تقرير عن كيفية تناول الخطاب الصحفي في عينة من الدوريات لقضية إثبات النسب
اعداد بواسطة:
إشراف:
تقرير عن
كيفية تناول الخطاب الصحفي في عينة من الدوريات
لقضية إثبات النسب
مقدمة تاريخية
يمثل الإعلام رافداً كبيراً ومؤثراً في تشكيل أفكار الناس وتغيير معتقداتهم، وأصبح في العقود الأخيرة مع تصاعد ثورة المعلومات عالمياً صاحب التأثير الأكبر في إقرار أو تغيير ما هو سائد من قيم أو عادات وتقاليد، وفضل الصحف في ذلك عظيم، فلا ينسى لها أنها وسيلة الإعلام الأولى التي وصلت إلى أيدي وعقول الناس بشكل مباشر، منذ الحملة الفرنسية على مصر (۱۷۹۸ – ۱۸۰۱) التي أصدرت نشرتها “لوكوربيه دي ليجيبت” أو “بريد مصر” باللغة الفرنسية، وكانت توزع على أفراد الجيش الفرنسي(1) ، وتلتها مجموعة من النشرات بالفرنسية والعربية، إلا أن الحملة رحلت وحملت معها المطبعة، وظل الشعب المصري محروماً أكثر من ربع قرن من أي وسيلة إعلام مطبوعة !!(۲)
إلا أن “محمد علي” ( ۱۸۰٥ – ١٨٤٨) صاحب الأحلام والطموحات العريضة في بناء دولة حديثة، لم تفت عليه الأهمية التي استشعرها للمطبوعات المنشورة، وحاول تدارك ما حدث من تأخر بعد رحيل الحملة، وأرسل البعثات إلى أوروبا، لتعود له بالعلم والآلات معاً، ويتم إنشاء أول مطبعة مصرية وهي مطبعة “بولاق” أو مطبعة “صاحب السعادة“، في الفترة من أكتوبر ۱۸۱۹ إلى أكتوبر 1820 (3) ، وتلا إنشاء المطبعة، ظهور مطابع أخرى صغيرة، ومحاولات لإصدار بعض الكتب والمطبوعات، إلى أن ظهر إلى النور العدد الأول من الوقائع المصرية في ” ٣ ديسمبر ١٨٢٨” ٤، وتعتبر الفترة التالية لذلك فترة ركود إعلامي تام، حتى جاء عصر الخديوي إسماعيل، وبدأ الحراك الاجتماعي يؤتي ثماره، ويفرز طبقاته التي كان من بينها طبقة المثقفين العائدين من بعثات محمد علي، وكان لابد لهذا الحراك أن يطفو على السطح، لتكون نتيجته “الصحف“، فظهر في عهد إسماعيل فقط عدد ضخم من الجرائد كان من بينها (الوطن، مصر، التجارة، الأخبار، الكوكب الشرقي، والأهرام) (5)، وكانت الأهرام هي الوحيدة التي قاومت غدر السياسة والزمن وعاشت حتى الآن (6).
جدلية العلاقة بين الإعلام والجمهور
انطلاقاً من استمرارية الأهرام، واستقرار الوضع الصحفي في مصر (على الأقل من زاوية صدور الصحف بانتظام) يظهر على الساحة تساؤل مهم يطرح نفسه من الذي يؤثر في الآخر، الإعلام أم الجمهور المتلقي؟ لقد ظهرت الصحف تلبية لاحتياج جماهيري بتداول المعلومات، فهل استطاعت أن تشبع هذا الاحتياج؟ والحقيقة أن إجابة مثل هذا السؤال ليست بالهينة ولا البسيطة، ولكنها تؤدي بنا إلى منظومة جدلية عن حقيقة العلاقة بين الطرفين، فهي – وسائل الإعلام – ليست منفصلة عن البيئة الاجتماعية التي تخرج إليها ، بل هي في الواقع تصدر عن بعض أفراد هذه البيئة على الرغم من تفاوت – بل وتباين – المستويات الثقافية بينهم.
لذا فهي بالضرورة تعبر عن وجهات نظر المجتمع نفسه، أي أن الإعلام يؤثر في المجتمع ويتأثر به (7) ، وبما أن الصحافة ذات التاريخ الطويل والتأثير الأطول عمراً، وأنه على الرغم من تعدد وتنوع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، مازال للصحف رونقها، ومازالت تخرج إلينا في كل يوم مطبوعة جديدة لتوكد أن الدور الرائد للصحافة لم ينته، فالنص الصحفي يساعد القارئ المتلقي على بلورة فكرته عن العالم، وعليه تكون للآراء التي يتم التعبير عنها في الصحف وظيفة سياسية وثقافية مهمة، إذ تلعب دوراً في تشكيل – أو تعديل – نظرة الرأي العام للقضايا الاجتماعية المختلفة، مما يؤثر بدوره في وضع قضية ما على جدول العمل الاجتماعي، وهناك علاقة جدلية – أيضًا – بين الخطاب الصحفي والمجتمع، حيث يمثل الخطاب الصحفي علاقات القوى في المجتمع، فيثير وعياً جمعياً بقضايا الواقع الذي يمثله، فيؤدي هذا الوعي بدوره إلى إعادة تشكيل هذا المجتمع (8).
تأثير الإعلام
ولا يمكن أن يخلو الخطاب الإعلامي الصحفي من غزل صريح – أو عفيف – للشريحة الأكبر من جمهور المتلقين، وهم في الأغلب الطبقة الوسطى (المعهود إليه الأول بالحفاظ على التقاليد المجتمعية، ونقل الموروث الثقافي للأجيال التالية من الطبقة نفسها، وتجنب التحديث والتطوير اللذين يمثلان المجهول المرفوض) مع الوضع في الاعتبار انتماء الجزء الأكبر من صناع هذه الصحف إلى الطبقة نفسها، فيخرج إلينا الخطاب الصحفي في أغلب الأحيان في شكل مزايدات محافظة، حتى على أكثر المحافظين تزمتاً، قد تتبع من قناعات شخصية، أو من الغزل السابق ذكره، إلا أن هذا لا يمنع ظهور بعض المجددين، الذين لا يخشون من التورط في إعلان آرائهم الصادمة، مهما عرضهم هذا الرفض والنبذ انطلاقاً من قناعة أن التغيير لا يمكن أن يحدث إلا عن طريق الصدمات والمثابرة.
أهمية البحث
وقد كانت قضية “هند الحناوي – أحمد الفيشاوي” من أشهر القضايا التي أظهرت هذا الجدل من معظم جوانبه مؤخراً، خاصة مع احتكاكها ببعض المفاهيم الراسخة، بل وضربها عرض الحائط بكثير من هذه المفاهيم، وقد استمرت القضية على الساحة أكثر من عامين ونصف العام تشغل فيهم الرأي العام بكل توجهاته، إلا أن الأهم من ذلك هو أن القضية كانت الشرارة التي أطلقت الموضوع الأكبر وهو قضية إثبات النسب بشكل عام، ولأبناء العلاقات غير الرسمية بشكل خاص، ليكتشف الناس بين عشية وضحاها أن أكثر من ١٤٠٠٠ قضية (أربعة عشر ألفاً) – طبقاً للصحف – مرفوعة أمام المحاكم من أجل إثبات نسب العدد نفسه من الأطفال، والأعجب – طبقاً للمصدر نفسه – أن هؤلاء الأطفال ليسوا جميعاً نتاج علاقات غير رسمية ، بل إن جزءاً كبيراً منهم ينتمي إلى مؤسسة زواج رسمية وموثقة، وأظهرت هذه الكتابات موضوعاً جديداً جديراً بالاهتمام وهو تحليل الحامض النووي للتأكد من نسب الطفل لأبويه، واللافت في هذا الأمر أنه أثار جميع أنماط البشر للتعليق عليه، وإصدار الفتاوى الخاصة بأهميته، ودقته، وصحة أدائه، ليس على المستوى الاجتماعي فقط، ولكن بشكل رئيسي على المستوى الديني وكان من المنطقي أن يثير الموضوع مؤسسات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق النساء والأطفال بشكل خاص، في إطار تناول القضايا المسكوت عنها، وأخذ مواقف محددة منها، وهو ما قامت به مؤسسة “المرأة الجديدة” عن طريق الكثير من الأنشطة التي كان أحدها رصد وتحليل ما ذكرته الصحف عن هذه القضية في فترة الأشهر الستة الأولى من عام ۲۰۰٦ ( من 1/ 1/ 2006 وحتى 30، 6، 2006)، والتي تصادف أن تنتهي بحكم بات في قضية “الحناوي – الفيشاوي” ، لمحاولة الوقوف على الرؤية الاجتماعية العامة للموضوع من خلال عينة متمايزة على الأساس الآتي:
الجرائد القومية واسعة الانتشار (الأهرام)
المجلات القومية واسعة الانتشار (روز اليوسف)
مجلة قومية أسبوعية نسوية (مجلة حواء)
الجرائد اليومية المستقلة واسعة الانتشار (جريدة المصري اليوم)
الجرائد الأسبوعية المستقلة واسعة الانتشار (جريدة صوت الأمة)
الجرائد الحزبية: – جريدة الأهالي (تمثل اتجاه اليسار)
جريدة الوفد (تمثل الاتجاه الليبرالي)
أما الاتجاه الديني اليميني فقد تم اختيار جريدة “آفاق عربية (لسان حال الإخوان المسلمين) ضمن العينة، إلا أن السلطات قد أوقفت صدورها في وقت مبكر من العام، وما كان قد توفر منها لم يحتو على أية إشارة خاصة بأي من الموضوعين محل البحث (النسب – الاغتصاب).
وحدات التحليل:
تم تقسيم وحدات التحليل كالآتي:
الخبر: “قد ينقل النص الصحفي للقارئ أخباراً، أي معلومات عن وقائع حدثت، وبذلك يصيف بهذه المعلومات جديداً إلى حصيلة القارئ عن موضوع ما ” (9)
كتابات الرأي: “يمكن تعريف الرأي بأنه أحد أشكال التمثيلات الذهنية للواقع المعيش“ (١٠)، ويدخل تحت هذا التعريف أغلب أشكال الكتابة الصحفية، مثل: المقال، التحقيق، استطلاع الرأي، الأعمدة، وصفحات بريد القراء ، وهذه الكتابات تحمل وجهات نظر أصحابها، ولا يشترط أن تحتوي على معلومة مباشرة.
“ملاحظة: احتلت قضية “الحناوي – الفيشاوي” النصيب الأكبر من المادة المجموعة كلها، لذلك سيتم التركيز على ما هو خلافها، مع أخذ نماذج من المادة الخاصة بالقضية أيضًا“
أولاً الأخبار:
بدأ العام بداية ساخنة بصدور حكم المحكمة الابتدائية بتاريخ 26/ 1/ 2006 برفض نسب الطفلة “لينا” إلى أحمد الفيشاوي ( المدعى عليه)، وتناقلت معظم الصحف هذا الخبر (سواء الصحف محل العينة، أو غيرها)، ولم يتمكن أغلب الصحفيين من التزام الحياد المهني في نقل الخبر، فاحتوت معظم الأخبار على وجهة نظر كاتبها سواء بالسلب أو بالإيجاب، وبدا هذا واضحاً من العناوين نفسها ففي خبر للأهرام بتاريخ 27/ 1/ 2006 كان العنوان هو: “رفض دعوى نسب الطفلة لينا للفنان أحمد الفيشاوي، المحكمة: والدة الطفلة لم تثبت النسب وعلاقتهما عبارة عن زواج فاسد” ويحمل هذا العنوان تحيزاً واضحاً لجانب المدعى عليه – وهي سمة الأهرام أغلب الوقت في التعامل مع هذه القضية – فوضع صفة “الفنان” تحمل درجة من التكريم للمدعى عليه، فلو كان العنوان أكثر حياداً لوضع اسم المدعى عليه مجرداً، أو على أقصى تقدير أضاف صفته المهنية “الممثل“، دون وضع تقدير لإمكاناته المهنية، ومن حيث الموضوع، تعامل العنوان مع الحكم باعتباره نهائياً، على الرغم من أن حكم أول درجة لا يعتبر حكماً نهائياً قابلاً للذتنفيذ، عكس حكم ثاني درجة، الذي يكون عنواناً للحقيقة وقابلاً للتنفيذ حتى وإن تم نقضه، كما تعامل العنوان مع المدعية – في مقابل المدعى عليه – بتجهيل تام، ولم يختلف نص الخبر في مضمونه عن العنوان، فقد تعاملت الصحفية بدرجة ما من التحيز وبدا نوع من الرضا عن الحكم في صياغة الخبر، بدت واضحة من الإصرار على إضافة الألقاب على المدعى عليه، والتي تستدعي التعاطف بشكل عام، خاصة مع صدور حكم البراءة المذكور، كذلك حالة التجهيل الخاصة بالمدعية، بالإضافة إلى محاولة توضيح عدم قدرتها على إثبات العلاقة التي يترتب عليها إثبات النسب، بما يؤكد حالة الرضا، ولم يشر الخبر إلى المدعية بأي شكل إيجابي إلا في جملة واحدة، عندما وصفها “بالزوجة“، وهو ما يحمل إقراراً بكونها زوجة، وليست مجرد مدعية، وهو ما يخلو أيضًا من الحياد، رغم أنه في الاتجاه المضاد لسياق الخبر.
في خبر آخر يعلق على الحدث نفسه ولكن في جريدة المصري اليوم التاريخ نفسه 27/ 1/ 2006 ، بدت الجريدة أكثر حياداً من سابقتها. وإن مالت قليلاً للاتجاه المضاد للحكم، فجاء العنوان كالآتي:
“بأمر المحكمة زواج هند من الفيشاوي باطل.. و“لينا” بدون أب خبراء الاجتماع: الشريعة تنسب ابن الزنا للأم.. والقانون يتجاهل الأب المعترف بخطئه” ، فقد تعامل العنوان بحياد واضح مع أسماء أطراف الدعوى دون إضافة أية ألقاب لأي منهما، وعلى العكس من ذلك فإن إضافة اسم الطفلة محل النزاع، يستحضر تعاطفاً من القارئ، ويضعه أمام كائن حي له اسم، وليس مجرد موضوع للقضية، وقد بدا اهتمام كاتبي الخبر بالحصول على آراء متخصصة في الموضوع ووضعها في العناوين، وهو ما اتضح من حصولهما على آراء بعض علماء الشريعة والاجتماع، وطرح تساؤل مهم يحمل الأب المسئولية بشكل واضح، أما في متن الخبر فقد تم ذكر حيثيات الحكم دون تحيز، وبدأ الخبر بجملة شديدة الأهمية هي “لعدم كفاية الأدلة” ، وهو ما يوحي بموقف واضح من الحكم القضائي غير البات دون تقليل من قيمته، ثم انتقل الخبر مباشرة لرأي رجل الدين الذي لم يعلق إلا على أركان الزواج التي يرى أنها لم تتوفر في هذه الحالة، دون أن يتكلم عن حقوق أي طرف (لا الطفل ولا الأم ولا حتى الأب)، وتم توضيح ذلك بشكل أكبر في وضع رأي عالمتي الاجتماع كمقابل لرأي رجل الدين، وتساؤل أولاهما عن وضع الأب المعترف بخطئه، بينما تناولت الثانية – في لفتة شديدة الأهمية – علاقة الحكم بالعنف ضد النساء، وهي وجهة نظر موضوعية مختلفة عن السياق الذي تسير فيه الأخبار بشكل عام، فكان خبر “المصري اليوم” نموذجاً متوازناً على جميع الوجوه، حتى مع وجود شبهة تحيز، لم يسمح كاتباً الخبر بأن تؤثر على موضوعيتهما في التناول. أما خارج إطار القضية الشهيرة، وفي تاريخ لاحق لتاريخ الحكم المذكور سلفاً، وهو تاريخ 15/ 3/ 2006 وفي جريدة “المصري اليوم” أيضًا، يسترعي الانتباه هذا التقرير الخبري المهم، وكان عنوانه “أم تلقي (طفل الخطيئة) بجوار سور مستشفى إمبابة، والده رفض الزواج منها وطالبها بالتخلص منه” إلا أنه بالرغم من أهمية الموضوع، فإن التناول لم يكن به ما يميز الموضوع، ولم يزد على “كوته” أو قصة مؤثرة، وربما يعود ذلك أيضًا إلى كون الأمر لم يتجاوز التقرير الخبري، والذي لم يحاول تحليل أية عوامل في الموضوع، واكتفى بالتعامل مع أطرافه على أساس كونهم متهمين لمساءلتهم أمام النيابة بعد إلقاء القبض عليهم، وكان من اللافت أن يتم القبض على كل الأطراف (الرجل والمرأة وشركائهما في الجريمة) وتوجيه الاتهام إليهم جميعاً دون تمييز.
وتناولت الأهرام بتاريخ 18/ 1/ 2006 خبراً في الموضوع نفسه يقول في عنوانه “القبض على سيدة نسبت نفسها لزوج أمها للحصول على معاشة” وتناولت الجريدة الخبر بصيغة درامية مثيرة، وعبارات مثل “دفعها بريق المال إلى التخلي عن نسب أبيها” ، وتحولت القضية إلى امرأة طماعة ليس إلا، دون حتى الإشارة إلى ظروف مادية محيطة بها، أو ما إلى ذلك، فحمل الخبر نفسه مسئولية إدانة المرأة دون مبرر لذلك، ودون أن يلتزم الحياد المهني على الأقل.
وفي إطار صفحة الحوادث نفسها ، تخرج علينا “المصري اليوم” بتقرير آخر بتاريخ 14/ 2/ 2006 عن مذبحة مؤلمة، سببها أيضًا اختلاط الأنساب، وكان عنوانها “مزق زوجته ورضيعها… (سلق) الأجزاء ووزعها على الكلاب الضالة عجوز الإسكندرية: اعترفت أن (بلال) ليس ابني والرأس والأطراف كشفت الجريمة” ويتضح من العنوان أن الاهتمام الرئيسي كان بالإثارة التي تحملها الحادثة، شأنها في ذلك شأن أية حادثة أخرى، وبالتأكيد لم يصل التقرير إلى النتائج المترتبة على هذه الواقعة، حيث إن التحقيق فيها لم يكن قد انتهى، إلا أن التفاصيل حملت إلينا بعض الإشارات المهمة التي ينبغي التوقف عندها، منها: فارق السن بين الزوج (٦٠ سنة) والزوجة ( ٣٠ سنة) وهو فارق يسترعي الانتباه عن ظروف هذا الزواج وشروطه الموضوعية والشخصية، ولم يتناول التقرير أياً من هذه العوامل، واكتفى بالإشارة إلى الزوجة باعتبارها كانت خادمة للمتهم – وقد تم ذكر ذلك بطريقة طبقية توحي بالدونية – قبل أن يتزوجها – وفقاً لروايته والتي هي بالبديهة الرواية الوحيدة المتاحة مبدئياً – وأشار في روايته إلى أنها تمردت عليه بعد معاملته الكريمة لها!! كما أن الخبر احتوى على اعتراف المتهم بارتكاب جريمته على أثر ثورة المجني عليها، واعترافها المفاجئ بأن الطفل ليس ابنه، وطبقاً لروايته أيضًا ، فهو لم يذكر سبب الثورة المفاجئ، ولم يحاول التأكد مما ادعته، ونفذ جريمته بعد أن أطال التفكير بها – أي بأعصاب هادئة – وهو ما يدعو إلى التساؤل عن وضع هذا المتهم جنائياً، وهل ستؤخذ في الاعتبار العوامل السابق الإشارة إليها، أم لا؟!
وقد ذكرت “الأهرام” الخبر بالتاريخ نفسه، ولكن بشكل شديد الحيادية مهنياً دون اللجوء للإثارة نفسها، أو التفاصيل الدرامية ( وهو ما بدا مخالفاً لنمط الكتابة في هذه الجريدة).
وفي خبر آخر يبدو شديد الأهمية على الرغم من صغر مساحته ، نشرت جريدة “صوت الأمة” الخبر التالي عنوانه: “محكمة الأسرة تنظر قضية نسب طفل لضابط مزيف تزوج بعقد وهمي” وقد تناول الخبر فكرة تحايل رجل على امرأة، وادعائه الزواج الرسمي منها، وقد ظهرت المرأة هنا باعتبارها الضحية بشكل مطلق، فقد تم التغرير بها، بل والنصب عليها تحت مسميات قانونية، وتركت لتتحمل المسئولية وحدها، بما في ذلك مسئولية طفل بلا نسب، ورغم أن الجريدة قد التزمت – فعلياً – الحياد في تعاملها مع الخبر، فقد بدا بدرجة ما تعاطفها مع هذه الضحية، خاصة من طريقة الصياغة الدرامية المفضلة عند أغلب الصحف، وعلى الرغم من أن الخبر قد بدا جيداً بشكل عام، من حيث الموضوعية والحياد، فإنه تجاهل فكرة مسئولية المرأة عن تصرفاتها، وأنها لم تتحر الدقة فيمن طلب الزواج منها، رغم أنها استطاعت أن تتخذ الإجراءات القانونية الواجبة عندما اكتشفت حالة النصب، بما يعني وجود درجة – غير بسيطة – من الوعي لديها.
أما جريدة “الوفد” فقد نشرت خبراً مهماً بتاريخ 7/ 3/ 2006 ، وفي صلب الموضوع، يقول عنوانه: “١٤ ألف قضية أمام المحاكم: مواجهة حادة بين الحكومة والنواب حول قضية إنكار النسب” بدا الخبر من عنوانه شديد الموضوعية، فقد تعامل بداية مع أرقام، بالرغم من جفافها فإنها كانت موجهة إلى القارئ بشكل عاطفي قادر على كسب التعاطف، ورغم كونه يبحث عن الإثارة في عنوانه، إلا أنه قد أدان – ربما دون أن يقصد – الطرف المذكر في الموضوع، عندما وضع القضية تحت مسمى إنكار النسب” وليس “عدم ثبوت النسب” مثلاً، وفي المتن، فقد حاول التزام الموضوعية والحياد في طرح القضية قدر الإمكان – وأظنه نجح – خاصة في عرض كل وجهات النظر على الساحة “المؤيد والمعارض ووجهة النظر الدينية“، واهتم الخبر أكثر بعرض حقائق علمية – أو رقمية – مثل عدد القضايا المرفوعة، ودرجة دقة تحليل البصمة الوراثية (DNA)، كما اتجه في تحيزه نحو الضحية الرئيسية في الموضوع وهي الأطفال، ولم يهتم الخبر باتخاذ موقف أخلاقي من أي من طرفي العلاقة، وهو ما يحسب له، والغريب أن الخبر اهتم بذكر الطفلة “لينا” بطلة القصة الشهيرة ( الحناوي – الفيشاوي) وذكرها باسم “لينا الفيشاوي” وليس “لينا الحناوي” كما كان متعارفاً عليها في تلك الفترة، وبالرغم من صدور الحكم الابتدائي برفض نسب “لينا” إلى “الفيشاوي“، فبدا الأمر وكأنه تحدياً للحكم المذكور، وإيماناً من كاتب الخبر بصحة نسب لينا، أو على الأقل حقها في الحصول على اسم، مع وضع المسئولية على كاهل الطرف المتنصل منها.
وقد أفردت الجريدة نفسها تفاصيل الخبر في صفحة داخلية في تقرير واف على نمط الخبر المختصر نفسه.
وفي تقرير خبري لجريدة “الأهرام” بتاريخ 17/ 5/ 2006 يعلن فيها الدعوة التي أطلقها الاتحاد النسائي “تحت التأسيس” بانتساب الطفل لأمه، جاء العنوان دون مواربة على النحو التالي: “دعوة باطلة وليس تكريماً للأم: انتساب الابن لأمه.. ارتداد للجاهلية” وهو عنوان واضح، فلم يحاول المحرر التحايل على ألفاظه، خاصة مع استناده إلى صفحة الفكر الديني، واكتفى المحرر بمقدمة صغيرة أوضح فيها وجهة نظره من أن هذه المسألة محسومة دينياً بنص قرآني، وعلى هذا يبدو غريباً لجوئه إلى علماء شريعة ليدلوا بدلوهم في الموضوع الذي حسمه المحرر فعلياً، فهو قد حصل على رأي الدكتور حامد أبو طالب عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، الذي توافق رأيه مع المحرر – أو ربما العكس – حيث رأى أن عدم جواز نسب الطفل لأمه شرعاً، يأتي من كون المجتمعات الإسلامية “تقوم على الطهارة والنقاء، واختصاص كل رجل بامرأة.. ومن ثم فلا مكان للفوضى” ولم يأت بالتأكيد على ذكر اختصاص الرجل بأكثر من امرأة، وأنه في هذه الحالة ينسب كل الأطفال إلى أبيهم دون ذكر للأمهات المختلفات، ويعتبر الفقيه أن هذا تكريم للمرأة لأنه يشير إلى نقائها، وأنها ليست على علاقة بأحد إلا برجل واحد، ومما يفهم ضمناً من هذا الكلام، أن الرجال لا يتمتعون بهذا النقاء، وربما لا يعنيهم أن يتمتعوا به أصلاً، وعلى المنوال نفسه جاء رأي الدكتور رمضان عبد الودود أستاذ أصول الفقه بالكلية نفسها، حيث أكمل بأن تكريم الأم قائم بالفعل بإثباتها في شهادة الميلاد، وكأنه كان من المفترض أن هذه المرأة التي حملت وخاضت معركة عنيفة لولادة هذا الطفل لا يحق لها –أصلاً– أن تذكر في وثيقة الميلاد، وأن هذا الكرم الذكوري غير إجباري، فإنه في النهاية يلجأ إلى مبرر يبدو منطقياً من أن نسبة الولد لأمه يقينية، بينما نسبته إلى أبيه ظنية في كل الأحوال، ومن أجل ذلك جاءت مشروعية عقود الزواج وتوثيقها في إطار تنظيم الدولة على الأقل.
ومن “الوفد” مرة أخرى وفي نهايات مايو جاء خبر الحكم النهائي في القضية الشهيرة تحت عنوان: “أخيراً.. إثبات نسب (لينا) لأحمد الفيشاوي” ورغم صغر العنوان، إلا أنه حمل الكثير من الانفعالات، فكأنما التقط كاتب الخبر أنفاسه بصدور الحكم، وبخلاف العنوان جاء المتن شديد الحياد، حيث اكتفى بسرد الوقائع ، وأهم حيثيات الحكم من أن الزواج الفاسد يثبت النسب طبقاً للمذهب الحنفي، وخلا من أي انفعال عاطفي، وهو ما يوجب تحية الجريدة عليه مهنياً.
ويبدو أن هذا لم يكن هو النهاية للقضية ، ففي خبر حملته المصري اليوم” بتاريخ 6/ 6/ 2006 طالعنا هذا العنوان “محضر جديد بسبب شهادة ميلاد لينا الفيشاوي” وبدا من العنوان حرص الجريدة على ذكر اسم الطفلة منسوباً إلى أبيها، حيث إن الحكم كان قد صدر، ولم يحتو الخبر على أكثر من ذكر المحضر الذي حررته “هند الحناوي ” وتتضرر فيه من عدم قيد ابنتها في سجلات ساقطي القيد حتى تتمكن من استخراج شهادة ميلاد لها، وهو خبر عادي لا يحمل توجهات ذات طابع خاص.
ثانياً كتابات الرأي:
(وتشمل كما سبق ذكره: المقالات الأعمدة، التحقيقات، الحوارات، استطلاعات الرأي، بريد القراء، وغيرها مما يمكن إدراجه تحت هذا البند)
ويمكن تقسيم هذه الكتابات إلى قسمين خاصين بهذه القضية: الآراء الدينية والفقهية، الآراء الموضوعية.
ومما لا شك فيه أنه قد أفردت مساحات واسعة للآراء الدينية في أغلب الجرائد محل العينة، والغريب أنه قد حدثت حالة من التناقض الواضح بين هذه الآراء وبعضها.
أما الآراء الموضوعية فقد انقسمت بشكل عام إلى ثلاثة أقسام:
-
قسم يرى مسئولية طرفي العلاقة عن كل تفصيلاتها، وخاصة في حالة وجود أبناء ناتجة عنها، وبالتالي يجب على الطرف غير المسئول – ويقصد به الرجل بشكل عام – أن يخضع للاختبارات العلمية التي تؤكد أو تنفي مسئوليته في هذه العلاقة.
-
قسم يبحث عن حقوق الأطفال كضحايا دون وضع اعتبار للأبوين، وبالتالي فهذا القسم أيضًا مع خضوع الرجل للتحليل الجيني حتى يتمكن الطفل من الحصول على حقه في اسم.
-
أما القسم الثالث فيرى وجوب عقاب الطرفين ميلاً إلى الجانب الديني أو الاجتماعي الأخلاقي ربما – أما الأطفال فليس لهم الحق في أي شيء لأنهم نتاج علاقة غير شرعية، فلا يجب أن يحصلوا على أية حقوق.
– في أول تحقيق نشرته “صوت الأمة” بتاريخ 30/ 1/ 2006 عن القضية الشهيرة، حرصت الجريدة على الحصول على آراء علماء دين (أزهريين)، وقانونيين، والأهم رأي “حمدي الحناوي” والد “هند” وأحد أطراف القضية، في رد فعل مباشر على الحكم الابتدائي، وحرص التحقيق على إبراز العناصر الثلاثة في العنوان، الذي جاء كالتالي: “بعد رفض المحكمة إثبات نسب لينا: والد هند الحناوي: أطالب المجتمع بالتضامن مع ابنتي ولن نلقي بالطفلة في الشارع. أزهريون: نسب أولاد العلاقات غير الشرعية للأم فقط يتوافق وأحكام الشريعة الإسلامية، قانونيون: المحكمة لا تعتد إلا بالمستندات والأوراق وهند عجزت عن تقديم ما يثبت زواجها” لقد بدا واضحاً من العنوان حجم التعاطف الكبير مع هند ضد حكم المحكمة، بداية من إبراز نداء والد هند العاطفي، خاصة مع وضعه فنط أكبر كثيراً من باقي العناوين، وهو الجزء العاطفي الوحيد في العنوان، أما رأي الأزهريين والقانونيين فظهر بشكل عقلاني موضوعي كل في مجاله، إلا أن طريقة صياغة الرأي الديني أظهرت عجز الشريعة عن حل مثل هذه المشكلة، وبدت – أي الشريعة – كمن لا قلب له ولا تهتم بالوضع المأساوي للطفلة وأمها، أما القانونيون فقد بدا من رأيهم قصور المحكمة عن إصدار الحكم الملائم، لمجرد أن المدعية لم تتمكن من إحضار ما يكفي من مستندات، خاصة أن الحكم أكد عجز المدعية عن إثبات الزواج وليس النسب، وهو ما يبدو متناقضاً مع الهدف الحقيقي وراء الدعوة.
وفي المتن بدا التحقيق مثيراً بدرجة كبيرة، فقد بدأ بتلخيص للقضية وحكم المحكمة ثم اهتم التحقيق بإبراز حالة الصدمة التي انتابت كل متابعي هذه القضية من الحكم غير المتوقع، ومحاولة إثارة التعاطف مع مستقبل الطفلة البريئة غير المسئولة عن تصرفات والديها، ثم انتقل بعد ذلك إلى رد فعل الدكتور حمدي الحناوي” والد هند” على الحكم، الذي حاول جاهداً أن يبدو متماسكاً ، بل وموضوعياً في قراره باستئناف الحكم، وإبداء تعاطفه مع ابنته وحفيدته، وإصراره على القتال من أجلهما، وإبرازه فكرة هروب الطرف الآخر من المسئولية، بل وتبرئته منها، وإلقاء التهمة على ابنته وحفيدته، ورغم موضوعيته في تحليله للحكم بأنه خطوة إلى الوراء في إقرار الحريات الشخصية في المجتمع، لم ينس “حمدي الحناوي” أن يستحضر تعاطف الناس بتساؤله عن مصير الأطفال في مثل هذه الحالات، وإن كان يجب أن نلقي بهم إلى الشارع؟! أما علماء الشريعة فقد بدا كلامهم شديد الجفاء والتناقض ، ولم يبد فيه اتفاقهم على نتيجة نهائية، فبينما رأى عميد كلية الشريعة السابق “د / رشاد خليل” أن الحكم يتوافق وأحكام الشريعة الإسلامية، حيث إن الزواج فعلاً فاسد، وبالتالي لا يرتب أياً من آثار الزواج الصحيح خاصة في إثبات النسب، وأنه في هذه الحالة، ينسب الأطفال لأمهاتهم فقط، إلا إذا اعترف بهم الأب، يرى العالم نفسه، أنه يجوز إثبات النسب بطرق مختلفة، يمكن أن يكون بينها التحليل الجيني (DNA) على غرار استناد الرسول (ص) إلى وسيلة “القيافة” في إثبات نسب أسامة بن زيد !!!
ودار كلام عميدة كلية الدراسات الإسلامية “د/ سعاد صالح” في الفلك نفسه، حيث أكدت أنه لا إثبات للنسب دون إثبات للزواج الصحيح ( وهو موقف يستحق التوقف عنده لحظة، فبينما تحمل الشريعة الإسلامية الكثير من الأحكام التي يمكن تفسيرها لصالح الأم والطفل في هذه الحالة، وهو ما سيلي تفصيله في مواضع أخرى، تخرج علينا الدكتورة بهذا الرأي تحديداً ، والمحسوب على المحافظين، على الرغم من كونها سيدة أولاً، ويعرف عنها درجة من التنور ثانياً، فكان ينتظر منها موقف مختلف عن هذا الموقف!!)
كذلك حاول الرأي القانوني أن يبدو محايداً، حيث أوضح المستشار “فريد نصر” رئيس محكمة الأحوال الشخصية، أن الحكم ليس نهائياً، وبالتالي يجوز استئنافه بالدرجة الثانية للتقاضي، ولكن حتى يصدر حكم نهائي في القضية، فإن الطفلة “لينا” تكون منسوبة فقط لأمها، ولا علاقة لها ب “أحمد الفيشاوي“.
هكذا حاولت صاحبة التحقيق نقل جميع الآراء الممكنة في الموضوع دون حياد حقيقي، ولكنها لم تكتف بهذا ونقلت إلينا بعد ذلك وجهة نظرها بشكل واضح، حيث رأت أن القضية هي مسألة حرب بين ثقافتين، الأولى تدعو إلى التهرب من علاقة “آثمة” مهما كانت نتائجها ، بينما الأخرى حاولت “وبشجاعة” الاعتراف بالخطأ مع محاولة إصلاحه، لقد بات واضحاً التوجه الذي تمثله صاحبة التحقيق، واتضح بصورة أكبر فيما تلا ذلك من طريقة قصها لحكاية “لينا” وموقف د / حمدي الحناوي “المساند بشدة لابنته، ولذلك كان غريباً في ظل هذا التوجه استخدام حكم أخلاقي على شكل العلاقة، وربما قصدت من ذلك تذكير الناس بأن الوضع الأخلاقي للعلاقة، لا صلة له بالحقوق والمسئوليات!! أما “الأهرام” فقد أفردت صفحة لا يمكن تجاهلها بتاريخ 3/ 2/ 2006 ، جمعت فيها لحشد من علماء الدين في استطلاع رأي للأحكام الفقهية من وجهة نظر كل منهم. وسنلاحظ كيفية تعامل كل منهم مع رأيه باعتباره الحقيقة المطلقة، ولا توجد سواها. وهو أمر يسترعي الانتباه، خاصة مع وجود درجة من التناقض في الأحكام لا يستهان بها.
بداية يحمل الاستطلاع عنواناً رئيسياً عاماً يقول: “١٤ ألف طفل.. يبحثون عن أب! دعوة لفتح باب الاجتهاد حول مجهولي النسب” بشكل واضح ودون مواربة، فإن العنوان ينحاز إلى الأطفال، ويبدو من دعوته وكأنه يريد من رجال الدين أن يصلوا إلى أحكام النسب تمنح هؤلاء الأطفال حقوقهم، ولكن الغريب أن المتن لم يحمل وجهة النظر نفسها، فقد لجأت صاحبة التحقيق بداية إلى إصدار الأحكام الأخلاقية، واستخدام الصيغ الدرامية المؤثرة، من قبيل: “إننا إذ نفتح هذا الملف.. لا نلتمس النجاة لامرأة خالفت أمر دينها وأخلاقها وكأنما المرأة هي الطرف الوحيد الذي خالف أمراً يستوجب عليه العقاب، ثم تعود لإصلاح ذلك جزئياً عندما تتكلم عن طرفين فيما أسمته “الجريمة” فتقول: “بل نطالب بتطبيق أقصى عقوبة على طرفي الجريمة” ، ويبدو التعبير شديد الدرامية، ويذكرك بأحكام الإعدام فوراً وتعود إلى إدانة المرأة مرة أخرى في قولها: “خاصة في حال كون المرأة المرتكبة الفاحشة غير متزوجة” !!!
ننتقل بعد ذلك إلى الآراء التي أفرد لها الاستطلاع، وقد قام بذلك بإفراد كل رأي تحت عنوان مستقل، نبدأ من الجهة اليمنى تحت عنوان: “مجهول النسب.. عدو لنفسه والمجتمع” بدأ الاستطلاع بأخذ رأي استشاري الطب النفسي الدكتور “محمد المهدي” الذي راح يتتبع – بشكل موضوعي – الآثار النفسية لهذا الطفل، وتأثير الظروف المحيطة به على سلوكه المستقبلي، وكيف أن النتيجة شبه الحتمية هي أن يتحول هذا الطفل إلى شخص رافض لمجتمعه، حريص على إيذائه، كرد فعل لنبذ المجتمع له، وبدا من كلام العالم، أنه تكاد لا توجد نتائج أخرى متوقعة من هذا الشخص، وربما كان محقاً بحكم تخصصه، وإن كان يبدو أن الأمر يتطلب الرجوع إلى عالم اجتماع وسلوكيات إلى جانب عالم النفس.
تلا ذلك رأي الدكتورة “سعاد صالح” عميدة كلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر، وكان عنوان: “الرأي لولد.. لفراش الزوجية” وبدا واضحاً من رأيها أنها تنحو في اتجاه رأي الجمهور، الذي يرى بوجوب نسب ابن الزنا إلى الفراش في حالة المرأة المتزوجة، أي أن يلحق نسبه بزوجها حتى ولو لم يكن هو الأب، أما في. حالة المرأة غير المتزوجة فإن نسب الطفل يلحق بأمه فقط، وعلى الرغم من هذا الرأي المتشدد، تعود الدكتورة “سعاد” في نهاية كلمتها إلى التساؤل المتعاطف عن مصير هؤلاء الأطفال، وتبدو وكأنها تسأل نفسها، إن كان يمكن إلحاق ولد الزواج السري أو العرفي، بولد الزواج الفاسد لوبالتالي يرتب آثاره من حيث النسب، وتتساءل أيضًا إن كان يمكن من تشريع يجبر الرجل على إجراء تحليل (DNA)؟! وتبدو تساؤلات الدكتورة “سعاد ” شديدة العجب، ولا تتماشى على الإطلاق مع آرائها المحافظة في الموضوع، والتي سبق الإشارة إليها، وبدت وكأن هذه التساؤلات، قد أطلقت من باب التوافق مع الرأي العام، الذي بدا – ذلك الوقت – واضحاً تعاطفه الإيجابي مع القضية!!
يأتي بعد ذلك الدور على الدكتور “أحمد طه ريان” أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر ويبدو واضحاً من العنوان: “الموازنة بين المصالح والمفاسد” أنه يحاول فعلياً ألا يخرج بنتيجة، وهو ما يثبته المتن في قوله: “هناك مساوئ في حال النسب أو عدمه، وأن الأمر يحتاج إلى اجتهاد كبير للموازنة بين المصالح والمفاسد” ولم أفهم على من يلقي أستاذ الفقه المقارن عبء الاجتهاد! ولكنه يعود بعد ذلك ليؤكد أنه يرى البداية بالاعتراف بولد الزنا، ولكن في المجتمعات غير الإسلامية أولاً!، وهو ما يبدو أيضًا خارج السياق، ولم أفهم لماذا يفضل أستاذ الفقه التحدث في غير الموضوع وفي النهاية يرى أن الروح العامة للتشريع الإسلامي “تظهر منها الرغبة العارمة في إنقاذ هذا الوليد الناشئ من هذه الخطيئة” ولكن من خلال إيجاد غطاء شرعي لهذه العلاقة التي ستترتب عليها حقوق كثيرة وواجبات متشعبة! ويبدو أن هذا الرأي بشكل عام قد استعصى على فهمي، وبدا لي شديد الغموض، فلم أفهم تحديداً ما يريده العالم الفقيه، فهل يرى إمكان الاعتراف بابن الزنا، أم أنه يجب وجود غطاء شرعي أولاً، أم أنه يوافق على ذلك في الدول غير الإسلامية فقط؟ وبالتالي على أطفال الدول الإسلامية أن يلجأوا إلى الطرقات؟ لم أجد جواباً !!!
وفي منتصف الصفحة، وفي موقع الصدارة منها ، وتحت عنوان شديد الوضوح، هو: “يجوز نسبهم بدون زوجية” يأتي رأي الدكتور “محمد رأفت عثمان” بشكل حاسم وواضح على عكس باقي الآراء التي حاولت ألا تضع حكماً قاطعاً، يرى الدكتور “عثمان” – على خلاف الجمهور – أنه يصح نسب من يولد من زنا بامرأة غير متزوجة إلى الزاني، واستند في رأيه إلى كثير من الآراء الفقهية القديمة، والوقائع المسندة، ويخلص من ذلك أن القصد الشرعي من عدم إثبات النسب إلى الزاني هو إلحاق الأذى به، على اعتبار كون النسب شرفاً ومفخرة، وبما أن القصد قد انتفى، حيث تحولت المسألة إلى تهرب من المسئولية، وبما أن القصد الشرعي وجوبي، أصبح من إلحاق الأذى بالفاعل، إثبات نسب ابنه إليه، حتى يتريث كل شخص قبل الإقدام على هذا الفعل، عندما يعلم أنه سيتحمل المسئولية في كل الأحوال، خاصة مع وجود التقنيات الحديثة التي يمكنها أن تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك من هو الأب (يقصد التحليل الجيني DNA)، بشرط أن يكون إجراء التحليل ملزماً؟ ولا أعتقد أنه يحتاج إلى تعليق.
وعلى الدرب نفسه سار الدكتور “عبد الله النجار” الأستاذ بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر في رأيه المعنون: “الإثبات عقوبة للجاني” واستند في كلامه أيضًا بالوقائع المسندة للصحابة والرسول (ص)، وشدد كذلك على ضرورة الأخذ بتحليل DNA، قياساً على الأخذ بالأدلة ظنية الثبوت في عهد الرسول (ص) مثل “القيافة” (أي أوجه الشبه)، فمن باب أولى الأخذ بالأدلة القطعية الثبوت، ويرى أن في ذلك إجماعاً من الصحابة.
أما مفتي الجمهورية السابق “د / نصر فريد واصل” – وهو من المعروفين بآرائهم المحافظة – فقد أكد أن النسب لا يمكن أن يثبت إلا بعقد زواج شرعي، ولا يرى عقاباً للمخطئ في إلحاق النسب به، ولكن هذا هو الشرع، ومع ذلك فهو يرى ضرورة فتح الملف مرة أخرى والاجتهاد فيه وفقاً للضوابط الشرعية !! كذلك “يرى أنه يجب إلزام (الزاني) إذا ثبتت فعلاً جريمته عن طريق التحاليل بتحمل عبء رعاية الطفل والإنفاق عليه، ليعلم أن تبعات هذه الجريمة مسئولية أكبر ويقترح أن يضاف في شهادة ميلاد الطفل المولود من زنا… لفظ ( نسب مدني).. للتفرقة بين النسب الشرعي الناتج عن عقد زواج، والنسب الناتج عن زنا !!! وهو في الحقيقة رأي يستدعي إلى الذهن فكرة التمييز العنصري بين البشر بناء على أسباب ليسوا مسئولين عنها، وهو ما يبدو أبعد ما يكون عن روح الشريعة الإسلامية، التي تحرص طوال الوقت على التأكيد أن الفارق الوحيد بين البشر، يأتي نتاجاً لأعمالهم.
ورغم وقوع الاستطلاع في صفحة “فكر ديني” فإن القائمة بالإعداد، حاولت أن تغطي أكثر من جانب بالإضافة إلى الآراء الدينية، فكما حرصت في البداية على وضع رأي لأستاذ طب نفسي، ألحقت ذلك برأي خبير قانوني هو المستشار “عزمي البكري” رئيس محكمة الاستئناف، الذي أوضح أن القانون لم يحدد طرق الإثبات في النسب، ولذلك فهو ينطبق عليه ما جاء في المذهب الحنفي من أن إثبات النسب يكون بالفراش الصحيح كما يثبت بالإقرار والبيئة، إلا أن النتيجة النهائية هي ثبوت النسب بزواج صحيح، أو بإقرار الأب ببنوته للطفل، دون إقرار منه بالزنا، فإذا أقر بأنه ابنه من زنا، لم ينسب إليه الولد !! كما أن تحليل DNA – وهو غير ملزم – لا يلحق الطفل بنسب أبيه إن كان من زنا، حتى وإن أثبت البنوة !!!!
أما عالم الاجتماع “د/ أحمد المجدوب ” فتحت عنوان: “العودة إلى الدين” يرى أن السبب في تفشي هذه الظاهرة هو الابتعاد عن الدين كما يتضح من العنوان، وطبعاً فإن المقصود بالدين هنا هو الدين الإسلامي فقط وذلك بدوره مرتبط بحياة الانحلال وتقليد الغرب في كل شيء، وأن العلاج غير مجد في هذه الحالة، وأنه لابد من الوقاية، وذلك باتباع تعاليم الدين الحنيف، لأن البحث عن علاج هو التفاف على الحل الأمثل!! ويبدو أن عالم الاجتماع فاتته أكثر من زاوية في تحليله لهذه القضية، فأولاً هناك أديان أخرى بخلاف الدين الإسلامي في هذا البلد ، لم تهتم الصفحة كلها، في الحقيقة ولا العينة كلها، بإبراز موقفها من الموضوع، وكأن المعني من هذه القضية هم المسلمون فقط! ثانياً فإن عالم الاجتماع اعتمد في تحليله على وجود طبقة واحدة فقط في المجتمع، هي الطبقة التي يتاح لها تقليد الغرب بناء على التعليم والإمكانات المادية، ونسي – أو تناسى – وجود طبقات أخرى في المجتمع لم يتح لها أن تعرف ما هو هذا الغرب أساساً، وأن هذه الطبقات المطحونة، تحتل جزءاً كبيراً من القضية، خاصة أن المعايير بالنسبة لهم تختلف كثيراً عن الطبقات المتوسطة والعليا، من ناحية مفاهيم العلاقات ومعنى العيب وما إلى ذلك، كما أنه تناسى في هذا الحل الأمثل، وجود ١٤ ألف قضية فعلية في المحاكم، وعدد آخر غير معلوم لم يصل إلى قاعاتها بعد، أعتقد أن الدكتور “المجدوب” بحاجة إلى تفصيل تحليله أكثر من ذلك، فيبدو أن المساحة لم تكن كافية لإظهار وجهة نظره من جوانبها كافة !!
في تحقيق لجريدة المصري اليوم بتاريخ ١٦ / ٢ / ۲۰۰٦ جاء عنوانه كالتالي: “مشروع قانون جديد يجبر الرجال على الخضوع لتحليل البصمة الوراثية، نجوى عبد المجيد: أرفض الإلزام فقد تستغله غير العفيفات للإيقاع بالرجال ذوى السلطة، الدكتور محمد رأفت عثمان: يصح الإلزام بالاختبار على أن تتعدد الجهات الطبية التي تقوم بالاختبار” اهتم بمشروع القانون الذي تقدم به بعض نواب البرلمان، لإلزام الرجل بالقيام بتحليل البصمة الوراثية، وبدأ التحقيق بداية عامة بشرح ظروف مجهولي النسب في مصر، ودرجة خطورة وضعهم، وحقوقهم الضائعة… الخ، ثم قام النائب “محمد خليل قويطة” – صاحب المشروع – بشرح أبعاده وأهميته وأسانيده الشرعية مع تفصيل قانوني للتعديل المرجو، والذي يجبر الرجل على إجراء التحليل، مع وضع عقوبة صارمة للمدعية الكاذبة وعلق على ذلك “د/ أحمد الصاوي” أمين عام مؤسسة قضايا المرأة المصرية، بأن إثبات نسب الولد لأبيه لا يخالف الشرع، وهو أمر منطقي وشرعي، بينما قام الدكتور “محمد رأفت عثمان” بشرح علمي مبسط وواف لما هو التحليل الجيني، ولماذا تعتبر نتيجته قاطعة، وبعد تفصيل فقهي لما كان قائماً في الجاهلية وما أقر في الإسلام، اشترط أن يتم التحليل في أكثر من مكان، وليكن ثلاثة أماكن، لا تربطها أية صلة لضمان أن تكون النتائج مستقلة، أما الرأي النسائي الوحيد في التحقيق، فإنه يستحق أن يوضع كما هو، حيث إنه يطرح تساؤلاً مهماً عن درجة وجود موقف نسائي محدد من القضية، سواء مع أو ضد ولماذا ؟! تقول “د/ نجوى عبد المجيد” أستاذ الوراثة البشرية بالمركز القومي للبحوث: إنه من الناحية العلمية ، فإن نتائج تحليل البصمة الوراثية تكون مؤكدة بنسبة ٩٩.٩ ، إلا أنه من الناحية الأخلاقية لا يجب أن يكون الإخضاع للتحليل إجبارياً، فقد تسعى امرأة للتجني على أي رجل لإيقاعه في شرك ما للزواج بها، خاصة وأن بعض النساء المحترفات من غير العفيفات المشكوك في سلوكهن، ومن غير أهل الثقة، قد يقمن باستغلال ذلك النص من خلال القيام بعلاقات غير مشروعة مع رجال ذوي سلطة، أو نفوذ، وفي كل الأحوال الضحية هم الأطفال الناتجون عن مثل هذه العلاقات غير المشروعة” والتعليق الوحيد الذي يمكن إضافته على رأي العالمة الجليلة، هو التذكير بكونها سيدة، وأن جميع الأطراف الأخرى المذكورة في التحقيق هم رجال !!!!
وفي “أهرام” الجمعة 24/ 3/ 2006 وفي المساحة الخاصة بالآراء القانونية، تخرج علينا الجريدة برأيين لا يختلفان كثيراً عن بعضهما لاثنين من أساتذة القانون وفقهائه، وقد اهتم كل منهما بإظهار وجهة نظر الشريعة الإسلامية في الموضوع، وأكد كل منهما بضرورة تعديل القوانين لتتناسب مع الشريعة، والتخلي عن كل المظاهر الغربية في القانون المصري، ومنها تجريم العلاقات خارج إطار الزواج لمن هم أكبر من ١٨ عاماً، وهو ما يسمح به القانون المصري نقلاً عن القانون الفرنسي، وأكد كل منهما أن الفارق كبير جداً بين الابن الشرعي وابن الزنا، وأنه لا يمكن المساواة بين الاثنين بأي حال من الأحوال، واستشهد أحدهما بواقعة قديمة، عندما جاء إليه شاب وفتاة لا ينتميان إلى الدين الإسلامي والفتاة حامل والشاب يعترف أن من في بطنها هو ابن له ودينهما يعترف بالمولود الطبيعي، إلا أن الشاب رفض أن يتزوج الفتاة، بعد أن فقد ثقته فيها. فكيف يضمن أنها لن تفعل مع سواه ما فعلته معه ؟؟!!!!! والحقيقة لم أفهم السر في الاستشهاد بمثل هذه الواقعة لموقف شاب ناتج عن رؤية اجتماعية ذكورية واضحة دون تحليل لهذه الرؤية من قبل العالم، باعتبار أن هذا هو الوضع الطبيعي الوحيد، والرأي الأصوب، وكأن الفعل أتت به الفتاة وحدها، وكيف وجد لنفسه مسوغًا للتخلي عن مسئوليته تجاه الفتاة والطفل القادم؟ وما موضع الفخر في الاستشهاد بمثل هذه القصة؟! أما القانوني الآخر فهو يصل في تحليله للفارق بين ابن الزنا وابن الفراش إلى أنه يكاد يتهم بالكفر من يقول بغير رأيه، بل هو فعلياً يقول بهذا، والحقيقة أن هذه الملحوظة منتشرة بشدة، ولا أعني التكفير، ولكن أعني رفض الآخر والخلاف في الرأي، وكيف أن كل من تكلم في هذا الموضوع – مثلاً – اعتبر أنه الوحيد الذي يقف على مفهوم الحقيقة المطلقة، وأن من يقول بغير ذلك، هو كافر فوراً، بلا أية مساحة للخلاف وهو أمر يستحق التوقف عنده، فالآثار المترتبة على هذه الظاهرة ليست بالبسيطة.
أما الحكم النهائي بثبوت نسب “لينا” إلى “أحمد الفيشاوي” فكان لابد من التوقف عنده طويلاً، فقد أثار ردود أفعال قوية، وتحول فجأة أغلب المتخذين للموقف المضاد، إلى الصمت التام، أما المساندون للقضية منذ بدايتها، فكانت فرصتهم عظيمة في الاحتفال بالانتصار المدوي، وشرح رؤيتهم للقضية من أكثر من زاوية، ونهتم هنا بإظهار وجهات النظر المختلفة، فقد حسبت جريدة الأهرام – مثلاً من خلال مواقفها السابقة – على الجانب المحافظ، فكيف كان رد فعلها مع الحكم النهائي؟ خرجت علينا “الأهرام” في اليوم التالي لصدور الحكم بتقرير إخباري، مع صورة ل “هند” من داخل المحكمة، وكان الحرص واضحاً على التزام الحياد التام بداية من العنوان الذي جاء فيه: “محكمة استئناف الأحوال الشخصية: إثبات نسب الطفلة لينا للممثل أحمد الفيشاوي” ويبدو الفارق واضحاً بين هذا العنوان، وذلك الذي وضعته الجريدة عند صدور الحكم الأول، فانتفى عن المدعى عليه لقب الفنان، ولم ترد تفاصيل خاصة بالحيثيات في العنوان، الذي بدا وكأنه يعاني صدمة ما من الحكم، كما لم يرد أي ذكر للمدعية، التي حرصت الجريدة على إظهار فشلها في الحكم الأول، فلم تحاول الوقوف على هذا النجاح باعتباره خاصاً بها، وكأن أطراف النزاع، هما “لينا” و“الفيشاوي فقط، أما في المتن فقد حاولت كاتبة التقرير – وهي نفسها صاحبة الخبر القديم – إظهار تعاطفها مع المدعية في سردها لوقائع جلسة النطق بالحكم، وتحاملت أكثر على المدعى عليه، وأظهرته بمظهر غير المكترث لكون الطفلة ابنته، وأن كل ما يريده هو نفي الصلة بينه وبين المدعية، ثم استطردت في سرد حيثيات الحكم، وعادت بعدها للاحتفال بالمدعية في وصف فرحتها ، وترديدها لعبارة “يحيا العدل” ونطق اسم ابنتها كاملاً.
وفي إطار الاحتفال بالحكم نفسه، وفي اليوم التالي مباشرة، أفردت “الأهرام” تحقيقاً كبيراً تحت عنوان: “مليونا طفل آخرون ينتظرون نفس الحكم، أخيراً لينا بنت الفيشاوي” ورغم استخدام الكثير من المصادر في التحقيق، ومن بينهم “هند” وعائلتها، والقاضي الذي أصدر الحكم، وأساتذة القانون والشريعة، فإنه لم يأت بجديد تقريباً، باستثناء رأي الدكتورة سعاد صالح” التي رأت – على خلاف رأيها السابق – أن الحكم هو حكم تاريخي، ويجب تطبيقه في جميع الحالات المماثلة إنقاذاً للمرأة البريئة، وإنقاذاً للمجتمع من القنابل الموقوتة المسماة بأطفال الشوارع !! أما الأهم من التحقيق فهو ذلك المربع الجانبي الصغير، الذي حمل عنوان: “هل أخطأ القاضي” ولفت فيه النظر إلى الإجراء الذي قام به القاضي، من إلقاء بعض الأبيات الشعرية أثناء النطق بالحكم، والتي تحمل ضمنياً سباً وقذفاً في حق المدعى عليه، وتساءلت الجريدة عن إمكان مقاضاة القاضي جنائياً ومدنياً عليها؟ ورغم أن الملاحظة جيدة على المستوى المهني، فإن التساؤل الحقيقي هو في مبرر رصد الجريدة لهذه اللفتة، بهذه السرعة، والحصول على رأي قانوني فيها !!!
ويبدو أن الحكم قد حاز على اهتمام كثير من كتاب المقالات أصحاب الأسماء اللامعة، من أمثال “أحمد عبد المعطي حجازي” و“ماجدة مهنا في ” “الأهرام“، و“فريدة النقاش” و“سعد الدين إبراهيم” في “المصري اليوم“، كذلك اهتم الكاتب الكبير “سلامة أحمد سلامة” بتخصيص عموده يوم 28/ 5/ 2006 للتعليق على الحكم، ولم يفت عليه الاحتفاء بالحكم، والقضاء المصري المواكب للتطورات العصرية وتعقيدات الحياة، بالرغم من تضارب الفتاوى، واستغل الأستاذ “سلامة” المناسبة ليطرح القضية على أكثر من محور وحرص أن تؤدي في مجملها إلى الحفاظ على كرامة المرأة وكيان الأسرة، وكان من أهم هذه المحاور عدم إلقاء تبعية المشكلة على كاهل المرأة وحدها، وإعفاء الرجل من مسئوليته تماماً، كذلك أشار إلى ضحالة الوعي الجنسي، وافتقار مناهج التعليم ووسائل الإعلام إلى أي مادة علمية عنه، كما أنه ألقى بمسئولية أشكال العلاقات غير الشرعية على بعض أصحاب الفتاوى المتضاربة، وضحالة الوعي الديني أيضًا، وخلص في النهاية إلى أن متطلبات الحياة الحديثة، قد أعطت المرأة حقوقاً وحريات مساوية للرجل، ولم يعد مقبولاً غفران أخطاء الرجل، وإيقاع المرأة وحدها تحت طائلة العقاب، والحقيقة أن الأستاذ “سلامة” قد حاول تقديم نظرة متعمقة للقضية على أكثر من محور– كما سبق القول – ولم يكتف باتخاذ موقف محدد والتعبير عنه، وكان يكفيه، لكنه حاول أن يكون محايداً، وأن يصل إلى جذور حالة التفسخ الاجتماعي، وأن يطرح حلولاً لها من وجهة نظره.
ولم يبد أنه اكتفى بذلك، حيث لم يتردد لحظة في إعادة تخصيص عموده بتاريخ 27/ 6/ 2006 لنشر تعليقين وصلا إليه عن المقال الأول، فعرض للرأيين المتناقضين، وكان التعليق الأول من “نولة درويش ” حيث عرضت لوجهة النظر النسوية العامة، وخرجت من حصار القضية إلى الأفكار العامة برحابتها ، وحاولت مناقشة الأسباب العميقة وراء تخلف أوضاع المرأة بشكل عام في المجتمع، ووقفت طويلاً عند الجزر المنعزلة التي تفصل الأفكار عن بعضها ، وتمنع حتى الحوار الذاتي، بينما كان على الجانب الآخر رأي “حنان عمر يوسف” التي أصرت على العودة إلى الإطار الضيق للقضية وحصرها في إطار قيم المجتمع المغلقة.
في النهاية يبدو ملائمًا بلورة بعض النقاط كالتالي:
ظهر من العينة محل البحث توجهات الصحف حول الموضوع، فبات واضحاً تمثيل الأهرام للاتجاه المحافظ على العكس من جميع الجرائد الأخرى التي مالت في أغلبها، نحو الرؤية التقدمية للقضية، وهو ما يدعو المتساؤل: هل لهذا الموقف بعد سياسي بالإضافة إلى بعده الاجتماعي؟
اتضح من عملية الرصد أن المسألة لم تكن مجرد قضية بعينها، فقد أظهرت هذه القضية كثيراً من الأمور المختفية تحت السطح، التي أوضحت انقسام المجتمع وعدم ثبوته على وجهة نظر محددة، مثل الجمود الفكري، ورفض التحديث، ونفي الآخر من كلا الطرفين خاصة مع وجود تضارب في الآراء الدينية والفقهية بما يعني عدم وجود رأي محدد، وهي قضايا تستحق المناقشة بعمق.
أظهرت عملية الرصد موقفاً نسائياً – وليس نسوياً – أميل إلى المحافظة والدفاع عن مسمى تقاليد وأعراف المجتمع، وكأن النساء بذلك ينفين عن أنفسهن تهمة الانحلال – اللاتي وجهنها لأنفسهن – إذا ما حاولن التحيز بأي شكل للمرأة في هذا الموضوع.
أظهرت أيضًا عملية الرصد وجود ملف ضخم للموضوع، لم تفتحه إلا هذه القضية، فهل يطويه النسيان مرة أخرى مع إغلاق ملف القضية نفسها؟
اعتبر المثقفون أنهم انتصروا – أخيراً – على قوى الرجعية من خلال هذه المعركة، حيث نجحوا في إثارة بعض القضايا المسكوت عنها وأسهموا في تداولها على مدى يزيد على عامين ونصف، مما أدى إلى تحريك كبير في المياه الراكدة لهذه القضايا، وأظهر البعض جرأة مقننة في مناقشة الكثير من الجوانب المعقدة، دون خوف كبير من الاصطدام بالمجتمع، وهو ما يحتاج إلى تعميم في قضايا أخرى كثيرة من النوعية نفسها، حتى تكتمل أركان الانتصار.
1- عبد الرحمن الجبرتي، “صاحب الآثار في التراجم والأخبار” جزء ٤، ص ٢٥٤، ص ٢٥٥.
2- ناصر عراق، “تاريخ الرسم الصحفي“، دار میریت ۲۰۰۲، ص ۲5
3- د / إبراهيم عبده، “تاريخ الوقائع المصرية“، المطبعة الأميرية ببولاق، ص ٧
4- عبد الرحمن الرافعي، “مصر المجاهدة في العصر الحديث“، الجزء الثاني، ط ۳، ص ۱۲۱
5- أحمد بهاء الدين، “أيام لها تاريخ” ، دار الهلال، ص ۲۳
6- ناصر عراق، “المرجع السابق“، ص ٥٠
7- سهام عبد السلام “تحليل الخطاب الصحفي عن خادمات المنازل بجريدة الأهرام ۱۹۹۳ – ۱۹۹۸ ، جمعية التنمية الصحية والبيئية، الطبعة الثانية ٢٠٠٣ ص ٤
8-. Van Dijk Tuen A1996:1- 3 سهام عبد السلام المرجع السابق ص ٥
9- سهام عبد السلام المرجع السابق ص ٥
10- سهام عبد السلام المرجع السابق ص5