تذكير .. تأنيث .. تهميش الهوية

الشركاء: اختيار

كتابة:

تذكير .. تأنيث .. تهميش الهوية

غالبًا ما نتحدث عن النوع الاجتماعي بطريقة مبسطة جدًا، فالطريقة التي نقل لنا بها المجتمع المفاهيم المتعلقة بالنوع الاجتماعي محصورة في ثنائية تشير إلى أن كل علاقات الأفراد تكون بين الرجال والنساء بشكل يتبع تراتبية صارمة. نظرًا للطريقة التي تعلمنا منها كيفية فهم النوع الاجتماعي، فإنه من المنطقي ألا نتصور وجود أي شيء خارج ثنائية الذكر والأنثى. فوق ذلك فنوعين اجتماعيين لا يسجلان بدقة مجموعة الهويات الأخرى الموجودة ضمن الجنس البشري. فالاختلافات دومًا تعتبر كنوع من التشوش في أحسن الأحوال وكنوع من الفسق والخروج عن القانون في أسوأ الأحوال. تأتي محاولاتي للكتابة عن النوع الاجتماعي من منظور أنه مجموعة من الهويات بلا حدود لا نسمع عنها وتقبع على الهوامش كعاقبة لفرض ثنائية النوع الاجتماعي المدعومة بواسطة المجتمع الأبوي” . فكما ذكرت فالنوع الاجتماعي بلا حدود ويحتاج إلى تعزيز بواسطة القابعين على الهوامش, المستعدين لكتابة وتوثيق قصصهم الحياتية. كشخص ناشز عن المعايير ومعترضة على ثنائية النوع الاجتماعي أتفهم مدى الحاجة إلى سرد يمثلني كنوع من التوثيق لوجودي على هذه الأرض، إن تكميم أفواه المهمشين الخارجين عن الثنائية المفروضة اجتماعيًا هو عبارة عن تأكيد من المجتمع على أن ثنائية النوع الاجتماعي هي الطريقة الوحيدة للوجود وذلك يتعارض مع من يعرفون أنفسهم بالـ Gender Queers أو الخوارج1 جندريًا.

أنا خارجة الجندر ولكن قبل أن أمضي في حديثي أحب أن أشدد على أن هناك فارق كبير بين الخروج الجندري والخروج الجنسي. وخروجي الجندري ببساطة هو أنني لا أصنف نفسي كرجل ولا امرأة. أتفهم لو أن الأمر مُحيّر، فمنذ أن بدأت أصنف نفسي كخارج جندريًا كان الأمر مثيرًا للحيرة بالنسبة لي أيضًا أصبحت مستوعبة وجود مدى واسع من الهويات خارج ثنائية النوع الاجتماعي. فكم من السنوات جعلتني أشعر كالغريب بين زملائي ومعارفي وتمنيت التراجع عن هويتي، فتبني شيء مختلف من منظور المجتمع صعب وبالتحديد عندما نستخدم المصطلح طبيعيللإشارة لمعايير جندرية مُصنعة اجتماعيًا. علمًا بأنك لا تتناسب مع ما يتوقعه المجتمع منك وفى الوقت نفسه تحاول الالتزام بتلك الفروض المجتمعية فهذا مدمر لكيانك الوجودي . وهذا ما يفعله المجتمع الأبوي الثنائي مدعي الصلاح والحامي للأخلاق.

خروجي الجندري يأتي كجزء معقد وبالغ الأهمية من شخصيتي فما أنا عليه الآن نتاج سنين من نشأتى وأنا أشعر كغريبة ووحيد ومختلفة، فحاولوا أن تتخيلوا نشأتكم مثلى في مجتمع محافظ في مدينة صغيرة شمال شرق القاهرة.

لو أن تخيل ذلك مخيف فذلك لأنه مخيف جدًا فعلاً.

مرحلة نشأتي كانت مرعبة فلم يكن هناك أي مساحة للتساؤل، وذلك تعارض بشكل سيء مع طبيعتي الدائمة التساؤل عن كل شيء. أردت تفسيرًا لكل شيء وما زلت باحثة عن الأجوبة خصوصًا فيما يتعلق بالنوع الاجتماعي وتوقعاتنا للأفراد طبقًا لنوعهم الاجتماعي سواء كان مفروضًا عليهم أو ما تأقلموا عليه. وهذا واضح في طفولتي وكرهي للألعاب المجندرة أو المصنفة طبقًا للنوع الاجتماعي. فقد كنت منزعجًا من فكرة أن هناك ألعاب للأولاد وأخرى للبنات، فمن أين جئنا بتلك القيود والحدود للأطفال ؟ أنه لا يمكن لولد اللعب بدمية وأنه لا يمكن لبنت اللعب بسيارة لعبة إنه لشيء سخيف خصوصًا أن هؤلاء الأولاد سوف ينجبون أطفالاً يحتاجون إلى الرعاية ويومًا ما سوف تقود تلك البنات السيارات. إن لم يعكس ذلك كم أن الأدوار المجندرة مختلقة وخاطئة فيجب علينا النظر إلى عبثية الألوان المجندرة. اللون الوردي والبنفسجي مخصصين للبنات ولكن الأسود والبني مخصصين للأولاد، لا أعرف كيف توصلنا لهذه الفرضية ولكن شيء واحد مؤكد وهو أن هذه الفرضية منافية للمنطق وسخيفة. فهي دورة لا نهائية من الاستغلال الجندري فحتى ملابس الأطفال محددة بشكل كبير بالمعايير الجندرية, فالفساتين للبنات والسراويل القصيرة والقمصان للأولاد بلا استثناء.

خلال نشأتي أردت بشدة أن أتحرر من تلك الأدوار المجندرة المقيدة الخانقة, فلم أستطيع قبولها وكانت بالنسبة لي هراء تام وصريح. أحسست بأنني محاصرة بكل هذا المفروض المتعلق بكينونتي بدون أي مساحة للتفاوض. لم أفهم لماذا لا أستطيع أن أفعل ما أشاء وما يجعلني سعيدة.

بالرغم من كل ذلك لم يستطع أحد أن يردع محاولتي للتحدي والاعتراض على مفاهيم النوع الاجتماعي المفروضة. فأنا لست نتاج هذا المجتمع الأبوي، وأنا مزدهرة رغمًا عن أنفه. فلقد نشأت مغرمًا باللون الوردي واللعب بالدمي وأدوات المطبخ اللعبة. وتجاوزت خطوط مجندرة متزمتة بكل سعادة ولكن كنت أنا فقط سعيدًا، فسعادتي هذه أخلها استبداد أبي وطغيانه الذي لم يستطع قبول أن طفله مغرم بكل شيء أنثوي“, على الرغم من إصراره على أنه أبٌ راع لبناته وزوج صالح لزوجته ولكن عنده كراهية واضحة لكل ما هو أنثوي. فكم من المرات قال لى مش هتبطل تبقى خولأو مش هتسترجل، مرات أكثر مما أتذكر، كراهيته لما أنا عليه كانت قوية لدرجة أنه لجأ لضربي. أتذكر بشكل واضح عندما كنت ألهو بأحمر شفاه أمي ورآني، ضربني بقسوة حتى اليوم أستطيع أن أتذكر أثر لكماته على جسي ولسعات صفعاته على وجهي. كل هذا لأننى لم أكن ذكرًابالقدر الكافي له.

أبشع شيء في خروجي الجندري هو أن الأمور لا تتحسن أبدًا. فسنين مراهقتي كانت أشبه بكابوس، ولكنها تزامنت مع صحوة هويتي. فمررت خلال نقلة هائلة لمنظوري في الحياة، وبالرغم من محاولات الضغط لقولبتي وتشكيلي في قالب لم يناسبني أبدًا فقد قاومت ولا زلت أقاوم لهذه اللحظة. كونى ذكر، كان بمثابة عبء ثقيل ولم أستطع تحمل الضغط المجتمعي لأكون قويًا كما يجب على أي رجل، ببساطة أنا لم أرغب في أن أكون قويًا ولكن لم يوجد أي خيار سوى التصنع حملت عبء، تصنع كوني مغايرًا وبكوني قويًا, فالرجولية حتمت علي أن أشعر بالتميز ولكن كل هذا لم يشكل الحياة التي رغبت فيها. يبدو التظاهر حلاً سهلاً للتعامل مع مجتمع رافض لوجودك, ولكن حاول أن تتخيل وجودك بشكل يومي وأنت تحاول أن تخفي ما تريده, وما تحسه، وكيف تعيش، ومن تحب، فكل هذا مؤسف بشدة ويقتلك بشكل بطئ.

بدأ شعوري بعدم الرضا والاستياء من كوني ذكرًا يتضاعف بمرور الوقت فدخلت في حالة من الحيرة التامة. شعرت بالوحدة كأنني الشخص الوحيد في العالم الذي ينتابه هذا الشعور. من الطبيعي أن لا يكره أحد كونه رجلاً بكل الامتيازات المكفولة لكونك فقط رجلولكني مقتُ هذا الامتياز، ولا زلت أمقته . فالذكورة ظالمة وقمعية بالنسبة لي، لأنني لا أريد معاملة خاصة، ولا أريد أن أكون مفضلاً عن شقيقاتي لامتلاكي عضوًا ذكريًا. الذكورة ما هي إلا مظهر زائف لأنه على الرغم من أنها تمنح امتيازات لهؤلاء الذين يصنفون أنفسهم كذكور, فإنها لا تحميهم. بالتأكيد أستطيع أن أسير في الشارع دون أن يتحرش بي أحد ونادرًا ما أفكر ما إذا كانت ملابسي ملائمة ولن تتسبب في حكم الناس عليّا وهو شيء تفكر فيه كل امرأة بشكل يومي. ولكن الذكورة لم تحميني من التعرض للاغتصاب.

لقد تم اغتصابي وكان هذا من أحلك اللحظات في حياتي، وجعلني هذا كارهًا لشذوذي، وفكرت في أنني ربما أستحق الاغتصاب لكوني مختلفا. تعرضي للاغتصاب غذى كراهيتي لذكورتي، فلم أعد أود أن أكون ذكرًا، لأن الذكورة كانت استعراض للقوة بالنسبة لي ومكنت رجلاً من استغلال تلك القوة ونتج عن ذلك اغتصابي. فالرجال تم تعليمهم أنهم محصنون، وأنهم يستطيعون أن يفعلوا ما يشاؤون دون أي عواقب، وهذا في حد ذاته خطر جدًا. فالرجل الذي اغتصبني كان يعلم أنني لن أكون قادرًا على الإفصاح عما فعل، وأنه سوف يفلت من أي عواقب. فالرجولية كما هي مقررة من خلال الثنائية الجندرية الصارمة علمته أنه صاحب امتياز وأعظم نفوذًا.

عندما أتحدث عن الحاجة لتكسير الثنائية الجندرية، فأنا لا أفعل ذلك لأننى أريد أن أعبر عن نفسي كما أشاء، على الرغم أن هذا جزء كبير من كوني خارج جندريًا، ولكن لأن الثنائية الجندرية هي أصل عدم المساواة الذي نتعرض له ويجب أن تتوقف.

المسألة ليست ألعاب أو ملابس أو مستحضرات تجميل، ولكنها الحياة نفسها !

كوني بالغة وأحاول البقاء حيًا بالرغم من كل ذلك أمر منهك، ويؤثر على صحتي النفسية. خلال عملية تناسي كل القبح الذي بثه المجتمع لي، وخلال رحلتي لاكتشاف وتقبل ذاتي كما هي تنازلت عن ذكورتي، فأنا لم أعد أصنف نفسي رجلاً، وبالرغم من أنني سوف أكون دومًا مقرونًا بالامتياز الذكوري فسأظل دومًا رافضًا له طالما أنني واعية بدوره وكيفية عمله في الأماكن العامة، لأنني لن أكون متواطئة مع نظام له دور كبير في قهري .

سيظل المجتمع يحاول جاهدًا حصري داخل الثنائية الجندرية، ولكني سأظل دومًا متحديًا لها بكل بساطة بوجودي كخارج جندريًا.

خروجي الجندري هو بمثابة ثورتي على مجتمع فرض مفاهيمه الأبوية عليَّ، هو أداتي لتكسير الثنائية الجندرية للوجود خارجها ومقاومة أي محاولة لمحوي. خروجي الجندري هو هويتي التي شكلت نتيجة العديد من الصراعات الداخلية والخارجية، ولكنني لست وحيدا.

للمناضلين، والذين لا زلوا يخوضون معاركًا مع شياطينهم الداخلية والخارجية أنتم لستم وحيدين فأنتم موجودون طالما تقاومون.

 

1 مصطلح الخوارجمن باب تكفير المسلمين المعارضين، فالجماعة السياسية المعارضة للحاكم يتم قتالها وإبادتها بتهمة انتماءها للخوارج؛ وفضلنا استخدام المصطلح هنا لتوصيل فكرة رفض المجتمع وقتاله ومحاولته لإبادة الجماعات التي يعتبرها متمردة على ثنائية الذكر والأنثى.

شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات