تعتبر وفيات الأمهات من المؤشرات الصحية المهمة التي يقاس به مستوى الرعاية الصحية والتطور والنمو في البلدان المختلفة، فهي حصاد للقصور المتراكم في الخدمة الصحية، بالإضافة إلى التخلف في الخدمات الاجتماعية والتعليم والفقر.. فهي نهاية طريق طويل من التراكمات التي تصنفنا كعالم ثالث ومناقشاته أمر شائك، ويضعنا في مواجهة عديد من التحديات، ويطرح القضايا التنموية المختلفة وضرورة الخوض فيها، بداية من تمكين النساء وتعليمهن وتحسين الخدمة الصحية وتوفير الإمكانات حتى التعليم بصفة عامة بما فيه التعليم الجامعي الذي ينتج كوادر غير مدربة ومنهم الأطباء.. وقد أثبت بحث أجرته وزارة الصحة المصرية، عام ٢٠٠٢، أن من أهم أسباب وفيات الأمهات التي من الممكن تجنبها وهي تمثل نسبة ٥٤% تدنى مستوى الرعاية، الذي يوفره مقدمو الخدمة الصحية، وعدم وجود إمكانات نقل الدم السريع وتوافر أطباء التخدير وكفاءة الأطباء، التي أقر البحث أن قصور الرعاية التي يقدمها أخصائيو الولادة أكثر أسباب الوفيات التي يمكن تجنبها شيوعًا وتبلغ نسبتها 43%.

الطريق الطويل لوفيات الأمهات

ماتت فاتيما أثناء الولادة، ويعتبر هذا حدثًا عاديًا يتكرر يوميًا كل دقيقة في البلدان النامية، الجديد في ذلك أن العالم بدأ يطرح الأسئلة حول الأسباب التي تؤدي إلى ذلك.

ماتت في مستشفى ريفي بسيط، وكانت حالتها واضحة التشخيص كما أقر الطبيب حالة نزيف قبل الولادة نتيجة للمشيمة المتقدمة.

قصور الرعاية العالمية التي يقدمها دراسة عن أخصائيو الولادة أكثر أسباب الوفيات

عندما حضرت للمستشفى كانت غائبة عن الوعي في حالة صدمة نتيجة للنزيف الشديد، وقد تلقت داخل المستشفى محاليل بالوريد. بالإضافة إلى نصف لتر دم فقط لم يستطع المستشفى توفير غيره ولم يكن ذلك كافيًا لتعويض ما فقدت من دم أثناء النزيف.

تم إجراء عملية قيصرية بعد ثلاث ساعات من دخولها المستشفى، وكان هذا التأخير لعدم توافر أخصائي أمراض نساء وتوليد أو توافر أخصائي تخدير بالمستشفى، وقد توفيت أثناء الجراحة.

وقد تم تصنيف سبب الوفاة على أنه سبب يمكن تفاديه تمامًا، وأن الوفاة قد حدثت نتيجة لقصور في الخدمة الطبية، فقد قررت اللجنة المحققة في سبب الوفاة أنه إذا توافر الدم الكافي لنقله للمريضة، ولو أن الخدمة الطبية كانت معدة وتوافر الأطباء في الحال للتعامل مع حالات الطوارئ لكانت حياة فاتيما قد تم إنقاذها.

وقد قامت منظمة الصحة العالمية بعمل دراسة عن الحالة لتقصى الحقائق السابقة حول فاتيما، وعن سبب وفاتها الحقيقي. وكانت الدراسة عن (الحاجات التي لم يتم تلبيتها في الرعاية الصحية المقدمة للأمهات).

لقد استغرق وصولها إلى المستشفى أربع ساعات بعد بداية النزيف.

لم تكن هذه هي المرة الأولى للنزيف، فقد نزفت مرتين سابقتين لكن بشكل أقل، ولم تنتبه إلى ذلك أو تعيره اهتمامًا. كانت تعاني من الأنيميا المزمنة نتيجة لإصابتها بالطفيليات، ولم تعالج من ذلك، لم تعرض على طبيب أثناء الحمل وقد استنتجت الدراسة أن سبب الوفاة هو عدم تلبية احتياجات وخدمات الأمومة في المجتمع.

فلو كانت هناك وسيلة نقل سريعة لحالات الطوارئ إلى المستشفى.

ولو كان لدي فاتيما فرصة لمتابعة الحمل لعلاج الأنيميا، ولتحويلها إلى المستشفى عندما كانت تعاني في بادئ الأمر من حالات النزيف الصغرى لربما كانت قد أنقذت حياتها.

ثمة دراسة أخرى كانت تبحث في أسباب الوفيات وعلاقتها بالعمر الإنجابي. وقد أوضحت الدراسة حقائق أخرى عن سبب وفاة فاتيما.

كان عمر فاتيما 39 عامًا. وقد سبق لها الولادة 7 مرات. عاش منهم 5 أطفال ثلاثة منهم ذكور، وفي الواقع فهي لم تكن ترغب في إنجاب المزيد، ولكن لم يسبق لها استخدم أي وسيلة من وسائل منع الحمل ولقد استخلصت الدراسة أن سبب وفاة فاتيما كان نقص المعلومات عن وسائل تنظيم الأسرة وعدم توافر خدمات تنظيم الأسرة، فإنها لم تكن تتمنى هذا الحمل غير المرغوب هذا فيه في هذا السن، ومع العدد الذي تم إنجابه من الأولاد.

  • دراسة ثالثة لمجلس السكان الدولي حول المتغيرات الاقتصادية والمجتمعية لوفيات الأمهات، وقد أمدتنا بالمزيد عن سبب وفاة فاتيما.

     
الفقر يرفع معدلات الوفيات

كانت فاتيما زوجة غير متعلمة لعامل زراعة فقير. وقد استخلصت الدراسة أن حالة فاتيما الاجتماعية والاقتصادية وضعتها أمام خطر وفيات الأمهات ثلاث مرات أكثر من المعدل العام في المجتمع، وعشر مرات أكثر من معدل الخطر لشريحة الوضع الاجتماعي والاقتصادي المرتفع ومائة مرة أكثر من بلاد العالم المتقدم.

يتضح من قصة فاتيما أن هناك عديدًا من الرؤى أثناء تناول أسباب وفيات الأمهات، ولكن هل تشكل تلك الرؤى أسبابًا مختلفة لوفيات الأمهات؟ أم أنها جميعًا أجزاء من صورة واحدة قائمة؟ وللإجابة عن ذلك دعونا نقتفي أثر خطوات الأمهات عبر طريق وفيات الأمومة.

وجدت فاتيما نفسها أمام مدخل طريق وفيات الأمهات: 1 – عن طريق وضعها الاقتصادي والاجتماعي والمجتمع الذي تعيش فيه ووضعها داخله، فهي لم تكن فقط فقيرة، ولكن لم يكن لديها القدرة على المشاركة في تنمية الدخل أو أي نمو اقتصادي وكان لديها الفرصة للخروج من هذا الطريق بأمان، لو:

كانت لديها فرصة للتعليم المتساوي مع الرجل.

كانت لديها فرصة للتوظيف، تلقت تغذية أفضل.

لم يكن قد تم التمييز ضدها كامرأة.

۲ وجدت فاتيما نفسها تنحدر إلى الجحيم مسرعة عن طريق الولادات المتكررة، وكانت الخطوة التالية داخل الطريق هي كونها أمًا إذ إن إنتاج الأطفال هو المشاركة الوحيدة المحمودة لها داخل المجتمع، والتي يعتمد عليها تحقيق كيانها كامرأة ففي كل مرة تحمل فيها فاتيما تواجه خطر الانزلاق المتزايد داخل طريق وفيات الأمهات ويؤدي التكرار إلى تراكم الخطر.

3 – وقد استمرت فاتيما في الإنجاب فيما بعد حدود السن الآمنة للحمل أي بعد سن ٣٥ سنة وأكثر من أربعة أطفال فقبل ذلك كانت لديها فرصة الخروج من طريق الموت، لو أنه كان لديها فرصة للحصول عن معلومات تنظيم الأسرة وقدرة على الوصول لخدمات تنظيم الأسرة. ولكنها لم تأخذ هذه الفرصة.

4 – نتيجة لعمرها وعدد ما أنجبته من أطفال، بالإضافة إلى وضعها الاجتماعي والاقتصادي، فقد أصبح حملها الآن يصنف على أنه حمل ذو خطورة مرتفعة، فقد أصبحت أكثر عرضة لحدوث مضاعفات خطيرة أثناء الحمل والولادة. ولكان حتى الآن لديها طريقة للخروج من هذا الطريق، لو أن لديها طريقة للحصول على خدمات بسيطة ولكن جيدة أثناء الحمل والولادة، لكان هذا أدى إلى:

علاج للأنيميا.

التنبؤ بوجود المشيمة المتقدمة بعد حدوث النزيف البسيط.

تصنيفها مع مجموعة الحمل ذي الخطورة المرتفعة، وتم تحويلها مبكرًا إلى المستشفى حيث يتم رعايتها به.

5 – وأخيرًا عندما أصيبت بنزيف يهدد حياتها قبل الولادة كانت لديها فرصة واحدة وأخيرة للخروج من هذا الطريق، وهي طريقة متوافرة وسريعة للتحويل إلى المستشفى، ولكن حتى هذه لم تكن متوافرة، وفقدت فاتيما فرصتها الأخيرة في النجاة. إن نهاية فاتيما تعلمنا عديدًا من الدروس، قد تساعدنا في تأمين حياة الملايين من النساء اللاتي يتحركن نحو طريق وفيات الأمهات. ونستخلص مما سبق أن طريق وفيات الأمهات طريق طويل، تدخله النساء في بدلنا من بدايته بأعداد كبيرة ومن مداخل متعددة، بداية من انخفاض الحالة الاجتماعية والاقتصادية، الولادات المتكررة حدوث المضاعفات الخطيرة للحمل التي لا تعيها النساء ولا يذهبن للخدمة الصحية لمتابعتها.

ويبقى الأمل في فتح بوابات الخروج من هذا الطريق الذي يؤدي في آخره إلى النهاية المحتومة المؤسفة، وهذه المخارج هي: تحسين حالة النساء وتمكينهن عن طريق التعليم والتغذية، وتوفير خدمات تنظيم الأسرة وتوفير خدمات الولادة المعدة جيدًا من كوادر مدربة وتوافر خدمة نقل الدم، وتوفر أساليب النقل السريع.

۱ تمثل وفيات الأمهات التي لا يمكن تجنبها نسبة 19% من الحالات في دراسة سنة ۲۰۰۰.

۲ تمثل وفيات الأمهات في مصر 84 حالة لكل 10000 مولود حي في بحث سنة ٢٠٠٠، وفي البلاد المتقدمة..

۳ مأخوذ عن مقال لـ د. محمد فتح الله..

4 – وجود خلاص الطفل في وضع متقدم أي قرب فتحة الرحم: مما يؤدي إلى النزيف قبل الولادة.

شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات