد من وضع القضية ضمن أجندة المؤتمر 165. ما بدأ من جهود النسويات في سبعينيات القرن العشرين لتسليط الضوء على قضية ختان الإناث, وتطوير خطاب وآليات للعمل على مناهضته امتد حتى المؤتمر الدولي للتنمية والسكان (القاهرة ٩٤). بدأت تحضيرات منظمات المجتمع المدني المصرية للمؤتمر سنة ۱۹۹۳ بورش عمل محلية بدأت في محافظة المنيا في صعيد مصر ومحافظة الإسكندرية, بحضور منظمات مجتمع مدني مختلفة، تلتها ورش عمل مركزية في القاهرة، بحضور ممثلين محليين عن منظمات للجتمع المدني خارج القاهرة، لمناقشة الموضوعات المطروحة في محاور عمل المؤتمر 166. وفي أثناء ذلك، عمدت عزيزة حسين وماري أسعد إلى تجميع منظمات المجتمع المدني والناشطات المستقلات لتشكيل قوة عمل تحضيرية للمؤتمر، وعملت هذه القوة بدورها على تشكيل مجموعات عمل صغيرة في عدة المحافظات. تطلبت هذه العملية تعاون مجموعة من الطبيبات والنسويات المصريات وناشطات حقوق الإنسان والعاملات/ ين بمجال التنمية 167. وجاء هذا في إطار طلب منظمات المجتمع المدني الدولية من الحكومة المصرية أن يكون لمنظمات المجتمع المدني المحلية دور في التحضير للمؤتمر، وفي الإطار نفسه, أرادت الحكومة المصرية إثبات أن حرية التعبير مكفولة وأن مصر يحكمها نظام ديمقراطي، فأُجبرت على إعطاء القوى المدنية والنسوية الفرصة لتنظيم نفسها، وإمدادها بالمساحات العامة المناسبة لتأدية دورها، وتأمين المؤتمر تأمينًا قويًا لحمايته من تهديدات الإسلاميين 168. وكما تشرح مارجو بدران, وفر مؤتمر القاهرة عدة عوامل ساعدت على وضع موضوع ختان الإناث على رأس أولويات المجتمع والدولة، من ضمنها اهتمام المجتمع الدولي – بفضل عمل نسويات الجنوب العالمي والنسويات الملونات في أمريكا – بالحقوق والصحة الجنسية والإنجابية، واهتمام الحكومة المصرية بتحسين صورتها دوليًا، وإصرار الإسلاميين على فرض هيمنتهم على الموضوعات المتعلقة بالعلاقات الجندرية والأسرة والمجال الخاص؛ وبالاشتباك مع كل ذلك، تبلور خطاب نسوي مبني على السياق المحلي المصري 169.
تحول التنسيق الذي قادته ماري أسعد وعزيزة حسين في ما بعد إلى قوة لمناهضة ختان الإناث، بقيادة ماري أسعد، وعرَّفت نفسها في البداية بصفتها منظمة غير حكومية، تعمل على مناهضة ختان الإناث, وتأسست سنة ١٩٩٤ بجهود منظمات وأفراد، رجال ونساء، ناشطات /ين في مجالات تنموية مختلفة من ضمنها حقوق النساء والصحة وحقوق الإنسان والتعليم والدعم القانوني 170. تضمنت القوة نساء من أجيال وخلفيات دينية وطبقات اجتماعية مختلفة، وضمت عضويتها الكثيرات من الطبيبات النسويات وناشطات حقوق الإنسان مثل سهام عبد السلام, وآمال عبد الهادي، وعايدة سيف الدولة، ونادية عبد الوهاب، وعفاف مرعي، وأمل شريف. بعدها عملت القوة تحت مظلة اللجنة الوطنية للتنمية والسكان التي أنشأها وزير الصحة لمتابعة وتنفيذ مخرجات مؤتمر القاهرة والجمعية المصرية للسكان والتنمية, التي كانت تحت إدارة وزارة الشئون الاجتماعية، لكن استطاعت أن تحظى باستقلالية في العمل، وتحديد أولوياتها، وتشكيل خطابها 171.
عقب مؤتمر القاهرة ١٩٩٤, تعالت أصوات الإسلاميين مشيرة إلى ختان الإناث بصفته فعلًا إسلاميًا يُوصى به دینیًا, معتمدين على بعض الأحاديث الضعيفة للتدليل، وكما حللت مارجو بدران أن تمركز الإسلاميين حول الدفاع عن ختان الإناث يظهر خوفهم من فقدان السيطرة على جنسانية النساء مما قد يضعف من سيطرتهم الاجتماعية في المجالات الأخرى المرتبطة بالأسرة والأخلاق، يأتي هذا من اعتبارهم لأنفسهم المسؤولين الرئيسيين عن وضع قواعد السلوك الاجتماعي والأخلاقي الصحيحة والحفاظ عليها 172. في هذا الإطار، حدث انشقاق في الخطاب الإسلامي الرسمي، فمن ناحية، أصدر شيخ الأزهر جاد الحق جاد الحق فتوى تفيد بأن ختان الإناث هو فرض إسلامي وأن “الحديث المناهض لختان الإناث هو حديث ضد الإسلام“، وعلى الناحية الأخرى، أصدر مفتي الجمهورية فتوى تفيد بأن ختان الإناث ليس إسلاميًا وأعلن أنه لم يختن بناته. استخدم الإسلاميون فتوى طنطاوي وتصريحه بأن الفوائد على النقود تجوز شرعًا ولقائه بالحاخام الإسرائيلي الأكبر للتدليل على أن طنطاوي هو أحد رجال الدولة، وأنه فقد مصداقيته, ومن ثم فقد مصدر سلطته التي تعطيه الحق في إجازة ختان الإناث أو وبالمثل، لم تلاقِ فتوى شيخ الأزهر قبول هيئة علماء الأزهر وكان منطقهم في رفض الفتوى يفيد بأن ختان الإناث ليس فرضًا دينيًا, لكن في الوقت ذاته، لم يحرمه الإسلام، واستخدموا حجة أن ختان الإناث يخفض من الرغبة الجنسية النسائية المفرطة. أيد بعض الإسلاميين فتوى مفتي الديار المصرية، وكان أشهرهم المحامي الإسلامي سليم العوا عرض الأحكام الإسلامية المناهضة للختان مدعمًا إياها بآراء فلسفية, في مقال نُشر له في جريدة الشعب سنة ١٩٩٤, تحت عنوان “ختان الإناث ليس سنة ولا مكرمة” 173.
صرح مفتي الديار المصرية اللاحق، الشيخ نصر فريد محمد وسيل، بأنه لا تراجع عن فتوى الشيخ السابق مفيدا بأن الإسلام لم يقرض ختان الإناث أو يحرمه، وأرجع مسئولية اتخاذ قرار الختان من عدمه إلى الأسرة، قائلاً بأنه إذا رأت الأسرة سببًا لضرورة الامتناع عن إجراء عملية الختان لبناتها، فهذا يعود لها. ولم يكتف بذلك، بل أضاف أنه على الأسرة استشارة الأطباء الموثوق فيهم الذين يعتبروا أهل للثقة والمعرفة في مجالاتهم 174.
وفي إطار كل ما سبق, لم تصدر أي من الباحثات الإسلاميات أو النساء المنخرطات في الحركة الإسلامية حينها أي تصريح أو رأي أو اجتهاد في ما يتعلق بمسألة الختان، سواء بدعمه أو مناهضته 175.
لم يقتصر الدفاع عن ممارسة الختان على الإسلاميين، بل امتد ليشمل الأطباء – خاصةً الذكور – وبعض الطبيبات اللاتي حاججن بضرورة تطبيب ختان الإناث، وأشرن إلى أن “الواقع الاجتماعي” يفيد بأن الغالبية العظمى من النساء ستتعرض للختان، ومن ثم يفضل توفير “بيئة آمنة” يجري فيها الأطباء العمليات من أجل ضمان سلامة النساء. لكن، وكما تشير مارجو بدران، تغافل هؤلاء الأطباء عن الحقائق الاقتصادية والسياسية، إذ أن غالبية النساء الريفيات أو نساء الطبقات الفقيرة في المدن لا يحصلن على خدمات رعاية صحية مجانية أو خاصة بالأساس 176. وبهذا حاجج المدافعون عن تطبيب الختان في مصلحة استدامة الممارسة، بينما يظهرون رفضهم لها في الوقت نفسه وينتظرون إنهائها دون تدخلهم. وبالفعل, عقب القاهرة ٩٤ مباشرةً، أصدر وزير الصحة علي عبد الفتاح قرارًا يسمح بإجراء عمليات الختان في المستشفيات العامة والخاصة 177، وردًا على ذلك رفعت النسويات والمدافعات عن حقوق الإنسان دعوى قضائية على وزير الصحة لإلغاء القرار، لكن رفضت الدعوى بحجة أن الأطراف للمتقدمين بها ليس لديهم مصلحة مباشرة. جاء هذا في إطار عرض شبكة سي إن إن لفيلم وثائقي من إنتاجها، أثناء إقامة المؤتمر، يحتوي على عرض مباشر لإجراء عملية الختان لفتاة ذات أربع عشر عامًا، مما كشف عن الأذى الذي تتعرض له أجساد الفتيات جراء العملية، ومن هنا ظهرت محاولات تحويل رفض الختان والعمل من أجل القضاء عليه إلى أحاديث حول الأخطار التي تواجه الفتيات بسبب خضوعهن للعملية على أيدي “غير المتخصصين” 178. لكن بعد انتشار خبر وفاة فتاة ذات أربع عشر عامًا أثناء خضوعها لعملية الختان على يدي طبيب متخصص، ألغى وزير الصحة اللاحق إسماعيل سلّام القرار، مانعًا بذلك إجراء عمليات الختان في للمستشفيات. واعتراضًا على ذلك القرار، رفع منير فوزي، وهو طبيب نساء في مستشفى جامعة عين شمس والشيخ يوسف البدري وهو عضو بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، دعوى قضائية ضد قرار وزير الصحة بمنع إجراء عمليات الختان في المستشفيات، تضمنت الدعوى انتهاك هذا القرار لدستور ١٩٧١، الذي أقر بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع في مصر، مفيدين بأن الختان ممارسة تفرضها الشريعة الإسلامية، ودعموا حجتهم بالاستشهاد بفتوى شيخ الأزهر جاد الحق المذكورة سابقًا. بينما استخدموا حججًا غير دينية، تفيد بأن قرار المنع يسير عكس رغبة المجتمع وعاداته، ودللوا على ذلك بالإشارة إلى أن الغالبية العظمى من النساء الريفيات يجرين عملية الختان. بالإضافة لذلك، قدموا حجة صحية للدفاع عن تطبيب ختان الإناث، وأضاف الشيخ يوسف البدري أن الإسلام قد فرض ختان الإناث بناءً على قراءاته للاجتهادات الفقهية في هذا الشأن، واختتم حجته قائلًا إن الختان يحافظ على “كرامة” المرأة 179. وفي يوليو ۱۹۹۷، أصدرت المحكمة الإدارية لمجلس الدولة (The Administrative Court of the State Council) حكمًا ضد قرار وزير الصحة بمنع إجراء عمليات الختان في المستشفيات، وقدم الوزير بدوره طلبًا باستئناف الحكم. وفي ۲۹ ديسمبر ۱۹۹۷، حكم مجلس الدولة (صاحب الدرجة الأعلى في التقاضي) بإلغاء حكم المحكمة الإدارية، ورأى الحكم أن ختان الإناث لا يقع ضمن نطاق الشريعة الإسلامية وأن الدعوى المرفوعة في مخالفة قرار الحظر تقع تحت اختصاص القانون الجنائي، ماعدا في الحالات التي تُجرى فيها عملية الختان بطلب من البنت أو والديها بعد إصدار تقرير طبي من رئيس قسم نساء متخصص تفيد بأن إجراء العملية هو لضرورة طبية 180.
في هذا السياق، استطاعت قوة مناهضة الختان تشكيل وتطوير خطاب يعكس مبادئ القوة ومنطقها في الحركة والتنظيم، وفي الوقت نفسه، يشتبك مع القوى الأبوية التي تستميت من أجل الحفاظ على سيطرتها وسلطتها على أجساد النساء. أعلنت القوة أنها تنطلق من مبدأ الحفاظ على سلامة أجساد النساء وعدم تعرضها للانتهاك، وأن للنساء الحق في امتلاك أجسادهن بصورة كاملة, والحق في حرية التفكير والتصرف، والحق في اختيار شكل حياتهن، وأن تبني كل واحدة هذه الاختيارات بناء على تقييمها الشخصي. رأت القوة أن الختان ليس حدثًا عابرًا، بل إنه ظاهرة اجتماعية مرسخة في الوعي الجمعي والهدف منها هو الحفاظ على التراتبية الأبوية للمجتمع، حيث تحتل النساء المرتبة الأدنى. فيما أعلنت القوة أن هدفها هو التصدي لهذه التراتبية، والعمل من أجل مراجعة القيم السائدة اجتماعيًا التي تحكم العلاقات الجندرية عامةً وشعور النساء بأحقيتهن وملكيتهن لأجسادهن على وجه الخصوص 181.
قدمت القوة نفسها بصفتها قوة علمانية، واستخدمن لغة غير دينية، وأعلن أنهن لسن في موقع تفسير النصوص الدينية، لكنهن في الوقت نفسه اشتبكن مع الخطابات الدينية المهيمنة وأوضحن رؤيتهن للدين قائلات إن الهدف من الدين هو تحقيق العدالة والإنصاف بين الناس, وتعزيز سعادتهم ورفاههم، وأضفن أن أي استخدام للدين يعوق تحقيق هذه السعادة إنما هو سوء استخدام له, لخدمة المصالح الشخصية والسياسية لمفسريه. ومسئولية الذين أخذوا على عاتقهم مهمة تفسير النصوص الدينية أن يفعلوا ذلك بطريقة تضمن سعادة ورخاء جميع الناس, نساء ورجال، ودللن على أن الختان عادة اجتماعية ليست متأصلة في الدين الإسلامي من خلال إشارتهن لممارسته في عصور ما قبل المسيحية أو الإسلام. ساعد وجود الطبيبات النسويات في مقدمة القوة على إدماج معرفتهن العلمية في ما يتعلق بموضوعات الصحة بتحليلهن النسوي للعمليات الأبوية التي تنتهك أجساد النساء في مصر، وأشرن أيضًا إلى أن “تطبيب الختان” لن يساعد على التخلي عنه بصورة تدريجية، بل سيسهم في مأسسته وتطبيعه واستدامته 182.
بينما طورن نقدًا للطرق التي تقدم بها بعض المجموعات أو المنظمات الأجنبية/ الغربية التضامن أو الدعم لحملة مناهضة الختان في مصر، يشمل نقد التبسيط المُخل لواقع الختان في مصر، وتوجيه الاتهام الدائم إلى الأمهات اللاتي يختن بناتهن واستسهال تبني هذا التبسيط عوضًا عن فهم توازنات القوة التي تشكل الواقع اليومي لأولئك النساء وتُشكل اختياراتهن وقراراتهن 183. وانتقدن أيضًا الطريقة الانتقائية التي تتقدم بها الدوائر الداعمة الغربية بالتركيز على انتهاكات بعينها لحقوق الإنسان والتغاضي عن حقوق أخرى، وتستشهد عايدة سيف الدولة مثلاً بتقديم تلك الدوائر تضامنها في ما يتعلق بالحملة لمناهضة ختان الإناث من ناحية, وفي الوقت ذاته التغاضي التام عن سياسات الصحة التي تحرم الكثير من النساء الفقيرات من حقهن الأساسي في الوصول لخدمات الرعاية الصحية، أو مثلاً التهديد بقطع المعونة الأجنبية عن مصر بسبب ختان الإناث، مما يقوي ادعاءات الإسلاميين التي تفيد بأن الختان هو جزء من الهوية المصرية التي يجب الحفاظ عليها لمقاومة الدول الغربية التي تحاول الهيمنة على المجتمعات الإسلامية/ العربية 184. وبالإضافة إلى ذلك، يدفع المزيج ما بين سياسات إفقار– الشعوب التي عادةً ما تكون مفروضة من الدول الشمالية – ، وحرمانهم من حق تقرير مصيرهم، وتجريد المجتمعات والشعوب من أدوات الدفاع عن نفسها, إلى سوء أوضاع النساء في دول الجنوب / دول العالم الثالث، حيثُ يتحول العجز عن التحكم في مصير الأمة إلى سعي دائم لتثبيت أنماط التحكم في أجساد نسائها 185.
وفر مؤتمر القاهرة ٩٤ مساحة لتوسيع العمل على مناهضة الختان، حيثُ جمع منظمات المجتمع المدني التي تعمل في القاهرة والمدن الأخرى خارج المركز والمناطق الريفية، تشكلت العلاقات بين هذه المنظمات والمجموعات أثناء المؤتمر واستمرت بل وتوطدت بعده، عملت الجمعيات والمنظمات المحلية في الريف ضمن قوة مناهضة ختان الإناث، وتعتبر الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات (CEOSS) التي تتركز خدماتها في محافظة المنيا المثال الأشهر، إذ اعتمدت استراتيجيتها في العمل على المبادرة المجتمعية وأن يتولى الفاعلون النشطون محليًا السيطرة الكاملة على العمل على الأرض من أجل إنهاء الختان. كانت القرية التي ترغب في دعم الهيئة تتوجه بإرسال دعوة مكتوبة للهيئة، ثم تزور مجموعة من العاملات/ ين بالهيئة القرية والإقامة فيها لفترة مبدئية من المساعدة على تشكيل لجنة عامة للقرية تعنى على القضايا والاحتياجات المحلية العامة، ولجنة أخرى للنساء تعمل على مناهضة ختان الإناث من خلال الحملات والتوعية, وكانت الهيئة تستهدف الأشخاص العاديين، خاصةً من الشابات والشباب, للعمل بلجان القرى وليس نخبة القرية 186. ساعد تاريخ وجود النساء خارج المنزل في المناطق الريفية على حضورهن القوي ومشاركتهن في حركة مناهضة الختان, وعندما بدأ الرجال الذين يحظون بمكانة عالية بمناطقهم في الانخراط في الحركة، استخدموا مواقعهم لمجابهة أولئك الذين يدافعون عن ختان الإناث. وكما تقول مارجو بدران, أسهمت هذه الحركة المجتمعية في توفير بيئة للناس لمراجعة وتعديل بعض من المفهومات الموروثة والمرسخة في ما يتعلق بمواقف الشرف والعار والجنسانية، فمنذ بداية انتشار الحملات المناهضة لختان الإناث، أصبح من العار على الأسر أن يختن بناتهن، وفي بعض القرى التي أعلنت حظر ممارسة الختان محليًا، كان تحدي الحظر وممارسة العملية يُقابل بالوصم المجتمعي لمنفذيها 187. أعلنت الهيئة القبطية الإنجيلية القضاء على الختان بنسبة ٧٠% في ثماني قرى. ساعد اتخاذ إجراءات على أرض الواقع على تحدي الأقاويل التي روجت أن أهالي القرى هم الأكثر تمسكًا بختان الإناث، وتحدي القوى الأبوية، سواء من الإسلاميين أو من الأطباء التي ادعت أنها تدعم رغبة أهالي القرى في الاستمرار بممارسة الختان، فلقد أقرت الناشطات في الحملة أنه فور تعرض أهالي القرى لأفكار جديدة بخصوص هذه الممارسة كانوا الأسرع في التخلي عنها ومناهضتها بطريقتهم الخاصة 188.
استطاعت حملات مناهضة الختان بقيادة قوة مناهضة ختان الإناث من تحقيق هذا الانتشار والنجاح لأن القائمات عليها لم يتبنين خطابًا فوقيًا، بل حاولن فهم وجهة نظر النساء اللاتي لا يكسرن دائرة القهر, وانطلقن في عملهن من إدراك الطبيعة الهيكلية والمؤسسية لقهر النساء، وفي الوقت نفسه رؤية النساء باعتبارهن فاعلات يحاولن التعايش من خلال عمليات التفاوض اليومي على أبسط المساحات. فكما تشرح عايدة سيف الدولة أن ممارسة النساء لأحد حقوقهن أو المطالبة به يتوقف على وضعهن الاجتماعي, ومواردهن الاقتصادية والعاطفية والاجتماعية، والمساحة الاجتماعية المسموح بها للمطالبة بهذا الحق, والتكلفة الاجتماعية التي تترتب على مطالبتهن به في مقابل المكاسب التي سيجنينها 189. وتوضح بمثال قائلة إن النساء في مصر يعلمن أن المرأة لها الحق في الطلاق إذا تعرضت إلى معاملة سيئة من الزوج، أو إذا توقف الزوج عن التكفل بمصاريف المنزل، أو إذا كانت لديه علاقات أخرى، أو إذا اعتدى جنسيًا على أحد أطفالها. وبالرغم من هذه المعرفة، ففي حالات كثيرة تخشى الفضيحة أو العزل أو خسارة دعم أسرتها أو الوصم, التي تعتبر كلها نتائج مترتبة على وضع النساء المطلقات في المجتمع المصري، لذا لا يمارس بعض النساء حقهن في الطلاق، مع أنه مكفول لهن بموجب القانون والدين, في سبيل استدامة القبول والدعم المجتمعي الذي يحتجنه 190. وتشير إلى أنه في الكثير من الأحيان، يُنظر إلى هذه التنازلات باعتبارها مؤشرًا إلى عدم شعور النساء باستحقاقهن، وتصف ذلك بأنه تبسيط للوضع, وتستطرد قائلة إن ما تعتبره النساء تنازلاً مقبولاً يعتمد على قوتهن التفاوضية (negotiation power), المحددة بطبقتهن الاجتماعية, ومستوى تعليمهن, ودعم أسرهن، ووضعهن الاجتماعي، ووجود دوائر اجتماعية داعمة لهن. تلبي هذه المقايضات بعضًا من احتياجات النساء, مثل احتياجهن أن يكن جزءًا من أسرة أو زواج أو علاقة أو مجموعة من الأصدقاء، لذا غالبًا ما يضطررن إلى التضحية بجزء من أنفسهن من أجل الشعور بالانتماء، الذي بدوره يقدم لهن دعمًا نفسيًا واجتماعيًا وأحيانًا اقتصاديًا، ويمثل انعدام عدالة النظام الأبوي الذي يميز لمصلحة الرجال في التكلفة العالية التي تتحملها النساء دونًا عن الرجال لتوفير هذه الاحتياجات 191. وتلفت إلى أن الصمت في كل ما يتعلق بالعنف المرتبط بالصحة الجنسية والإنجابية للنساء ليس نتيجة لـ “قبول النساء” به بل نتيجة للواقع الذي يشكل ظروف حياة النساء ويدفعهن للتعايش وليس للشكوى 192. تختن النساء بناتهن ليسيطرن على جنسانيتهن أو ليضمن قابليتهن للزواج، فالنساء يتحملن العنف الواقع عليهن، لكنهن يعلمن أنهن يتحملن ويقبلن أفعالاً غير عادلة، ولا تتوفر لهن ظروف أخرى تمكنهن من عدم التعرض لذلك، إلا أنهن يتمنين أن تكون الأمور على حال آخر 193.
بالتوازي لنسج هذا الخطاب عملت قوة مناهضة ختان الإناث على تطوير آليات عملها على الأرض, التي تتمثل في الورش التي كانت تُعقد لمناهضة ختان الإناث. تُوثق سهام عبد السلام خمس مراحل من أجل الوصول إلى “منهج شامل“، اعتمدت ورش العمل الأولى على منهج يستند إلى نقل المعرفة من أعلى لأسفل، أي من المحاضرة للحضور لكن مع الوقت والتجريب، بدأت الورش تتحول تدريجيًا إلى منهج تشاركي من أسفل لأعلى، حيثُ تؤدي المحاضرة دور الميسرة للتفاعل بين الحضور 194. اعتمد النموذج الأول للورش, الذي تسميه سهام عبد السلام “التعليم الطبي المباشر” (Direct Medical Education) على تقديم معلومات حول أنواع ختان الإناث وعن المخاطر الفورية وبعيدة المدى التي تنتج من ممارسته, وبعد نهاية الجلسة كانت تُفتح مساحة للحضور من الرجال والنساء لطرح أسئلتهم. تقول سهام عبد السلام إن التحليل النقدي لهذا النموذج كشف عن محدوديته، لأنه لا يسمح للحضور بأن يكونوا “مسهمین نشطين“، لكنه يضعهم في موقع “المستمعين المتلقين“، فحق عندما يُسمح لهم بالكلام في نهاية الجلسة، يكون في إطار سؤالهم ليتلقوا الإجابات الصحيحة من المُحاضرة “الأكثر معرفة” 195. ومن هنا انتقلن إلى النموذج الثاني، الذي تسميه سهام عبد السلام “المنهج الطبي النقدي مع التركيز على للخاطر الجسدية لختان الإناث” (Critical Medical Approach with Emphasis on the Physical Hazards of Female Genital Mutilation) ، كان محتوى الورشة مشابهًا بدرجة كبيرة لمحتوى النموذج الأول، والاختلاف كان في طريقة العرض، إذ كان الحضور يسهمون في استخلاص الاستنتاجات بناءً على للمعلومات المعروضة.
تبدأ الورشة بعرض صور ومعلومات مكتوبة حول التشريح ووظائف الجهاز التناسلي الأنثوي الخارجي, ثم يُوجَّه سؤال للحضور حول المكاسب والمخاطر المحتملة لقطع جزء من هذه البنية التشريحية؟ تشير سهام عبد السلام إلى أن هذا النموذج كان يحفز الحضور على المشاركة الفعالة في عملية التفكير العقلاني النقدي، لكنها انتقدت النموذج قائلة إنه يركز على الجانب الطبي فقط، ولم يشتبك مع الأسباب الاجتماعية التي تدفع لممارسة ختان الإناث، ألا وهي الحفاظ على عفتهن, يقوم هذا التبرير لختان الإناث على الاعتقاد بعدم قدرة النساء على السيطرة على رغباتهن الجنسية “المفرطة“، والذي يعود بدوره للاعتقاد السائد بأن النساء يفتقدن المنطق 196. ومن هنا ننتقل إلى النموذج الثالث، الذي تسميه سهام عبد السلام “المنهج الصحي المتكامل والنقدي” (Integrated Critical Health Approach), حيثُ تبدأ الورشة بعرض صورة لمخ الإنسان، الذي يُعَرَف بأنه العضو الجنسي الأساسي للبشر، نساءورجال، ويُشرح الجهاز الحوفي 197 (Limbic system) بطريقة مبسطة. يتضمن الشرح التفرقة بين الرغبة الجنسية والاستثارة الجنسية والإشباع الجنسي، إذ تبدأ الرغبة من المخ وليس من البظر، وإذا كان الموقف مناسبًا من حيثُ الشريك والمكان والوقت, يسمح المخ لهذه الرغبة بالاستمرار في العملية الفسيولوجية للوصول للاستثارة، وهنا يأتي دور البظر لتيسير الوصول للإشباع الجنسي. ثم يبدأ النقاش حول مواقف من الحياة الواقعية يتحكم فيها الناس, رجال ونساء, في رغباتهم الجنسية لأنهم يتمتعون بالمنطق, وتفاعل الحضور مع هذه المعلومات النظرية معطين أمثلة من حياتهم اليومية، ويستنتجون أنه إذا أرادوا منع بناتهم من التفكير في الجنس فعليهم إذا قطع عقولهن وليس بظورهن، ثم تستمر الورشة بعرض التشريح الخارجي ووظائف الجهاز التناسلي الأنثوي الخارجي. تذكر سهام عبد السلام أنه بالرغم من كون هذا النموذج أكثر تقدمًا، فهو يفتقر إلى العنصر الأكثر أهمية، لأن الناس لا يغيرون مواقفهم فور معرفة المعلومات الصحيحة؛ للمواقف تتشكل من خلال الانحياز والمصلحة 198. ومن هنا ننتقل إلى النموذج الرابع, “المنهج النظري الاجتماعي الطبي” (Theoretical Socio-Medical Approach) حيثُ تبدأ الورشة بسؤال لماذا يقوم الحضور بختان بناتهم؟ وخلال النقاش تقوم الميسرة بشرح الأصول الثقافية للمعتقدات التي يطرحها الحضور في إجاباتهم، وتوضح أنها مرتبطة بالطقوس الدينية الأفريقية القديمة، أي أنها لا تتعلق بمعتقداتهم الدينية الحالية، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين. ثم تستكمل الورشة على غرار النموذج الثالث. تنتقد سهام عبد السلام هذا النموذج قائلة إنه بالرغم من تقديمه معرفةً نظرية وعدم اكتفائه بالمعرفة الطبية، فهو لا يحفز الحضور على ربط هذه المعرفة النظرية بالسياسات الاجتماعية للأسرة (Social Politics of Family) 199. ومن هنا جاء النموذج الخامس, المنظور المتكامل (The Comprehensive Approach), إذ تبدأ الورشة بسؤال ماذا يتمنى كل من الحضور لبناتهم؟ كانت الإجابات تتراوح ما بين الصحة الجيدة، والزواج الناجح، وأن يصبحن أمهات, وأن ينضجن ويحصلن على تعليم عالٍ، وأن يصبحن قادرات على مواجهة صعوبات الحياة، ثم تستمر الورشة بالطريقة نفسها كما هي في النموذج الرابع. حفز النموذج الخامس من الورشة الحضور على التساؤل حول مدى قابلية ختان الإناث بصفته ممارسة على الإسهام في تحقيق ما يتمنونه لبناتهنم 200.
1 تسنيم حجاج، ساندي عبد المسيح، سما التركي شيرويت إبراهيم, فاطمة إمام, لبنى درويش مي بانقا، مي طراف, ندى وهبة.
2 تقوم النظرية المالتوسية (۱۷۸۹) على حجة محدودية الموارد المادية، فالزيادة في عدد السكان ستتخطى الزيادة في حجم الإنتاج الغذائي الزراعي في العالم. رأى مالتوس أن الحلول لتلك الأزمة ستكون من خلال ضوابط إيجابية (طبيعية) بمعنى أن القوى الطبيعية ستحاول استعادة التوازن بين الموارد الطبيعية والنمو السكاني مرة أخرى من خلال الكوارث الطبيعية (الزلازل والبراكين والفيضانات)، ومن خلال الإجراءات التي صنعها الإنسان كالحروب. واقترح بعض الضوابط الوقائية للسيطرة على النمو السكاني, اقتصرت على إجراءات تنظيم الأسرة والزواج المتأخر والعزوبية. فضل مالتوس العزوف عن الممارسة الجنسية كحل أفضل من موانع الحمل الصناعية إذ رأى أنها تفسد أخلاق الفقراء والطبقة العاملة.
3 Peter Jackson, “A Prehistory of the Millennium Development Goals: Four Decades of Struggle for Development in the United Nations,” UN Chronicle, Vol. XLIV No. 4, December 2007
4 Berro Pizzarossa, L. (2018), Here to Stay: The Evolution of Sexual and Reproductive Health and Rights in International Human Rights Law. Laws, 7 (3), PP. 2
5 مثل التعقيم وحبوب منع الحمل واللولب والحقن طويل المدى
6 المصدر السابق، ص ٢ – ٣
7 المصدر السابق، ص ٣
8 المصدر السابق
9 المصدر السابق
10 المصدر السابق
11 المصدر السابق، ص. ٤
12 Gina Koczberski, “Women In Development: A Critical Analysis”, Third World Quarterly, Vol. 19, No. 3 (Sep., 1998), PP. 396- 397
13 تقاطعية (13 سبتمبر ۲۰۱۹), ويكي الجندر، الاطلاع ٢٨ أكتوبر ۲۰۱۹ على ٣٦ : 15
14 المصدر السابق
15 Rosalind P. Petchesky, “Spiraling discourses of reproductive and sexual rights”, in Tronto, Joan C.; Cohen, Cathy J.; Jones, Kathleen B. (eds.), Women transforming politics: an alternative reader, New York University Press, PP. 573
16 Anthony R. Measham, “Population Policy 1977: A Reexamination of the Issues”, Preventive Medi- cine 6, Academic Press, Inc., 1977, pp. 94
17 Working group on Factors Affecting Contraceptive Use; Panel on Population Dynamics of Sub- Saha- ran Africa; on Population; Commission on Behavioral and Social Science and Education; National Research Council, “Factors Affecting Contraceptive Use in Sub-Saharan Africa”, National Academy Press, Washington D.C, 1993, pp. 157
18 المصدر السابق، ص ١٥٦
19 المقصود بها النساء اللاتي يمارسن الجنس خارج إطار الزواج والمثليين/ ات
20 Simone M. Caron, “Who Chooses?: American Reproductive History Since 1830”, University Press of Florida, 2008, pp. 3- 4
21 Kathryn Krase, “History Of Forced Sterilization And The Current U.S. Abuses”, Our Bodies Our Selves.org, October 1, 2014
22 Lisa Ko, “Unwanted Sterilization and Eugenics Programs in The United States”, Independent Lens, PBS.org, January 29, 2016
23 Simone M. Caron, “Who Chooses?: American Reproductive History Since 1830”, University Press of Florida, 2008, pp. 3- 4
24 Kathryn Krase, “History Of Forced Sterilization And The Current U.S. Abuses”, Our Bodies Our Selves.org, October 1, 2014
25 المصدر السابق
26 Sneha Barot, “Governmental Coercion in Reproductive Decision Making: See It Both Ways”, Gutt- macher Policy Review, Volume 15, Issue 4, October 17, 2012
27 Prajakta R. Gupte, “India: “The Emergency” and The Politics Of Mass Sterilization”, Education about Asia, Volume 22, Number 3, Winter 2017, pp. 40
28 المصدر السابق
29 Berro Pizzarossa, L. (2018), Here to Stay: The Evolution of Sexual and Reproductive Health and Rights in International Human Rights Law. Laws, 7(3), PP. 4
30 هو قرار صدر من للحكمة العليا في أمريكا سنة ۱۹۷۳, اعتبر الحق في الإجهاض حق دستوري, وبالرغم من إقرار قانونية الإجهاض طوال فترة الحمل إلا أنه سمح أيضًا للدولة بتحديد ما إذا كان الإجهاض مسموحًا به في الثلث الثاني والثالث من الحمل. يسري هذا القانون على المستوى الوطني في أمريكا.
31 المصدر السابق
32 Rosalind P. Petchesky, “Spiraling Discourses of Reproductive and Sexual Rights”, in Tronto, Joan C.; Cohen, Cathy J.; Jones, Kathleen B. (eds.), Women transforming politics: an alternative reader¸ New York University Press, PP. 572
33 Susan Greenhalgh, “Fresh Winds in Beijing: Chinese Feminists Speak Out on the One- Child Policy and Women’s Lives”, The University of Chicago, Vol. 26, No. 3, Spring, 2001, pp. 854
34 Berro Pizzarossa, L. (2018), Here to Stay: The Evolution of Sexual and Reproductive Health and Rights in International Human Rights Law. Laws, 7 (3), PP. 4- 5
35 المصدر السابق
36 Rosalind P. Petchesky, “Spiraling Discourses of Reproductive and Sexual Rights”, in Tronto, Joan C.; Cohen, Cathy J.; Jones, Kathleen B. (eds.), Women transforming politics: an alternative reader, New York University Press, PP. 573- 574
37 Jael Miriam Silliman, Marlene Gierber Fried, Loretta Ross, Elena R. Gutierrez, “Undivided Rights: Women of Color Organizing for Reproductive Justice”, Haymarket Books, 2016, Ch. 1
38 المصدر السابق
39 المصدر السابق
40 المصدر السابق
41 المصدر السابق
42 Rosalind P. Petchesky, “Spiraling Discourses of Reproductive and Sexual Rights”, in Tronto, Joan C.; Cohen, Cathy J.; Jones, Kathleen B. (eds.), Women transforming politics: an alternative reader¸ New York University Press, PP. 573- 574
43 المصدر السابق
44 المصدر السابق
45 Berro Pizzarossa, L. (2018), Here to Stay: The Evolution of Sexual and Reproductive Health and Rights in International Human Rights Law. Laws, 7(3), PP. 5- 6
46 المصدر السابق
47 Judith E. Tucker, “Problems in the Historiography of Women in the Middle East: The Case of Nine- teenth -Century Egypt”, International Journal Of Middle East Studies, Vol.15, No.3, Aug., 1983, PP. 328- 334
48 المصدر السابق
49 المصدر السابق
50 المصدر السابق
51 المصدر السابق
52 المصدر السابق
53 المصدر السابق
54 المصدر السابق
55 Judith E. Tucker, “Egyptian Women in The WorkForce: An Historical Review”, Middle East Research and Information Project, Merip Reports, NO.50, August 1976, PP. 7- 9
56 Francesca Biancani, “Sex work in Colonial Cairo, 1882-1952”, A thesis submitted to the Department o of Government of the London School of Economics and Political Science for the Degree of Doctor in Philosophy, London, 2012, P. 81
57 المصدر السابق
58 المصدر السابق، ص ۷۸
59 المصدر السابق، ص ۸۸
60 أمنية الشاكري “المعمل الاجتماعي الكبير: موضوعات المعرفة في مصر المُستعمرة وما بعد الكولونيالية“، ترجمة أحمد محمود، المركز القومي للترجمة، ٢٠١٦، ص ٢٤٩– ۲۸۱
61 المصدر السابق
62 المصدر السابق
63 المصدر السابق
64 المصدر السابق
65 المصدر السابق
66 المصدر السابق
67 الكساد العظيم هو من أعنف الأزمات الاقتصادية التي بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1929، بعد انهيار البورصة, مما أدى إلى انهيار وول ستريت, استمرت الأزمة لمدة عشر سنوات خلالها انخفضت معدلات الاستهلاك والاستثمار بشدة مما نتج منه انخفاض في الإنتاج الصناعي وعدم وجود فرص عمل وتسريح للعمال. بدأ الكساد العظيم في أمريكا وكان له أثر كبير على اقتصادات وظروف معيشة الدول الأخرى.
68 المصدر السابق
69 أمنية الشاكري, “العمل الاجتماعي الكبير: موضوعات المعرفة في مصر المُستعمرة وما بعد الكولونيالية“، ترجمة أحمد محمود, المعهد القومي للترجمة, 2016، ص. 331 -283
70 المصدر السابق
71 تشكل حضور المؤتمر ما بين أطباء ومفتشو صحة وأساتذة جامعة، ووفقًا لأمنية الشاكري فقد كان نجيب محفوظ بك (أحد أشهر الأطباء حينها) ومحمد عوض محمد (أحد أوائل الجغرافيين المصريين) وحسن البنا (مرشد الإخوان المسلمين) من أبرز الحاضرين في المؤتمر.
72 المصدر السابق
73 المصدر السابق
74 المصدر السابق
75 المصدر السابق
76 المصدر السابق
77 المصدر السابق
78 المصدر السابق
79 المصدر السابق
80 المصدر السابق
81 كان الإجهاض في حالة خطر الحمل على صحة الأم أثناء الثلاثة شهور الأولى من الحمل مشروع قانونيًا.
82 أمنية الشاكري, “المعمل الاجتماعي الكبير: موضوعات المعرفة في مصر المُستعمرة وما بعد الكولونيالية“، ترجمة أحمد محمود, المعهد القومي للترجمة، ٢٠١٦، ص ۲۸۳ –۳۳۱
83 المصدر السابق
84 المصدر السابق
85 المصدر السابق
86 Mervat Hatem, “Economic and Political Liberation in egypt and the Demise of State Feminism”, International Journal of Middle East Studies, Vol. 24, No. 2, May, 1992, PP.232
87 المصدر السابق
88 أمنية الشاكري, “المعمل الاجتماعي الكبير: موضوعات البحث في مصر المُستعمرة وما بعد الكولونيالية“، ترجمة أحمد محمود، المعهد القومي للترجمة، ٢٠١٦، ص. 361 – 370
89 المصدر السابق
90 المصدر السابق
91 كان قد تم حظر جماعة الإخوان المسلمين سنة ١٩٥٤ بعد محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر. ألقى القبض على الكثير من القيادات وبعضهم هربوا باحثين عن لجوء في بعض الدول الغربية والعربية. لكن فى الحقيقة كانت جماعة الإخوان قد حققت انتشارًا واسعًا منذ تأسيسها، ففي عام ١٩٤٠ كانت قد وصلت عضويتها إلى مليون عضو من جميع محافظات مصر.
92 Neamat Guenena; Nadia Wassef, “Unfulfilled Promises: Women’s rights in Egypt”, Population Council West Asia and North Africa Office, 1999, PP. 7- 8
93 Mervat Hatem, “Economic and Political Liberation in Egypt and the Demise of State Feminism”, International Journal of Middle East Studies, Vol. 24, No. 2, May, 1992, PP.233- 240
94 المصدر السابق
95 المصدر السابق
96 Warren C. Robinson and Fatma H. El- Zanaty, “The Evolution of Population Policies and Programs in the Arab Republic of Egypt,” in The Global Family Planning Revolution: Three Decades of Popula- tion Policies and Programs, eds. Warren C. Robinson and John A. Ross. (Washington, DC: The World¸ Bank, 2007), 24- 25
97 Kamran Asdar Ali, “Planning the Family in Egypt: New Bodies, New Selves”, The American University in Cairo Press, 2002, PP.32- 35
98 المصدر السابق
99 المصدر السابق
100 المصدر السابق، ص. ٤
101 تُرجع جوديث تاكر هذا لتركيز الكتابات التي توثق انخراط النساء في السياسة على أنماط العمل السياسي الرسمي، أي العمل السياسي الذي يُمارس في إطار الأحزاب السياسية أو من خلال تقلد منصب معين، أو من خلال حركات المقاومة السياسية المؤدلجة والمنظمة، وفي الشرق الأوسط تحديدًا، تركز الكتابات على بحث دور النساء في إطار حركات الاستقلال الوطني المختلفة في المنطقة. وتؤكد أهمية رؤية الطريقة التي انخرطت بها النساء في السياسة الرسمية المصممة التي يهيمن عليها الرجال تمامًا، ولكنها تعقب قائلة إن التركيز الحصري على الإطار السياسي الرسمي ينتهي بنا إلى التركيز على بضع فاعلات تاريخيات, اللاتي تسميهن “النساء الأحق” (the women worthies). وتستطرد أننا إذا ركزنا فقط على أولئك النساء دونًا عن غيرهن, فإننا بذلك نهمل بُعدًا شديد الأهمية في أنشطة النساء السياسية، فالنساء على مدار التاريخ قد انخرطن في الحركات الشعبية غير الرسمية، والعفوية في أغلب الأحيان، التي عادةً ما تكون ردًا على أفعال قمعية ترتكبها الطبقة الحاكمة أو سلطة الدولة. وتوضح أن حجم انخراط النساء في السياسة يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالتحول من نمط العمل السياسي غير الرسمي إلى الرسمي. فعلى سبيل المثال، كان وجود النساء في المظاهرات الشعبية في الحقول والشوارع مرئيًا وبارزًا في بدايات القرن التاسع عشر، وبدأ هذا الوجود في الانحسار والتوجه إلى هوامش الحياة السياسية في أواخر القرن مع بداية ظهور أشكال العمل السياسي الرسمي (على يد النخبة الوطنية).
Judith E. Tucker, “Women and the State in 19th Century Egypt: Insurrectionary women”. MERIP Middle East Report, No. 138, Women and Politics in the Middle East, Jan.- Feb.1986, pp.9-10
103 Judith E. Tucker, “Problems in The Historiography of Women In the Middle East: The case of Nineteenth Century Egypt”, Cambridge University Press, International Journal of Middle East Studies¸ Vol. 15, No. 3 (Aug., 1983), pp. 332
103 المصدر السابق، ص. ۱۹ –۲۹
104 المصدر السابق
105 Francesca Biancani, “Sex work in Colonial Cairo, 1882-1952”, A thesis submitted to the Department of Government of the London School of Economics and Political Science for the Degree of Doctor in Philosophy, London, 2012, PP. 257
106 المصدر السابق، ص. ٢٥٧ –٢٥٨
107 المصدر السابق، ص. ٢٥٨ –٢٥٩
108 المصدر السابق، ص ٢٥٩ –٢٦١
109 أمنية الشاكري, “العمل الاجتماعي الكبير: موضوعات البحث في مصر المُستعمرة وما بعد الكولونيالية“، ترجمة أحمد محمود، المعهد القومي للترجمة، ٢٠١٦، ص. ٢٥٢
110 Neamat Guenena; Nadia Wassef, “Unfulfilled Promises: Women’s rights in Egypt”, Population Council West Asia and North Africa Office, 1999, PP. 23
111 Mervat Hatem, “Economic and Political Liberation in Egypt and the Demise of State Feminism” International Journal of Middle East Studies, Vol. 24, No. 2, May, 1992, PP. 241
112 المصدر السابق
113 المصدر السابق، ص. ٢٤٢
114 المصدر السابق
115 المصدر السابق
116 المصدر السابق، ص. ٢٤٤
117 المصدر السابق، ص. ٢٤٥
۱۱۸ المصدر السابق
119 Hala Kamal, “A Century Of Egyptian Women’s Demands: The Four Waves of the Egyptian Feminist Movment”, Gender and Race Matter: Global Prespectives on Being a Woman, Aug., 2016, PP. 11- 12
120 Neamat Guenena; Nadia Wassef, “Unfulfilled Promises: Women’s rights in Egypt”, Population Council West Asia and North Africa Office, 1999, PP. 58- 60
121 A Look Back at the ICPD Process”, United Nations Population Information Network; UN Popula-” in tion division; Department of Economic and Social Affairs; UNFPA, “ICPD 94” newsletter, Number 22¸ Final Issue, December 1994
122 المصدر السابق
123 المصدر السابق
12٤ المصدر السابق
125 Neamat Guenena; Nadia Wassef, “Unfulfilled Promises: Women’s rights in Egypt”, Population Council West Asia and North Africa Office, 1999, PP. 48
126 A Look Back at the ICPD Process, “United Nations Population Information Network; UN Population” division; Department of Economic and Social Affairs; UNFPA, “ICPD 94” newsletter, Number 22 Final Issue, December 1994
127 المصدر السابق
128 ICPD Bulletin (Complete)”, United Nations Population Information Network; UN Population division”; Department of Economic and Social Affairs; UNFPA, “ICPD 94” newsletter, No. 13, March 1994
129 المصدر السابق
١٣٠ المصدر السابق
131المصدر السابق
132 المصدر السابق
133 ICPD Bulletin (Complete)”, United Nations Population Information Network; UN Population division”; Department of Economic and Social Affairs; UNFPA, “ICPD 94” newsletter, No. 14, April 1994
134 C. Alison McIntosh and Jason L. Finkle, “The Cairo Conference on Population and Development: A New Paradigm?”, Population and Development Review, Vol. 21, No. 2, Jun., 1995, pp.231
135 ICPD Bulletin (Complete) “, United Nations Population Information Network; UN Population division”; Department of Economic and Social Affairs; UNFPA, “ICPD 94” newsletter, No. 14, April 1994
١٣٦ المصدر السابق
137 المصدر السابق
١٣٨ المصدر السابق
139 المصدر السابق
140 المصدر السابق
141 المصدر السابق
142 المصدر السابق
١٤٣ المصدر السابق
144 المصدر السابق
145 Rosalind P. Petchesky, “Spiraling Discourses of Reproductive and Sexual Rights”, in Tronto, Joan to C.; Cohen, Cathy J.; Jones, Kathleen B. (eds.), Women transforming politics: an alternative reader, New York University Press, PP. 573
146 المصدر السابق، ص. ٥٧٥
147 المصدر السابق، ص. ٥٧٧
148 Rosalind P. Petchesky, “Spiraling Discourses of Reproductive and Sexual Rights”, in Tronto, Joan C.; Cohen, Cathy J.; Kathleen B. (eds.), Women transforming politics: an alternative reader, New York University Press, PP. 576
١٤٩ المصدر السابق ص. 576 – 577
150 المصدر السابق، ص. ٥٨٧
151 ماري أسعد، أرشيف التاريخ الشفوي للنساء، مؤسسة المرأة والذاكرة
152 المصدر السابق، ص. ٤
153 المصدر السابق، ص. ٥
١٥٤ المصدر السابق، ص. ٦
155 المصدر السابق، ص. ٣
156 المصدر السابق، ص. ٦
157 المصدر السابق
158 المصدر السابق، ص. ٧
159 المصدر السابق، ص. ۸
160 المصدر السابق، ص. ٦
161 المصدر السابق، ص. 9
162 المصدر السابق، ص. ٩ – ١٠
163 Seham Abd elSalam, “A Comprehensive Approach for Communication About Female Genital Mutilation in Egypt”, Male and Female Circumcision, edited by Denniston et al. Kluwer Academic, Plenum Publishers, New York, 1999, pp. 321
164 Female Genital Mutilation/ Cutting: A Statistical Overview and Exploration of the Dynamics of” E Change”, United Nations Children’s Fund, July 2013, pp. 11
165 Margot Badran, “Feminism In Islam: Secular and Religious Convergences”, Oneworld Publications, 2009, PP. 168 -187
166 Soheir El-Imam, “Marlyn Tadros assure: “Nous sommes prêts””,Le Progres Egyptien
167 Margot Badran, “Feminism In Islam: Secular and Religious Convergences”, Oneworld Publications, 2009, PP. 168- 187
168 المصدر السابق
169 المصدر السابق
170 Seham Abd elSalam, “A Comprehensive Approach for Communication About Female Genital Mutilation in Egypt”, Male and Female Circumcision, edited by Denniston et al. Kluwer Academic¸ Plenum Publishers, New York, 1999, pp. 321
171 Margot Badran, “Feminism In Islam: Secular and Religious Convergences”, Oneworld 187 – 168. PP, 2009, Publications
172 المصدر السابق
173 المصدر السابق
١٧٤ المصدر السابق
175 المصدر السابق
176 المصدر السابق
177 وبهذا يكون قد ألغى القرار الإداري الصادر سنة ١٩٥٩ بمنع إجراء عمليات الختان في المستشفيات.
178 Margot Badran, “Feminism In Islam: Secular and Religious Convergences”, Oneworld Publications, 2009, PP. 168- 187
١٧٩ المصدر السابق
180 المصدر السابق
181 المصدر السابق
182 المصدر السابق
183 Aida Seif El Dawla, “The Political and Legal Struggle Over Female Genital Mutilation In Egypt: Five Years Since the ICPD”, Reproductive Health Matters, May 1999, PP.134
184 المصدر السابق
185 المصدر السابق، ص. 135
186 Margot Badran, “Feminism In Islam: Secular and Religious Convergences”, Oneworld Publications, 2009, PP. 168- 187
187 المصدر السابق
188 المصدر السابق
189 Aida Seif El Dawla, “Reproductive Rights of Egyptian Women: Issues for Debate”,
190 المصدر السابق، ص. 47 – 48
191 المصدر السابق، ص. 48
192 المصدر السابق، ص. 49
١٩٣ المصدر السابق
194 Seham Abd elSalam, “A Comprehensive Approach for Communication About Female Genital Mutilation in Egypt”, Male and Female Circumcision, edited by Denniston et al. Kluwer Academic, Plenum Publishers, New York, 1999, pp. 323
١٩٥ المصدر السابق، ص. 323 – 324
١٩٦ المصدر السابق، ص. 324Reproductive Health Matters, Taylor & Francis, November 2000, PP. 47
١٩٧ الجهاز الحوفي هو نظام معقد من شبكات الأعصاب في دماغ الإنسان، وهو المسئول الأول عن التحكم في المشاعر والغرائز
198 المصدر السابق، ص. 324 – 325
١٩٩ المصدر السابق، ص. 325
200 المصدر السابق، ص. 325 – 326
أثناء رحلة البحث, طفت إلى السطح بعض الأسئلة التي كانت تشغلنا من قبل، ووجدنا أنه من المناسب طرحها الآن. لا تقتصر هذه الأسئلة على المعلومات الواردة في البحث، بل إنها تحاكي انعكاساتنا بصفتنا قارئات لمشهد لم نكن جزءًا من تكوينه, لكننا نعتبره جزءًا مهمًا من تاريخنا النسوي.
السؤال الأول والمرتبط بالتاريخ هو: كيف نستطيع قراءة التاريخ من خلال عدسة نسوية تقاطعية, ومن خلال انحيازاتنا؟ وما هو دورنا بصفتنا نسويات تجاه التاريخ كقارئات للماضي وكاتبات للحاضر؟ استطعنا أثناء البحث أن نلمس كيف تستطيع سردية معينة لحدثٍ ما أن تغير من فهمنا له ومن إدراك أثره وحجمه الحقيقيين، ودفعنا هذا إلى التساؤل حول تاريخ الحركة النسوية، إلى سؤال آخر, فأي سردية لأي نسويات هي التي تهيمن؟ وعلى أي أساس تُكتب سردية معينة ويجري تداولها واستدامتها؟ أو على أي أساس تُمحى سرديات أخرى أو يجري تجاهلها؟ نقلتنا هذه الأسئلة إلى رؤية العلاقة بين التاريخ والأجيال المختلفة للحركة النسوية، فلا تقتصر أهمية كتابة التاريخ من وجهة نظر النسويات اللاتي يعشنه على توثيق لحظة معينة، لكنها أيضًا تسهم في عملية نقل المعرفة والخبرة بين الأجيال المختلفة من النسويات, إلى جانب نقل الأدوات التي استخدمتها نسويات سبقننا في لحظات قد تشبه ما نعيشه حاليًا. والآن نحاول أن نفهم لماذا لم تُمرر النسويات الأكبر هذه الخبرات لجيلنا؟ وكيف نستطيع خلق قنوات لتمرير التاريخ والخبرات بيننا وبين من سبقننا وبين من سيلحقن بنا؟
السؤال الثاني كان مرتبطًا بالتنظيم، إذ رأينا من خلال الرصد كيف يؤثر غلق مساحات التنظيم العامة في مدى إتاحة مساحات لتنظيماتنا النسوية، ورأينا كيف استطاعت بعض من نسويات الجيل الأكبر العمل من خلال مساحات قد هجرناها في الوقت الحالي مثل المنظمات الدولية في أوقات لم يُتح فيها مساحة للتنظيم المستقل، واستطعن الحفاظ على انحيازاتهن والعمل بشكل مؤثر في الوقت نفسه. لا تشعر الكثيرات منا بأن مساحات المنظمات الدولية تعكس همومنا أو رؤانا للعمل الآن، لكن مع الإغلاق المتزايد لأي مساحة للعمل المستقل، تؤدي الكثيرات مننا دورها فرديًا في منظمات مثل الأمم المتحدة؛ وفي الوقت ذاته لا يوجد حتى الآن جهود مبذولة بصفة ممنهجة لاختبار مدى قابلية وجودنا وتأثيرنا في هذه المساحات، سواء بالاشتباك معها أو التشبيك بشكل منظم مع النسويات الموجودات داخلها بالفعل هذه ليست دعوة للعمل بالمنظمات الدولية ولكنها دعوة للنظر المُتاح لنا الحركة فيها في اللحظة الحالية, وحتى لو توصلنا لأنه لا يوجد ما هو مشترك بيننا وبين مساحات المنظمات الدولية وأنه ينبغي علينا مقاطعتها التامة فمن الضروري أن نكون واعيات للأسباب التي بنينا عليها هذا القرار مع النظر لماهية البدائل المتاحة للحركة والتنظيم حالياً.