تطور الوعي التاريخي في الثقافة العربية
هل نالت “صنعة التاريخ” في الثقافة العربية الإسلامية القدر الكافي من الالتفات الذي تستحقه؟ سؤال آثار ومازال يثير اهتمام المهتمين بالتراث العربي الإسلامي. لقد ظهرت العديد من الدراسات التي حاولت كشف النقاب عن ما وصل إليه الوعي التاريخي في الحضارة الإسلامية، وتوضيح التأثيرات المختلفة التي شكلت هذه الصنعة وتشكلت بها. من ضمن الدراسات العديدة في هذا المجال وقع اختياري على عملين مميزين اتفقا في الموضوع واختلفا في الزمن والمنهج الأسلوب. العمل الأول للدكتور طريف الخالدي أستاذ الدراسات العربية بجامعة كامبردج وهو بعنوان “فكرة التاريخ عند العرب من الكتاب إلى المقدمة” (جامعة كامبردج عام ۱۹۹۹)، أي ينتمي إلى الحقبة الأخيرة من القرن العشرين. أما العمل الثاني فينتمي للعصور الوسطى، القرن الخامس عشر الميلادي، وهو بعنوان “الإعلان والتوبيخ لمن ذم التاريخ” للمؤرخ المصري المعروف شمس الدين السخاوي (١٤٢٨ – ١٤٩٦) اجتهد كل واحد من هذين المؤرخين لرسم صورة شبه كاملة لتطور الفكر التاريخي في التراث العربي الإسلامي. فطريف الخالدي يحاول في كتابه أن يطوف بتراث كامل من الفكر والكتابة التاريخيين على امتداد ثمانمائة عام،من القرن الثامن الميلادي وحتى القرن الخامس عشر الميلادي.
فكما هو واضح من عنوان الكتاب يبدأ الخالدي بالكتاب (القرآن) وينتهي بالمقدمة (مقدمة ابن خلدون) حيث يرى أن الفكر التاريخي بلغ الذروة مع ابن خلدون. يتفحص الخالدي من خلال كل هذا كيف نظرت الثقافة العربية الإسلامية إلى ماضيها وكيف دونته في العصر قبل الحديث. وهو يرى أن علم التاريخ قد تأثر باربع قباب أو “مظلات” معرفية وهي الحديث والأدب والحكمة والسياسة، ويعرض الأهم المؤرخين الذين اعتبرهم هو أشهر المستظلين بكل “مظلة“. قسم الخالدي عمله إلى خمسة فصول وخاتمة في الفصل الأول تحدث عن أهمية القرآن في التاريخ الإسلامي وكيف أن العرب تعلموا تاريخاً جديداً يوم اكتسبوا ديانة جديدة. فالقرآن كان مصدرًا للأفكار في التاريخ وبمثابة “مستودع للأمثلة التاريخية المطروحة للتأمل“. ثم ينتقل الخالدي إلى “علم الحديث” الذي يرى أنه قد خدم علم التاريخ وجهزه بأهم الأدوات لإثبات الصحة وأرشده لطريق الإسناد. فالتاريخ تحت مظلة الحديث كان يعني الحفاظ على ماضي الأمة لكن التركيز هنا كان على طريقة نقل الأخبار، فليس الأساس كون الخبر ممكنًا أو غير ممكن ولكن المهم هو طريقة نقل الخبر. وقد استمر الحديث يغطي علم التاريخ بظلاله في الفترة من القرن السابع الميلادي إلى القرن العاشر. فمع التطور والفتوحات بدأ التاريخ يتطور ويتوسع خارج حدود سيطرة الحديث وظهر عجز أساليب الحديث في مواجهة بعض المواقف ولذلك ظهرت الحاجة إلى تطبيق معايير جديدة عند اختيار الروايات وعند تقييمها، ومن هنا بدأ التاريخ يتأثر بالأدب ويدخل تحت مظلته تدريجيًا. فالتاريخ تحت مظلة الأدب أصبح سجلاً للحضارة الإنسانية به أنماط ونماذج يسترشد بها السلوك السياسي والأخلاقي فضلاً عن أن التاريخ تحت ظلال الأدب أصبح من حقه أن يمتع ويسلي بقدر ما هو من حقه أن يعظ ويرشد. بعد ذلك ينتقل الخالدي إلى الحكمة ويوضح كيف أن الحكمة مست التاريخ وطرحت ظلالها عليه خلال القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين فخلفت لنا تاريخاً “أدق وأحسن ضبطًا وأشبه بالقانون وأقرب للفائدة العلمية وأعمل بمنهج المقارنة“، حيث أن التاريخ بما هو حكمة كان يعني توجيه الاهتمام لدور الطبيعة العقلانية في قبول الأخبار لتنقية الدين من الخرافات. ومن الحكمة ينتقل الخالدي إلى المظلة الرابعة وهي الخاصة بالسياسة والتاريخ فيوضح أنه في الفترة من القرن الثاني عشر وحتى القرن الخامس عشر ميلادي، ظهر تأريخ جديد تحت مظلة السياسة تمثل بأجلى صوره فيما يسمى بالتأريخ البيروقراطي أو السلطاني، كيف أن المعرفة التاريخية أصبحت هي كل ما يتعلق بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بسياسة الممالك أو الملوك أي أصبحت هناك علاقة بين مصادر هامة يستشهد بها كثيرًا في كتابة التاريخ. في نفس الوقت تداخلت كتابة السير بالتاريخ حتى أصبحت ألفاظ مثل التراجم والسير مرادفة للتاريخ. ويوضح الخالدي أن مؤرخي هذه الفترة جاءوا من صنوف العلماء وكبار البيروقراطيين وباتوا إما دعاة للدولة أو مستفيدين من سخاء الدولة. وفي تناول الخالدي الموضوع التاريخ والسياسة نجده يفرد جزءًا خاصًا لابن خلدون باعتباره نموذجًا بارزًا للكتابة والنقد التاريخيين ذي المنحى السياسي.
إن تحديد الخالدي لهذه المظلات الأربعة وتحديد بدايات ونهايات كل واحدة منها لم يكن يعني أن تأثير هذه المظلة انتهي في هذا القرن أو ذاك، إنما الغرض منها تعيين الفترة التي بلغت خلالها المظلة أقصى مدى نظري لها لتوضيح كيف كان “تطور الفكر التاريخي بالتناغم مع اتساع الثقافة العربية الإسلامية“، إلا أن عملية تصنيف المؤرخين تصنيفاً صارماً تبعًا لهذه المظلات كان أمراً عسيراً معقداً، فالمظلات الأربعة لم تكن منفصلة بعضها عن بعض، فضلاً عن أن كثيرًا من المؤرخين كان يستظل بأكثر من مظلة في نفس الوقت،ويقول الخالدي بصدد هذه المشكلة “أنا لا أسعى إلى فرض تصنيف كهذا فرضاً اصطناعيًا على كل المؤرخين إنما أحاول تحديد الإطار المعرفي الذي تحركوا داخله من أجل فهم المدى الكامل لتنوع أساليبهم التاريخية ومناهجهم” فالخالدي طوال العمل أكثر ما اهتم به هو محاولة فهم الظروف والخلفيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية لكل مؤرخ لكي يلم بتأثير ظروفه وطريقة تلقيه الماضي “وغربلته بغرباله الخاص ونقله إلينا“. ومن ذلك نجد أن المنهج الذي اتبعه الخالدي طوال هذه الدراسة هو المنهج التنظيري والتحليلي، فقد قام بتحليل خلفيات المؤرخين وإنتاجهم التاريخي والأدبي فضلاً عن التحليل الواعي للأطر الفكرية (أو المظلات المعرفية) التي كان يتحرك فيها هؤلاء المؤرخون.
إن كتاب الخالدي عمل شيق وقيم ومليء بالمعلومات ومتعدد الجوانب والأبعاد فهو ليس مجرد سجل يسجل مسيرة عظماء المؤرخين ولكنه مسح شامل لمناخ الفكر التاريخي العربي الإسلامي الذي بلغ ذروته مع ابن خلدون في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، وأوائل القرن السادس عشر الميلادي. غير أنني كنت أود لو أن الخالدي قد مد فترة دراسته قليلاً فتظلل قبابه أو مظلاته أعمالاً تاريخية في القرن التالي لابن خلدون حيث كان يهمني أن أعرف رأيه في السخاوي المؤرخ المملوكي الذي سبق الخالدي في تقييمه لـ “لصنعة التاريخ” وفي دراسته لتطور الفكر والوعي التاريخي في الحضارة العربية الإسلامية. فالسخاوي بشهادة الخالدي نفسه لم يحصل على الاعتناء الذي يستحقه، “فمؤرخو ابن خلدون الكبار كالمقريزي والسخاوي وابن طولون في القرن التالي لم يحصلوا بعد على الاعتناء الذي يستحقونه بوضوح“. لذلك رأيت أنه عند مراجعة كتاب الخالدي “فكرة التاريخ عند العرب“، يجب ألا نغفل عن السخاوي وجهده السباق في هذا المجال.
السخاوي هو شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي ولد سنة ١٤٢٨م بالقاهرة، وتوفي سنة ١٤٩٦م. يعتبر كتابه “الإعلان والتوبيخ لمن ذم التاريخ” إحدى المقالات أو الدراسات عن فلسفة التاريخ. ويحاول السخاوي من خلال هذا العمل أن يكشف النقاب عن مدى ما وصل إليه التأريخ في الحضارة الإسلامية، فيبدأ بتعريف علم التأريخ وتحديد فوائده،ليقدم دفاعاً جيداً عن هذا العلم ضد كل من يذم التاريخ وينتقص من قدره. بعد ذلك يعدد الشروط التي يجب توافرها في المؤرخ ومن هنا فهو يتعرض لموضوع تحديد أول من أرخ التاريخ، ويذكر أراء العلماء المختلفة حول هذا الموضوع، ثم بعد ذلك يفرد جزءاً من كتابه ليحصر فيه المؤلفات المختلفة التي صنفت في التاريخ، أنواعها ومقاصدها وأسماء مؤلفيها معتمدًا في ذلك كله على ما توصل إليه المؤرخ الذهبي في هذا الصدد. بعد هذا الحصر يورد السخاوي قائمة بأسماء المؤرخين مرتبة ترتيبًا أبجديًا بغير الدخول في تفاصيل إنتاجهم التاريخي،ويقول أنه يريد بذلك أن يقدم طريقتين مختلفتين لجمع المؤرخين. وفي النهاية ينهي السخاوي عمله بجزء عن المتكلمين من الرجال أي علماء “الجرح والتعديل.”
من العرض السابق لكتاب السخاوي نلاحظ أنه قسم عمله إلى قسمين: قسم يتناول علم التأريخ بجوانبه المختلفة، وقسم عبارة عن حصر أو سجل بأسماء المؤرخين. العمل بوجه عم يعطي صورة كلية لعلم التاريخ وتطوره حتى عصره، وهو محاولة عظيمة للدفاع عن علم التأريخ ولتوضيح قيمة “صنعة التاريخ” في الحضارة الإسلامية. كان السخاوي سباقًا في القيام بمثل هذا العمل إلا أنه وقع في عدد من الأخطاء التي كانت سمة من سمات عصره وهي السرد والاستطراد وعدم التنظيم، فنجده يهتم بجمع التفاصيل وسرد التفريعات،كما وقع كثيرًا في نوع من التكرار والتطويل وعلى الرغم من أنه كثيرًا ما صرح في أكثر من موضع أنه لم يهدف إلى الحصر والاستيعاب إلا أن عمله في واقع الأمر هو مجرد عملية حصر بدون أبعاد تحليلية أو محاولات لفهم خلفيات هؤلاء المؤرخين التي اهتم بها الخالدي. غير أن السخاوي سجل لنا في عمله هذا الكتابات التي صنفت في تاريخ فئات المجتمع الفرعية مثل “الضعفاء،المتروكين، العور،العمش،العميان،الحدبان،المعمرين،والشبان“، وقد وضعهم السخاوي في نفس القائمة مع الكتب التي صنفت في تاريخ الأعيان والأمراء والعلماء وغيرهم من المشاهير والأعلام وهذا دليل على أن مؤرخي العصور الوسطى ربما قد سبقوا باحثي العصر الحديث في الاهتمام بمثل هذه الفئات على هامش الحياة الاجتماعية. فضلاً عن أن تضمين السخاوي لهذه النوعية من الكتابة التاريخية أضفت على العمل قيمة كبيرة، وجعلته مصدرًا هامًا لباحثي العصر الحديث المهتمين بتأريخ مثل هذه الفئات المهمشة. واهتمام السخاوي بتأريخ هذه الفئات يشابه لما عبر عنه الخالدي في خاتمة عمله باسم “تأريخ العوام“، حين ذكر أنه من القرن السادس عشر ميلادي، ظهرت نوعية جديدة الكتابة التاريخية كتبها “العوام” كالحلاقين والمزارعين والمغمورين كتبت بأسلوب “تبريري ساذج“، إلا أنها مصادر تاريخية متميزة تنتظر “تدقيق علماء الإناسة ومؤرخى الأفكار المعاصرين“.
نقطة أخيرة مثيرة للتأمل، أنه على الرغم من أهمية ابن خلدون بالنسبة للخالدي فقد أعطى له مساحة كبيرة في بحثه وسماه “مؤرخ المؤرخ“، واعتبر أن التاريخ تحت مظلة السياسة قد بلغ ذروته مع ابن خلدون،إلا أن السخاوي الذي جاء بعد ابن خلدون بمائة عام أغفل ذكره تماماً ولم يضمنه في عمله، ويوضح لنا هذا اختلاف المنظور والتقييم والمعايير من عصر إلى عصر، كما يقودنا إلى طرح قضية إعادة قراءة تواريخ الشعوب لتحليل هذه الاختلافات في النظرة وفي درجة الاهتمام وفي الخطاب العام.