همومُ امرأةٍ عاملة
رغم ادعاءات المنادين بعودة المرأة للمنزل، ورغم صراخهم بأن مهمةَ المرأة المقدسة هي منزلها، وأنه لا مجال بالخارج يحتاجُ لجهدها، فهناك الكثيرُ من المهن تعتمدُ أساسًا على جهد المرأة، وتقوم على أكتافها. ونحنُ لا ندعي أن حياة المرأة خارج منزلها هي حياةٌ سلسلةٌ سهلة، وأنها في عملها تحققُ ذاتها بشكلٍ منسجمٍ وناعم، بل إننا من خلال هذه السلسلة من المقالات سنكشفُ الكثير من المعاناة والآلام التي تتعرضُ لها المرأةُ العاملة، منبهين أن هذه المعاناة أضافت إلى قوة أصوات المنادين بعودة المرأة للبيت، العديد من أصوات النساء الهاربات من جحيم المتاعب اليومية التي لا تنتهي، داخل المنزل وخارجه.
ونحن نرى أن تسليط الضوء على هذه المتاعب اليومية هو وسيلةٌ لفهمها، ولفهم كيفية مواجهتها، حتى لا يُحبط مشروع المرأة في بناء نفسها ككائن مستقل عامل ومكتمل. إننا ندعو المرأة أن تتفهم مشكلتها، وأن تنادي بتقسيم عمل عادل لأعمال المنزل وتربية الأطفال. وبمزيد من الخدمات الحكومية التي تُخفف أعبائها، مثل دور الحضانة – مواصلات خاصة للأعمال – نوادي للأطفال بالصيف – مغاسل عامة رخيصة – أكلات سهلة التحضير وبأسعار مُخفضة – مزيد من التسهيلات مع الحمل والرضاعة وإيجاد حلول مختلفة لمشكلة المرأة الأم، مثل العمل نصف الوقت بنصف الأجر أو بعض الأجر، أو في مواعيد مختلفة تتيحُ لها بدائل متعددة للعمل تتناسبُ مع ظروفها، وقبل هذا وأهم منه؛ رفع مستوى الأجور حتى لا يُطحن كلٌ من الرجل والمرأة في دوامة العمل يومًا كاملاً، ووقتًا إضافيًا لإيجاد قوت يومهم.
لقد حصلت المرأةُ على حقها في التعليم والعمل بجهد كثير من النساء. والمطلعاتُ على أحوال المرأة في مطلع هذا القرن، قبل حصولهنَّ على هذه الحقوق، يشهدن كيف عاشت المرأةُ قبل استقلالها الاقتصادي مضطهدةً، لا كلمة لها، متاعًا في منزل زوجها، يُغيرها وقتما شاء، ويتزوجُ عليها إن أراد . لا تستطيعُ لجهلها وعدم تبصرها أن تقود نفسها ولا أطفالها، فضلاً عن أن تكون ندًا لرجلها في المنزل، إن تركها عائلُها تحطمت حياتُها، إلا إذا أنقذها عائلٌ آخر بديل زوج أو أخ أو أب.
إننا اليوم نكشفُ معاناة امرأة هذا العصر، ونحنُ نعرفُ أنها معاناةٌ أرقى بكثير من معاناة جداتنا، إنها متاعب الاحتكاك بالمجتمع الخارجي، بما فيه من ظُلم واضطهاد. ولكن الوقوف في وجه هذه المتاعب وتغييرها من جانب النساء، سيكسبهنَّ المزيد من الثقة بقدراتهن وبأنفسهن، فضلاً عن تخفيف هذه الأعباء. نحنُ النساءُ العاملاتُ القادراتُ على كسب عيشنا، نحن الزوجاتُ والأمهاتُ، نحن نصفُ هذا المجتمع الفعال لا الخامل، قادرات على تغيير ظروفنا بأنفسنا، ورافضاتٌ أن يسلبنا أحدٌ حقنا في القدرة على الحياة مُستقلات، ومن أجل هذا، نحن نحاولُ أن نتفهم مشكلاتنا ونطالب بحلولها.
لقد تضمن تحقيقنا هذا استقصاءً بين بعض العاملات بمهنة التمريض حول الأسباب التي دفعتهن للعمل ولاختيار هذه المهنة بالذات، وحول شكل التأهيل للمهنة، وعدد ساعات العمل والراتب والأجر الإضافي، والمشاكل المرتبطة بالمهنة وبالوضعية المزدوجة للمرأة كعاملة داخل المنزل وخارجه. أيضًا تضمن الاستقصاءُ أسئلةً عن أسباب هجرة الممرضة من العمل الحكومي للمستشفى الخاص والدول العربية، وعن تصورهن للعمل النقابي وحلول مشاكلهن. تكونت العينةُ من ثلاثة وثلاثين ممرضة، تعملُ أغلبهنَّ بمستشفيات وزارة الصحة وجامعة عين شمس ماعدا ستة ممرضات، يعملن بمستشفى خاص، إضافةً إلى استفتاء آخر بين ستة عشر تلميذة بإحدى مدارس التمريض، حول نموذج من المشاكل التي يلاقونها أثناء التعليم. وقد عبرت أغلبيةُ العينة عن رغبة مُخلصة في دخول مدارس التمريض، لاقتناعهن بمهنة التمريض كمهنة إنسانية، ولاعتبارها متناسبةً مع إمكانياتهن كنساء – أقلية من العينة أجبرهنَّ المجموعُ أو قربُ المدرسة من سكنهن على دخولها . وفترةُ الدراسة بتلك المدارس ثلاث سنوات. السنة الأولى معظمها دراسة نظرية، وتزداد ساعات التدريب العملي مع تقدم الدراسة، وابتداءً من السنة الثانية تعملُ الفتيات مناوبات الثامنة مساءً إلى الثامنة صباحًا، ويتراوحُ عددُ هذه المناوبات بين اثنين وثلاث مناوبات أسبوعيًا كما تجبرُ بعضُ المدارس طالباتها على العمل شهرين في إجازة الصيف، والفتيات لا يصرفن لهن مرتب، وإنما مكافأة شهرية تبلغ ثلاث جنيهات بالسنة الأولى، وبين ثلاثة وستة جنيهات بالسنة الثانية، وما بين ثلاثة إلى ثماني جنيهات بالسنة الثالثة. رغم أنَّ الطالبات يُكلفنَ بأعمال تمريضية عادةً في هذه التدريبات.
وبعد انتهاء الدراسة تُكلفُ الفتيات بالعمل في المستشفيات الحكومية براتب ثلاثون جنيهًا شهريًا، وقد كان هذا الراتبُ هو مصدرُ دخلهنَّ الوحيد حتى سنة 1983 حيث بدأن يحصلن على بدل مناوبات يبلغ جنيهًا عن المناوبة من الساعة الثانية ظهرًا إلى التاسعة مساءً، وجنيه ونصف عن المناوبة الليلية. وليت متاعب التمريض تقفُ عند حدود المتاعب المادية، فالمعاناةُ الأكبر هي في تقبل المجتمع لخصوصية عملهن. حيث يعدن من مناوبة الظهيرة لمنازلهنَّ البعيدة عن أماكن عملهن عادةً بعد العاشرة مساءً، ويخرجن صباحًا الساعة السادسة للحاق بعملهنَّ، ومع هروب الكثيرات منهن من العمل بالمستشفيات الحكومية، يقل عدد الممرضات، وتواجهُ الإدارةُ هذا النقص بإرغام الباقيات من الممرضات على مزيد من المناوبات، كما تُكلفُ كل ممرضة برعاية أعداد متزايدة من المرضى. وتأتي الطامة الكبرى بعد الزواج؛ حيث تواجه الممرضة الزوجة برفض زوجها للمناوبات المسائية والسهر، مما يؤدي لاضطراب حياتهنَّ الأسرية.
وتزيدُ الأعباءُ إذا أنجبت الممرضة، حيثُ تسهرُ بالمستشفى وتكون مضطرةً للعمل بالمنزل ورعاية أطفالها صباحًا، فلا تستطيع النوم لا مساءً ولا صباحًا، وقد اضطرت كثيراتٌ منهنَّ لمواصلة الليل بالنهار دون نوم أيامًا عديدة خلال شهر السهر، الذي يُفرضُ عليهن عادةً كل ثالث شهر، مما يؤدي لإيقاعهن بدنيًا ونفسيًا، حتى إن كثيرات منهن يتركن العمل بالحكومة ويلجأن للتوظيف بعيادات ومستوصفات صغيرة، وبراتب ضئيل وبدون ضمانات، لأن هذه الأعمال لا تتطلب السهر.
وتهربُ الممرضاتُ إلى العمل الخاص، لضآلة المرتب الحكومي. ويصلُ راتبُ الممرضة بالمستشفى الخاص إلى ثمانين جنيهًا لمن تعمل فترةً واحدة، أو مائة وخمسون جنيهًا لمن تعمل فترتين يوميًا.
ورغم هذه الإغراءات، فتلك العينةُ مازالت تفضلُ العمل بالحكومة لأنهُ أكثرُ أمانًا، ولا يوجد به فصلٌ تعسفي، ولوجود تأمينات اجتماعية ومعاش.
والسفرُ للخارج حلمٌ يراودُ نصف العينة لتحسين شروط حياتهنَّ المادية. أما النصفُ الآخر فيُحجمن خوفًا من الغربة أو لرفض الزوج أو الأب للسفر، ولكن اتفقَ الجميع على أن أسباب الهجرة للخارج هي سوء الأحوال المالية، وسوء المعاملةِ داخل المستشفى الحكومي، وتكليفهنَّ بالعمل فوق طاقاتهنَّ لسد احتياج العمل، وعدم وجود أي خدمات للمرضى مثل دور حضانة أو مواصلات خاصة تُناسب ظروف تشغيلهن.
وفي الحديث عن النقابة، فكلهنَّ باستثناء واحدة، علاقتهنَّ بالنقابة هي دفع الاشتراك. وعدا ذلك لا يوجد تعامل مع النقابة ولا حتى حضور الانتخابات. وقد أعربنَ جميعهن عن عدم ثقتهن بقدرة النقابة الحالية على تغيير ظروفهن. وقلن أن متاعبَ الحياة اليومية المستمرة تمنعهن عن المشاركة في أي عمل نقابي، وقد أبدى الأكثرُ وعيًا منهنّ الخوف من اضطهاد الإدارة لو شاركن في عمل جماعي داخل مؤسساتهن.
وعند سؤالهن عن استعدادهنَّ لترك العمل والتفرغ للمنزل، أبدت كل المتزوجات – أربعة من العينة – موافقتهن إذا سمحت ظروفهنَّ الاقتصادية “زيادةُ راتب الزوج” إلا في حالة قبول رغبتهنَّ في رفض نوبات السهر بعد الإنجاب – خمسة من غير المتزوجات وافقن على ترك العمل إذا طلب الزوج ذلك مستقبلاً، واثنتان تطوعتا بترك العمل بعد الزواج بدون طلب الزوج – الباقيات اثنان وعشرون ممرضة يرفضنَ ترك العمل طلبًا لزيادة الدخل والاستقلال المادي، أو دفعًا للملل وحبًا في مهنتهن.
العينة الثانية من التلميذات بإحدى مدارس التمريض تكلمنَّ بحرارة عن أحوال الدراسة والسكن، ومُعاملة الأطباء، والعمل الشاق بالمستشفى، كما أفدن بأنهن يفتقدن جهةً أو سلطةً مسؤولةً عنهن يتقدمن لها بمشاكلهن ويقارن بين الممرضة المصرية وزميلتها الأجنبية في نفس المستشفى، حيثُ تُعتبرُ الممرضة الأجنبية أساسًا من الفريق الطبي، ورأيها له وزنه، بينما تفتقدُ زميلتها المصرية هذا التقدير، ولا يُعتدُّ برأيها ولا يُؤخذ بأي ملاحظة تُعبر بها عن المريض، مما يبعثُ في نفوسهنَّ اليأس من مستقبلهنَّ المهني. التلميذات يتبعن جميعاً النظام الداخلي، فيسكن في سكن الطالبات.
عدد التلميذات بالحجرة الواحدة يتراوح بين أربعة وثمانية، وفي الحالة الأخيرة تنام كل اثنتين منهما على سرير. الخدمةُ والنظافةُ بالسكن سيئةٌ جدًا وغير صحية، ولا يُسمحُ للفتيات بالخروج من السكن لشراء طعام. إذا حدث وخرجت أي تلميذة من المستشفى بعد الساعة السابعة، واكتُشف أمرها، تُمد فترةُ دراستها ستة شهور أخرى بتأجيل امتحانها – ولا تحصلُ الفتياتُ على شهادات نجاح بعد كل سنة، وبالتالي فإن أي فتاة ترغب في تغيير المدرسة أو التحويل من النظام الداخلي للنظام الخارجي، قد يترتب على رغبتها تلك أن تبدأ دراستها من البداية لعدم وجود إثبات لما أنجزتهُ من سنوات دراسة. الفتيات يعملن بالمستشفى ويحضرن المحاضرات في نفس الوقت، وإذا تعارضت المواعيدُ فالأولويةُ للعمل، ولا توجدُ لديهم إجازةٌ من العمل للتحضير للامتحان.
والآن بنظرة متفحصة لنتائج هذا الاستفتاء الصغير:
نرى أن متاعب الممرضة تبدأُ من عهد دراستها، من نظام دراسي مستبد أقربُ لنظام الثكنات العسكرية، أو ساعات عمل غير مدفوعة الأجر وقت الدراسة، إلى افتقادهن لجهة أو هيئة مثل اتحاد الطلاب تُعبرُ عنهن وعن مشاكلهن وتتصدى لإدارة المدرسة.
ويُظهرُ الاستفتاء أن أغلبية الفتيات اخترن مهنتهن عن حب، وأنَّ الغالبية أيضًا ورغم كل المتاعب؛ يرفضن ترك العمل والعودة لنعيم المنزل المدعى، وأن نسبةً من الممرضات المقتنعات بالعودة للبيت يفعلن هذا تحت وطأة المتاعب اليومية، مثل تشغيلهن في غير الأوقات المناسبة لهن.
ومن هذا يتضحُ بجلاء أنه حتى في هذه المهنة المحاطة بالمتاعب، من سوء التقدير المادي والأدبي، وسوء معاملة الزملاء من أطباء وإدارة، وحتى سوءِ معاملةَ الجمهور العادي، وفي ظل ظروف حياتية خانقة ما زالت السيداتُ يجدن عائدًا من عملهن ماديًا ومعنويًا يمنعهن من الاستجابة للحل الأسهل، وهو العودة للبيت.
ولكن للعملة وجهها السلبيُّ أيضًا، حيثُ تحولُ المتاعبُ اليومية وعدمُ الوعي بين هذا الفريقُ من النساء العاملات المجهدات، وبين طوق نجاتهن، وهو عملهن المشترك معًا على تغيير ظروف حياتهن وعملهن للأفضل من خلال تنظيم نقابي قوي ومؤثر وهكذا تدورُ الممرضةُ العاملةُ في الحلقة المفرغة. فمتى تنكسرُ هذه الحلقة الشريرة؟؟ ..