تأنيث الروح
أين عسانا أن نجد تصويرًا حقيقيًا وعادلاً للنساء المسلمات – صورة تمثل بحق ثقافة الإسلام؟ هل نلجأ إلى “المثال” أم إلى “الواقع“؟ أو بتعبير أكثر تحديدًا هل التمثيل الأكثر دلالة ومغزى يكمن في الصور الثقافية والرموز الأدبية أم في مجال الحدث التاريخي والواقع المعاش ؟ تلك هي التساؤلات التي يطرحها أحدث كتاب صدر للباحثة الإسلامية المخضرمة “آن ماري شيمل“، وهو روحي امرأة: المؤنث في الإسلام (۱۹۹5؛ ترجمته من الألمانية سوزان راي، القاهرة: الجامعة الأمريكية، ۱۹۹۸)، وذلك من خلال تناول هذين الجانبين من موضوع النساء في الثقافة الإسلامية وفي الأدب الصوفي على الأخص. يدل ترتيب فصول الكتاب في حد ذاته على وجهة نظر الكاتبة بصفة عامة، فبينما يقدم الفصلان الأولان الأدلة التاريخية على الدور الفعال الذي لعبته الصوفيات والعالمات المتفقهات في الحياة العامة بمختلف المجتمعات الإسلامية ثم النساء في حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، يتعرض الفصل الثالث للصورة الإيجابية والإنسانية التي جاء بها القرآن للمرأة. وتقدم الفصول المتبقية والتي تشكل الجزء الأكبر من الكتاب تحليلاً لتيمات ورموز “المؤنث” التي ظهرت خاصة في أدب وفكر التصوف الإسلامي. وهكذا تدعونا المؤلفة “شيمل” من خلال هذه الدراسة إلى الأخذ بعين الاعتبار الصورة المتكاملة للموضوع بدءًا من استعراض وقائع التاريخ التي تعكس بدورها روح العقيدة ومبادئها، كما تذكرنا دائمًا بأهمية التفرقة بين التيارات المعادية للنساء التي تسربت إلى الحكايات الفولكلورية والأدب الشعبي من ناحية، والمبادئ الإسلامية الأصلية ونموذج الرسول من ناحية أخرى. وإذا أضفنا إلى هذا العديد من النساء المسلمات العظيمات اللاتي نعرف عنهن عبر التاريخ، فستتكشف لنا صورة أكثر صدقًا وعلمًا عن المرأة في التراث الإسلامي. وفي حقيقة الأمر فإن عدم التوازن هذا بين المبادئ الإنسانية للإسلام والمفاهيم والممارسات التي تشكلت في المجتمعات فيما بعد هو في رأيي الهم الذي يؤرق المرأة المسلمة اليوم ويضعها في موقف الحيرة. ولا يستطيع المرء أن يمنع نفسه من التساؤل والتعجب: ولماذا إذًا هذا التدهور؛ وبم نفسر الاختفاء التدريجي للنساء المسلمات من التاريخ؟ ومن الأمثلة المثيرة التي تعرضها ” شيمل” لتطور هذه المفاهيم المغلوطة التي “ليس لها أي أساس في القرآن” (ص ٧٦) هي الملحمة الشعرية الطويلة “حكايات الأنبياء” التي رددها كثيرًا وساعد في نشرها على المستوى الشعبي الوعاظ والرواة. ورغم أنه لا يوجد أي نص قرآني يدين حواء أو يحملها مسئولية الخروج من الجنة والوقوع في الخطيئة (وهو مفهوم لا يعترف به الإسلام أصلاً)، فإن الشاعر “كساعي” يخلق لحواء شخصية سيئة ويبالغ في تجسيد ذنبها وخطيئتها ويليه بالعقاب الإلهي لها في شكل ألم الولادة… إلخ. وهكذا تلعب مثل هذه الأعمال الأدبية والشعبية دورًا خطيرًا على مر العصور في تغذية أفكار ونزعات ضد العنصر الأنثوي، وفرضيات “لا تستند إلى كلمات القرآن نفسها ولكن على تفسيرات واسعة الخيال لهذه الكلمات من قبل المؤمنين (بالقرآن والإسلام)”(٥٧). ووجدتني أجفل: وهل لشخص ما أن يطعن ويسيء ويجرح أو يشوه قيم العدالة المؤسسة للدين ثم يظل يطلق عليه مؤمن؟ رغم أن الكاتبة نفسها في موضع آخر من الكتاب (۱۸۰) تسلم بأن الجمود والظلم اللذين تناميا تجاه النساء عبر القرون قد اكتسبا للأسف “طبيعة شرعية مقننة“، إلا أن البحث في هذه القضايا – على أهميتها – يقع خارج نطاق الكتاب واهتمام المؤلفة المباشر، وهي لذا لا تحاول تتبع هذا المسار التاريخي. مثال آخر توضحه لنا الكاتبة هو التفسير اللغوي لتولد هذه المفاهيم المتجنية على “الأنثى” والتي وجدت طريقها إلى أدبيات التصوف: لمن عاش من الرجال الصوفيين في ظل الزهد والتقشف ومن ثم الخوف من الأنثى، كان من الطبيعي والمنطقي لهم أن يجدوا كلمة “نفس” في اللغة العربية – والتي اقترنت بالغرائز والأمر بالسوء– مؤنثة في النحو. ومن هنا أصبحت الأنثى / المرأة رمزًا لهذه الميول الحسية للنفس البشرية التي تعرقل الطموح إلى الزهد والترفع الروحاني عن الدنيا بل أن كلمة “دنيا” هي أيضا مؤنث نحويًا، فالمرأة بالتالي تجسيد للدنيا وإغراءاتها المادية. وهذه المفاهيم والرموز – كما تذكرنا “شيمل” – لم تكن غريبة بأية حال من الأحوال على الكتاب المسيحيين ورجال الدين في أوروبا العصور الوسطى أو على التعاليم البوذية، فقد حفلت كل من الديانتين بمثل هذه الصور السلبية، ومنها على سبيل المثال أدبيات السخرية اللاذعة من شخصية الزوجة الحمقاء وغيرها. ومن رأي الكاتبة أنه لا داعي أن نتحامل بشدة على هذه الأديان والثقافات لأن “مثل هذه الصور السلبية لشخصية الأنثى عنصر مشترك فجميع الأديان التي اتسمت بتيارات الزهد” (۷۳)، كما أن سيادة العنصر الذكوري في معظم جوانب الحياة العملية هي حقيقة وأمر واقع على كل حال في كافة الديانات والثقافات بعالمنا” (۱۸۰).لا غرو إذن أن تؤدي فكرتا “النفس” و “الدنيا” بالصوفيين إلى أن يؤسسوا “للمثال” الذكر أو الرجل السالك في طريق الله (عز وجل) كما يظهر في أحد الأقوال التي نشأت شمال الهند في القرن ۱۳: “طالب المولى مذكر.”.(٧٦) لكن الغريب في الأمر أنه في مقابل هذه الصور، نجد أيضًا كما من التمثيل الإيجابي لشخص المرأة، وهو ما تركز عليه “شيمل” في كتابها. فهي ترى أننا لا نستطيع أن ندعي فهمًا شاملاً – أو حكمًا – على مكانة المرأة والمؤنث في التراث الثقافي للإسلام دون فحص وتحليل لهذا الخليط برمته. فمثلاً رغم استخدام عنصر الأنثى كرمز “للنفس” و “الدنيا” هناك تيمة أخرى مرتبطة بذلك هي فكرة “الروح المرأة“. فالنفس المادية في بادئ رحلتها بإمكانها أن ترتقي وتصل في النهاية إلى مستوى عال من الكمال والطهر والمثالية حتى تصبح “روحًا آمنة مطمئنة” (۷۱)، وهكذا تتوحد المرأة / الأنثى بهذه الروح العليا المثلى. ونجد هذا التماهي الرمزي بين الروح – في وجدها وعذاباتها – التواقة إلى الله (عز وجل) وبين الأنثى في الشعر الفارسي والتركي والهندي متمثلاً في شخصيتي بلقيس (ملكة سبأ) وزليخة (امرأة العزيز في سورة يوسف). تظهر المرأتان في الحكايات والأشعار الصوفية تجسيدًا للروح الإنسانية في اشتياقها إلى المحبوب الإلهي. فمن خلال العذاب تسمو الروح وتأنس ثانية بالقرب والتواصل مع خالقها ومحبوبها الأعلى. وإلى جانب هذه الصورة الصوفية “للروح المرأة” التي تتشابك مع حكايات العشق والجمال، تتتبع الكاتبة نوعًا آخر من تصويرات “المؤنث” يتبدى في كتابات محيي الدين بن عربي الصوفي الأندلسي (ق۱۳)، الذي توسع في نظرة الروح المؤنثة ليجعلها تشمل “الذات” الإلهية العليا. أن العنصر الأنثوي هو الشكل الذي يمكن من خلاله معرفة وإدراك الله (سبحانه وتعالى) فتصبح المرأة تشخيصًا رمزيًا للإلهي (۱۰۲، ۱۰۷) والمثل الذي تصبو إليه العاطفة الإنسانية والوجد الصوفي. أما بالنسبة للشاعر الفارسي جلال الدين رومي (ق ۱۳) فهو أيضا يؤكد على الجانب الأنثوي للروح العاشقة حتى أنه يصورها كروح عروس تزف إلى محبوبها الأزلي. فمثل هذه التصورات وهذا الفهم الخاص لعلاقة المرأة بروحانية التصوف هو الذي جعل “شيمل” تطرح تفسيرًا فريدًا لها وهو أن شخصية الصوفي المحب “أنثى” – سواء كان على وعي هو بذلك أم لا – (١١٥). والغريب أن ذلك يعتبر رأيًا مضادًا لرأي آخر ورد للكاتبة “كاري فوجت” في مقال لها عن صور التحول إلى الذكورية في التراث الإسلامي (في كتاب دراسات المرأة في التراث المسيحي والإسلامي، تحرير كاري بورسن وكاري فوجت ۱۹۹۳)، وفيه تحلل الكاتبة مفهوم اقتران التقوى والروحانية بالذكورية وتزعم وجوده بشكل غالب في الغنوصية والمسيحية والإسلام، معتمدة على جملة وردت في نص فارسي واحد لفريد الدين عطار وتعليقين في تفسيري الطبري والرازي وكأن كتاب “شيمل” يمثل ردًا على هذا، فدراستها الأكثر عمقًا والأشمل لنصوص أخرى كثيرة تشير إلى أن بضعة أقوال متناثرة في هذا التراث الغزير ليست بمقياس الثقافة بأسرها بكل تنويعاتها وتعقيداتها فمعلومات “شيمل” المستفيضة وخبرتها في مجال التراث الأدبي والثقافي إلى جانب معرفتها بحياة الناس في المجتمعات الإسلامية المختلفة أتاحت لها أن تتعامل مع خيوط متشابكة من التيمات والصور والرموز داخل ما تطلق عليه “تركيبة النساء والتصوف” (۱۰۷).ولذلك فالكتاب صغير الحجم ولكن في غاية التركيز، ومرصع بنصوص عربية وتركية وفارسية وهندية، مع التعريف بها وتحليلها وذلك للتأكيد على التعددية في القراءات والتحليل المقارن. ولكن ماذا عن الأسئلة التي طرحناها في بداية هذه المراجعة؟ فبرغم أن الكاتبة على دراية أن النساء في المجتمعات الإسلامية قد عانين ولا زلن بسبب التقاليد والمواقف التي ليس لها أصل قرآني (۱۸۰)، فهي تحتفظ بنظرة إيجابية على طول الخط وترى أن تحليل صورة المرأة في الأدب الإسلامي والصوفي في ضوء “المثال” – بدلاً من “الواقع” المتدهور – يجعلنا أكثر تقديرًا للشخصية الحقيقة للثقافة الإسلامية. ولذلك تتفادى “شيمل” الاشتباك بجدية مع إشكاليات التصوير الاستشراقي الغربي من ناحية والتيارات المعادية للنساء في التراث من ناحية أخرى، رغم أنها تسجل رفضًا واضحًا للاتجاهين كانعكاس حقيقي للنساء في الإسلام: “فلا شهوانية عالم الحريم ولا النوادر الشعبية حول لؤم وكيد جنس النساء تحدد بالضرورة ثقافة الإسلام” (۱۸۱) روحي امرأة كتاب يفيض بشعر جميل، وهو ملهم وممتع في آن، خاصة لمن يبحث عن رموز تراثية إيجابية غير معروفة دائمًا، تكون مصدرًا لتعزيز قوة المعرفة بالماضي حتى يتسنى لنا التعامل مع معضلات الحاضر.تعلقت عيناها بالجمال الأوحد
وانغمست روحها في فيضان من الحب
وخلق قلبها في سماء عالم الروح
وترامت إلى سمعها أنغام الغيوب
لا تسمها “امرأة” – فخصلة واحدة من شعرها
أفضل من ألف رجل.
جامي
شارك: