تجسيد العمال الذكور باعتبارهم آباء في الحياة العملية المرنة
تنظيمات عمل بلا أجساد
يبدو هذا العنوان وكأنه متناقض. إذ كيف يمكن بناء تنظيمات بلا أجساد، بينما لَبِنات التنظيمات أشخاص ذوو أجساد؟ إلا أن الأبحاث التي أُجريت على العمل والتنظيمات أعطتنا إلى حد بعيد صورة عن الحياة العملية باعتبارها بلا أجساد أو نوع (Aker, 1992; Adkin, 1996) ومع ذلك فإن أجسادنا هي التي تحدد مواقعنا بالنسبة لسياقات تاريخية وثقافية بعينها. وتختلف تلك السياقات تبعًا لذلك الجزء من الحياة العملية الذي ننتمي إليه، وكذلك تبعًا لبنية التنظيم المعين وثقافته. كما تختلف التنظيمات بناًء على السياقات القومية التي هي جزء منها. وهذه هي نقطة انطلاقي في هذا الفصل. فسوف أناقش عمليات تجسيد العاملين الذكور النرويجيين باعتبارهم آباء من خلال العمل بنظام الإجازة الأبوية التي تقوم على إعطاء الآباء حقًا خاصًا، هو“حصة الأب“.
يمكن النظر إلى حالة الرفاهية على أنها “عامل تجسيد” محلي في الحياة العملية النرويجية من خلال إدخال نظام الإجازة الأبوية من العمل للآباء. ويقوم النظام بتجسيد العاملين الذكور في تنظيمات العمل بالتركيز على الحاجة لحماية الاباء من ضغوط الحياة العملية، وكذلك السماح للآباء بقضاء وقت مع أطفالهم الصغار. ويعنى هذا الاعتراف بأنه بالإضافة إلى كون أجساد لأباء أجسادًا عاملة، فهي كذلك أجساد راعية. ويمكن النظر إلى تدخل حالة الرفاهية وتجسيد العمال الذكور باعتبارهم آباء على أنه جزء من تراث أطول في النرويج للاستفادة من التشريع على هذا النحو. وأفضل مثال لذلك هو العمل بقانون بيئة العمل في عام 1972 الذي كان المقصود به حماية أجساد العمال من أخطار العمل البدنية والعاطفية. كما يمكن النظر إلى قوانين ساعات العمل في معظم البلاد على أنها فعلُ تجسيد عن طريق الاعتراف بأن أجساد العمال بحاجة إلى وقت للعمل الإنجابي.
و مع ذلك تتعارض هذه العملية الخاصة بتجسيد الآباء، عن طريق جعلهم مسئولين عن المشاركة في العمل الإنجابي، مع بعض الاتجاهات المهمة في الحياة العملية. فنحن نعيش العمل بنظام جديد للوقت المرن في الحياة العملية. والجزء المهم من هذا النظام هو الضغط من أجل العمل ساعات أطول، مع زيادة التركيز على الطريقة التي تتحول بها شركات العمل المعلوماتي على نحو خاص إلى تنظيمات عمل أكثر شراهة (,Kvande 1999 ,Sorhaug ;1996)، حيث تطالب بإضافة المزيد والمزيد من الوقت. وسوف أناقش في هذا الفصل الأثر الذي يمكن أن يحدثه ذلك على عملية تجسيد العاملين الذكور الذين هم آباء، حيث إن السؤال المهم هو ما إذا كنا سوف نُدْخِل تقسيمًا نوعيًّا ضمنًّا للعمل أم لا، حيث يقوم بمسئولية الإنجاب “آخرٌ” خارج مكان العمل وبالتالي لا تكون له صلة بالتنظيم.
أظهرت الدراسات النسوية الخاصة بتنظيمات العمل كيفية اعتماد مفهوم العامل على ثنائيتين، المجرد مقابل الملموس، والرجل مقابل المرأة (1995 ,Adkins). وتظل المصطلحات من قبيل “عامل” و“قائد” و“مدير” مجردة إلى أن يشغلها الأشخاص. وهنا يدخل الجسد في الصورة. والجسد فيزيقي وملموس ومرئي. ويوضح الغياب الفيزيقي للجسد التجرد في البناء. وهذا كذلك هو السبب في أننا نفهم العامل باعتباره عاملاً فحسب دون الاعتراف، على سبيل المثال، بأن العامل غالبًا ما يكون أبًا كذلك.
عندما يؤخذ الجسد في الاعتبار داخل التنظيمات، يبدو أن النساء يُعطين جسدًا “أكبر” من الرجال بفضل ارتباط الأنثى بالجسد (2003 ,Bdugeon). فالجسد يعطي المجرد مضمونًا فيزيقيًا ويؤدي كذلك إلى كشف العامل المجرد الذي يبدو محايدًا من حيث النوع. وهناك صلة قوية بين المجرد ومحايد النوع، وهو ما قد يكون السبب في فهم الرجال بدرجة أكبر على أنهم محايدو النوع، أو بـ “لا” جسد أو نوع. ويُنظر إلى أجساد النساء ونوعهن على أنها مرئية ومنحرفة. وعندما يصبحن حوامل، فإنهن يربكن فكرة العقلانية المجردة في التنظيم على نحو كبير.
تقوم أفكار الحياة العملية وروتينها التي تبدو محايدة النوع على أفكار ضمنية غير مكتوبة عن النوع (1990 ,Acker). وتبحث التنظيمات عن عاملين بلا نوع معين أو خلفيات عرقية محددة؛ عمال مجردون في تراتب محايد. وهؤلاء العمال المحايدون بلا التزامات قد تعوق تركيزهم في العمل. والمفترض كذلك أن هناك “شخصًا آخر” يقوم بالعمل الإنجابي الضروري. وتساعد تلك الأفكار الخاصة بالعمال المجردين الذين بلا أجساد على إخفاء الأثر النوعي لعمليات تبدو محايدة النوع وتجري داخل تنظيمات العمل. وتشكل الأفكار القائمة على النوع العمال الذكور والإناث على هيئة أنماط مختلفة من العمال. ويبدو أن الصفة الأنثوية المقبولة هي الصلة القوية بالجسد والشئون الجنسية والمشاعر، بما في ذلك العمل البدني كله المرافق لرعاية الأطفال. وفي المقابل ترتبط الصورة النمطية الذكرية بالقدرة والعقلانية المجردتين، وهما يتفقان بالطبع بشكل أكبر مع الأفكار الخاصة بالعامل المثالي.
هذا هو السبب في إشارة الباحثات النسويات إلى ضرورة إعادة إدخال مفهوم الجسد في النظرية النسوية وفي دراسات النوع والتنظيم (1990 ,Acker). وبعبارة أخرى، لابد لنا من فصل الثنائية الخاصة بفكرة “المستخدم أو المدير المحايد الذي بلا جسد أو نوع أو شئون جنسية “من ناحية، و“المستخدم أو المدير الأنثوي” من ناحية أخرى. ولابد لنا كذلك من معالجة حقيقية أن المستخدَمين الذكور لهم كذلك نوع وأجساد وشئون جنسية، ويساهمون بالتالي في تعميم الأفكار المرتبطة في العادة بالمستخدَمات الإناث، فيما يتعلق بمسئوليات الإنجاب على سبيل المثال. وهذا هو السبب في كون نظام الإجازة الأبوية يمثل خروجًا عن التفكير المجرد بشأن النوع. أولاً لأنه شرعنه لحقيقة أن للمستخدمين أجسادًا تنجب أطفالاً. وثانيًا لأن لها تركيزاً صريحًا على تجسيد المستخدمين الذكور باعتبارهم آباء عن طريق منحهم إجازة من العمل لهذا السبب.
تركز السياسات الأسرية في النرويج بشكل صريح على جعل العمل الإنجابي مرئيًا على نحو أكبر للحياة العملية. وتوسيع خطة الإجازة الأبوية، التي تمنح حاليًا حقوقًا موسعة للآباء المستخدَمين، نموذج لذلك. وإذا لم يستفد الأب من الحصة، فسوف “يعاقب” الأب والأم بفقد أربعة أسابيع من الإجازة مدفوعة الأجر، حيث إن تلك الأسابيع لا يمكن بصورة عامة تحويلها إلى الأم. وبالإضافة إلى تجسيد العمال الذكور باعتبارهم آباء، يضفي القانون الجديد الذي بدأ العمل به في عام 1993 كذلك الصفة النوعية صراحةً على الآباء بتسميته الرجال العاملين آباءً. وبعد العمل بنظام الحصة كان هناك تغير هائل في نسبة الآباء الذين يحصلون على الإجازة الأبوية، من أربعة بالمائة في عام 1993 إلى 80 بالمائة في عام 1990. ويعني هذا أن هناك تطبيعًا للاستفادة من الإجازة التي لابد من اعتبارها تعديلاً لإضفاء الصفة النوعية على الرجال باعتبارهم آباء وتجسيدهم من جانب الدولة.
وعندما ننظر إلى ما يحدث حين يبقى الآباء في البيت ويقومون بعمل الرعاية، نجد أن السمة المشتركة لتواريخ هؤلاء الآباء هي تجربة أن عمل الرعاية يعني الاستفادة من الوقت. فقد فهموا أنه لا يمكن تنفيذ الرعاية في وقت الكيف، وأصبح عدد منهم منتقدًا بشدة لكل ذِكر للوقت الكيفي. وهكذا جسدوا فهمًا جديدًا لاحتياجات الطفل ومشاعره2003) Brandth and Kvande). ولذلك يمكننا القول إنه من خلال عملية تسمية الرجال الآباء أوحت حالة الرفاهية كذلك بممارسة الأبوة المجسدة، وهو ما يتضمن الاستفادة من الوقت الكمي.
كيف يتناسب هذا مع الصورة الكونية للرجال داخل تنظيمات العمل وخاصةً الرجال العاملين في العمل المعرفي؟ على مدى الخمس عشرة سنة الماضية كان جزء كبير من العمل يُنتج في مجال الدراسات النقدية لممارسات الرجال (2001 ,Pease and Pringle). وكان التركيز على مجموعة من القضايا تشمل الرجال باعتبارهم أشخاصاً يرعون الأطفال وممارسات الرجال داخل التنظيمات. وقد أدخل روبرت کورنل (2000 ;1998) مفهوم الرجولة المهيمنة، حيث يركز على الفرق بين الرجولة السائدة ثقافيًا التي يسميها “الرجولة المهيمنة” وممارسات الرجولة “الخاضعة” أو “المهمشة” (1987 ,Connell)
إلا أنه مشغول في الوقت الراهن ببحث أو فهم كيفية تأثر بُنى الرجولة بالعمليات التي تجري في الأسواق الكونية، والتنظيمات متعددة الجنسيات، والتغيرات في سوق العمل، والإعلام الدولي. وعند تحليلنا لبُنى الرجولة المهيمنة الآن، ينبغي تضمين المديرين والمستخدَمين في الشركات المتعدية للقوميات التي تعمل في دول مختلفة. وقد فتحت أبحاث كونل المبدئية فيما يتعلق بالتعاملات الكونية التي تحدث في عملية تشكيل الرجولة الباب أمام مجموعة كاملة من إمكانات الاستكشاف والمناقشة (,Pease and Pringle 2001). وبدأت تلك الدراسات وضع تصور لفئات الرجال والرجولة العريضة المتعدية للقوميات، مثل “الرجولة التجارية الكونية” (1998 ,Connell) و“رجال العالم” ( (Hearn, 1996
يعمل الرجال في تلك الشركات المتعدية للقوميات في تنظيمات “الالتزام التام” (1974 Coser) التي تشغل وقتهم كله. فهم لا يمكنهم القيام بواجبات أسرية ويحتاجون إلى “شخص آخر” ليؤدي أعمالهم المنزلية وعمل الرعاية، أو بعبارة أخرى، إلى بنية الرجولة شديدة التقليدية. ويستخدم كونل (1998) مفهوم “الرجولة التجارية المتعدية للقوميات” لوصف ذلك. ويمثل أفراد هذه التنظيمات المتعدية للقوميات المعايير الثقافية السائدة، التي يجري نقلها كذلك إلى الدول المختلفة باعتبارها هجينًا محليًا، حسبما قاله كورنل. وما يشير إليه هو أن “التفكير في الرجولة على أنها ملمح من ملامح البنية الكونية وديناميكيات النوع” سوف يساعدنا في الاستفادة من اكتشافات البحث الإثنوجرافي على نحو أكثر ملاءمة. ولابد أن يكون هذا النمط من البحث قادرًا على تجسيد المقاربات ذات التوجه المحلي ويضع في الوقت نفسه إطارًا سياقيًا يسمح لنا بربط كل من العناصر المحلية والعناصر ذات الصلة التي تعكس العمليات المعولمة (Pease and Pringle,2001)).
في الدنمارك، سوف يتنافس هذا النمط من بنية الرجولة مع المحاولة السياسية لتجسيد العمال الذكور باعتبارهم آباء. وكان الهدف من تلك الإصلاحات هو تشكيل الرجال كمانحين للرعاية للأطفال الصغار عن طريق مساعدة الآباء على وضع قيود زمنية داخل تنظيمات العمل. ولذلك سوف أناقش كيفية تأثر البنية المحلية لأصحاب الأعمال الذكور النرويجيين بالعمليات التي تجري في الأسواق الكونية وثقافات الوقت المرن. وسوف يكون تركيزي على ممارسات الرجولة المجسدة داخل تنظيمات العمل ذات ثقافات الوقت المرنة.
تتعلق العمليات التي يصفها كونل بالوظاف في قطاع المعلومات والخدمات. وحلل كاستلز (2000) في “الرواية الرائعة” التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الرئيسية في نهاية القرن العشرين، مشيراً إلى كيفية تغير تنظيمات العمل وظروف العمل مع ظهور الاقتصاد الكوني. وعدد الوظائف في إنتاج المعلومات والمعرفة آخذ في الازدياد. ويتزامن هذا مع ظهور شبكات الشركات متعدية القوميات عبر الحدود القومية، ويرتبط بالنمو داخل أشكال التنظيم “ما بعد البيروقراطية” الجديدة ) 1994,ecksher and Donnellon) مبرزًا البُنى والشبكات الديناميكية وتنظيم المشروعات الأكثر حرية. ويسهم استغلال تكنولوجيا المعلومات في تكوين نمط من المرونة يزيد من استقلال المستخدَمين من حيث الزمان والمكان. وتسهم هذه العوامل كلها في ظهور نظام جديد للوقت المرن في الحياة العملية.
يصف ريتشارد سينيت (1998) في كتابه The Corrosion of Character (تآكل الشخصية) كيف أن المستخدمين في نظام الوقت الجديد يعيشون مرونًة متزايدًة في ساعات العمل، مما يؤدي إلى قضائهم وقتًا أطول في العمل ووقتًا أقل مع أسرهم. وينطبق هذا بشكل خاص على أنشطة “الالتزام الشديد” في شركات المعلومات. ويجري الاستعاضة عن العقد الرسمي الذي ينظم ساعات العمل بالالتزامات الأخلاقية ومعايير الوقت التي تقتضى الالتزام التام1999) Epstein et al., 1999; Hochschild, 1997; Lindgren). ويؤدي هذا إلى إدخال ثقافات الوقت الذي لا حدود له، حيث يوجد تركيز شديد على تمكين المستخدَم الفرد داخل التنظيم مما يؤدي إلى ظروف العمل الأكثر ديمقراطية، ولكنها كذلك أكثر تركيزًا، وساعات العمل الأطول. ووُصف ذلك بأنه عملية ذات حدين (,1999; 2003 Kvande). والعاملة الفرد مسئولة عن إنجاز العمل. وهي كذلك من يقرر مقدار الوقت الذي سوف يُستغل. بعبارة أخرى، فإن عليها أن تتساوم مع نفسها. مع تنظيم الوقت داخل نظام الوقت الصناعي حيث المبدأ الأساسي هو ساعات العمل القياسية أو ساعات العمل الثابتة والتمييز الواضح بين العمل ووقت الفراغ (Ellingsaeter, 2003).
على مستوى الشركات، تعني التغيرات أن بُنى المكافأة والحياة العملية التي ربُطت بثقافة ساعات العمل القياسية تجري الاستعاضة عنها بمعايير الوقت الجديدة. وتعتبر ساعات العمل الطويلة تعبيرًا عن الانشغال بالوظيفة والالتزام بها (Epstein et al 1999; Hewitt, 1993). ويشمل ذلك الاستعداد للعمل في عطلات نهاية الأسبوع ، والسفر غير المحدود، والمشاركة في الأحداث الاجتماعية التي تنظمها الشركة، وهلم جرا.
في البحث الذي أُجري على العمل والتنظيمات استُخدم مفهوم فوكو (1978 ;1997) الخاص بـ “الانضباط” لوصف كيفية التحكم في الجسد من خلال تكنيكات التنظيم المختلفة. وفي البحث الذي أُجرى على العمل والتنتظيمات استُخدم هذا المفهوم لوصف المطالب المتزايدة التي تُلقى على كاهل المستخدَمين من خلال توفير ظروف العمل المرنة. ويُنظر إلى ممارسات إدارة الموارد البشرية على أنها طريقة لإعطاء المديرين أداة لتغيير ذاتية المستخدمين من خلال الإحساس المجسد بالذات، وهو ما يساعد على إيجاد أصحاب عمل أكثر مرونة وعلى استعداد لتلبية مطالب الحياة العملية الجديدة,1994) Townley). وتحليل أشكال الرقابة المختلفة مهم في تركيز فوكو على السلطة الانضباطية في التنظيمات. وقد تبني مفهوم “panopticism” (نزعة الرؤية الشاملة) لوصف الرقابة غير المرئية المستخدمة داخل كثير من التنظيمات الحديثة للحفاظ على الانضباط الضروري. وقد استُخدم مفهومه في دراسات العمل والتنظيم بشأن الطريقة التي أصبحت بها أجساد المستخدمين موقعًا مهمًا للرقابة. وركزت تلك الدراسات بشكل خاص على استخدام “الرؤية الشاملة التكنولوجية” Panopticon مع تركيز خاص على الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات في هذا الصدد (Steingar and Fitzgibbons, 1993).
لن يكون تركيزي بشكل مباشر على الانضباط التكنولوجي أو الرقابة التكنولوجية، بل على الانضباط المستوعب الذي يبديه أفراد تنظيم العمل المرن. وحينئذ تكون التكنولوجيا جزءًا من ظروف العمل المعولمة والمرنة. وسوف أناقش كيف تجرد تلك العمليات المنظمة المستخدمين الذكور باعتبارهم آباء، وبالتالي تعيد إنتاجهم باعتبارهم عمالاً مجردين (بلا أجساد). ولهذا السبب سوف أركز على التوترات بين عمليات تجسيد المستخدَمين الذكور باعتبارهم آباء وتجريدهم.
جُمعت البيانات التي في هذا الفصل من مشروعي بحث مختلفين. وقد ركز المشروع الأول على الرجال الذين أصبحوا آباء في الفترة من مايو 1994 إلى أبريل 1995 في بلديتي تروندهايم وأوركدال اللتين تقعان في وسط النرويج. وتروندهال ثالث أكبر المدن في النرويج وأوركدال أصغر بلدية ريفية قريبة من تروندهايم. والبياناaت مأخوذة من 2194 استبيانًا، حيث أجاب 1369 أبًا وكان معدل الاستجابة 62 بالمائة. وبالإضافة إلى ذلك أُجريت مقابلات مع عشرة أزواج اشتركوا في الإجازة الأبوية و20 زوجًا استفادة الآباء منهم من حصة الأب. وشمل الأزواج عاملين في شركات المعلومات.
ركز المشروع الثاني على الآباء في تنظيمات عمل مختلفة واستفادتهم من إصلاح “المال مقابل الرعاية” الذي جرى العمل به في عام 1998 (حيث يتلقى الآباء والأمهات مبلغًا ماليًا شهريًا من الدولة في حال اختيارهم البقاء في البيت مع أطفالهم). وكان المشروع يقوم على دراسات الحالة التي شملت كذلك شركة تقوم على المعلومات تعمل في السوق الكونية. ويعني هذا أن أفراد التنظيم الرئيسي في النرويج يُمنحون مناصب في الخارج ويُضطرون كذلك للسفر إلى بلدان في كل أنحاء العالم بناءً على أماكن تواجد المشروعات. وفي التحليلات الإمبيريقية التي في هذا الفصل سوف أستفيد من أب مستخدَم في تنظيم للعمل المعلوماتي ذي ثقافة وقت مرنة. وسوف أستفيد منه في توضيح إحدى العمليات العامة.
جرب الآباء الذين كانوا في إجازة آباء مدى أهمية قضاء وقت مع أطفالهم. وفي هذا الجزء سوف أركز على الاستفادة من الوقت من جانب الآباء الأفراد في تنظيمات عمل تخص قطاع المعلومات النرويجي. وليس لدينا بيانات إحصائية توضح نمط تنظيمات العمل الذي ينتمي إليه الآباء، إلا أن لدينا بيانات توضح الاستفادة من الإجازة بناءً على متغيرات الحياة العملية المختلفة الأخرى. والأمر اللافت للانتباه في حالتنا هذه هو أن الأرقام تبين أن الآباء الذين يعملون قدرًا كبيرًا من الوقت الإضافي (مرات عديدة خلال الأسبوع) معدل استفادتهم من الحصة أقل من معدل الآباء الذين لا يعملون وقتًا إضافيًا (Brandth and Kvande 2003). ويمكن اعتبار ذلك مؤشراً لكيفية تأثير ظروف العمل المرن على ممارسات الرعاية الخاصة بالآباء. وسوف أستفيد من قصة مارتن في باقي الفصل لتحليل ذلك بقدر أكبر من التفصيل.
مارتن مهندس يعمل في شركة كمبيوتر ويوضح وضع عمله الكثير من العمليات التي هي جزء مما أسميته ثقافات الوقت المرن. كما تعمل زوجته مهندسة. ولديهما طفلان صغيران بقي معهما في البيت في إجازة أبوية لمدة ستة أسابيع. وقد استخدم حقوقه، مثل سائر الآباء النرويجيين، ويتحدث بحماس عن تجربته قائلاً :
كانت رائعة… أقول هذا لكل الرجال الذين أعمل معهم: “ينبغي أن تجربوا ذلك” لا أظن أن الرجال فهموا كم هذا لطيف في الواقع… وخاصة عندما يكون لك ذلك النمط من العمل الذي لدي. مجرد الابتعاد عن الوظيفة، أمر لا يمكن تصديقه… وترى الأمور على نحو مختلف إلى حد كبير… وتتعلم وضع أولوياتك في ترتيبها الصحيح، حيث توضع الأسرة قبل العمل. [وهو يقارن ذلك بوضع عمله:]… شعرت أنه يمكنني الاسترخاء، ولم تكن لدي أية هموم بالمرة. لم يكن عليَّ سوى التفكير لمدة ساعتين مقبلتين، فيما يتعلق بما إذا كان هناك ما يكفي من الحفاضات أو بتشغيل الغسالة. وهذا مختلف جدًا عن العمل؛ ففيه يكون عليَّ الانشغال بأمور سوف تحدث بعد ستة أشهر… لم أكن مضطرًا إلا للتركيز في الطفل، وعندما تكون لديك تلك المسئولية الشاملة، ترى أن عمل الرعاية يدور حول تغيير الحفاضات المتسخة، والانشغال بمتي يمرضون…
نرى هنا أنه يصف العملية التي أسميتها “الأبوة المجسدة“، حيث يكون التركيز على احتياجات الطفل وقضاء الوقت معه. وهو يعيش فترة الإجازة تلك باعتبار أن بها القليل من الضغط العصبي مقارنة بوضعه في العمل. كما يروي لنا أنه تعلم إعطاء الأولوية لأسرته. إلا أن بقية هذه القصة توضح مدى صعوبة ذلك عندما تعمل داخل تنظيم ينتمى إلى نظام الوقت المرن. فشركته تنتج أنظمة كمبيوتر لتسعير الطرق، وهم ينفذون مشروعات في أنحاء مختلفة من العالم. وقد شارك مارتن على وجه الخصوص في مشروعات في ماليزيا والنمسا. وهو يعمل داخل تنظيم يتخذ شكل مشروعات، حيث يغيرون وظيفتهم مرة أو مرتين في السنة. وهو يناوب بين كونه عضوًا في فريق المشروعات وكونه مديرًا لأحد المشروعات يعمل معه حوالي 15 شخصًا. وباعتباره مدير مشروع يمكن أن يكون مسئولاً عن مشروعات تتراوح تكلفتها بين 100 و 200 مليون كرونا نرويجية. وسوف أستفيد من قصة مارتن في توضيح عمليات الانضباط التي تحدث في هذا النمط من العمل. وقد أسميت تلك العمليات: “استيعاب الساعة الكونية“، و“في أي مكان وفي أي وقت، على الخط باستمرار“، و“مرونة في اتجاه واحد“، و“القيام بنوبة عمل مدتها 48 ساعة“.
يبين مارتن بوضوح كيف يمكن أن يكون المرء جزءًا من الحياة العملية المعولَمة. وتتأثر استفادته من الوقت إلى حد كبير بوجود عملاء للشركة في أنحاء مختلفة من العالم. ولذلك يكون على المستخدَمين التكيف مع هذا الوضع الذي يؤدي إلى سفر موسَّع إلى دول أخرى وأشكال أخرى من الاستخدام المرن للوقت. وعندما نسأل عن ثقافة الوقت في تنظيمه يقول إنه لا يعرف في الواقع عدد الساعات، ولكني أشعر أني أعمل أكثر مما يكفي، ولم أستفد قط من وقت التعويض الخاص بي“، ويمضي قائلاً: “أسافر كثيرًا في وظيفتي، وفي رحلات العمل أعمل وأعمل فحسب. وعندما كنت أعمل في مشروع ماليزيا، كنت أسافر لمدة أسبوعين كل شهر. فلا يمكنك البقاء يومًا واحدًا فقط عندما تسافر إلى الشرق الأقصى“.
وتعمل زوجته مهندسة كذلك في نمط العمل نفسه ولديهما طفلان صغيران لم يدخلا المدرسة بعد. ويعني هذا أنه لابد من إحضارهما إلى الحضانة ومركز الرعاية النهاية كل صباح ثم أخذهما من هناك قبل الساعة الرابعة بعد الظهر. فساعات العمل هناك غير مرنة، وعلى الآباء والأمهات التواجد في الوقت المحدد. ولهذا السبب ينظم الكثير من الآباء والأمهات يومهم على نحو يُمَكِّنهم من إحضار أطفالهم إلى الرعاية النهارية وأخذهم منها في نهاية اليوم. ويجعل هذا صباح الأطفال وأمهاتهم وآبائهم وعصرهم أقل توترًا. وهذا هو ما يفعله مارتن وزوجته:”في النصف الأخير الأخير من السنة كنت أبدأ العمل في وقت مبكر لأنني كنت أتمكن بذلك من العمل معظم الوقت مع ماليزيا:فهذا يتناسب أكثر مع اختلاف التوقيت. ولذلك كانت زوجتي تأخذ الطفلين إلى الحضانة ، بينما أحضرهما أنا من هناك“.
حينما يكون في ماليزيا لمدة أسبوع كل شهر تقوم زوجته بالعملين. وبالإضافة إلى زيادة الضغط العصبي على الأم، يتأثر عمل الرعاية الخاص به لأنه يفقد الكثير من الوقت الذي يكون فيه مع الطفلين، في الصباح وبعد الظهر. وهاتان هما كذلك الفترتان من يومهما اللتان يكونون فيهما معًا عندما يكون وحده معهما ويكون مسئولاً مسئولية منفردة عنهما. ونرى مما يقوله أن الأمر لا يقتصر على اضطراره للسفر، بل إنه كذلك عندما يكون موجودًا في بلده يقرر التوقيت في ماليزيا ساعات عمله ونوبة رعايته لطفليه. وهذا مثال لكيفية استيعابه للنظام الذي يتطلبه كون المرء جزءاً من الحياة العملية المعولَمة. لقد استوعب “الساعة الكونية” التي تنظم حياته العملية وحياته الأسرية. ويوضح هذا ما يجب أن يكون عليه المستخدَمون العاملون في نظام الوقت المرن مع مرونة.
وهذا كذلك السبب في أنه لا يعرف في الواقع ما يجيب به عندما نسأله عما إذا كانت شركته صديقة للأسرة أم لا؟.
إنها في الأساس ليست صديقة للأسرة إلى حد كبير…. بسبب نمط العمل الذي نقوم به، القائم على المشروعات، وهناك الكثير مما نقوم به. كما أن هناك عددًا قليلاً جدًا من الأشخاص.. والعديد من الأشخاص في شركتنا يعملون كثيرًا.. هذا ما أشعر به بنفسي، حتى أنه من الصعب التوفيق بين الأمور حين أسافر كثيراً. وهذا لا ينسجم مع وجود أطفال، كل السفر… في الوقت الحالي أسافر لمدة أسبوع فقط مرة كل شهر، ولكن أشخاصًا آخرين في المشروع عليهم البقاء في ماليزيا لمدة أسبوعين أو ثلاثة أو أربعة في كل مرة. وفي حالة وجود أسرة فإن هذا لا يحتاج إلى كلام…
حتى هذه اللحظة من المقابلة لم يتعامل مع السفر الموسَّع على أنه مشكلة، بل تحدث عنه باعتباره جزءاً من الوظيفة فحسب. وعند توجيهنا هذا السؤال أتحنا له فرصة التفكير في ذلك، وحينذاك اعترف بأنه لا يتوافق كثيرًا مع وجود أطفال. وليس السفر الجانب الوحيد الذي لا يتوافق كثيراً مع ممارساته الأبوية، فهو يشير كذلك إلى أنه يعمل في مشروعات ويذكر ما لذلك من أثر انضباطي، خاصةً حين لا يكون هناك ما يكفي من الأشخاص للعمل في المشروع. ويدفع ذلك الأشخاص إلى العمل فترة طويلة، دون أن يعرفوا عدد الساعات التي يعملونها على وجه الدقة. وليس هناك من يُضطر لأن يأمرهم بالعمل وقتًا إضافيًا، فإن نمط العمل والطريقة التي يعمل بها التنظيم هي التي لها هذا الأثر الانضباطي على المستخدَمين. ذلك أن العمل لساعات طويلة أحد مكوِّنات ما أسميته العمل غير المحدود؛ فساعات العمل لم تعد في حدود النمط القياسي لأسبوع العمل المعتاد والوقت الإضافي المنظم. بل إن العمل يصبح من المرونة بحيث يقول مارتن وغيره من العاملين داخل هذا النمط من التنظيم إنه لا فكرة لديهم عن عدد الساعات التي يعملونها بالفعل.
المكوَّن الآخر من مكوِّنات ثقافة الوقت غير المحدود هو أنك تحمل عملك معك في عقلك. معظم الوقت. فالعمل يحتويك ويكون موجودًا باستمرار. ويتحدث مارتن عن هذا ، معظم الوقت الأمر كذلك فيقول:
هناك نقطة أخرى أريد توضيحها بشأن الشركة صديقة الأسرة. فأنا لا أعرف إذا كان من المحتمل أن الأمر يتعلق بي، أنا كشخص، أم لا؛ ذلك أن يحتويني بشدة. إني أنشغل كثيرًا. وأجد أن هذا هو أصعب جزء يجب أن يتضام مع وجود أسرة. ويعني هذا أنه حتى إذا غادرت العمل في الساعة الرابعة، فإن هذا هو نصف الحقيقة فحسب. فإذا كان رأسك في مكان آخر وكنت متعبًا ومشغولاً فحينئذ تكون في منتصف الطريق خارج الباب، أليس كذلك؟ ومن المؤكد أن للأمر صلة بنمط الوظيفة التي تؤديها. فنحن لدينا مسئوليات كثيرة، وهذا هو ما يجعل الأمر على هذا القدر من الصعوبة.
إنه ينظر إلى ذلك على أنه يمثل مشكلة له حين يحاول الجمع بين الأبوة وكونه مستخدمًا مسئولاً. وهو ليس متأكدًا في الوقت نفسه مما إذا كان هذا يرجع إلى شخصيته أم لا، ولكنه يرى كذلك بشكل جزئي أن عليه مسئولية فردية كبيرة جدًا. ولذلك فإننا حين نسأل عما إذا كان ينظر إلى وظيفته على أنها لا حدود لها، نجده يوافق على ذلك ويبدأ في استخدام هذا المفهوم عند وصف عمله.
نعم، وهي بالنسبة لي ملموسة وفيزيقية لأنني أحضر جهاز الكمبيوتر الشخصي والتليفون المحمول الخاصين به معي. إنهما موجودان معي باستمرار. وفي عطلة نهاية الأسبوع هذا على سبيل المثال، عندما كنا نقوم بنزهة يوم الأحد في الغابات اتصل بي شخص وكان لابد لي من فتح جهاز الكمبيوتر الشخصي المحمول ومعرفة شيء ما. ومع اختلاف التوقيت بيننا وبين ماليزيا، الذي يسبقنا بست، أو بالأحرى سبع ساعات… الأمر واضح، أليس كذلك؟ إنه لا حد له.
إن وضع العمل الذي لا حد له يدربه على نظام يجعله حتى في أيام الآحاد حين يكون في نزهة أسرية تقليدية، وهو يرى بوضوح شديد كيف أن لهذا الوضع أثرًا سلبيًا على ممارساته الأبوية:
كثيرًا ما أقول، من باب المزاح، إنه كان ينبغي عليَّ الحصول على وظيفة أكثر تحديداً، كأن أعمل على سبيل المثال بائعًا في محل، وحينئذ يكون من المحتمل أضطر لأخذ تليفوني المحمول والكمبيوتر الشخصي معي– كان لي مشروع في النمسا في وقت سابق وكانوا يعملون حتى الساعة السادسة أو السابعة. وكان ذلك وقت العمل المعتاد بالنسبة لهم، وفي أغلب الأحيان كانت تأتيني مكالمات بعد أن أكون قد عدت إلى البيت وجلست مع الطفلين.
بناءً على البلد الذي يوجد فيه عمله، لابد له من تعديل وقته الخاص بالأبوة. فعندما كان في مشروع ماليزيا، كان يفقد وقتًا يمكن أن يقضيه مع الطفلين في الصباح لأنه لابد أن يكون “على الخط” حسب توقيت ماليزيا. وعندما كان يعمل في مشروع النمسا، كان لابد له من تعديل وقت بعض الظهر والمساء مع الطفلين حسب مواعيد العمل في “الساعة الكونية” داخله لها أثر انضباطي عليه وهي تنظم ممارساته الأبوية. “لقد اعتدت على الأمر الآن… مجرد توصيل الكمبيوتر الشخصي وبريدي وخلافه، في أي وقت وفي أي مكان.
أحد الجوانب المهمة للمشاركة في نظام العمل المرن هو الانضباط المستوعَب الذي يفرضه التنظيم على أفراده. وتمر عملية تجسيد المستخدَمين لتلبية احتياجات الحياة العملية المرنة من خلال العملية المزدوجة التي يُمنح بمقتضاها المستخدَمون الاستقلال والمسئولية في آن واحد. ونتيجة لذلك، فإن أفراد التنظيم غالبًا ما يكونون ملتزمين التزامًا عاطفيًا شديدًا بعملهم. ويصف مارتن ذلك حين يجيب عن سؤالنا الخاص بما يمكن أن يحدث إذا أراد الاستفادة من وقت التعويض الخاص به. فهو يقول:
الواقع أنني لم أشعر قط بضرورة الحصول على إجازة من العمل لمدة أسبوعين… لأنني أشغل ذلك النمط من المناصب الذي يكون عليَّ فيه قدر كبير من المسئولية….. وأنا ملتزم عاطفيًّا قويًا بعملي، مما لا يجعلني في واقع الأمر أفكر كثيرًا في الوقت الذي أستغله فيه. [ ويستمر قائلاً :] أحب القيام بذلك… الشيء الوحيد الذي أظن أنني كنت الأفضل فيه هو أن أبدأ بضع ساعات متأخرا في الصباح وأخذ إجازة لمدة نصف يوم، و… أمر واحد يجعل كل شيء يسير ويصبح بلا حدود، ولكن هذا في الغالب في مصلحة المستخدَم ، لأنه يعمل أكثر. أظن أن حالي كان سيصبح أفضل عندما أعمل وقتًا أقل. وحينذاك قد يكون هذا هو حال صاحب العمل نفسه. ولست مضطراً إلى ذكر أنني سوف أخذ إجازة لبعض الوقت. فأنا أقرر ذلك بنفسي. فإنني أُعطي عملاً لأنجزه، وأظن أنني أنجزه على نحو جيد إلى حد كبير. وبعد ذلك تكون لي الحرية في أن أفعل الأشياء على هذا النحو. ولكنني لا أفعل ذلك أبدًا!
ما يريد توضيحه على وجه التحديد هو أنه يتمتع بالاستقلال في تحديد الزمان والمكان الذي يأخذ فيه إجازة لبعض الوقت، ولكنه لا يستغل هذه الفرصة، لأنه حسبما يقول هو: “هناك الكثير جدًا مما يجب القيام به في العمل“. إلا أنه يرى المفارقات، ويشعر أن الخطأ خطؤه هو، فالأفضل أن يأخذ إجازة لبعض الوقت.
يرجع السبب إلى مقدار العمل، ونمط العمل بطبيعة الحال. هناك الكثير مما يتوقف على وجودي هناك؛ إذ يجب عليَّ الحديث إلى أشخاص كثيرين، وهناك الكثير من التنسيق والاجتماعات وخلافه. غير أني أظن أنه ينبغي أن يكون صاحب عملنا أكثر مرونة ويشجعنا على التفكير فيه باعتبار أنه يعمل في اتجاهين. فإذا كان هناك مستخدَمون مرنون، فحينئذ قد ينبغي أن يكون هناك أصحاب عمل مرنون كذلك.
إن لديه مشاعر مختلطة بشأن هذا الأمر، لأنه من حيث المبدأ هناك “حرية كبيرة في أن يقرر الأشخاص بأنفسهم“. إلا أن العامل الضابط هو… أن هناك الكثير جدًا مما يجب عمله باستمرار. والكثير منا مشغول انشغالاً شخصيًا بعملنا لكي يتم كل شيء وقته. ونحن بطبيعة الحال جزء من الفريق، وإذا قال أحدنا إنه سوف يأخذ إجازة بناءً على وقت التعويض سوف يقال له: “الآن وسط هذا المشروع؟” إنك تفهم أن الأمر شيء من هذا القبيل.
نرى هنا كيف يدخل التنظيم في اتخاذ قراره بطريقة أخرى. ، فكون المرء فردًا في تنظيم مشروع ما يدربك على البقاء في عملك وإنجازه، وإلا نالتك ردود سلبية من زملائك في العمل. بعبارة أخرى، فإن فكرة فوكو الخاصة بذي الرؤية الشاملة تصلح هنا. فصاحب العمل ليس بحاجة إلى مراقبة العمال، فالمراقبة مستوعبة داخل العامل. وهو الذي يقرر في النهاية أنه حين لا يعطي لنفسه حقه في وقت التعويض يكون ذلك خطؤه هو: “لست ماهراً بما يكفي للاستفادة من المرونة، ولكن هذا بسببي وليس بسبب الوظيفة“. بعبارة أخرى، يُنظر في النهاية إلى العمل الذي لا حدود له على أنه مشكلة وعلى العامل الفرد إيجاد حل لنفسه أو لنفسها.
ناقشت في التقديم النظري ظهور “التنظيمات الجشعة” داخل نظام العمل المرن. وغالبًا ما يوحي ذلك بأن المستخدَمين يعملون داخل تنظيمات كلية الالتزام تتطلب أن يُنفق معظم وقت المستخدَم داخل التنظيم. ونرى من خلال قصة مارتن مقدار صعوبة أن تكون مواعيد عملك ثابتة (من التاسعة للخامسة) عندما تعمل داخل هذا النمط من التنظيمات. وباعتبارك مستخدمًا مُمَكَّنًا، فكثيرًا ما يواجهك العمل الذي لا حدود له. وهذا هو الحال على وجه التحديد عندما يكون هناك مشروع لابد من إنجازه. فحينئذ تتضح عناصر التنظيم الجشع كلها وضوحًا كبيرًا.
استمر المشروع الأخير، الذي قمت به في النمسا، لمدة عامين. و[نهاية] ذلك النمط من المشروعات رهيبة. وكانت تلك أسوأ تجربة عشتها فيما يتصل بالعمل… ذلك أنه في نهاية المشروع كان هناك الكثير من الضغط – فأنت تعمل التكنولوجيا وهناك الكثير الذي لابد من تنسيقه في النهاية. فنحن نقوم بعمل أنظمة تسعير طرق يُفترض أنها تعمل في لحظة معينة من الزمن. وهناك شخص ما سوف يفتتح الطريق الجديد، ولابد أن يعمل على النحو الصحيح وإلا فسوف يخسر عميلنا الكثير من المال.
ويمضي في كلامه ليروي لنا قصة كيف بلغ به الحال إلى أن يعمل “نوبة عمل مدتها 48 ساعة“.
يحدث كثيرًا أنه لا يمكننا إنهاء العمل قبل انتهاء المهلة المحددة…. وفي هذه الحالة نصاب بحالة من الضغط العصبي. وباعتبارك مديرًا للمشروع تقع المسئولية الاقتصادية على عاتقك. ولابد من دفع غرامات تأخير كل يوم يتجاور المهلة المحددة، ويكون هناك عملاء يصيحون ويصرخون. هناك لحظة ضغط رهيبة. ذلك أنه عندما تكون في نهاية المشروع وتشعر كأنه لن يمكنك ترتيب كل شيء، فسينالك حينذاك غضب شديد من عملائك -. وهذا هو أسوأ جزء فيما يتعلق بكونك مدير مشروع. وقد مررت بذلك مرتين، ولكني لم أستوعب درسي بعد. ففي تلك المواقف تكون ككائن بشرىٍّ في أدني حالاتك النفسية. ويكون الضغط الواقع تحته أمراً لا يمكن تصديقه. إنك تعمل 24 ساعة في النهاية. وأسوأ مرة عندما كنت في ماليزيا ونمت لمدة ثماني ساعات ، ثم استيقظت لمدة 48 ساعة، ثم نمت لمدة ثماني ساعات مرة أخرى. ولا يمكن أن تكون النية هي أن يعمل الناس ذلك القدر من الوقت. وبعد دورة كهذه غالبًا ما تفقد دافعك وتشعر بأن كل شيء رهيب.
الواقع أن قصته تذكرني بظروف العمل في الورش التي كانت تعمل أجرًا زهيدًا في ظروف عمل سيئة في بداية الثورة الصناعية، حيث كان العمال يعملون بدون أية حماية ضد الأخطار الصحية. فليست هناك نظم أو قوانين تمنعه من إجبار جسده على العمل لمدة 48 ساعة متواصلة. إن التوقف عن العمل مسئوليته الشخصية. وهو لا يتوقف لأن الضغط كبير جدًا. ويصف مارتن بوضوح كبير الازدواجية في وضع العمل هذا عندما يخبرنا بأنه بالرغم من ثقافة الوقت داخل تنظيم عمله فهو يرغب في المزيد من المسئولية:”أشعر الآن بأن للشركة إمكانية كبيرة، ولدي طموحات بشأن تحسني وحصولي على المزيد من المسئولية ووظيفة أكثر سوءًا!”.
تتعارض تجربة البقاء في البيت في إجازة أبوية تعارضًا حادًا مع قصته بخصوص كيف انتهى به الحال إلى العمل 48 متواصلة. ليس للأبوة المجسدة أي أثر على وضعه أو أولوياته الآن. فهو لا يزال يتبع الأنماط نفسها في وضعه العملي، وهو يهدف إلى المزيد من المسئولية وإلى وظيفة “أكثر سوءًا“، كما يقول هو. كما أنه واقع تحت ضغط من عمله، وهي سمة من سمات ما نسميه الحياة العملية الجشعة أو غير المقيدة. فالمنافسة متفشية على المشروعات في مجال الأبحاث الذي يعمل فيه. ولابد أن يظلوا يبيعون المشروعات، وعلاوة على ذلك لا تنقطع المهل المحددة الجديدة. ولذلك يضطرون لإضافة ساعات طويلة وتكون لهم ثقافة عمل يُنتظر منك فيها الاستمرار في السير، حيث تبذل جهدك باستمرار وتعطي أقصى ما لديك.
ناقشت في هذا الفصل كيف يمكن النظر إلى حالة الرفاهية على أنها “عامل تجسيد” محلي في الحياة العملية النرويجية من خلال العمل بنظام الإجازة الأبوية الذي يقوم على إعطاء الآباء حقًا خاصًا، وهو “حصة الآباء“. ويمثل نظام الإجازة الأبوية اختلافًا مع التفكير المجرد الخاص بالنوع لأنه شرعنة لحقيقة أن للمستخدَمين أجسادًا تنجب أطفالاً. كما أن له تركيزاً صريحًا على المستخدَمين الذكور باعتبارهم آباء بمنحهم إجازة من العمل لهذا السبب. وأنا أرى ذلك على أنه عملية إضفاء للصفة النوعية على الرجال وتجسيد لهم. فالآباء الذين يبقون في البيت يؤدون عمل الرعاية – يمارسون تلك الرعاية – التي توحي باستخدام قدر كبير من الوقت مع الأطفال.
وتتعارض هذه العملية الخاصة بتجسيد الآباء للاستفادة من الوقت في رعاية أطفالهم مع إدخال نظام وقت مرن جديد في الحياة العملية التي كثيرًا ما تؤدي إلى ضغط العمل لساعات أطول. وتتحول شركات العمل المعلوماتي على نحو كبير إلى تنظيمات عمل أكثر جشعًا تتطلب قيام مستخدَميها بإضافة المزيد والمزيد من الوقت. ولذلك كان تركيزي على ممارسات الرجولة داخل تنظيمات العمل ذات ثقافات الوقت المرن. وناقشت كيف أن بُني الرجولة المحلية، وهي في هذه الحالة تجسيد العمال الذكور النرويجيين كآباء، تتأثر بعمليات تجري في الأسواق الكونية وثقافات الوقت المرن. وقد استفدت من قصة مارتن في توضيح كيف أن عمليات الانضباط في ثقافة الوقت المرن تسهم في تجريد المستخدمين الرجال كآباء وبالتالي تعيد إنتاجهم كعمال مجردين. وهؤلاء العمال المجردون بلا تعهدات أو التزامات تقطع تركيزهم على العمل. والافتراض كذلك هو أن هناك شخصًا آخر يقوم برعاية العمل الإنجابي الضروري.
وهكذا فإن هناك توترات كبيرة بين عمليات تجسيد هؤلاء الآباء والعمليات التي تجسد الرجال باعتبارهم عمالاً منضبطين داخل نظام الوقت المرن. وفي حالة مارتن، يجبره هذا على إعطاء أولوية للعمل بالرغم من رغبته في متابعة عزمه “وضع أولوياته في ترتيبها الصحيح، حيث توضع الأسرة قبل العمل“. ومع أنه يرى أن عمله لا حدود له، فهو يشعر بأن هذا خطؤه هو. فالمسئولية تتسم بصبغة فردية.
لهذا السبب نستنتج أن الرقابة تتخذ أشكالاً مختلفة. وقد حاول تايلون تدريب الأجسام الفيزيقية عن طريق قياس حركاتها، وحاولت العلاقات الإنسانية تحسين صورتها الذاتية من خلال الدوافع النفسية، وتحاول “النزعة الثقافية” الخاصة بالشركات السيطرة على قلوب المستخدَمين مثلما تسيطر على عقولهم (Hassard et al.,2000) وقد نواجه الآن مرحلة رابعة، وهي ثقافات الوقت غير المحدود في الحياة العملية الجديدة المرنة، حيث تجعل عمليات الانضباط الخاصة بالتمكين وإضفاء الصبغة الفردية المستخدَمين أنفسهم القوة المحركة وراء الإنتاج. وليست هناك حاجة إلى رقابة من أصحاب العمل لأن العمل والتنظيم مصممان بحيث يجعلان العمال أنفسهم القوة الدافعة وراء عمليات الانضباط.
أحمد محمود:صحفي ومترجم.
من كتاب:Gendes, Bodies and Work Lavid Morgan et al. (Eds.) Hampshise: A shgate Publishing Ltd., 2005.
Acker, J. (1990), ‘Hierarachies, jobs, bodies: a theory of gendered organizations’, Gender and Society, 5: 390-407.
Adkins, L. and C. Lury (1996), ‘The cultural, sexual and the labour market’, in L. Adkins and V. (eds.), Sexuality and the Social. Power and Organization, London: Macmillan.
Barry, , D. and N. A. Hazen (1996), ‘Do you take your body to work?’ in D. Boje, R. Gephart and T. Joseph (eds.), Postmodern Management and Organization Theory, London: Sage.
Brandth, B. and E. Kvande (2001), “Flexible Work and Flexible in Work”. Employment & Society, 15 (2):251-267.
Brandth, B. and E. Kvande (2002), ‘Reflexive Fathers: Nagotiating Parental Leave and Working Life’ , in Gender, Work & Organization, 9 (2): 186-203.
Brandth, B. and E, Kvaned (2003), Flexible fedre (Flexible fathers), Oslo: Universitetsforlaget.
Budgeon. S/ (2003), ‘Identity as an Embodied Event’, Body & Society, 9 (1): 35-55.
Castells, M. (2000), The Information Age: Economy, Society and Culture, Vol. I, II, III, Malden, CA: Blackwell.
Connell, R. W. (1988), ‘Masculinities and Globalization’, Men and Masculinities, Vol. I nr. L 3-23, Sage Publications.
Connell, R. W. (2000), The Men and the Boys, Policy press.
Coser, L. (1974), Greedy Institutions: Patterns of Undivided Commitment, New York: Free Press.
Ellingsaeter, A. L. (2003c), ‘Postindustrielle tidskontrakter. Fra tidsdisplin til tidssuverenitet?’ (Post-industrial time contracts. Form time discipline to time sovereighy? ) in A. L. Ellingsaeter and J. Solheim (eds.): Den usunlige hand. Kjansmakt of moderne arbeidsliv, Oslo: Gyldendal akademisk.
Epstein, CF., C. Seron,. Oglensky and R. Saute (1999), The Part-Time Paradox. Time Norms. Professional Lives, Family and Gender, New York: Routledge.
Fucault, M. (1977), Discipline and Punish The Birth of the prison, Harmondsworth: Penguin.
Heckscher C. and A. Dommellon (eds.) (1994), The Post-Bureaucvrutic Organization. New Perspectives on Organizational Change, New York: Simon and Schuster.
Hewitt, P. (1993), About Time. The Revolution in Work and Family Life, London: Rivers Oram Press.
Hochschild, A. R. (1997), The Time Bind. When Work Becomes Home and Home Becomes Work, New York: Metropolitan Books.
Kvande,E. (1999), Paradoxes of Gender and Organizations. Gender, Organizations and Change, Dr. Polit avhanding, ISS, NTNU.
Kvande, E. (2002), ‘Doing Gender in Organizations, Possibilities and Limitations’ in I. E. Gustavsson and S. Andersson (eds.) Where have all the structures gone ? Doing gender in organizations-with examples from Finland. Norway and Sweden, Stockholm: Arbetslivsinstiutet. Kvande, E. |(2002), ‘Doing Maculinities in Organizational Restructuring’ , Nora. Nordic Journal of Women’s Studies. Special issue on Gender, Men and Masculinities, 10 (1): 16-26.
Pease, B. and K. Pringle (2001), A Man’s world? Changing Men’s Practices in a Globalized world, London: Zed Books.
Sennett, R. (1998), The corrosion of Character. The Personal Consquences of Work in the New Capitlism, London: Norton and Company Ltd.
Sewell, G. and B. Wilkinson (1992), ‘Someone to Watch Over Me: Surveillance, descipline and the just-in-time labour process’. Sociology. 26 (2): 271-89.
Shilling, C. (1993), The Body and Social Theary, London: Sage. Steingard. D. S. and D. E. Fitzgibbons (1993), ‘A postmodern deconstruetion of total quality management (TQM)’, Journal of Organizational Change Management. 6 (5): 27-42.
Sorhaub. T. (1996), Ledelse. Mokt og tillir I moderne organisering Oslo: Universitetsforiaget. Townley, B. (1994), Refaming Human Resource Management, London.