يوسف درويش.. مناضل من طراز فريد

التصنيفات: غير مصنف

بقلم:

بروفايل

يوسف درويش.. مناضل من طراز فريد

سيظل يوسف درويش بجوهره الإنساني النبيل وإرادته الحديدية مثلاً وقدوة لكل المناضلين من أجل المُثل العليا ومن أجل عالم يتساوى فيه البشر، ويختفي فيه الغني والفقير والسادة والعبيد والسجن والسجان

 

صباح الأربعاء 7 يونيو 2006 رحل يوسف موسى يوسف فرج درويش المشهور بيوسف درويش عن 96 عامًا بعد رحلة مليئة بالعطاء والتفاني في خدمة الوطن والطبقة العاملة المصرية على وجه الخصوص. بدأت هذه الرحلة في فرنسا أثناء دراسته للحقوق حين تعرف على الفكر الماركسي الذي وجد فيه ضالته، وهو المحب للحياة والبشر والكاره لكافة أنواع الظلم والفقر والقهر.

أنهى يوسف درويش دراسته عام 1934 وعاد إلى مصر وعمل محاميًا أمام المحاكم المختلطة، ثم بادر بالانضمام لجمعية أنصار السلام عام 1936، وهي الجمعية التي نشأت لها فروع في الكثير من بلاد العالم بغرض الوقوف ضد خطر نشوب الحرب العالمية التي اشتعلت بعدها بسنوات قليلة. وفي نفس الوقت بدأ في التردد على مركز الاتحاد العام للنقابات الذي كان يقوده الأمير عباس حليم في أواخر الثلاثينيات. وهناك بدأ في التعرف على العمال وقضاياهم وكانت البداية علاقته بواحد من أهم قادة العمال وقتها، وهو المناضل محمد يوسف المدرك. ولم تمضِ سنوات حتى أصبح يوسف درويش يتمتع بشعبية كبيرة وسط العمال، إلى الدرجة التي أصبح الكثيرون يعتبرونه معها المؤسس الأبرز للحركة العمالية المستقلة في الأربعينيات.

ولكي ندرك صعوبة المهمة التي اجتازها يوسف درويش بنجاح وهي كسب ثقة العمال، من المهم أن نرجع لظروف الحركة العمالية وقتها، حيث يروي المناضل طه سعد عثمان رفيق نضال يوسف درويش ورئيس النقابة العامة لعمال الغزل الميكانيكي في هذا الوقت، أن العمال في أربعينيات القرن الماضي كان جل همهم تخليص الحركة النقابية من المثقفين من محاميين ومهندسين وأطباء يرى العمال أنهم يسخرون الحركة لمصالحهم الخاصة أو مصالح الأحزاب التي ينتمون إليها.

فكيف فعلها المحامي خريج الجامعات الفرنسية، ابن الجواهرجي اليهودي؟

في البداية، درس يوسف درويش كل ما يتعلق بأوضاع العمال وحركتهم، وحسب روايته فإنه كان يذهب يوميًا لدار الكتب لهذا الغرض حتى أنه قرأ تقريبًا كل ما كتب عن العمال في مصر في هذا الوقت. ثم حصل على ليسانس الحقوق من جامعة الإسكندرية عام 1944 حتى يتمكن من العمل أمام المحاكم الأهلية. وجاءت الفرصة عندما طُلب منه حضور التحقيق مع أحد العمال، فلم يتردد.

كان على يوسف درويش قبل أن يصبح مستشارًا للنقابة العامة لعمال الغزل والنسيج عام 1942 أن يعمل في النقابة كمدرس للغة الفرنسية (لغة الكثير من أصحاب المصانع وقتها)، وأن يساعد العمال على تأسيس عدد من المدارس لتعليم العمال والقيام بنفسه بالتدريس فيها، وحضور التحقيقات مع العمال والترافع في قضاياهم بأجر رمزي تدفعه النقابة أو بدون أجر على الإطلاق.

كسب يوسف درويش ثقة العمال ببساطته وتواضعه المعروفين عنه وبالتفاني في خدمتهم وتقديم النصح والإرشاد لهم بلغة سهلة بسيطة، بلا تعالي أو زعامية أو أستاذية. وكان حريصًا حتى في سلوكه الشخصي على عدم وضع مسافة بينه وبين العمال فرفض مثلاً استعمال سيارة خاصة رغم قدرته على ذلك واضطراره أحيانًا للعودة من مقر النقابة في شبرا إلى منزله سيرًا على الأقدام لتأخره عن موعد آخر ترام. وعندما أضرب عدد من قادة العمال عن الطعام لتعنت الحكومة في إصدار قانون الاعتراف بقانونية النقابات، كان يوسف درويش يتردد عليهم مؤازرًا، وصدر القانون فعلاً عام 1942. ولم يحل منتصف الأربعينيات حتى أصبح يوسف درويش مستشارًا لحوالي 80 نقابة عمالية، واتسعت ثقة العمال فيه لتصل إلى قيادات وجماهير عمالية في العديد من المناطق.

وفي عام 1945 تأسست لجنة العمال للتحرر القومي، الهيئة السياسية للطبقة العاملة، وصدر بيانها الأول متضمنًا مطالب العمال جنبًا إلى جنب مع مطالب الاستقلال والدستور وموقعًا عليه من ستة من قيادات العمال ليس من بينهم يوسف درويش، المتنزه عن الزعامة، رغم دوره البارز في تأسيسها. وكان نضاله مع العمال ضد الغلاء الفاحش أثناء الحرب أحد الأسباب التي أرغمت الحكومة وقتذاك على إقرار علاوة غلاء معيشة لأول مرة. ثم كان دوره البارز في أول إضراب عام لعمال مصر في التاريخ عام 1946 عندما جرى توزيع منشور على جميع النقابات تحت عنوانكونوا لجان الإضراب .. كونوا صناديق الإضرابووقع البيان باسم طليعة العمال، حتى أن تنظيم الطليعة الشعبية للتحرر الذي شارك يوسف درويش في تأسيسه عام 1946 عرف وقتها باسم تنظيم طليعة العمال! ومن مآثر هذا التنظيم أن أسس جريدة عمالية باسمالضميركانت توزع ألف نسخة في هذا الوقت.

لم يكن غريبًا على صاحب هذا التاريخ الحافل بالنضال أن يرمى بالسجون والمعتقلات في مختلف العصور، والتي حل عليها لأول مرة عام 1948. وعندما قامت حركة يوليو 1952 كان يوسف درويش معتقلاً وأرسل مع آخرين رسالة من السجن لقيادة الثورة تؤيد طرد الملك وتطالب النظام الجديد بالديمقراطية. ثم طلبت قيادة الثورة منه التعاون مع هيئة التحرير عام 1956 أثناء العدوان الثلاثي فلم يتردد، وما أن انتهت الحرب حتى أصدرت الحكومة قرارًا بإغلاق مكتبه عام 1957 ولكنها اضطرت للتراجع بعد أقل من أسبوع واحد بعد أن أرسل عشرات الآلاف من العمال برقيات احتجاج لجمال عبد الناصر. ولم تمضِ شهور حتى جرى اعتقاله عام 1958 بتهمة سخيفة هي الاشتراك في محاولة لاغتيال جمال عبد الناصر، وأُفرج عنه ليعاد اعتقاله مرة أخرى عام 1959 وليمضي في المعتقل هذه المرة أكثر من خمسة أعوام.

لم يتوقف نضال يوسف درويش من أجل الطبقة العاملة المصرية إلا مع رحيله، حيث كان آخر عمل قام به قبل هذا رحيله مباشرة وهو في السادسة والتسعين من عمره، هو كتابه عن نشأة وجذور الحركة العمالية في مصر. إلا أنه من الضروري الإشارة إلى أن نضال يوسف درويش من أجل العدالة والحرية والمساواة كان على جميع الجبهات الفكرية والثقافية والسياسية فضلاً عن هذا النشاط العملي السابق الإشارة إليه. فقد أسس جريدة الأسبوع عام 1935 ورأس تحريرها وشارك في تأسيس دار الأبحاث العلمية ثم لجنة نشر الثقافة الحديثة ثم منظمة الطليعة الشعبية عام 1946، وشارك في تأسيس الحزب الشيوعي المصري عام 1958، وبعد الخروج من المعتقل شارك في تأسيس منظمة الطليعة الثورية الاشتراكية (شروق) عام 1971 ثم إعادة تأسيس الحزب الشيوعي المصري عام 1973، وأخيرًا حزب الشعب الاشتراكي عام 1978.

وأخيرًا، لا يمكن أن نتحدث عن يوسف درويش وننسى أنه عشق فلسطين كما عشق مصر، وشارك في مناهضة الحركة الصهيونية من قبل أن تنشأ دولة إسرائيل، وشارك التنظيم الذي انتمى إليه في رفض قرار التقسيم عام 1948، واستمرت معارضته ونضاله ضد كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ودفاعه عن حقوق الشعب الفلسطيني حتى وفاته.

يوسف درويش بجوهره الإنساني النبيل وإرادته الحديدية سيظل مثلاً وقدوة لكل المناضلين من أجل المُثل العليا ومن أجل عالم يتساوى فيه البشر، ويختفي فيه الغني والفقير والسادة والعبيد والسجن والسجان.

شارك:

اصدارات متعلقة

النسوية الإلغائية في فلسطين
نصائح من اجل بيئة عمل آمنة للنساء
نصائح للنساء لضمان السلامة خلال الحمل والولادة والوقاية من كوفيد19
الإجهاض القسري في نيجيريا وسؤال العدالة الانجابية
اغتصاب وقتل طفلة رضيعة سودانية في مصر
نحو وعي نسوي : أربع سنوات من التنظيم والتعليم السياسي النسوي
شهادة 13
شهادة 12
شهادة 11
شهادة 10