توثيق سير وتجارب النساء
رقم الطبعة:
الطبعة الأولى
توثيق سير وتجارب النساء من منظور النوع
تقديم
تعمل مؤسسة المرأة والذاكرة على إنشاء أرشيف تاريخ شفوي للنساء في مصر، وفي المنطقة العربية ، يأخذ في الاعتبار منظور النوع يهدف إنتاج معرفة بديلة عن النساء، والتاريخ، والمجتمع، معرفة تؤسس حياة أعدل للنساء والرجال.
يصدر هذا الدليل الإرشادي لكي يوثق تجربة المرأة والذاكرة في إنشاء الأرشيف، وهو ينقسم إلى قسمين: القسم الأول، يعرض الخلفية النظرية للمشروع ويلقي الضوء على مراحل الإعداد والتنفيذ، كما يسلط الضوء على بعض التحديات التي تواجه عملية بناء أرشيف شفوي. يشمل القسم الأول أيضًا نظرة سريعة على الورشة التدريبية التي تنظمها المرأة والذاكرة في مناهج البحث في التاريخ الشفوي من منظور النوع ، كما يقدم لمحات من بعض المقابلات.
أما القسم الثاني، فيحتوي على مجموعة مختارة من القراءات المتخصصة في التاريخ الشفوي من منظور النوع.
الجزء الأول:
توثيق سير النساء وتجاربهن من منظور النوع- دليل إرشادي
يسعى هذا الدليل الإرشادي إلى توثيق تجربة مؤسسة المرأة والذاكرة في إنشاء أرشيف تاريخ شفوي النساء مصريات يضع في الحسبان عنصر النوع، وذلك بهدف إتاحة هذه التجربة للباحثات والباحثين الأكاديميين والناشطين في منظمات المجتمع المدني المهتمين بعملية التوثيق بشكل عام، وتوثيق الروايات الشفوية بشكل خاص، وأيضًا لنشر التجربة وتشجيع القائمين على مشروعات التوثيق بدمج عنصر النوع في عملهم.
أولاً التاريخ الشفوي
بدأ الاهتمام بالتاريخ الشفوي في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين من قبل المؤرخين الاشتراكيين حيث تركز اهتمامهم على تدوين حيوات الناس من الطبقات العاملة. ثم شهدت – السبعينيات نشاطًا ملحوظًا في مجال التأريخ الشفوي مع اتجاهات بحثية رأت قصورًا في التاريخ الرسمي الذي يؤرخ لسير المشهورين والأغنياء وحياتهم ويغفل حياة الناس العاديين بسبب اعتماده شبه الكلي على الوثائق والأوراق الرسمية. وقد برزت أهمية التاريخ الشفوي بوصفه وسيلة فعالة في تصحيح المعرفة التاريخية عن الفئات المهمشة إما بسبب الطبقة لاجتماعية، أو العنصر، أو النوع، وأصبح منهجًا أساسيًا وفعالاً في دعم حركات التحرر والحركات الاجتماعية الساعية إلى إحداث تغيير في علاقات القوة غير المتوازنة والسياسات السلطوية. ومن أهم المجموعات التي وظفت التاريخ الشفوي في خدمة أهدافها السياسية والاجتماعية هي مجموعات تحرير المرأة. فقد أجابت المؤرخات النسويات على السؤال الذي طرحته حركات تحرير المرأة وهو: أين النساء في التاريخ؟ ولماذا يتم استبعاد النساء من الرواية التاريخية؟ جاءت الإجابة في شكل مشروعات بحثية تنقب عن النساء في الأرشيف التاريخي وتبحث عن إشارات ووثائق أهملها التاريخ الرسمي والمؤرخون حين اعتبروا أن أعمال النساء وإسهاماتهن لا ترقى مصاف بالضرورة إلى المعرفة التاريخية الجديرة بالتدوين والحفظ. وقد دأبت المؤرخات النسويات على مدار العقود الأخيرة من القرن العشرين على استعادة أصوات النساء المنسية وعلى تحدي السرديات السائدة التي استبعدت النساء، وعلى إدماج النوع بوصفه فئة تحليلية في قراءة التاريخ وكتابته. وكان من أنجع الأساليب المستخدمة في كتابة تاريخ النساء جمع روايات شفوية عن تجارب النساء وتوثيقها، ومن ثم نجحت النسويات في إحداث حركة بحثية داعمة لحركات تحرر النساء في العالم.
منذ البدايات، كان مجال التاريخ الشفوي محلاً للجدل والنقاش حول مشروعيته، بل وذهب من مؤرخون تقليديون إلى التشكيك في مصداقية المصادر وموضوعيتها، مقارنة بما اعتبروه موضوعية التاريخ الرسمي الذي يعتمد على وثائق رسمية، أما بالنسبة إلى التاريخ الشفوي للنساء العربيات، فقد ظهرت تحديات أخرى تتعلق بالتاريخ الكولونيالي للمنطقة العربية ومحورية التمثيلات عن المرأة العربية في هذا التاريخ وارتباطها الوثيق بالصراعات المحلية والدولية حول الهوية والدولة الوطنية والاستقلال الوطني.بعبارة أخرى، تتعقد عملية توثيق أصوات النساء العربيات وتشكيل تصورات عنهن في السياق المحلي والعالمي بحكم سياسات الموقع ودلالات تلك السياسات في عملية إنتاج المعرفة ونشرها. وقد تفسر تلك التحديات وغيرها الندرة الملحوظة في مجال التأريخ الشفوي في العالم العربي حتى نهايات القرن الماضي، وبخاصة فيما يخص النساء.
مما لا شك فيه أن القرن الحادي والعشرين قد شهد تناميًا ملحوظًا في سبيل الاعتراف بأهمية التاريخ الشفوي في كتابة التاريخ؛ مما أدى إلى ظهور مشروعات بحثية ومراكز متخصصة ومواقع إلكترونية تهتم بتوثيق التاريخ الشفوي. كان هذا نتيجة العمل الدؤوب الذي قام به مؤرخو التاريخ الشفوي في السبعينيات والثمانينيات حين نجحوا في تسليط الضوء على أصوات من لا صوت لهم وأسهموا في إنشاء أرشيفات شفوية لمجموعات مهمشة في المجتمعات المختلفة. وقد كان لنشأة مجال تخصصي في دراسات الذاكرة تأثير إيجابي في التأريخ الشفوي وفي إدراج الأرشيفات الشفوية ضمن المصادر التاريخية المعترف بها، أيضًا. ومن أهم العوامل التي ساعدت في انتشار مجال التأريخ الشفوي في القرن الحادي والعشرين الثورة التكنولوجية في الإعلام الرقمي، وفي شبكات التواصل الاجتماعي، وفي برمجيات الكمبيوتر المفتوحة. لقد أتاحت التكنولوجيا الجديدة أدوات مبتكرة لجمع الروايات الشفوية وحفظها وإتاحتها. ونلمس هذه التطورات في العالم العربي، ونشهد تزايدًا ملحوظًا في الاهتمام بالرواية الشفوية وإنشاء أرشيفات إلكترونية ترتكز على الروايات الشفوية التي تتدخل في صنع الرواية التاريخية عن أحداث ماضية ومعاصرة. ولكن، وكما نبه كثير من العاملين في حقل بناء الأرشيفات والمكتبات التاريخية، فالأرشيفات بشكل عام هي «أدوات المتحكمين في السلطة»؛ أي أدوات من يسعون إلى فرض نظام معين ورؤية أحادية عن الواقع، أو رواية تاريخية محددة عن فترة زمنية ما. ويذكرنا العديد من الباحثين والباحثات أن الأرشيفات ليست أماكن للحفاظ على الذاكرة فحسب، ولكنها أماكن تصنع الذاكرة، ومن ثم فممارسة السلطة، سلطة الاستبعاد وسلطة تعريف ما هو مقبول وما هو غير مقبول، هي ممارسة أساسية في بناء أي أرشيف. الأرشيفات تؤسس لسرديات مهيمنة كما تؤسس لسرديات مضادة، وكلها تدخل في صراع حول المستقبل. ويظل السؤال: من يكتب التاريخ؟ ومن يستطيع كتابة تاريخ المهمشين في الرواية التاريخية؟
…
أرشيف التاريخ الشفوي النسوي
شهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تناميًا ملحوظا في عملية التوثيق وإنشاء أرشيفات شفوية توثق حيوات الناس وتجاربهم. ولقد كان للثورة التكنولوجية أثر بالغ الأهمية في تيسير عملية التوثيق، وإتاحتها لجمهور، واسع ومتنوع. إلا أنه في معظم الأحيان، تغيب المقاربة النوعية في عملية التوثيق وتسود مقاربات تقليدية قاصرة في محدودية رؤيتها أو في إغفالها لعلاقات القوة الكامنة في إنتاج المعرفة.
أما الأرشيف الشفوي النوعي، فيستند إلى النظرية المعرفية النسوية التي تطرح أسئلة مغايرة عن ماهية المعرفة أو ماهية المعرفة الجديرة بأن تعرف، وتنطلق من بعض الافتراضات الأساسية، هي أن النظريات المعرفية السائدة في مجملها نظريات ذكورية ومنحازة للرؤية الذكورية عن العالم، حيث يحتل الرجل المكانة المفضلة وحيث تهيمن مصالحه واهتماماته على عملية إنتاج المعرفة. وعلى سبيل المثال، ولأسباب كثيرة لا مجال للخوض فيها الآن، تم إقصاء النساء من دوائر صياغة المعرفة، مما أدى إلى تهميش إسهاماتهن واعتبارها إسهامات غير جديرة بالتدوين لأنها لا ترقى إلى كونها معرفة مهمة أو معرفة جديرة بأن تحفظ. أما النظرية المعرفية النسوية، فهي تعيد الاعتبار إلى النساء ورؤيتهن في صياغة الأسئلة وفي تحديد ما هو مهم وجدير بالحفظ والتوثيق. الأرشيف الشفوي النوعي يشمل وجهة نظر النساء ويبرز حيواتهن وتجاربهن، ويتضمن مادة ووثائق عن النساء كما هو الحال بالنسبة إلى الرجال، روايات عن السياسة والمشاركة في المجال العام، إلى جانب روايات عن الحياة في المجال الخاص ، عن تفاصيل الحياة اليومية، عن مهام النساء الأسرية وتربية الأطفال، إلخ، الأرشيف النوعي لا يفترض تراتبية بين ما جرى العرف على تسميته بأعمال الرجال وأعمال النساء، أو بين المجال العام والخاص بل يفكك التعارض السائد بين العام والخاص، ويبرز علاقات القوة غير المتوازنة بين الرجال والنساء، ويبين أثرها في صياغة الرواية التاريخية عن الحياة الناس. وكما جاء في الحكمة النسوية الأشهر، كل ما هو شخصي، هو أيضًا سياسي.
لماذا يركز أرشيف التاريخ الشفوي للنساء في المرأة والذاكرة على توثيق حيوات النساء وتجاربهن؟ لماذا لا يوجد القدر ذاته من التركيز على حيوات الرجال ومقاربتها نوعيًا؟ يسعى الأرشيف الشفوي النوعي إلى توثيق حيوات النساء والرجال على حد سواء؛ إلا أنه، ولأسباب سياسية واعتبارات مرحلية، يتم التركيز على إبراز أدوار النساء – وعلاقات القوة التي رسخت للتمييز والتهميش. هذا قرار سياسي متعلق باللحظة التاريخية الآنية التي ما زالت النساء فيها تعاني من إقصاء وتهميش. أرشيف التاريخ الشفوي للنساء، مثله مثل أرشيفات الفئات المهمشة في المجتمعات المختلفة، يعمل بشكل واعٍ على تعويض النساء عن سنوات الإقصاء من خلال تسليط الضوء على حيواتهن وإسهاماتهن، ليس من منطلق الانحياز السلبي ضد فئة أو مجموعة، ولكن من منطلق سد الفجوات المعرفية وتحقيق التوازن على المدى البعيد، أي الانحياز المؤقت، أو التمييز الإيجابي لفترة من الزمن والعمل على طرح تصورات مغايرة عن المجتمع والتاريخ.
المرأة والذاكرة
تشكلت «المرأة والذاكرة» عام 1995، من مجموعة من بتغيير صور الباحثات الناشطات المهمومات النساء النمطية في الثقافة السائدة ، ارتكازًا على منظور النوع؛ حيث تمثل الصور والأفكار الثقافية السائدة حجر عثرة أمام تحسين أوضاع النساء وحصولهن على حقوقهن. ومن أهم المعوقات التي تواجه المرأة العربية حاليًا غياب مصادر المعرفة الثقافية البديلة بشأن أدوار النساء في التاريخ وفي الحياة المعاصرة. ومن ثم، قررت المجموعة اتخاذ شكل رسمي، يتيح لها الدعوة إلى تبني منظور النوع في دراسات التاريخ العربي والعلوم الاجتماعية بشكل عام. والهدف من القيام بهذه الأبحاث المتخصصة هو إنتاج معرفة ثقافية بديلة حول النساء العربيات، وإتاحتها بوصفها مادة يمكن توظيفها في زيادة الوعي ودعم النساء.
احتفلت مؤسسة المرأة والذاكرة عام ٢٠١٥، بعيدها العشرين. وعلى مدار عقدين من الزمن أسهمت المرأة والذاكرة في إنتاج معرفة بديلة من خلال عقد ندوات، وإقامة المؤتمرات المتخصصة، وعقد ورش عمل وتنظيم تدريبات في مجال البحث النسوي، وإنشاء مكتبة متخصصة في دراسات النوع والمرأة وإتاحتها عبر موقعها الإلكتروني، وأيضا إنشاء أرشيف لأصوات النساء، بالإضافة إلى إصدار مطبوعات في موضوعات متنوعة.
مشروع التوثيق وتمكين النساء
تعمل مؤسسة المرأة والذاكرة على إنشاء أرشيف شفوي لأصوات النساء المصريات بهدف توثيق ذاكرة النساء، التي هي مكون أصيل من ذاكرة الوطن والمجتمع، ومن أجل الحفاظ على تجارب النساء في المجالين العام والخاص، وبخاصة خبراتهم في الانخراط في الشأن العام وبخاصة خبراتهم في الانخراط في الشأن العام.
…
في أعقاب اندلاع الثورات في العالم العربي منذ ۲۰۱۱. يستند العمل في هذا الأرشيف إلى بدايات إنشاء أرشيف للتاريخ الشفوي للنساء المصريات في أواخر التسعينيات من القرن العشرين في مؤسسة المرأة والذاكرة، حيث تم توثيق سير نساء مصريات رائدات كان لهن باعٌ في العمل العام بمعناه الواسع.
في إبريل ٢٠١١، بدأ العمل في مشروع توثيق تجارب النساء المصريات المنخرطات في الشأن العام منذ الخامس والعشرين من يناير ۲۰۱۱، حيث قام فريق العمل في مؤسسة المرأة والذاكرة بتسجيل مقابلات مع دوائر الأصدقاء والعائلة.
كان الدافع وراء العمل على تدوين تجارب النساء في هذه المرحلة المبكرة إدراك أهمية تلمس وتدوين وفهم تبعات التغييرات العميقة في المجتمع وفي المجال السياسي على الناس، وبخاصة هؤلاء النساء الذين خرجوا واشتبكوا وفتحوا مساحات جديدة من العمل. استند المشروع إلى تراكم خبرة فريق الباحثات في المرأة والذاكرة في مجال توثيق سير النساء ورواياتهن من منطلق إنتاج معرفة بديلة عن النساء والتاريخ، أو بعبارة أخرى، في كتابة رواية تاريخية مضادة ومغايرة لرواية التاريخ الرسمي.
انصب العمل في هذا المشروع الأولي على تدوين تجارب النساء في أثناء الثمانية عشر يومًا الأولى، أي ما بين الخامس والعشرين من يناير حتى الحادي عشر من فبراير سنة ٢٠١١، وهي الأيام التي اتخذت في الروايات بعدًا أسطوريًا طوباويًا. (أشير هنا إلى الروايات والذكريات عن الأيام الـ 18 الأولى التي اعتصم فيها المتظاهرون في الميادين، وحيث تشارك الجميع في الأكل والشرب، وتبادلوا الأفكار، وقد تلاشت الخلافات الأيديولوجية وتقاربت وجهات النظر والتف الجميع حول هدف واحد، وهو رحيل الرئيس وإقامة دولة العدل وتحقيق مطالب الثورة من عيش وحرية وكرامة إنسانية.
…
ثم أطلقت مؤسسة المرأة والذاكرة في سبتمبر ٢٠١٣ مرحلة جديدة في مشروع التاريخ الشفوي يهدف إلى توثيق روايات النساء المشاركات في أوقات التغيير. توجه المشروع إلى قطاع واسع من النساء من مختلف الأيديولوجيات والمواقف السياسية والأجيال العمرية. كما استهدف مشاركات لهن تاريخ وباع في العمل الحركي أو السياسي أو الحقوقي أو الخدمي إلى جانب نساء انخرطن لأول مرة في العمل العام أو العمل المجتمعي متأثرات بحالة الحراك والانفراجة على الصعيد السياسي في ٢٠١١. هذا الأرشيف يستجيب لحاجة ملحة إلى التوثيق والحفاظ على روايات مشارکین ومشاركات في هذا الحدث الجلل؛ أي في حراك الثورات العربية لحماية تلك الروايات من الضياع في خضم الصراعات السياسية العنيفة على السلطة وعلى الرواية التاريخية للثورات.
تتسم الروايات عن فترات التغيير والأزمات بتعددية بالغة التعقيد على مستوى السرد ووجهة – النظر والتحليل، بل وعلى مستوى المضمون وتفاصيل الأحداث. أما في القرن الحادي والعشرين، فكان للثورة التكنولوجية في وسائل الاتصال والإعلام أثر بالغ في قدرات المواطنين العاديين في التفاعل مع الأحداث ونشرها وتدوين ذكرياتهم وانطباعاتهم عنها، الأمر الذي أدى إلى ازدياد كبير جدًا في تعددية الرؤى وتنوع وجهات النظر عن أحداث بعينها. وقد أسهمت وسائل الاتصالات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي في تيسير عملية التدوين والتوثيق بشكل غير مسبوق، ومن ثم أسهمت في إتاحة المعلومات عن الأحداث وكسر شبكات الاحتكار في وسائل الإعلام الرسمية والخاصة المسيطرة على إنتاج المعلومات والأخبار. ولكن على صعيد آخر، كان لثورة المعلومات أثر غير مرغوب بالضرورة؛ حيث تحول الفضاء الإلكتروني إلى ساحة صراعات أيديولوجية وسياسية أدت في كثير من الأحيان إلى بعثرة المعلومات المهمة أو حتى تهميشها وإسكاتها.
ومن ثم، تأتي أهمية بناء أرشيفات الأصوات النساء، تحافظ على أصواتهن وتظهرها ، أرشيفات لها أهدافها المعلنة وسياساتها الواضحة والشفافة، أرشيفات تفصح عن انحيازاتها واهتمامات القائمات عليها.
إن الأرشيفات، كل الأرشيفات، تعبر عن رؤى وأهداف ومشروعات لكتابة التاريخ وتحديد مسار المستقبل. وهذه أمور لا لبس فيها، حيث لا توجد موضوعية مطلقة وكل مدعي الموضوعية المطلقة لا هم لهم سوى تضليل القراء والمتلقين للأخبار. لا يعني هذا الغياب التام للموضوعية أو لمساعي إنشاء أرشيفات تحترم عقل المتلقي. وهنا، علينا طرح تعریف دقيق لمعنى الموضوعية. فالموضوعية لا تعني تجرد القائمين على الأرشيف أو على كتابة التاريخ من كل انحيازاتهم وأفكارهم ومنطلقاتهم الأخلاقية والأيديولوجية، ولكنها تتحقق عندما يفصح الكاتب والكاتبة عن انحيازاتهما وأفكارهما والأهداف المرجو تحقيقها من الكتابة أو التوثيق أو بناء الأرشيفات.
إن أرشيف التاريخ الشفوي للنساء المصريات معني بالحفاظ على ذاكرة النساء والوطن من خلال توثیق سير النساء وتجاربهن في أوقات الأزمات والتغيير، ويشارك بشكل واع في تشكيل الذاكرة والحفاظ عليها. إنه أرشيف الأمل؛ لأنه يحكي قصص نساء أسهمن بفاعلية في أحداث جسام ولم يقفن متفرجات، بل كانت لهن إسهامات ومبادرات غاية في الأهمية فضلا عن التأثير على مجريات الأحداث. يحتوي الأرشيف على روايات عن الشجاعة والإقدام والمثابرة، روايات بها فرح وحزن، بها تفاؤل وخيبة أمل، روايات مليئة بلحظات الانتصار وكذلك الهزيمة، روايات تحكي حكاية بلد يموج بأحداث وتقلبات في أعقاب مد ثوري عارم.
إن الهدف المباشر للمشروع هو توثيق تجارب وسیر النساء اللاتي كان لهن دور في المجال العام ، وبخاصة في أعقاب ثورة ٢٥ يناير سنة ٢٠١١. أما الهدف الثاني فهو إنشاء أرشيف تاريخ شفوي للنساء وإتاحته للباحثين والمؤرخين لإعانتهم على كتابة تاريخ تلك المرحلة الحرجة في تاريخ مصر والعالم العربي. والهدف الثالث هو الحفاظ على ذاكرة حافلة بروايات عن مشاركة المواطنين والمواطنات في الحراك الشعبي، عن قدرة النساء على إحداث تغيير في المجال السياسي، وعلى مبادرات وأنشطة مبدعة ومجددة. الهدف الطويل الأجل هو بناء أرشيف يبعث على الأمل في مستقبل أفضل.
ولذا، فإن مشروع توثيق التاريخ الشفوي للنساء في أوقات التغيير يرصد مشاركة النساء في المجال العام ويسلط الضوء على قدرتهن على الفعل والتأثير، ومن ثم يحافظ على تراكم الخبرات في المجال العام ويتيحها للأجيال القادمة للاستفادة منها ولإحداث تراكم معرفي على المستوى العملي والرمزي.
ثانياً: مراحل الإعداد لمشروع أرشيف التاريخ الشفوي النسوي
يتكون فريق العمل من مجموعة من الباحثات (هدى الصدة، ميسان حسن، ديانا مجدي عبد الفتاح، أمنية خليل، داليا عبيد، آية سامي، عالية الرياني) والفريق التنفيذي (داليا الحمامصي، رامی رياض، أميرة نادي ، نهلة سلامة، مارينا جورجی).
بدأ العمل التحضيري للأرشيف في إبريل ۲۰۱۱، والعمل المنتظم في سبتمبر ۲۰۱۳، واستغرق ما يزيد على سنتين، أي إنه تزامن مع فترة مليئة بالتقلبات والأزمات السياسية والاجتماعية الحادة. كان التركيز في البداية على توثيق التجارب والانطباعات والرؤى المستقبلية لمشاركات في الحراك الثوري وبخاصة أثناء الثمانية عشر يومًا الأولى التي انتهت برحيل حسني مبارك في 11 فبراير ٢٠١١، كان الجو العام السائد، رغم الأحداث القاسية والتضحيات ، احتفاليًا ومتفائلاً إلى أبعد الحدود. وكانت الروايات عن الأحداث؛ حتى حين تتطرق الراوية إلى اشتباكات عنيفة أو مواقف تنم عن تمييز وعنف ضد النساء، حيث كانت الراويات يتحدثن من موقع قوة وأمل في الانتصار وتخطي الصعاب. كان هذا في ٢٠١١ في قمة الا الثوري وفي سياق حالة التفاؤل والمبادرة التي شعر بها عدد كبير من المواطنين والمواطنات في مصر وفي العالم.
ومع تلاحق الأحداث وتسارعها سيناريوهات مأزومة، نلمس بشكل واضح تغييرا في تقييم الأحداث أو في الإطار الحاكم لرؤية الرواية. بدأ العمل المنظم في المرحلة الثانية للمشروع في سبتمبر ۲۰۱۳. فتمت مراجعة الأسئلة وتوسيع الإطار الزمني المستهدف في المقابلة بحيث يغطي سيرة الراويات وتجاربهن في المجال العام قبل ٢٠١١، ثم التركيز على مشاركتهن بعد ۲۰۱۱ واستطلاع آرائهن في التغييرات التي طرأت على المشهد وتشجيعهن على عقد مقارنات بين الحاضر والماضي وبين مواقفهن وتحليلاتهن المتغيرة أو الثابتة للأحداث المتلاحقة في أعقاب ٢٠١١.
تم عقد حوالي 100 مقابلة. وطرحت أسئلة عن خلفيتهن الاجتماعية والسياسية والأسرية، وعن تجاربهن ومشاركتهن في أحداث بعينها، وعن رؤيتهن للثورة والتغيير، وعن التغييرات التي طرأت على علاقتهن بأسرهن أو بأصدقائهن أو بدوائرهن بسبب التقلبات السياسية، وكذلك عن علاقتهن بالشارع والشعور بالأمان من عدمه. تم توجيه أسئلة خاصة بقضايا النوع ووضع النساء في المجال العام أيضا، وبرأيهن في أسباب العنف ضد النساء، وانطباعاتهن عن تزايد العنف أو انحساره، ومدى تأثير كونهن نساء على قدرتهن على المشاركة في المجال العام وبخاصة في أوقات الأزمات.
انتهجت المقابلات منهج الحوار المفتوح الذي يسمح للراوية توجيه سير المقابلة نحو الموضوعات المهمة لها، واستخدمت الأسئلة للتحفيز.
حرص فريق العمل على عقد اجتماعات أسبوعية طوال فترة المشروع لتبادل الآراء ولمناقشة الإشكاليات التي تطرأ على سير العمل. وقد أتاحت تلك الاجتماعات فرصة ثمينة لتطوير العمل وضمان التنسيق الجيد بين عضوات الفريق، كما وفرت الاجتماعات مساحة جيدة للتأمل والمراجعة.
…
1. صياغة الأسئلة
يرتكز مشروع التاريخ الشفوي على سؤال رئيسي وهو : كيف أثرت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ في النساء في مصر؟ وما تجليات تلك الأحداث على أدوار النساء في المجالين العام والخاص؟ ويتضمن السؤال موضوعات وقضايا متنوعة تمت صياغتها في أسئلة على النحو الآتي:
1. ممكن تعرفي نفسك؟ (الهدف هو التعرف على تفاصيل خلفية الراوية مثل: موقعها من الأسرة، العمل، والنشاط. ولكن يطرح السؤال بشكل مفتوح لإتاحة الفرصة للراوية تحديد أسلوب تعريف نفسها. )
٢. ما الأسباب التي شجعتك على الانضمام إلى: الحزب/الجمعية/المبادرة/أو المشاركة في الانتخابات أو القيام بنشاط ما؟ (يركز هذا السؤال على معلومة تقدمت بها الراوية أثناء تعريف نفسها أو على معلومات حصلت عليها الباحثة قبل إجراء المقابلة.)
3.ما اللحظات المهمة بالنسبة لك خلال السنوات الماضية؟ (أين كنت في ٢٥ يناير، و ۲۸ يناير، ۳۰ يونيو ٢٠١٣، وهكذا).
4. هل تغيرت علاقتك بأسرتك/أصدقائك/ زملائك في العمل؟
5. هل تغيرت علاقتك بالشارع؟
6. هل غيرت الأحداث السياسية حياتك؟ كيف؟
7.هل تغيرت علاقتك بالبلد؟
8. هل تعتقدين أن كونك امرأة أثر في تجربتك مع الثورة، أو الحزب ، أو مبادرة، أو أي أنشطة أخرى؟
9. ما موقف أسرتك من نشاطك؟ هل كانت داعمة أو غير داعمة؟
10. ما رأيك في مقولة «أن النساء مستهدفات في المجال العام؟»، وهل ترين أن العنف ازداد ضد النساء؟
11. ما تقييمك لدور المجموعات الناشطة في مجال حقوق النساء (الحكومية وغير حكومية)؟
۱۲. كيف تغيرت مشاعرك بالنسبة إلى الأحداث على مدار السنوات الثلاث الماضية؟
۱۳. كيف تأثرت حياتك المهنية بالاهتمامات السياسية؟
2 – اختيار الراويات:
تم اختيار الراويات بناء على الفئة المستهدفة في المشروع ، وهي النساء اللاتي مارسن نشاطًا أو دورًا محددًا في المجال العام في أعقاب ثورة ٢٥ يناير ۲۰۱۱، سواء من كان لهن تاريخ في العمل العام أو من انخرطن حديثًا في هذا المجال. وقد حرص فريق العمل أثناء عملية الاختيار على مراعاة التنوع في الفئات العمرية والخلفيات الاجتماعية والأيديولوجية والمهنية، فضلاً عن التنوع في النشاط. كما ركزت عملية الاختيار على التنوع الجغرافي للراويات حيث لم تقتصر المقابلات على النساء المقيمات بالقاهرة، بل قام أعضاء الفريق بالتوجه إلى المحافظات المختلفة لضمان تنوع الخبرات والتجارب.
3. إرشادات عملية عامة لإجراء المقابلات: قبل المقابلة
جمع معلومات عن الراوية والتعرف على سيرتها وعملها وكتاباتها إن وجدت قبل إجراء المقابلة.
الحرص على ضمان سلامة المعدات التي يتم استخدامها أثناء عملية التوثيق مثل شحن جهاز التسجيل، أو وجود بطارية إضافية وهكذا.
تنسيق مواعيد المقابلات مع الراوية والتأكيد على الموعد قبل المقابلة.
التأكد من الاجتماع في مكان هادئ لضمان جودة الصوت.
أثناء المقابلة
تعريف المشروع وشرح أهدافه للراوية.
طرح الأسئلة بشكل مفتوح يتيح للراوية مساحة كافية لسرد قصتها بالشكل الذي يلائمها.
تجنب الأسئلة التي تستدعي الإجابة بنعم أو لا بقدر الإمكان.
تجنب مقاطعة الراوية أثناء الحكي لطرح سؤال آخر.
التعامل بمرونة مع سير المقابلة.
تدوين ملاحظات مختصرة للاستعانة بها بعد المقابلة لكتابة ملاحظات الباحثة.
إفساح الفرصة للراوية لاستدراكات أو إضافات تود إثارتها بعد انتهاء المقابلة.
التأكد من أن الراوية على علم جيد بسير عملية التوثيق وما يمكن لها أن تتوقعه بعد الانتهاء من المقابلة.
الحصول على الموافقة الكتابية المبدئية لإجراء المقابلة والتأكد من المعلومات الأساسية مثل الاسم، رقم البطاقة، التاريخ، والإمضاء.
بعد المقابلة
توثيق الملاحظات والانطباعات عن تجربة المقابلة، وذلك لمناقشتها مع فريق العمل. يفضل أن يتم نقل التسجيل الصوتي على الفور من جهاز التسجيل إلى جهاز التخزين والتأكد من وجود عدة نسخ منه. كتابة ملخص قصير للمقابلة. تفريغ المقابلة لتحويلها من نص منطوق إلى نص مقروء.
4. السياسة التحريرية:
التحرير هي المرحلة النهائية لعملية التوثيق، والهدف من التحرير هو تحويل القصة المسموعة إلى قصة مقروءة بشكل سلس وواضح للقراء. عملت المرأة والذاكرة على وضع سياسة تحريرية يتم اتباعها أثناء تحرير الروايات الشفوية من قبل الباحثات في المؤسسة، حيث عقدت ورشة عمل لإخراج نموذج للسياسة التحريرية. استمر تحديث السياسة التحريرية للتعامل مع أية مستجدات تطر أثناء العمل.
تحتوي السياسة التحريرية على إرشادات واضحة لشكل المقابلة وللمعلومات التي يجب تضمينها في كل ملف، مثل اسم الراوية، واسم الباحثة، وتدوين كامل لتواريخ المقابلات وأيضا تواريخ التفريغ والتحرير، وأسماء كل من راجع أو حرر أو تدخل بأي شكل أو صفة في النص تتضمن السياسة أيضًا إرشادات تقنية وفنية تراعي في أثناء عملية التفريغ ثم في عملية التحرير، وهي كلها إرشادات تهدف إلى تسهيل عملية القراءة وأيضا توحيد شكل الإتاحة للمقابلة، فمثلاً، أثناء عملية التفريغ ، يراعي عمل تمييز ملون لكل الكلمات غير المسموعة مع كتابة توقيتها الزمني في ملف الصوت. الهدف من مساعدة المحررة على مراجعة جزء محدد في المقابلة ومقارنته بالتسجيل الصوتي. أما أثناء التحرير، فتتضمن السياسة التحريرية قرارًا بترجمة كل الكلمات الأجنبية إلى العربية، وإضافة أسماء شخصيات أو أماكن يشار إليها باقتضاب في السرد، واستخدام الهوامش لتوضيح أو تصحيح تواريخ أو تسلسل أحداث معروفة ووضع التعبيرات عن المشاعر بين قوسين ، هذا على سبيل المثال لا الحصر.
من أهم القرارات التحريرية قرارات متعلقة بمستويات اللغة المستخدمة والعلاقة بين العامية والفصحى في النص المكتوب مقارنة بالنص المسموع.معظم الراويات يستخدمن العامية المصرية للتعبير عن أنفسهن. وفقا للسياسة التحريرية المتوافق عليها، يتم الاحتفاظ بالنص العامي مع إدخال تعديلات طفيفة جدا للتوضيح أو لتسهيل عملية القراءة. ومع هذا ، نجد مثلا أن بعض الراويات يفضلن تقريب النص المكتوب إلى اللغة الفصحى لأن هذا يسهل عملية القراءة من وجهة نظرهن، وأخريات يفضلن الإبقاء على العامية دون تدخل حرصًا على روح المقابلة. تظل قضية اللغة والعلاقة بين العامية والفصحى في النص المكتوب من الأمور التي تحتاج إلى تدقيق وتوضيح في مجال التاريخ الشفوي.
5. إتاحة الروايات الشفوية: أرشيف التاريخ الشفوي للنساء
اهتمت مؤسسة المرأة والذاكرة بنشر وإتاحة الروايات الشفوية باعتبارها مصادر تاريخية ثمينة لكتابة التاريخ ولدراسة المجتمع، وذلك لاستخدامها في الأغراض البحثية، بالإضافة إلى الاستفادة منها وتوظيفها في المجال الدعوي لحقوق النساء. أطلقـت ت المرأة والذاكرة الموقع الإلكتروني أرشيـف التاريخ الشفـوي للنسـاء https://oralhistoryarchive.wmf.org.eg في إبريل ٢٠١٥. يتيح الموقع ملفات شخصية للراويات تحتوي على جزء قصير من شريط الصوت للمقابلة، ومقولة دالة يتم اختيارها من المقابلة، بالإضافة إلى نبذة عن محتوى المقابلة. تحتوي النبذات على بعض الموضوعات التي تحدثت عنها الراوية خلال المقابلة ومعلومات شخصية أساسية عنها. يشمل الموقع الإلكتروني أيضًا كلمات دالة تيسر عملية البحث على الموقع، وتتضمن الأنشطة والمهن والموضوعات التي تعمل عليها الراوية. الأمثلة على الكلمات الدالة المستخدمة: نقابات ، مبادرات ، قضايا النساء.
…
اهتمت مؤسسة المرأة والذاكرة أيضا بتحويل الروايات الشفوية إلى أعمال فنية إيمانا بأهمية نقل تجارب النساء المختلفة لجمهور أوسع. ومن ثم، قام فريق العمل باختيار مجموعة من الروايات التي تعكس تعدد تجارب النساء واختلافها في المجال العام، وتحويلها إلى أفلام قصيرة، حيث تم توظيف مقاطع مختلفة من المقابلة مع صور شخصية للراوية لإنتاج فيلم قصير مدته تتراوح من دقيقتين إلى أربع دقائق.
6. أخلاقيات العمل في التاريخ الشفوي:
يولي فريق العمل في المرأة والذاكرة أهمية قصوى لأخلاقيات العمل في مجال التاريخ الشفوي يراعى فيها احترام الراويات وتغليب مصلحتهن ورغباتهن في المراحل المختلفة في المشروع. بداية، تذهب الباحثة إلى الراوية بعد الاطلاع على سيرتها أو المعلومات التي يمكن الحصول عليها قبل المقابلة، كما تقوم بدراسة الأنشطة أو المجالات التي تعمل فيها الراوية لتجنب طرح أسئلة بديهية تضيع وقت الراوية وقد تشعرها بعدم جدية الباحثة. تحرص الباحثة على توضيح الهدف من المقابلة والاستخدامات المستقبلية لها. ويطلب من الراوية التوقيع على ورقة تقر فيها بموافقتها على التسجيل مع الباحثة والمشاركة في مشروع أرشيف التاريخ الشفوي صيغة الموافقة على تعريف بمؤسسة المرأة والذاكرة ، وتعريف بالمشروع والأغراض البحثية منه. ثم، وبعد الانتهاء من جميع مراحل التوثيق، يطلب من الراوية مراجعة نص المقابلة الذي تم تحريره ثم يتم ضم روايتها إلى أرشيف التاريخ الشفوي ومركز المرأة والذاكرة للكتب والوثائق.
في جميع مراحل التسجيل والتفريغ والتحرير، يلتزم فريق العمل باحترام رغبات الراوية ، فمثلا تشطب أي عبارة أو حكاية بناء على رغبة الراوية أثناء عملية التسجيل أو بعدها.
يحدث أحيانًا في أثناء التسجيل أن تقول الراوية إن هذا الجزء أو هذه الحكاية ليست للتوثيق ، وهذا تقوم الباحثة بمحوها من الشريط ولا يتم تفريغها أما في أحيان أخرى، وهذا أمر بالغ الأهمية ، فتقوم الراوية بسرد أحداث أو مشاعر أثناء المقابلة ، ثم بعد قراءتها مكتوبة تشعر بأنها ليست مستعدة لمشاركتها مع قراء آخرين أو تشعر أنها لا تعبر جيدا عن الصورة التي تود تقديمها عن نفسها. مرة أخرى، وبناء على مبدأ أساسي وهو احترام رغبات الراوية، تقوم الباحثة بشطب الجزء المعني وفقا لطلب الراوية. يؤمن فريق العمل أن الامتثال لطلبات الراويات يؤسس لعلاقة مبنيًا على الاحترام المتبادل بين الراويات وفريق العمل ويبعث الطمأنينة لدى الراويات.
ثالثاً: مقاربات في التاريخ الشفوي النسوي. ورش عمل
ضمن مشروع إنشاء أرشيف التاريخ الشفوي للنساء المصريات، تنظم مؤسسة المرأة والذاكرة ورش عمل دورية لتدريب الباحثين والعاملين في مجال التوثيق على أساليب عمل وإدارة مشروعات توثيق الروايات الشفوية من منظور النوع. وتعقد ورشة العمل على مدار ثلاثة أيام، وتتضمن محاضرات وجلسات نقاشية حول نظريات ومقاربات ومفاهيم أساسية في التاريخ الشفوي النسوي. وفيما يلي ملخص لأهم النقاط التي تتناولها المحاضرات والجلسات النقاشية:
المحاضرة الأولى: مدخل إلى البحث النسوي
تقدم هذه المحاضرة مدخلاً إلى مناهج البحث النسوي، من خلال إلقاء الضوء على أهم المفاهيم المعرفية المتعلقة بالنظرية النسوية والبحث النسوي وتاريخ الحركة النسوية المصرية، وذلك في إطار المشروع الفكري والبحثي الذي تتبناه مؤسسة المرأة والذاكرة. وفيما يلي أهم النقاط التي تتضمنها المحاضرة:
1.تعريف بمؤسسة المرأة والذاكرة: النشأة والإطار الفكري والعمل البحثي.
2.الحركة النسوية حركة سياسية: تطور الحركة النسوية المصرية فكرًا وعملاً منذ نهايات القرن ۱۹ حتى اليوم، من حيث أهم القضايا والمطالب وأدوات العمل النسوي.
أ.الموجة الأولى: منذ نهاية القرن ۱۹ حتى منتصف القرن ۲۰.
ب. الموجة الثانية: منذ منتصف القرن ۲۰ حتى ثمانينيات القرن ۲۰.
ج. الموجة الثالثة: منذ الثمانينيات حتى يناير ۲۰۱۱.
د. الموجة الرابعة: منذ يناير ۲۰۱۱ وصاعدًا.
مفاهيم نسوية وجندرية:
أ.الوعي النسوي.
ب.الجندر (النوع).
ج. التجربة.
د. العام والخاص.
هـ.الاختلاف والتمييز والتنميط.
و.النظرية النسوية، والدراسات النسائية، ودراسات الجندر.
ز.الفكر النسوي والفعل النسوي.
البحث النسوي:
أ. الإبستمولوجيا النسوية.
ب. مناهج البحث النسوي.
ج.البحث النسوي والنضال النسوي.
…
المحاضرة الثانية: مدخل إلى التاريخ الشفوي.مقاربة نسوية
تقدم هذه المحاضرة مدخلاً إلى التاريخ الشفوي النسوي وذلك من خلال استعراض نشأة الاهتمام بالتاريخ الشفوي بوصفه مجالاً بحثيًا لإنتاج المعرفة التاريخية وارتباط البدايات بالحركات الاجتماعية الحقوقية التي ظهرت في الجزء الثاني من القرن العشرين، كما تسلط الضوء على إسهامات النسويات في مجال التاريخ الشفوي وعلى بعض القضايا والمفاهيم ذات الصلة.
وفيما يلي أهم النقاط التي تتضمنها المحاضرة:
1. بدايات التاريخ الشفوي:
أ.التاريخ الاجتماعي للطبقات العاملة في الخمسينيات والستينيات.
ب.تأسيس جماعة التاريخ البريطاني في السبعينيات.
ج.حركات التحرر الاجتماعية وحركات التحرر الوطنية.
د.حركة تحرير النساء.
٢. التاريخ الشفوي والأسئلة النسوية:
أ. أين النساء في التاريخ؟
ب. هل تؤثر أدوار النساء في المجال الخاص على المجال العام؟
3. تحديات وقضايا:
أسطورة الموضوعية.
ثنائية الشفوي والمدون أو القراءة والكتابة.
الذاكرة وعملية خلق المعنى.
4. من قضايا النوع في السرد الشفوي:
أ.النساء يقللن من قيمة أفعالهن وأدوارهن.
ب.التفاعل مع صور تمثيل النساء في المجتمعات.
5. الجدل الأخلاقي والنظري:
أ. كيف تفيد المقابلة صاحبةالشأن؟
ب.من يتحكم في المنتج النهائي؟
ج. ما النتائج السياسية أو الاجتماعية المترتبة على المقابلة ونشرها؟
6.إشكالية التجربة:
أ. هل نساوي بين الحقيقة والتجربة؟
ب. التجربة وسياسة الموقع.
7.التاريخ الشفوي في القرن ٢١:
أ.ليست الذاكرة مستودعا سلبيا للحقائق بل هيمساحة نشطة لخلق المعاني.
ب.تعدد الآراء يؤدي إلى رؤية متوازنة للتاريخ.
ج. دراسات الذاكرة.
د.الثورة التكنولوجية.
8.التاريخ الشفوي العربي في القرن ٢١:
أ.مقاومة محاولات إبادة الذاكرة.
ب.من وسائل الدعوة والتعبئة في أثناء الأزمات والصراعات.
ج.كتابة تاريخ المهاجرين.
المحاضرة الثالثة: تأويل النص الشفوي
تلقي المحاضرة الضوء على قضايا تأويل النص الشفوي والإجابة عن سؤال: كيف نقرأ النص الشفوي وما آليات تفسيره بحيث ننجح في استكشاف المسكوت عنه أو المضمر؟ تتناول المحاضرة بالشرح والتحليل بعض العناصر المعقدة في الرواية الشفوية مثل الذاكرة والتجربة والذاتية.
1. أسئلة الذاكرة:
أ. اللحظة التاريخية.
ب. السن.
ج. ظروف الراويات.
د. مشاعر الراوية.
هـ. أيديولوجية الراوية.
٢. التجربة:
أ.الخطاب وعلاقته بالتجربة.
ب.التجربة لا تساوي الحقيقة.
ج.دور اللغة في فهم وتحليل التجربة.
3. الذاتية:
أ. التاريخ الشفوي ذاتي.
ب.الصراع على الهوية.
ج. بعد الذوات الفاعلة عن الثبات، فهي متغيرة وتشكلها الخطابات السائدة كما تشكلها مقاومة هذه الخطابات.
د. عدم اكتمال وتناقض روايات الحياة ، سواء عن حياة الراوي في الحاضر أو في تشكيله للماضي من خلال الذاكرة.
4. اللغة:
أ. الاختلاف بين طرق التعبير والاتصال بين المرأة والرجل.
ب. الاعتراف بشرعية طرق اتصال المرأة.
ج. الاهتمام بتحليل طرق تعبير النساء عن تجاربهن.
د. تحليل التعليقات التي تحمل تقييمًا ذاتيًا.
…
المحاضرة الرابعة: مناهج البحث الكيفي الميداني
تهدف المحاضرة إلى التعريف بآليات البحث النوعي والكيفي، وذلك بواسطة تشجيع الحضور على المشاركة وطرح الأسئلة والإجابة عنها. تستعرض المحاضرة بعض الأسئلة المرتبطة بالبحث وتلقي بالضوء على مفاهيم وقضايا ذات صلة. من بينها:
1. كيف نصل إلى الحقيقة من خلال البحث التاريخي؟
۲. ما العلاقة بين الباحثة والراوية؟
3. ما سمات البحث الكيفي؟ وما يميزه عن بقية مناهج البحث؟
4. هل تمثل عينة البحث الكيفي كل فئات المجتمع؟ ما آليات تقييم البحث الكيفي؟
5. ما مدى تأثير التجارب الشخصية للباحث أو الباحثة في عملية البحث الكيفي؟
6. ما الفرق بين العمل الإبداعي والعمل الأكاديمي الخاص بالبحث الكيفي؟
7. ما الأدوات التشاركية للبحث الكيفي؟
8. ما سمات البحث الكيفي النوعي؟
تتضمن المحاضرة عرضًا لملف عن البحث الكيفي موجود على موقع مركز البحوث الاجتماعية في الجامعة الأمريكية في القاهرة:
https://www1.aucegypt.edu/academic/qualitativeresearch/pdf/QualitativeResearchIntro. Pdf
المحاضرة الخامسة: إدارة البيانات الكيفية وتحليلها
تهدف هذه المحاضرة إلى تعريف المشاركين و المشاركات بأدوات البحث العلمي المستخدمة في تحليل البيانات بشكل عام، وتحليل بيانات ونصوص التاريخ الشفوي بشكل خاص، وعلى سبيل المثال، تقدم المحاضرة برنامج Miner Lite وهو برنامج إلكتروني من أحدث التقنيات الموجودة لتحليل البحث الكيفي، مع اعتبار محدودية عمله باللغة العربية، ويساعد الباحث والباحثة على الكتابة بسهولة وترتيب المادة دون بذل مجهود كبير كما هو الحال عند استخدام الأدوات التقليدية في تجميع وتحليل البيانات. وتتضمن الجلسة تدريبات عملية.
1. أدوات البحث العلمي.
۲. برنامج Miner Lite.
3. تطبيقات عملية لجمع البيانات البحثية:
أ. تضمین أسئلة النوع في جمع البيانات.
ب. أهمية التفاصيل في تحليل معاني النص ودلالاته.
4. إرشادات عملية عن التوثيق وجمع المادة.
https://provalisresearch.com/products/qualitative data-analysis-software/freeware/
…
المحاضرة السادسة: مفاهيم وقضايا في التاريخ الشفوي – تطبيقات عملية
تهدف هذه الجلسة إلى تشجيع الحضور على نقد المسلمات المرتبطة بالتأريخ وبعملية التوثيق، وذلك من خلال تحليل تجارب محددة في العمل الميداني، وكذلك في العمل النظري.
وفيما يلي بعض الإشكاليات التي تتناولها الجلسة:
1. تاريخ ظهور التأريخ الشفوي أو التاريخانية.
٢. الفرق بين التاريخ وما قيل عن التاريخية.
3. مفهوم «تصميت التاريخ» بمعنى تهميش أو إبراء حقائق وأشخاص بأعينهم.
4. الافتراضات حول التأريخ الأكاديمي والتأريخ خارج النطاق الأكاديمي.
المحاضرة السابعة: مصادر متنوعة للتاريخ الشفوي – تجارب عملية
تهدف هذه المحاضرة إلى توسيع قاعدة المصادر التي يستند إليها التاريخ الشفوي بحيث تشمل الأغاني والحكايات الشعبية على سبيل المثال لا الحصر. ومن خلال عرض لدور الأغاني بوصفها مثلاً لمصدر من مصادر التاريخ الشفوي ، يتم تناول المفاهيم والقضايا والخصائص الآتية:
1. استحضار التاريخ بوصفه حدثًا منفصلاً عن التجربة مقابل التاريخ بوصفه فعلًا.
٢. الكتابة الجماعية للتاريخ من قبل المغنيين.
3. الكتابة المجمعة للتاريخ.
4. التوافق على الرواية وشعبية الأغنية.
5. الغناء والمقاومة.
6. الغناء وخلق الروابط الاجتماعية.
7. اللغة الحميمة في الأغاني.
8. مقاومة تعقيم التاريخ.
المحاضرة الثامنة: مشروع أرشيف التاريخ الشفوي للنساء – إدارة المشروع، إجراء المقابلات، الاشكاليات التحريرية
تتضمن هذه الجلسة عرضًا مفصلاً عن مشروع أرشيف التاريخ الشفوي للنساء لتوثيق تجارب النساء في المشاركة في المجال العام في أعقاب ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ في مؤسسة المرأة والذاكرة ، وتقوم عضوات في فريق العمل باستعراض بعض الإشكاليات وطرق تناولها في أثناء سير المشروع. ويتم تناول النقاط الآتية:
1. الخطوات التحضيرية.
۲. طرق التنسيق بين عضوات فريق العمل.
3. إشكاليات تحرير النص الشفوي:
إشكاليات اللغة.
إشكاليات السرد.
إشكاليات المحتوى.
…
المحاضرة التاسعة: تجارب في التوثيق العربي والمسموع
تقدم هذه الجلسة تجارب ثرية لباحثين وباحثات لهم خبرة في مجال التوثيق المرئي والمسموع. يتم استعراض تلك التجارب والتركيز على بعض التحديات والدروس المستفادة. وتتيح الجلسة الفرصة للمشاركات في الورشة للحديث عن تجاربهن في التوثيق والعمل الميداني والتفاعل مع الناس.
رابعاً: لمحات من أصوات النساء
من ضمن الأسئلة التي وجهت إلى الراويات سؤال عن علاقتهن بالشارع، وإذا كن لاحظن تغيرًا في تلك العلاقة خصوصًا بعد اندلاع الموجة الثورية في يناير ٢٠١١، وقد تنوعت الإجابات وتمايزت وفقًا لخبرات الراوية وخصوصية ظروفها واهتماماتها وشخصيتها. واختلفت شهادات الراويات أيضًا وفق اللحظة الوقتية التي تمت فيها المقابلة، فالمقابلة تتأثر وتتشكل في معظم الأحيان حسب موقف الراوية من أحداث بعينها وحسب قراراتها في اختيار الإطار السردي الحاكم لروايتها. ومن ثم، فهذه المقتطفات ما إلا تعبيرات عن خبرات وتجارب تم استدعاؤها في لحظة زمنية محددة وفي سياق معرفي وشعوري محدد. وفي الوقت نفسه، نجد أن تلك اللمحات تساعدنا على فهم ظواهر اجتماعية معينة مرتبطة بفترات تاريخية معينة ومتمثلة في خبرات النساء وتصوراتهن عنها وعن أنفسهن.
وفي ما يلي لمحات قصيرة من حديث بعض الراويات عن التغييرات التي طرأت على علاقتهن بالشارع بعد ثورة ٢٥ يناير والأحداث الجسيمة التي حلت بالبلاد منذ ذلك الحين:
۱. ریم
بالنسبة للشارع أنا حسيت إني بقيت أقوى في الشارع. وحسيت إن عندي الجرأة أعمل حاجات أكثر في الشارع، وده سببه مجموعة الأصدقاء اللي كونتهم بعد الثورة، وانضم ليهم أصدقاء قدامي ، لكن الغالبية العظمى دلوقتي بقت أصدقاء بعد الثورة.
٢. أسماء
أعتقد إنه اختلف لأن البنات بقت أقوى وأجرأ، إحنا كنا بنخاف ودايما عندنا مشكلة إن ما تواجهيش وما تخشيش في معارك عشان انتي اللي هاتتهاني وانتي اللي هتنبهدلي. البنات ما بقوش بيفكروا بالطريقة دي ممكن ممكن يخشوا في معارك وممكن يواجهوا وأعتقد إن ده الحل الأمثل. السبب إن إحنا خسرنا أو اتأخرنا الفترة دي كلها إننا ما كناش بتواجه، إنه كان عيب إنك تواجهي.
3. غادة
في الوقت العادي أنا شايفة إنه العلاقة بتسوء. كمية الانتهاكات بتكتر والموضوع بيبقى بشكل فج جدا، والناس يا بتسكت يا بتتدخل بشكل سلبي. قليل قوي لما حد بيتدخل بشكل إيجابي، مثلا يقف معايا لو أنا زعقت لحد.. . كنت حاسة أحيانًا الناس بتتكسف شوية على دمها… بس دلوقتي الناس بقت بتحمي بعض في الغلط وفي التحرش. أنا حاسة برغم إنه وضع الشارع بيسوء ما بقتش أخاف.
4. داليا
حبيت جدًا أول ١٨ يوم لأني أول مرة أحس إن الشارع لنا. بامشي في الشارع 3 و 4 و 5 الفجر ومش قلقانة من أي حاجة، قبل التنحي بيوم فاكره لما قعدنا ٢٤ ساعة، الخطاب بتاع لم أكن أنتوي الترشح، طبعا انتي لو كنتي في اللحظة دي جوه الميدان مش في أي ميدان تاني فاكره إن البني أدمين كانوا عبارة عن قطعة لحم لزقت في بعضها، أوقات الناس كانوا بيمشوا رافعين إيديهم لفوق عشان ما تقلقيش وأنا فعلا كنت باوصل لمراحل إن أنا مش قادرة أتنفس لأن أنا قصيرة والناس أطول مني وفي الزحمة دي كلها عمر ما حسيت إن بني آدم جرح جسمي بإيديه بعنيه بأي نصيبة… كنت مطمّنة جدًا للشارع وفي مرات كتير جدًا نزلت من المركز للميدان 3 و 4 و 5 الصبح زي ما كلنا كنا بنعمل. أحداث التحرش بالنساء واستهدافهم خلت علاقتي بالشارع زفت.
5. سارة
في أماكن كانت بتاعتي قوي ، مثلا وسط البلد، الحتت اللي بنقف فيها جنب كنتاكي، التحرير كلها كانت بتاعتي الأرض المحررة. في أماكن طبعًا دلوقتي بتمشي فيها وتحسي إنها اتاخدت منك ، كل منطقة عابدين ومن أول محمد محمود من عند عابدين والقصر العيني وانتي داخلة كلها اسوار اتاخدت منك تمامًا.
6. إنچي
علاقتي بالشارع طبعًا اتغيرت تمامًا، بمعنى إنه حصل نقلة حقيقية. أنا كنت بانزل أصور في الصفوف الأولى في محمد محمود وبمشي في الشارع الصبح. .. أنا كنت طول الوقت عاملة فيها السبع رجالة لأنه كنت باشتغل في المسرح وكنت ساكنة في 6 أكتوبر وكان أحيانا كثير البروفة بتخلص متأخر. لكن بعد كده حصلت مواجهة حقيقية واكتشفت إنه في حاجات بتتطور في مجتمعاتنا وبتوصل لما هو أصعب من مجرد إنك تبقي بالنسبة للناس شخص غريب لأنك مسيبة شعرك وشعرك كيرلي ومعظم السائد إن البنات تبقيى محجبة فدي ملفتة للنظر فتلاقي 10 رجالة بيبصوا عليكي وانتى معدية في الشارع، وأصبح في انتهاك حقيقي للست بشكل عام يومي ومستمر وبكل الأشكال وبكل الطبقات وبكل الطرق: في الإعلام وفي الأغاني وفي الإعلانات بقت فيها مبالغة وبقت مستفزة، وطبعًا بالتزامن مع كل الاعتداءات الجماعية اللي حصلت في الميدان. وحصل لي مواجهة حقيقية مع نفسي وعلاقتي بالشارع عديت بيها بمراحل قاسية لأنه بقي عندي عنف وغضب وجنون وبقيت أصرخ في الشارع ، أغني في الشارع بصوت عالي وفي حالة هيستيرية، ما بقتش بس فكرة التحرش هي بقت كمان لإحساسي بإنه أنا ست فأنا مضطرة أتعامل مع كل النظرات حتى لو كانت نظرات عادية.
الأرشيف النسوي: أرشيف الأمل
أرشيف التاريخ الشفوي للنساء اللاتي شاركن المجال العام في أعقاب ثورة ٢٥ يناير هو أرشيف يبعث على الأمل والتفاؤل ، هذا على الرغم من قتامة بعض الحكايات، وعلى الرغم من قسوة التجربة في كثير من الأحيان، ذلك لأن الأرشيف لا يسعى إلى تسجيل انتصارات وإنجازات للنساء بهدف الاحتفال بهن وحسب، وإنما القصد هو تسليط الضوء على قدرة النساء على الفعل وعلى إحداث تغيير في ظل الظروف التي تسمح بذلك. إن توثيق لحظات الضعف والانكسار في بعض الروايات لا ينم عن تخاذل أو تراجع، وإنما يرصد الصراعات الإنسانية والمتغيرات التي تؤثر في النساء وكذلك الرجال. في نهاية المطاف، نجد أن روايات النساء تعبر أبلغ تعبير عن قضايا المجتمع وعن الصراعات والتحديات التي تواجه الأجيال المتلاحقة. الأرشيف النسوي يولي أولوية لقضايا النوع ، ومن ثم يكشف عن المسكوت عنه في المجتمع ويفتح الطريق أمام النساء والرجال في سعيهم نحو بناء مجتمعات تسودها قيم العدل وعدم التمييز.
الجزء الثاني:
قراءات مختارة
المنهج النسوي، والسيرورة، والنقد الذاتي:
مقابلات مع نساء سودانيات
مقابلات مع نساء سودانيات1
سوندرا هيل
ترجمة عبير عباس
أقوم في هذه المقالة بتحليل موقف منهجي وأيديولوجي معين، وهو موقف أكثر تعقيدًا مما توحى به عبارة آن أوكلي Ann Oakley التي تصف فيها عملية إجراء المقابلات (interviewing) مع النساء بأنها “تناقض منطقي” “contradiction in terms“. 2 وهذا التعقيد هو نتاج تراكم تحولات في المنظومات الفكرية والاتجاهات الأيديولوجية ليس الفكر النسوى المسئول وحده عن تشكيل صراعي بوصفى امرأة غربية بيضاء تتعامل مع قضايا الإمبريالية الثقافية، والتمركز العرقي(ethnocentrism)، والوفاء، والغدر، والتخلي، والاحترام، والحقيقة، في البحث الأنثروبولوجي من أجل النساء وعنهن، كانت هذه سيرورة (process) طويلة الأجل، ثمرة أعوام من التغير السياسي الشخصي، ونتيجة سنوات عديدة من “البحث الميداني” (fieldwork) في شمال السودان، بعد وصف سريع لهذه السيرورة، سوف أقوم بتحليل مقابلة/قصة تاريخ شفهي حديثة أجدها تعطى أبلغ مثل على التناقضات، والمفارقات، والمعضلات، والمشاكل التي واجهتني، وفي النهاية، أكتب خلاصة هذه المقالة في شكل بعض الأسئلة عن مدى قابلية المنهجية “النسوية” (feminist methodology) للتطبيق حين نجتاز التخوم العنصرية والطبقية والثقافية. وآمل أن تتم قراءة هذه المقالة بوصفها – قبل كل شيء – نقدا لتناول “السيرورة النسوية” (feminist “process) بطريقة واحدة لا تنوع فيها ونقدًا لسيرورتي أنا شخصيًا كذلك.
تمتد فترات إقامتي في السودان عبر تسعة وعشرين عامًا، وتشمل سبع رحلات تكون معًا ست سنوات من الإقامة. وفي الرحلتين الميدانيتين الأخيرتين (عام ١٩٨١ بهدف استقصاء مشاركة النساء في القوة العاملة الحضارية، وفي عام ١٩٨٨ لبحث تأثير حكومة “التيار الإسلامي” على النساء) كنت استخدم أساليب التاريخ الشفهي التي تشير إليها نحن الباحثين في الأنثروبولوجيا، بالمقابلات الميدائية (field interviews).3 وعملية إجراء المقابلات – مثلها مثل العمل الميداني الأنثروبولوجي بشكل عام – جعلتني أتوقف في مواجهة للأمور. إن مسالة “المفارقات الظاهرية (paradoxes) والتوقيعات” التي تكتنف تجربة الباحثين الميدانيين في مجال الأنثروبولوجي قد أخذت حقها من الرصد والتسجيل على مدى العقدين الماضيين، لذا ليس هدفي هنا أن أقوم بنقد منهج “الملاحظة بالمشاركة (participant observation) والتمركز العرفي المتأصل في مفهوم “ممارسة العمل الميداني في وسط الآخر“.4 وأمل عبر استكشاف تلك الأفكار تأكيد أن المعضلات التي لازمتني طويلاً هي معضلات أخلاقية وشخصية بقدر ما أكاديمية وسياسية، تماما كما أن احتكاكي طويلاً بالسودان له طبيعة شخصية بقدر ما هي مهنية.
التحولات في المنظومات الفكرية وسيرورة المقابلة
كان لعدد من التغيرات في الأطر المعرفية صلتها وأثرها على تجربتي في إجراء الأحاديث والمقابلات مع النساء في السودان. ففي أوائل الستينيات، حين ذهبت إلى السودان للمرة الأولى وشرعت في بحث حول تأثير التغيرات الاجتماعية والسياسية في النساء السودانيات، كنت دون أن أدرى – وبلا أي حرج أو تردد – متشبعة بأفكار التحليل النفسي الفرويدي ومتأثرة بالفلسفة الليبرالية وبشيء من الإيمان بمبدأ المساواة بين البشر ورثته عن والدتي. وقد أخذت “المقابلات – التي كانت كلها غير رسمية في هذه الزيارة الأولى – شكل حوارات مع مئات من النساء والفتيات، على مدى ثلاثة أعوام،5 وكانت في معظم الوقت عبارة عن تفاعلات حارة تدخل في باب الصداقة، شعرت من خلالها – كما جعلتني أشعر – بأنني أنتمي إلى جماعتهن (an insider). في ذلك الوقت، لم يكن لأية محاولة للإيحاء بغير ذلك إلا أن تقابل بعدم تصديق من جانبي، فقد كان الأهالي السودانيون لا يفتئون يجبرون خاطري بقولهم إننى لا أبدو أمريكية، كما كتبت الجرائد المحلية مشيدة بشخصيتي ومعلنة إياى مواطنة سودانية شرقية. وبدا لي ذلك أبلغ علامات القبول. فلقد جُنبت بوصفى أمريكية (أي غير بريطانية) من التصنيف في فئة المستعمرين أو حتى من المستعمرين السابقين، ولم يكن في ذلك الوقت مفهوم “المستعمر الجديد” (neocolonialist) قد أصبح دارجاً، فكانت حياتي في مدينة الخرطوم– التي مازالت في ذلك الحين تعمل بوصفها مستعمرة – حياة هديئة، أتمنع فيها بمجتمع نسائي يحيطني بالقبول والرعاية ويعاملني معاملة خاصة. في ذلك الوقت لم أكن على وعي كامل بمكانتي المتميزة بوصفى شخصًا من الصفوة، غير أنه كان في هذه المنزلة المرتفعة ما يشكل تجربة جديدة بالنسبة إلى واحدة مثلي تأتي من الطبقة العاملة، فلم يسعني وأنا بالبراءة التي كنت عليها وقتها إلا أن استطيب هذه المكانة وأنعم بها، فكان كل تفكيري منصبًا على رغبتي في البقاء هناك إلى الأبد، وكان جزء منى يتمنى أن أكون سودانية.
لم يكن قد مر على استقلال السودان أكثر من خمسة أعوام حين وصلت هناك، وكان خدر النشرة المصاحبة لعصر القومية والوطنية مستشعرًا في كل مكان. وعلاوة على ذلك، شهدت هذه الفترة نهايات الثورة الجزائرية، وكان اليسار الدولي والقوميون واليساريون في العالم الثالث يجهرون بأفكارهم عن الاشتراكية، والاشتراكية الغربية والاستعمارية، والإمبريالية، ومؤتمر باندونج، وما إليه. وكانت تلك الأفكار تدور رحاها على مسرح إحدى أكثر بلدان العالم فقرًا. كنت في أوان الرحلة الثالثة والرابعة – (۱۹۷۲– ۱۹۷۱) و (1975- 1973) – قد أمضيت عدة سنوات من الدراسات العليا في قسم دراسات وأنثروبولوجيا أفريقيا، حيث كنت من نشطاء الجامعة ومتأثرة تماما بالحركة الطلابية وحركة الحقوق المدنية وأفكار اليسار القديم والجديد. ومن ثم، وجدت نفسي – للمرة الأولى – مضطرة إلى التساؤل عن مدى حقى في إجراء العمل البحثي في السودان، وفي المشاركة في تشييء (to objectify) الناس6 عبر استخدام منهج المقابلة لصالح مستقبلي المهني، أو التساؤل عن حقى – من الأساس – في أن أكون على أرض السودان، ووجدتني مضطرة أيضا إلى التساؤل عن قيمة المؤسسة الأكاديمية في حد ذاتها.
كانت كل المجلات العملية الأكاديمية تتعرض – وقتئذٍ – للمراجعة وإعادة التقييم، فكان من الطبيعي أن ينطبق ذلك على “دراسات وأنثروبولوجية أفريقيا“. وكان يقال عن الأنثروبولوجيا إنها “وليدة الإمبريالية” ( the child of imperialism) وعن الباحث الأنثروبولوجي إنه “إمبريالی متحرج” (reluctant imperialist)7 وأصبحنا مجبرين على التفكير من جديد بطريقة أخرى في تاريخ هذا المجال وفي مبرر وجوده8 الذي يحيط به الشك. وظهرت بلاد السودان بصفتها مضمارًا بارزًا في سياق هذا الاتجاه النقدي، كما هو مثبت في مؤلف مهم بعنوان الأنثروبولوجيا الاستعمار Anthropology and the Colonial Encounter ، الذي حرره الباحث الأنثروبولوجي السوداني واللقاء مع طلال أسد.9 أدت مثل هذه المؤلفات إلى قيام العديد منا بالتساؤل عن المستفيدين – في حقيقة الأمر – من خدماتنا، فبدأت النظرة الرومانسية إلى دور الباحث الأنثروبولوجي بوصفه “مواطنًا أصليًا هامشيًا” (marginal native) تختفي، وتحل محلها اتهامات بالعنصرية والاستغلالية.10 أمام هذه التطورات وجدتني مضطرة إلى مواجهة العنصرية غير المباشرة التي تكتنف تعلقي الرومانسي بالسودان.
بدأ وقتئذٍ أن الأوان قد أن لإعادة اختراع الأنثروبولوجيا.11 وهي عملية أخذت أشكالاً عديدة: كتابة تاريخنا من جديد، وابراز ضرورة أن تقوم بخدمة الناس الذين يمثلون مادة بحثنا، وتحدى النزعة النخبوية في المؤسسة الأكاديمية، والتطلع إلى فهم “الفقراء الذين لا حول لهم بدلاً من المداومة على تشيئهم“12، ودراسة ثقافتنا نحن (أي القيام بالعمل الميداني داخل الولايات المتحدة نفسها)، وكذلك تحرى قدر أكبر من الصدق في كتابة التقارير عن تجربة العمل الميداني. ولعل أكثر ما يعنينا بالنسبة إلى القضايا التي تناقشها هذه المقالة هو هذا الوعي الجديد بأهمية مفهوم الذاتية (subjectivity)، وكذلك إدراك أنه لا يصح تجاهل دور الباحث نفسه بوصفه مجردًا من التأثير؛ وهما مسألتان قد نجمتا عن حركة نقد المدرسة الوضعية (positivism). وعلى وجه الإجمال، أصبحت ثمة دعوة لا يستهان بها إلى عمل أنثروبولوجي ينزع بقدر أكبر نحو مراجعة الذات ونقدها، ونحو قدر أكبر من المسئولية الاجتماعية، ونحو تأكيد أن المعرفة بأكملها إنما هي مسألة ذات بعد سياسي.13
كان لكل هذه التطورات الفكرية تأثير مهم في خواطري بشأن أخلاقيات مناهج العلوم الاجتماعية، وهي خواطر الفكري والسياسي. في أوائل الستينيات من القرن العشرين، كان ما آمنت به طوال حياتي من مبدأ المساواة بين البشر ومن نسبية ثقافية cultural) relativism) شكل دافعي إلى الالتزام باحترام مصادر معلوماتي في العمل الميداني، أو ما يطلق عليهم “المخبرين” (informants) بما في ذلك الحرص على عدم كشف هويتهم. 14 أما في السبعينيات، وفي أثناء قيامي ببحث حول رد فعل أهالي النوبة تجاه ترحيلهم من مناطق سكناهم الأصلية، فكنت أحرص على إعلام الأشخاص الذين أجرى معهم المقابلات بالغرض من بحثى بالكامل، كما أنني توقفت تمامًا عن الممارسات الآتية: (1) “التحايل” (tricking) على الناس حتى يكشفوا ما بأنفسهم، (٢) تعمد إغوائهم في الحديث إلى أن تكشف أقوالهم عن تناقضات، (۳) استعمال “مخبر” حتى يعرى أو يناقض “مخبراً” آخر، (4) التلاعب بالناس بغرض الحصول على الحقيقة” (truth) و“الوقائع” (facts). وبالرغم من كوني وقتها قد اضطررت إلى الحصول على إذن إجراء البحث من حكومة يحكم الشك نظرتها إلى أهالي القوية، كنت مع ذلك أحاول تحرى الصدق مع الجميع فيما يخص بحثي، وأفترض أن مسئوليتي الأولى تتمثل في خدمة مجتمع أهالي النوية. 15 غير أنه برزت أمامي مشكلة إذ تنبهت إلى وجود قطاعات من “المجتمع النوبي” تتنافس فيما بينها، فيما آل إلى أول معضلة أخلاقية رئيسة أواجهها في بحثي من جراء “اكتشافي” أن هذا التشديد على عرقية نوبية (Nubian ethnicity) مهددة في وجودها – التي كنت معنية بتحليلها – كان وراءه – بشكل جزئي – نوع من التلاعب بمسألة الهوية العرقية النوبية من جانب الطبقة العليا النوبية، واستخدامها لهذه الهوية بغية تحقيق مكاسب سياسية/ اقتصادية لهذه النخبة. وتجدر الإشارة إلى أن معظم من كنت أجرى معهم المقابلات كانوا ينتسبون إلى “الطبقة العاملة” أو إلى صغار المزارعين والتجار القدامي، بينما كان معظم النوبيين الذين قاموا باستضافتي، والذين كان واحد منهم كفيلي، وبالتالي المسئول أمام الحكومة عن سلوكي، كانوا ينتمون جميعا إلى الطبقة العليا.
كانت الأسئلة المتعلقة بانتماء الباحثة إلى المجتمع محل الدراسة من عدمه تلازمني باستمرار في تلك الفترات من إقامتي لأغراض البحث في السودان في السبعينيات من القرن الماضي. غير أنه ربما كان من أعمق تأثيرات حركة نقد المدرسة الوضعية في الستينيات والسبعينيات أنها جعلتني أرى أنني أنا – في حد ذاتي – أمثل جزءًا من المشكلة، فقد أدركت أن نتائج البحث متأثرة بوجود الباحثة من أساسه، وبالتالي لم يكن ثمة إمكان للموضوعية.
وغنى عن القول، أن الموقع الاجتماعي والتاريخي الذي كنت أحتله في مواجهة الطبقات والمؤسسات والدولة القومية (nation-state) السودانية كان له تأثيره العميق في مقاريتي لدراسات السودان، وبالتالي كانت أية ادعاءات من جانبي بالموضوعية قد اعتدلت حدتها إن كانت قد تواجدت أساساً. فقد كنت أعرف أنه ليس بوسعي أن أكون “ملاحظة موضوعية“، إذ إن كل مقابلة – كل حلقة في مسلسل الملاحظة، كل شكل وجوهر في تجربة الملاحظة بالمشاركة – كانت متأثرة بالتجارب التي عشتها فعلاً، وبالأشكال التي يراني بها الآخرون، وبأن معظم ما لو من معرفة قد نشأ عن معيشتي هناك وتأديتي بلا شعور للأدوار المخصصة لى داخل شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية (دور المدرسة، ولاعبة التنس الشهيرة، وموضع أسرار الناس، والباحثة، والوجه الاجتماعي المعروف). لم يكن وجودي بارزًا للعين فحسب، وإنما كنت أيضًا أعد أحيانًا شخصية مثيرة للشكوك، فلم يكن الأمر يخلو من تساؤلات العديد من السودانيين عن سر ما يبدو على من ولع بالسودان إلى هذا الدرجة.16
أصبح الآن أمرًا معتادًا أن نتكلم عن لحظات التشاؤم أثناء العمل الميداني، حيث تتفاقم مشاعر العجز والقصور بفعل تشككنا المتواصل في أنفسنا وفي قيمة إسهامنا وفي صلاحية المعلومات والبيانات التي نجمعها، وفي مدى أخلاقية المسألة برمتها17، ومع ذلك، وبرغم كل الحساسية المكتسبة حديثًا – فيما يخص القضايا الأخلاقية والسياسية المتعلقة بعملية البحث – التي تأثر بها الباحثون الأنثروبولوجيون (أو الباحثات) الجدد ذوو التوجهات التقدمية (وآخرون غيرهم) في أواخر الستينيات من القرن العشرين، برغم كل هذا، استمرت لدينا تصورات تجعلنا نستحسن وجود قدر من المسافة بين الباحث وموضوعه، ونرى أنفسنا – نحن طلبة وطالبات العلوم الاجتماعية – أهل الخبرة والموثوقية في مجالنا، ونثق في وجود حقيقة – أو على الأقل بعض القواعد الكونية (universals) – “في مكان ما تنتظر أن نكتشفها“. وفي حين كنا نتكلم عن إدماج النظرية والممارسة، كنا نولى عنايتنا إلى البعد النظري، وتعده مستقلاً عن التجربة، والأيديولوجيا، والرأي، وأساليب البلاغة، والعاطفة.
…
السيرورة النسوية
في حالات معينة قدمت لى النظرية النسوية والمنهج النسوى والأيديولوجية النسوية طرقًا جديدة في النظر إلى العمل البحثي، بينما في حالات أخرى كان العمل البحثي النسوى يقوم على استراتيجيات البحث المذكور أعلاه. كانت المناهج أو الاستراتيجيات التي استجدت على في أواخر الستينيات من القرن العشرين – والتي تمت إلى معرفتي من خلال النسوية – تتضمن رفع الوعي والنقد/ النقد الذاتي، والعمل التفاعلي في مجموعات صغيرة (smalk-group prics)، وهي تشكل في مجموعها ما يشار إليه باسم “السيرورة النسوية” (“feminist process”). وفي الواقع، كان العمل على رفع الوعي منهجًا يساريًا على قدر كبير من النفوذ والتأثير عرف طريقه عبر اليسار إلى النسوية.
إن عدة تحديات الأساليب التفكير المتعارف عليها قد ظهرت؛ إما في تاريخ يسبق نشأة النظرية والمنهجية النسوية أو نشأت معها، فقد أخذ المشككون (skeptics) يطعنون في صحة المقابلات التي تجرى وفق منطق التضاد الثاني (binary oppositions)، كما طعنوا في التفكير بمنهج الشيء ونقيضه، ومن أمثلته: ذات/شيء فاعل مفعول به (subject/objet)، منتمي/خارجی (insider/outsider)، جماعة الداخل/جماعة الخارج جماعتنا/جماعتهم (in-group/out-group) الملاحظ الملاحظ (observer/observed)، القاهر/المقهور أعضاء (oppressor/oppressed)، كذلك أثيرت الاعتراضات على السيرورة المستقيمة التي يجرى عبرها تصوير جماعة الخارج على أنها تسعى إلى استمثال جماعة الداخل، على طريقة تصوير “الشرقي” الصائر إلى غربي. ثم في تطور آخر له أهمية بالنسبة إلى المشتغلات بالنظرية والمنهجية النسوية، بدأت ظاهرة شروع الباحثة (أو الباحث) الخارجية في “كتابة ردها“، بوصفه رد الفعل تجاه استمرار أهل الغرب على مدى عدة قرون، في الدراسة والكتابة نيابة عن بقية العالم، وهي ظاهرة أعلنت بدء أوان محاولات تقويض “الاستشراق“، أوان ملاقاة نظرة الغرب على قدم المساواة، كما سيأتي قريبًا أوان ملاقاة نظرة الذكور. 18 وأثير السؤال حول من له (أو لهم) سلطة التكلم باسم أية جماعة بوصفه ممثلاً لهويتها وأصالتها، وكيف أثر التعريف الذاتي للهوية (self-identification) – كما عربت عنها الجماعات التي تعامل بصفتها مختلفة – في تشكيل البحث وتحليلاته. جاء الاعتراف بوجود أبعاد ستعددة للهوية والأيديولوجية يرافقه إقرار بأننا كلنا لدينا إنشاءات أو تأويلات للواقع تتشكل بوسائط اجتماعية socially mediated)، تختلف فيما بينها. 19
أخذ عدد معتبر من الباحثات النسويات يرفضن النزعات الوضعية والتجريبية، منددات بفكرة التركيز على منهج (method) وإعطائه مكان الصدارة، مؤكدات في الوقت نفسه شرعية وأهمية مسألة كيف يتم عمل الشيء، معززات قيمة الوسائل أكثر من الغايات، السيرورة (process) قبل المحصلة (product). وقد وضعت رينات یلی کلاین Renate Duelli Klein الإصبع على أهمية الذاتية الواعية (conscious subjectivity)، أو التجربة اتية لكل امرأة، والتي أضافت إليها مارشا وستكوت Marcia Westkott مفهوم التفاعل بين القوات (intersubjectivit)، الأمر الذي يستدعي من الباحثة أن تعقد مقارنة بين عملها وتجاربها الشخصية بوصفها امرأة وعالمة، وتشارك المرأة – موضوع البحث – في ما توصلت إليه من نتائج وأفكار، لعل المرأة بدورها تحدث تغييرًا في البحث عن إضافة رأيها الشخصي. 20
كما تشدد رینات دویلي كلاين على أهمية “التصنع أو التظاهر” (faking)، وهي العملية التي تسعى التقليدية – عادة – إلى تجنبها، ويبتكر الباحثون الحيل للتخلص منها. و“التظاهر” هو إعطاء إجابات مستحسنة اجتماعيًا، ولى أن أضيف أنها إجابات لائقة سياسيًا (politically correct) (أي: إجابات تتصور الراوية أن المستمع ينشدها)، بدلاً من إعطاء إجابات “صادقة“. فتذكرنا رينات دويلي كلاين بأن التظاهر ما انفك يمثل للنساء وسيلة ضرورية من وسائل البقاء، وأنه يعد مسألة لا بد من أخذها على محمل الجدية وإدراجها داخل أبحاثنا بوصفها ظاهرة للدراسة.
إن صفة الدينامية تسم الشيء الكثير مما تقتضيه المنهجية النسوية: السيرورة غير القابلة للقياس. فالمرأة (بوصفها “صاحبة المقابلة” “interviewee”، أو “الراوية” “narrator ، أو المؤرخة الشخصية لحياتها، أو كاتبة سيرتها الذاتية) لا بد من تشجيعها دائما على أن تكون نفسها، ليس فقط بمعنى أن تكون صادقة وأمينة وإنما أيضًا بمعنى ألا نظل مجهولة الهوية، حتى تصبح الذات الفاعلة في حياتها، فتعبر عن مشاعرها، وتحكى عن تجاربها الشخصية، وتعيد اختراع نفسها، وتعيد اختراع التاريخ (ولاسيما أن تدفع بنفسها إلى داخل التاريخ)، وتأخذ بزمام المبادرة بالفعل. وعلى هذا النحو، فلن تكون إجاباتها ملائمة دائما لأسئلته، (أي الأسئلة التي يصوغها الرجل) ولا لأسئلتنا “نحن“.
إن هذه الطبقات المذكورة أعلاه المكونة من تحولات في الأطر المعرفية، ومن ثم في المنهجيات، شكلت “نموذجا“، وخليطًا من عناصر شتى في ذهني، وكان هذا المثال الأعلى هو ما قاريت من خلاله عملية إجراء المقابلات في الخرطوم بالسودان عام ١٩٨٨، وقد أثارت لدى هذه التجربة فيما بعد أفكارًا حول نوع آخر من الإمبريالية الثقافية: فرض “السيرورة النسوية” على المقابلة العابرة للحدود الثقافية.
اتجاهات نسوية متباينة: مقابلة مع فاطمة أحمد إبراهيم21
أناقش فيما تبقى من هذه المقالة أحد أمثلة صراعي مع المركزية العرقية، والإمبريالية الثقافية، والبحث الأكاديمي “النسوي“. إن بطلة/ لراوية هذا الموقف هي فاطمة أحمد إبراهيم، وهي بطلة شعبية في السودان يشار إليها بوصفها “باسيوناريا السودان” (the Sudanese Pasionaria) 22 بفضل دورها في الإطاحة بالنظام الديكتاتوري العسكري عام 1985، 23 وقد ظلت – بصفتها الناشطة القيادية في التنظيم النسائي الرئيس المسمى بالاتحاد النسائي على مدى ثلاثين عامًا – أكثر مفاضلة سياسية بروزًا للعين. وكانت بوصفها عضوة في الحزب الشيوعي السوداني، تقف في المبادرات الجماعية التي نفذت ضد شتى الحكومات القمعية، وقد دخلت السجن مرات عديدة، وقضت سنوات قيد الإقامة الجبرية في منزلها. كما أن زوجها الشفيع أحمد خليل، الذي كان نائبًا لرئيس الاتحاد العالمي لنقابات العمال، قد أعدم على يد الحكومة العسكرية السودانية في عام ١٩٧١، بسبب دوره المفترض في محاولة قلب نظام الحكم الديكتاتوري لجعفر النميري. وقد تم حظر نشاط الاتحاد النسائي أغلب فترة حكم النميري الممتدة من عام 1969 إلى 1985، مما أسفر عن نشاط سرى ومحدود اقتصر عليه الاتحاد النسائي لعدة سنوات، وبعد الإطاحة بنظام النميري في عام 1985، عادت الأحزاب والمنظمات السياسية إلى وضع قانوني وعادت فاطمة للظهور باعثة الحركة من جديد في الاتحاد النسائي.24
كان إجراء مقابلة مع فاطمة أحمد إبراهيم يمثل هدفًا من أهداف ذهابي إلى السودان عام ١٩٨٨، ولذلك كنت سوق إلى الحصول على موافقتها على أن أتولى كتابة سيرتها، وبخاصة أن الكتب التي تتناول التواريخ الشفهية شخصيات السياسية من نساء الشرق الأوسط وإفريقيا تُعد قليلة إن وجدت أصلاً، ولذلك نجد أن تلك النساء مشهورات لم يكتب عنهن الشيء الكثير ولا حتى باللغة العربية. ومن هنا، كنت أمل أن أقدم إسهامًا في دراسات سودان والدراسات النسوية عبر إلقاء الضوء على حياة ونشاط واحدة من أكثر نساء الشرق الأوسط المعاصرات شجاعة وشهرة. فضلاً عن أن فاطمة كانت تمثل بالنسبة لي مصدرًا مهمًا للمعلومات عن علاقة النساء بالشريعة سلامية وعن تأثيرات صعود التيار الإسلامي، كما شعرت كذلك أن بوسعها الإسهام بقدر عظيم في ما كنت م به من تقييم العلاقة بين (النوع) والحركة الشيوعية/ الاشتراكية في السودان.
بعد سنوات طويلة من صمت فرضته على نفسي (بسبب رغبتي في أن أتجنب الظهور بمظهر من يقدم على الخيانة أو الإقدام فعلاً على خيانة اليسار السوداني دون عمد من جانبي)، قمت أخيرًا بنشر مراجعة نقدية لعلاقة الحزب الشيوعي السوداني بالاتحاد النسائي، زعمت فيها بأن الحزب كان يسيطر على المحتوى الأيديولوجي للاتحاد، فيما أدى إلى تضييق نطاق حركة الأخير وإحباط العديد من المطالب النسوية.25 وبالرغم من أن مقالتي عن الحزب الشيوعي السوداني والاتحاد النسائي كانت قائمة على سنوات من المحادثات مع اليسار السوداني، فلم أكن قد أجريت أي لقاء مع فاطمة، ولذلك كنت في حاجة إلى سماع وجهة نظرها، لاسيما فيما يخص العلاقة بين الاتحاد النسائي والحزب الشيوعي. ريما كانت لدى رغبة في أن “يثبت” لي خطأ فكرتي عن هيمنة الحزب على الاتحاد وما نتج عن ذلك من ركود في قضايا النساء ، وأعتقد أنني كنت آمل أن أسمع فاطمة تؤكد لى أن الاتحاد النسائي يمارس فعلاً النقد الذاتي، وأنه منفتح على الأفكار الجديدة ومستقل عن الحزب الشيوعي، فكان موعدى مع فاطمة لإجراء مقابلة معها يهيمن عليه انتظار من جانبي؛ ليس فقط أن تزودني بمعلومات قيمة بالنسبة إلى مختلف أغراضي البحثية، وإنما أن تنيرني علمًا بدور النساء في المجتمع النسائي. كنت آمل أيضًا أن تحفز تفكيري بشأن عدد من التناقضات الفكرية والسياسية، وأنها بتسكينها لبالي عن الدور القيادي لنساء العالم الثالث في تحرير النساء بشكل عام سوف تسهم في إعادة تعريف مفاهيم النسوية المعهودة لدي. باختصار، كنت أنتظر من فاطمة أن تكشف لي ليس فقط عن دورها بوصفها منظّرة مجددة في إطار الحركة النسائية السودانية، وإنما عن نجاح الاتحاد النسائي ونزاهته، مع أنني كنت – بالطبع – أتوقع أيضًا أن تعادل كفة أقوالها في هذا الاتجاه بنقد ذاتی وتقييم نقدي للمنظمة. ولكن فاطمة – كما يمكن أن نتوقع– لم تكشف لي إلا عن الجوانب التي وجدت في الكشف عنها أمزا لائقا استراتيجيا، مما جعل من أسلوبها في عرض حكايتها أمرًا تمهلت أمامه.
كان للقائي بفاطمة فضل تسليط الضوء على عدد من القضايا المتعلقة باستخدام طريقة واحدة في مقاربة التاريخ الشفهي النسوي. فماذا نفعل على سبيل المثال – حين لا تكون راويةُ التاريخ الشفهي “نسوية” حسب طرق فهم التسويات الغربيات لهذه الكلمة؟ ما المشاكل التي تبرز حين تستخدم الراوية أساليب في التواصل وفي العرض تترجمها المستمعة بوصفها أساليب “ذكورية“؟ أي كما في حالة فاطمة، ما المشاكل التي تظهر حين تكون الراوية “نسوية” من حيث الأيديولوجية والأهداف، ولكنها تستخدم منهجية أو مسارا على النقيض من مذهب المستمعة (interviewer) في النسوية؟ وتزداد هذه المشكلة إزعاجًا إذا أخذنا في الحسبان كيف غلبت في مبادي التدريس (pedagogy) النسوية الغربية، وكيف هيمنت في المنهجية والنظرية النسوية السيرورة على المحصلة.
كان قد قيل لي في وقت سابق أن فاطمة لن توافق على قبول مقابلة مع أمريكية، وبخاصة أن موقفها العدائي تزايد نحو أمريكا بعد أن قوبل بالرفض طلبها تأشيرة دخول للولايات المتحدة في عام ١٩٨٥. ولذلك، جاءت موافقتها على المقابلة مثارًا لدهشتي وسروري، وكان لقاؤنا الأول عبارة عن محادثة غير رسمية؛ حيث منحتني فاطمة الإذن بأن أكون كاتبة سيرة حياتها. واتفقنا أن أطرح عليها بعض الأسئلة المبدئية لتكوين خلفية عامة، وأن أقوم بجمع المادة الحقيقية المطلوبة لكتابة سيرتها في رحلتي التالية إلى السودان. وحيث إنها وافقت كذلك على أن أجرى معها أحاديث تتعلق بموضوع بحثي الجاري وقتها عن النساء وصعود التيار الإسلامي، فقد أعطيتها قائمة اسئلة واتفقنا على موعد للقاء في وقت آخر. عندما التقينا لإجراء المقابلة الرسمية، بدأت اللقاء بمحاولة أن أحكي لها عن نفسي بعض الشيء، متحرية الصدق – ما في وسعى عن تجاربي في السودان، وعن مواقفي السياسية وآرائي النسوية. أردت كذلك أن أحكي لها عما أراه في مشروع بحثي من نقاط ضعف وثغرات، ولكنها لم تبد اهتمامًا. قد تكون قد تحرت عنى عبر أصدقائنا المشتركين، وعرفت ما يكفي لجعلها على استعداد للحديث. وربما أيضًا كان حديثي قد أعطاها من المعلومات القدر الذي شعرت أنه يكفيها.
بدأنا إذن جلستنا، ولم أتمكن إلا من طرح سؤال واحد فقط بخصوص توقيت قيام الديكتاتور العسكري السابق جعفر النميري بفرض الشريعة الإسلامية في عام ۱۹۸3، قبل أن تبدى في شيء من الاستنكاف إجابة تقليدية ليس فيها جديد، مفادها أن ذلك ما كان يمثل سوى فرصته الأخيرة للبقاء في السلطة، ثم اتخذت من السؤال مناسبة للانتقال إلى أجندتها الخاصة بأن خرجت بأسباب أخرى: “كانت تيارات المعارضة العامة قوية، لاسيما الإخوان المسلمون. .. كان الإخوان قد فشلوا في ضم النساء التقدميات تحت مظلة الإسلام. وكان هذا هو السبب في فشلهم“. بهذه الإجابة، وبدون أن تلتقط أنفاسها، شرعت في مناقشة إنجازات الاتحاد النسائي، وهو الموضوع الذي هيمن على بقية المقابلة.
على صعيد المحتوى، كان من الممكن أن تصبح مقابلة من ثلاث ساعات تحكى لي فيها المرأة التي تُعد التجسيد الحي للاتحاد النسائي عن هذه المنظمة، بطريقة تنطوى على تجربة زاخرة بما هو مفيد. غير أنني في بعض المجالات وجدت صعوية في التعامل مع أساليب فاطمة التي لم أكن مستعدة لها، ولاسيما في ضوء سيرورة العمل التي كنت معتادة عليها. فهي لم تكن تعطى إجابات مباشرة على أسئلتي، وكانت لها أجندتها الخاصة التي تتحرك وفقًا لها، وربما كانت أيضًا تتعمد إعطائي معلومات مضللة، كما كانت عن قصد أو من دونه تحاول التلاعب بعواطفي، وتبدو لها نبرة غير ديمقراطية أو نبرة وعظ وتعال تجاه كثير من الشخصيات التي ذكرت أسماءها، من منافسات، وأخوات في المنظمة، ونساء من الطبقة العاملة أو الفلاحات. وفضلاً عن ذلك، بالرغم من أنني كنت قد سعيت إلى إرساء نبرة من النقد الذاتي أثناء نقاشي عن بعض الجماعات اليسارية والنسوية في الولايات المتحدة، لم يحدث أن صدر منها أي نقد ذاتي في أية لحظة. وجاءت إجاباتها تنزع إلى تعظيم إنجازات الاتحاد النسائي والحزب الشيوعي السوداني، بشكل استدعى إلى ذهنى أسلوب الخطابة الذي تتميز به أدبيات المنظمتين.
وفي حين كانت مطبوعات الاتحاد النسائي تزعم أنه صوت النساء العاديات، يتحدث باسمهن وإليهن، ظلت فاطمة تستخدم باستمرار “نحن” في إشارة إلى النساء المتعلمات عضوات الاتحاد، و “هن” في إشارة إلى النساء المتخلفات“: “بالرغم من أننا (نحن نساء الجبهة المتعلمات) نعرف ما هي احتياجات النساء، من الأفضل دائمًا أن تستمع إليهن يَذكرنها مع أنهن جاهلات“.
…
في الواقع، كما يبدو من هذا الاستشهاد، كانت فاطمة تفصل نفسها – في أكثر الأحيان – عن أغلب نساء السودان الأخريات، كذلك حين كنا نناقش حركة حقوق النساء عام 1965 ذكرت أنها كانت مع الاتحاد يؤيدان مبدأ الأجر المتساوي عن العمل المتساوي؛ بالرغم من أنه كان من المزمع تطبيقه فقط على خريجات الجامعة والمدرسات. وحين أقحمت جملة افترضت فيها “أننا” (هي وأنا وأية نسوية أخرى) لدينا موقف ناقد للذات تجاه الفشل في مد هذا الحق إلى نساء الطبقة العاملة والفلاحات، وأننا نرى هذا الموقف – بالطبع – مسألة اضطرارية يؤسف لها، ما كان منها إلا أن قابلت ما قلته بالتجاهل. وكانت فاطمة على العقيدة الآتية: “يجب أولاً أن نعلمهن (النساء العاديات). وإن لم يقتنعن بذلك، فليس بوسعي أن أفعل ذلك نيابة عنهن“. وأشارت إلى لجوئها إلى الحيل حتى تدفع النساء للقيام بشيء ما، من قبيل أن تنظم لهن دروسًا في الحياكة والتفصيل حتى يتعلمن مبادئ القراءة والكتابة.
وبالرغم من تكرار إثارتها لذكر “قضايا المرأة” فلم يحدث أبدًا أن وضحت المقصود بالكلمة؛ حتى وهي تناقش الانشقاقات داخل المنظمة حول “قضايا المرأة” مقابل “السياسة القومية“، ولا وضعت أبدًا موضع السؤال هذا التعارض المفترض بين الشقين. وطبقًا لفاطمة، كان ثمة نساء داخل الاتحاد لا يجدن عمل المرأة في السياسة القومية أمرًا لائقًا، أما هي فكانت تنتمي إلى الفصيلة التي تحث على مشاركة النساء في الحركة السياسية القومية. وحين طلبت منها أن تعطى تعريفها القضايا المرأة“، ما كان منها إلا أن تجاهلت السؤال.
اتخذت فاطمة – على الأقل خلال المقابلة – موقفًا غير نقدي إزاء الحزب الشيوعي السوداني، من حيث علاقته بالاتحاد النسائي. وقررت عدم وجود تناقضات بين الحزب والاتحاد أو اختلافات حول قضايا النساء، وأن الاتحاد مستقل تمامًا، وأن نساء الحزب لم يخلطن – بالمرة – بين شئون الحزب وشئون الاتحاد. وألمحت إلى خلاف داخل الحزب غادرت في إطاره بعض النساء الحزب، ولكنها لم تشأن أن تشرح سبب الخلاف. وبينما كان من الممكن تفهم بعض أسباب مراوغتها فيما يخص الحزب الشيوعي، كنت قد اخترت بعناية الأسئلة التي أطرحها عليها؛ بحيث لا تتعارض مع اعتبارات استراتيجية في تنظيم الحزب.
وبالرغم من أن نشاط الحزب لم يكن محظورًا وقت المقابلة – وأن قياداته كانت معروفة للجميع – أغفلت فاطمة ذكر زميلاتها، حتى حين كنت أستحثها على ذكر أسماء أعرفها لكي أصل إلى فهم ديناميات النشاط والعلاقات داخل الاتحاد. فقد كانت تستخدم “نحن” في وصفها لإحدى المظاهرات أو الانتخابات أو لوفد ما، ولكن دون أن تفصح عن الهويات التي تشير إليها كلمة “نحن“. وحين نسبت لنفسها معظم فضل الزعامة في كل الأحداث الحاسمة، حتى وهي تحكي عن فترات كانت وقتها داخل السجن أو رهن الإقامة الجبرية، فقد كان في ملك عقل من شأن دور شخصيات أخرى بالغة الشهرة والأهمية. وحين سألتها إن كان ثمة كوادر جديدة صاعدة كانت إجاباتها بالنفي ولغتها الجسدية لا تسمحان بأی اعتراض من جانبي، وتجاهلت فاطمة الملحوظة التي أبديتها عن وجود عديد من الوجوه الشابة كنت قد شاهدتها خلال مناسبة عقدها اليسار منذ فترة قصيرة، وأخيرًا، حين سألتها من كان ثمة شريحة جديدة، لاسيما من بين العضوات الشابات في الاتحاد النسائي، تنادي بأفكار جديدة وتدفع المنظمة في اتجاه مختلف، ردت بأن وصفت الرعاية الفائقة التي تشمل بها الأعضاء الجدد، من قبيل حرصها على اصطحاب العضوات الشابات إلى بلدات أخرى حيث تلقى خطاباتها وتترك لهن حرية التعبير عن أفكاره وآرائهن.
وفيما يخص “منافساتها“، وما يخص مسألة الانشقاقات داخل الحزب، لم تبد فاطمة إقرارًا بالاختلافات الشرعية أو تقبلها؛ بل فعلت ما وجدته يشكل هجومًا شخصيًا على منافساتها بالاسم، أو أبدت استخفافًا أو ذمًا في العضوات اللواتي لهن رؤية أخرى لقضايا النساء، فلا تحدثت بمرارة – على سبيل المثال – عن الأموال التي منحتها الحكومة السودانية وبعض الوكالات الأجنبية إلى عائلة البدري (التي يدير أفرادها جامعة الأحفاد للبنان ويُعدون من الليبراليين المناصرين لحقوق النساء) من أجل دعم العمل في قضايا النساء، متهمة إياهم بالخطأ في اختيار القضايا واستراتيجيات العمل، وبالاستيلاء على أموال المنح لأنفسهم. وعلى المنوال نفسه، حكت كيف عارضت عضوتان في الاتحاد – في عام 1965 حين كان الاتحاد يضع البرنامج السياسي لحقوق النساء – الدعوة إلى منح المرأة فترة أربعة شهور كإجازة وضع مطالبتين بأسلوب واحد فقط، وحين حاولت أن أدفعها إلى الاستفاضة في شرح حجج العضوتين – وهن من النسويات المعروفات – لم تفعل فاطمة إلا العزف على لحن كثيرًا ما كررته عن أن مثل هؤلاء النساء لم يكن أكثر من مغفلات يسيطر عليهن الرئيس جعفر نميري.
كانت فاطمة تلجأ كثيرًا إلى هذه الطريقة من إطلاق النعوت في التعامل مع خصومها السياسيين، فقد استخدمت مثلاً لقب “الأخوات المسلمات” (أي عضوات في تنظيم الإخوان) للإشارة إلى أسماء بعينها لنساء ليبراليات، فيما يعنى أنهن من التيار الإسلامي الأصولي أو من التيار السياسي الرجعي. وحين أبديت دهشتي إزاء استخدامها هذه النعوت في الإشارة إلى امرأة معروفة من أصحاب الاتجاهات الديمقراطية، لجأت فاطمة إلى المراوغة قائلة “بأنها لم تكن قد انضمت تمامًا إلى التنظيم في ذلك الحين“. وبتفكيك هذه العبارة، استنتجت أن فاطمة كانت تحاول الإلماح إلى أن تلك المرأة كانت من الأخوات المسلمات في سريرة نفسها حتى في ذلك الزمن، وإن لم تنضم صراحة إلى صفوف تلك المنظمة الأصولية إلا فيما بعد، بيد أن أيًا من الأمرين لا يبدو لي وارد الحدوث.
لا تقتصر المعلومات المضللة التي تعمدت فاطمة – فيما يبدو أن تعطيني إياها – على هذه الأمثلة فحسب. فقد حاولت أيضًا التعتيم على النواحي الإيجابية في دستور ۱۹۷۳ (في عهد النمبري)، وسعت إلى تبرير اختيار الاتحاد للنضال في سبيل الحقوق السياسية، معطيًا إياها الأولوية فوق الحقوق الاقتصادية (إن كان يجوز الفصل بينهما)، بدعوى أن “غالبية النساء من ربات البيوت“. وقد أثار قولها استغرابي وبخاصة أني لم أكن أتوقع من أبرز نسويات السودان أن تدلى بمثل هذا القول عن دور النساء الاقتصادي في السودان، حيث كل امرأة من النسويات السودانيات وكل شخص من المهتمين (أو المهتمات) بالسودان لديه إلمام بوجود نسبة مرتفعة من النساء العاملات بالزراعة، واللواتي يوظفن في الصناعات المنزلية الصغيرة (cottage industries)، أو يعملن على مقربة من منازلهن، أو يقدمن خدمات شخصية، لا تدخل في الإحصائيات.
ولعل فاطمة قد افترضت أن لي آراءً ذات وجهة معينة، بوصفى قادمة من الغرب، في مسألة ختان الأنثى ولهذا أثارت ذكر هذه المسألة عدة مرات – بنبرة دفاعية – رغم أنني أتبع سياسة عدم مناقشة هذا الموضوع إطلاقًا في الولايات المتحدة، وأيضًا في السودان إلا إذا دُعيت إلى ذلك. قالت فاطمة إن “الختان يمثل العرض وليس المرض” ، وعادت مرة أخرى إلى ذكر التعليم بوصفه حلاً لمشكلة الختان على المدى البعيد، وأبدت نقدًا شديدًا تجاه جميع النساء والجماعات النسائية العاملة على استئصال هذه العادة (مثل عائلة البدرى المذكورة آنفًا). وقالت إن المشكلة قد أحيطت بالمغالاة على أيدي “قوى خارجية” (أي نسويات من الغرب)، ما أبديت حوله اتفاقى معها، بوصفى – أنا نفسي – أدعو إلى ترك هذه القضية ليتناولها أهل السودان، لا أحد غيرهم. وقد ساقت فاطمة حجة تؤسس أولوياتها “إذا نظرنا إلى نسبة النساء اللاتي يلقين حتفهن بسبب الختان أو أثناء الولادة نجدها نسبة بسيطة للغاية، ولكن إذا نظرنا إلى عند النساء اللاتي يمتن من الجوع، نجد نسبتهن كبيرة للغاية. أي الأمرين أهم إذن؟“. وبالرغم من أننى أيديت ما يوضح موافقتي، لم تلتفت فاطمة إلى ذلك، بل واصلت كلامها، كما لو أنني كنت أبدى اعتراضي.
بدا لي موقف فاطمة – على وجه العموم – إزاء “الثقافة التقليدية“، سواء كان ذلك في كتاباتها أو كان خلال مقابلتي معها، بدا لي يحمل تناقضًا. فقد كرست الكثير من وقتها وجهدها لشجب مسألة الزار، وهو طقس يمارس الطرد الأرواح الشريرة ولا يبدو في ضرر. وحين عرضت أفكاري عن الزار، ذاكرةً أن بعض النسويات يرين هذا الطفس شكلاً من أشكال المقاومة وممارسةً تعبر عن تضامن النساء، لم تبد فاطمة اهتمامًا. 26 وبينما أشارت خلال المقابلة – وكذلك في كتاباتها – إلى ضرورة أن يقوم الاتحاد النسائي بمكافحة العادات التقليدية من قبيل الزار، جاء موقفها مختلفًا تجاه الإسلام، الذي قد يعده البعض أمرًا ينتسب أيضًا إلى “الثقافة التقليدية“. ففاطمة تحسب قرار الحزب الشيوعي السوداني والاتحاد النسائي في الخمسينيات بالتعايش مع التوجه الإسلامي، بوصفه استراتيجية بالغة الفاعلية، و “عملاً عبقريًا” أدى إلى إنقاذ هاتين المنظمتين. فلأنها تعد الإسلام شأنًا شخصيًا، تعتقد أنه ليس ثمة تناقض بين نضال (النساء) ومقاصد الإسلام الحقيقية ، غير أن محصلة هذا الموقف أن الاتحاد النسائي لم يجعل من تغيير قوانين الأسرة والأحوال الشخصية هدفًا له؛ بالرغم من تقييدها للنساء، الأمر الذي تقرُّ به فاطمة بسهولة، وذلك لأن هذه القوانين “وثيقة الارتباط بالدين“.
غاب عن النقاش حول الثقافة الإسلامية أي مناقشة حول العناصر الموجودة في الإسلام – مثل بعض جوانب قوانين الأحوال الشخصية والشريعة – التي يمكن استخدامها لتحرير النساء في مقابل العناصر التي قد تستخدم في قهرهن، ولست بصدد الإيحاء بأن فاطمة ليست واعية بما يحيط دور المرأة في الإسلام من تعقيدات، وإنما فقط أردت الإشارة إلى أنها ترى – فيما يبدو – حكمة استراتيجية في تبنى موقف غير ناقد علانية، وفيما يبدو، ينطبق على المقابلة معى شروط العلانية. تمثلت إحدي معضلاتي – سواء كان ذلك بالأمر اللائق أم لا – في كوني قد وضعت في خانة المستمعة فحسب، فقد بدا أنه ما من أثر يُذْكر ترتب على كوني أختًا في النسوية، من بلد تموج بحركة نسائية نشطة ويسارية، على دراية بالسودان وأتعاطف مع الحزب والاتحاد.
…
الخلاصة
لقد تطلبت تجربة إجراء مقابلة مع فاطمة نوعًا من التفكيك له شقان: أحدهما شخصى يستند إلى تجاربي والآخر تحليلي، على الصعيد الأول، بدأت أخشى من اضطراري إلى فرض شيء من الرقابة على ذاتى وأنا أتولى الكتابة عن فاطمة أحمد إبراهيم، لئلا يصبح مسردي النقدى عن المقابلة بمثابة نوع من الغدر أو الخيانة. فكيف لى أن أتخذ موقفًا نقديًا من واحدة كنت دائمًا أكن لها أجل الاحترام، وهي شخصية لها مثل هذه الأهمية في التاريخ السوداني؟ وفضلاً عن ذلك، كانت فاطمة ودودة ومهذبة وكريمة؛ إذ منحتنى ساعات عديدة من وقتها من أجل ما قد يكون بالنسبة لها مشروعًا مجردًا، بعيدًا عن أرض الواقع، بينما تنهمك هي في العمل الحقيقي المعنى بالإبقاء على حياة النساء، في سياق أوضاع الفقر في العالم الثالث.
لم ترَ هؤلاء النسويات السودانيات القليلات اللاتي ناقشت معين أمر تلك المقابلة داعيًا لعذابي بشأنها، واستحثثنني على أن استخدامها لإثارة النقاش حول الاتجاه الذي يأخذه الاتحاد النسائي. غير أنه كانت لي تجربة سابقة مع نسويات سودانيات قمن بتشجيعي على نشر رأى نقدي مبنى جزئيًا على أساس من معلومات أعطيتني إياها، ثم إذا بهن “يتخلين عني” إذ تم النشر بالفعل، فبدأت أفهم كيف يمكن أن يتم استخدام المرء بوصفه وسيلة لإخراج آراء نقدية في مسائل معينة إلى الحيز العلني دون أن يمثل دور الحث على النقد ضمانة ضد الهجر والتخلي. وحين يجد المرء نفسه في هذا الوضع يتولد لديه شعور بأن موقفه يوحي لا بعدم اللياقة السياسية وحسب، وإنما أيضًا بغدره بالسودانيين، ومع ذلك، أظل أرى في الاعتناء بمصالحي وبالأجندة التي لدى – وحدها – ما يحمل نوعًا من النزعة اللاأخلاقية على أفضل تقدير.
إن اتباع الأجندة الشخصية التي تخص المرء مسألة قد تعنى بالتأكيد انتفاء سيرورة التمكين والتأهيل لدى كاتبة السيرة/ المؤولة/ النسوية. وقد وجدت أن أحد الحلول الممكنة لهذه المعضلة يتمثل في الإقرار بوجود اختلاف بيني وبين فاطمة من حيث نوع الأجندة وشكل النسوية التي نعمل بها، ثم في السعى أيضًا إلى التخفيف من حدة النقد فيما يخص مضمون المقابلة عن طريق تولى عملية نقد ذاتي مباشر وضمني في آن واحد. وفي الواقع يحدوني الأمل أن تتم قراءة هذه المقالة بأكملها بوصفها تنطوي على نقد الذات، وكذلك بوصفها مراجعة نقدية لبعض جوانب النسوية الغربية، وعلى وجه التحديد هيمنة “السيرورة” ، غير أنه من ضمن المشاكل الخطيرة التي تحيط بهذا التأمل الثاني – وبخاصة من كان (أو كانت) ينخرط في حوارات ومساع نحو إزاحة الغرب من نقطة المركز – هو أن الباحث (أو الباحثة) الغربي الأبيض يضع نفسه – مرة أخرى – في نقطة المركز، أما الراوي (أو الراوية) المنتسب إلى العالم الثالث فيتم تهميشه.
ثمة مجال مهم من مجالات نقد الذات يتعلق بتوقعاتي وافتراضاتي “النسوية” ، فلأنني أنا وفاطمة نسويتان لنا الخلفية العامة نفسها (أي أننا مدرِستان من الطبقة المتوسطة وناشطتان يساريتان)، ولأن أجندتينا تساويان في خطوطهما العريضة – ألا وهي تحرير النساء وتيسير قيام الثورة الاشتراكية السودانية – لهذا افترضت – مخطئة – وجود قدر أكبر من الوحدة في القضايا الرئيسة. فالمحصلة النهائية لما أقدمت عليه فاطمة من إعطائي إجابات مستحسنة اجتماعيًا – أو لائقة سياسيًا من وجهة نظرها – وسواء كان ذلك محاولة منها أن تستخدمني في تلميع صورتها وصورة الحزب الإعلامية، أو كان ذلك المجد في تاريخ الاتحاد النسائي ووصف مبادراتها – هي – الإيجابية. والنتيجة أنه قد تم إعطائي صورة عن حياتها وتاريخها في النشاط العملي، تخلو من أية تناقضات، وأية أخطاء، وأية لحظات ضعف إنساني، باختصار سردية بطولية.٢٧
كان مرامها – إذن – أن تقنعني بنبل قضيتها والدور الحيوي الفعال الذي لعبته فيها، وذلك لكي تحمل كتابتي عنها هذه الصورة على وجه التحديد، في حين كان هدفي أنا – بطبيعة الحال – أن أجرى بحثًا ليست هي سوى إحدى مصادره. قد يبدو هذا التأويل المتشكك متعارضًا مع العقيدة النسوية التي يتمثل شعارها في العمل البحثي من أجل النساء، غير أن أي ادعاء آخر من جانبي لن يبدو لي سوى ادعاء كاذب. كنت أيضًا أبحث عن معلومات تساعدني على الإلمام بالدور الطليعي الذي أؤمن أن نساء العالم الثالث يمكنهن لعبه في تحرير النساء في كل مكان. وبصفتي ناشطة نسوية، أعتبر نفسي – أنا الأخرى – صاحبة قضية؛ بيد أنه كان ضربًا من التطاول من جانب أن أتصرف على أساس أنني اشترك معها في القضية نفسها، الشيء الذي جعلني أنتظر منها أن تراه، وأن تشهد بدوري في تلك القضية.
فضلاً عن ذلك، افترضتُ أن لدينا – أنا وهي – “الجمهور” نفسه، وهو جمهور التيارات اليسارية والنسوية، ولكن الموقف كان أكثر تعقيدًا في الواقع من حيث الاختلاف في جمهور السامعين. فقد كان على فاطمة – أثناء تبادل الحوار بيننا – أن تأخذ بعين الحسبان سمعتها السياسية/ المهنية، كما فعلت أنا. فهي كانت تحمل على كاهلها عبء توقعات الحزب منها، وكان عليها أن تأخذ بعين الحسبان من هم الذين سيطلعون على المقابلة. كانت كل واحدة منا مطالبة بأن تكون على وعى بما يمكن أن ينظره الآخرون من هذه المقابلة: فلا بد أن الاتحاد فضلاً – والحزب معًا بود – كلاهما – أن يخرج من هذا الموقف “صاغ سليم“، ولا بد أن قراء بحثي يريدون تقييمًا نقديًا. كنا – أنا وهي – نتولى حماية السمعة السياسية الخاصة بآخرين، هي تضع في حسبانها رؤوس الحزب وأعضاء الاتحاد، وأنا أهتم بمراعاة بعض النسويات السودانيات من اليساريات اللاتي كان لي سنوات وأنا على ارتباط بهن.
في حالة هذه المقابلة، كان البعدان المتعلقان بالعمل التفاعل وبالتفاعل بين الذوات – كلاهما – يمران عبر مفاهيم متباينة عن التواضع، عن السلطة المرجعية، عن تعرية النفس، عن معنى أن يكون المرء “صادقًا وأمينًا“، عن دور “التظاهر“، وعن الظرف الذي من المقبول فيه “استخدام” شخص آخر، فضلاً عن ذلك، في حالة الحوار بين شخص من الطرف المقهور وشخص يمثل الطرف القاهر – حتى ولو كان الشخصان من النسويات – قد ترجح كفة الأهداف “القومية” على تلك “النسوية“، ولو بصورة مؤقتة، كما أنه من المؤكد أن المحصلة قد ترجح كفتها على السيرورة فلعل لفاطمة العذر في أن تستخدمني، في أن تَعدني لا وجود لي، في أن تنظر إلى بوصفى شيئًا، قناة تدفع عبرها قدما قضية قضت عمرها تعمل في سبيلها، وأنا، بالرغم من الذنب الذي أحمله بصفتى من البيض، وبالرغم من دوري الذي قد يعد – لا محالة – استعماريا، لعل لي عذرًا في أن أشعر بأن عواطفي المؤمنة بالمساواة بين البشر، هي ومذهبي المعين في السيرورة النسوية، قد تم انتهاكهما على نحو ما.
من الواضح أن خيبة الأمل التي ساورتني كان منبعها توقعاتي المبالغ فيها، وكذلك الفهم الذي لدي عن معنى “السيرورة النسوية“. ولعل منبعها أيضًا ما كان ماكثًا في نفسي من غطرسة بفضل نظرة الآخرين إلى بوصفى منتمية إلى الداخل لم تكن فاطمة سوى شخص غريب عني، وما كنت إلا كذلك بالنسبة إليها، ومع ذلك فقد أردت منها الاعتراف نفسه بي الذي وجدته من غيرها في الماضي، بوصفى لم أكن مجرد أية مستجوبة أو باحثة؛ بل واحدة تم منحها عضوية شرفية، وقضت ثلاثين عامًا تجرى أبحاثها في السودان.
ثمة مسألة أكثر تعقدًا والتفافًا إلى حد ما، ألا وهي مسألة الوضع الطبقي. تنتمي فاطمة إلى طبقة متميزة إن لم يكن اقتصاديًا فعلى الأقل من حيث مكانتها الاجتماعية التقليدية. فلعلها عدتني من أصحاب الامتيازات بصفتي أستاذة أمريكية، وبصفتي بيضاء، وبصفتي المستعمر الجديد، الطرف المستغل، إلا أنني في الواقع أنحدر من الطبقة العاملة. من ناحية أخرى، كان انتسابي إلى اليسار الأمريكي له أثره، إذ إنه من الناحية السياسية الخالصة ظلت إحدى مشكلاتي الدائمة مع اليساريين (أو اليساريات) السودانيين تتمثل في ازدرائهم اليسار الأمريكي.
على الصعيد التحليلي، يمكن النظر إلى تجربتي في مقابلة شخصية من الشخصيات البارزة والمتميزة في السودان، بصفتها تجربة تلقي الضوء على العيوب الموجودة في بعض الأفكار النسوية الغربية حول المنهجية. إذ إن مسألة إيثار السيرورة على المحصلة قد تحدث تأثيرا عميقا في أعمالنا البحثية، أي في قدرتنا على خلق أي قدر من المسافة، فضلاً عن تأثيرها في تقييم حياة الراوية بوصفها منفصلة عن حياتنا، وفي اتخاذ موقف نقدي دون أن نعطيه صيغة شخصية. ربما يصلح الاعتماد على التماهي النسائي التفاعلي، وعلى سلطة التجربة المشتركة، في مواقف أو أوضاع بعينها، ولكنه من الجائز جدًا أن ثمة تناقضًا بين تولى عملية تيسير تكون فيها امرأة من النساء هي الراوية لقصة حياتها بنفسها – أي هي التي تحتل دائرة الضوء – وبين طبيعة السيرورة التفاعلية (the interactional process). وحتى تضع هذا الكلام في السياق السوداني، لا يصح للمستجوبة/ كاتبة السيرة، حين تتواجد فوارق طبقية و/أو فوارق عنصرية، أو حين تمثل المستجوبة المستعمر وتمثل الراوية المستعمر، أن تطالب “بوقت متساو“، أو أن تنتظر الاعتراف نفسه بها.
فهل من المنطقي أن أنتظر – أنا النسوية الغربية البيضاء المستجوبة لامرأة سودانية – منها أن تراني وأن تعاملني كما أرى نفسي، في حين أننى قد أمثل بالنسبة إليها طائفة من فئات أخرى كثيرة؟
ومع ذلك، إن عدنا إلى السؤال المثار في مقدمة هذه المقالة، هل بوسع أية كاتبة سيرة أن تتجنب فرض واقعٍ ماء انتهينا إليه؟ إن كنا ملتزمات بنظرية معينة، ومنهجية معينة، وكنا منخرطات في الممارسة العملية، هل من الصدق أن تكون أو أن نفعل شيئًا عدا ذلك؟ ومع ذلك، إن حاولنا – على الجانب الآخر – في موقف مثل الذي وصفته أعلاء، أن نتصرف بوصفنا أكثر من مجرد قنوات لنقل حكاية الراوية، أي بوصفنا – مثلاً – مؤولات، أو محاورات، أو حتى شريكات في الجرم، هل معنى ذلك أننا نمارس إمبريالية ثقافية؟
إن جزءًا كبيرًا مما تقوم به باحثات (أو باحثو) الأنثروبولوجيا “في الحقل الميداني” قد جرى التخطيط له أو سبق إعداده إلى حد كبير، بما في ذلك المنهج بارز المكانة، الذي يشار إليه بـ “الملاحظة بالمشاركة“. فقد أعادت بعض النسويات تعريف المقابلة بوصفها شيئا أشبه ما يكون بمنهج “الملاحظة بالمشاركة“، فالمستجوبة تهيئ – أو تخلق – موقف المقابلة، ثم تشارك فيه. تُعد الكينونة (being) والفعل (doing) مسألتين مهمتين بالنسبة إلى الراوية ومؤولتها النسوية على حدٍ سواء، إلا أنه من الجائز أن ذلك القدر من المسافة الضئيلة – وإن ظلت مهمة – والتي هي مطلوبة في حالة منهج الملاحظة بالمشاركة المعتاد – يقي الباحثة الآخذة بمنهج التفاعلية والتفاعل بين الذرات في تأويلها لحياة امرأة غيرها، حيث يقيها من أن تكون افتراضات خاطئة عن المساحات المشتركة أو الهموم المتبادلة. وفي الوقت نفسه، تبقى الحميمية، و“الذاتية المشتركة” في سياق “المقابلة النسوية“، تبقى – في أغلب الأمر – مسألة اصطناعية مؤقتة، محبطة للتوقعات، ومن الممكن أن تؤدي إلى خلق توترات، من أشكال من النسوية مختلفة فيما بينها.
إن “حلمى بلغة مشتركة” هو حلم قد حطمته هذه المقابلة، غير أنه ربما كان ذلك مبعثه أننى على الرغم من استدعائي لشكل من أشكال النسوية“، نسيت في الوقت نفسه شيئًا من الأنثروبولوجيا، والسياسة، والتاريخ.28
الهوامش
1. سوندرا هيل، “المنهج النسوي“، والسيرورة، والنقد الذاتي: مقابلات مع نساء سودانيات“. النسوية والدراسات التاريخية. تحرير وتقديم: هدى الصدة. ترجمة عبير عباس. القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، 2015، ص 229-250.
2. Am Oakly. “Intervewing Women: A Contradection in Terms.” In doing Feminist Research. Ed. Helen Roberts London: Routledge and Kegan Paul, 1981) 30-61.
3. استخدم السودانيون مصطلح “التيار الإسلامي” عام 1981 لوصف الحركة الساعية إلى أسملة الدولة السودانية، بما فيها تطبيق الشريعة الإسلامية.
4. عبارة تناقضات ظاهرية وتوقعات” مستعارة من المقالة الآتية:
John Middleton, The Study of the Lugbora: Expectation and Paradox in Anthropological Research (New York: Holt, Rinehart, and Winston, 1970). 5 Sondra Hale, “The Nature of the Social, Political, and Religious Changes among Urban Women: Northern Sudan Proceedings of the Third Graduate Academy of the University of California, UCLA April 11-12, 1965. (Los Angeles: The UCLA Graduate Student Association, 1966), 127-40.
6. أی استخدام أهلها بوصفهم موضوعًا/ شيئًا للبحث.
7 Kathleen Gough, “Anthropology: Child of Imperialism,” Monthly Review 19, no. 11 (1967): 12-27; Wendy James”, The Anthropologist as Reluctant Imperialist, in Anthropology and the Colonial Encounter, ed. Talal Asad (London: Ithaca Press, 1973), 41-69.
8. من أجل قائمة مراجع جيدة لهذه المراجعات النقدية، انظر/انظري:
Perer Forster, “A Review of the New Left Critique of Social Anthropology,” in Asad, ed., Anthropology and the Colonial Encounter, 23-38
9. المصدر نفسه، انظر/انظري أيضًا في المجلد نفسه:
Abdel Ghaffar M. Ahmed, “Some Remarks from the Third World on Anthropology and Colonialisam: The Sudan,” 259 – 70.
10. ظل باحث الأنثروبولوجيا رجلاً هامشيا على مدى الجزء الأعظم من تاريخ الأنثروبولوجيا. فكان في كل الأوقات تقريبا يتبدي كما لو أنه هامشي بالنسبة إلى المجتمع. وبالنسبة إلى أفراد عائلته كان يمثل الشخص “الغريب الأطوار بينهم“.
11. هذا المصطلح مقترض من المصدر الآتي:
Dell Hymes, ed., Reinventing Anthropology. (New York: Vintage, 1972)
12. انظر/ انظري على سبيل المثال:
Laura Nader, “Up the Anthropologist-Perspectives Gained from Studying Up.” in Hymes, ed., Reinventing Anthropology, 284-311.
13. مثلاً:
Bob Scholte, “Toward a Reflexive and Critical Anthropology.” In Hymes, ed., Reinventing Anthropology, 430-57
في عام 1968 ثم نشر أوراق حلقة دراسية عن المسئوليات الاجتماعية في قسم خاص من مجلة:
Current Anthropology 9. no. 5 (1968): 391-436
انظري في هذا القسم المصدر الآتي على الأخص:
Gerald Berreman, “Is Anthropology Still Alive?” 391- 436
وأيضا انظر/ انظری :
“Bringing It All Back Home: Malaise in Anthropology,” in Hymes, ed., Reinventing Anthropology, 83- 98.
14. كنت بحلول السبعينيات قد أصبحت على دراية بالموقف النقدي اليساري الداعي إلى مبدأ النسبية الثقافية، مثلاً:
Hymes, ed., Reinventing Anthorpology.
بيد أن هذا النقد أصبح فيما بعد أبلغ وأكثر إحكاما على يد النظرية والأيديولوجية النسوية.
15. بلغ هذا الاختيار الأخلاقي ذروة درامية حين عدت إلى الولايات المتحدة في ١٩٧٢، ووجدت رسالة من وزارة الداخلية السودانية طلب مني نسخة صوتية و/أو مفرغة كتابيًا من المقابلات التي أجريتها مع سبعة وستين رجلاً وامرأة من أهل النوبة. وقد تجاهلت هذا الطلب مخاطرة بألا تسمح لى الحكومة السودانية بممارسة العمل البحث بعد ذلك في السودان.
16. أتناول هذه العمليات بشيء من التفصيل في رسالة الدكتوراه التي أعددتها، بعنوان:
The Changing Ethnic Identity of Nubians in an Urban Milieu. Khartoum, Sudan (Anthropology Department, University of California, Los Angeles, 1979), 35-40.
17. من الجائز أنه بحلول السبعينيات أصبحت الكتابة أو الحديث بشكل شخصي عن تجارب المرء في العمل الميداني من الممارسات المعتادة، مثل
Paul Rabinow, Reflections on Fieldhwork in Morocco (Berkeley, Calif : University of California Press, 1977); Rosalie Wax, Doing Fieldwork Warnings and Advice (Chicago: University of Chicago Press, 1971); Jean Briggs, Never in Paul Anger (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1970); Peggy Golde, ed., Women in the Field: Anthropological Experiences (Berkley, Calif: University of California Press, 1970): Middleton. The Study of the Lugbara Powdermaker, Stranger and Friend, David Maybury-Lewis, The Savage and the Innocent, (Cleveland, Ohio: World Publishing Company, 1965(
وكما تمت مناقشته في مقالة نقدية كتبها:
Dennison Nash and Ronald Wintrob, “The Emergence of Self-Consciousness in Ethnography,” Current Anthropology, 13 (1972), 527-42.
ولكن في عام 1954 حين قامت باحثة الأنثروبولوجيا لورا بوهانان Laura Bohannan بالكتابة على نحو له صبغة شخصية، لم تشعر فقط أنها مضطرة إلى إخفاء شخصيتها واللجوء إلى اسم مستعار، وإنما قامت كذلك بتحويل مسردها إلى عمل خيالي. ولقد كان لتجربتها هذه في طمس هويتها بوصفها أمريكية وإغراق نفسها في ثقافة التيف Tiv النيجيرية إلى درجة أنها كانت “تفقد شعورها بنفسها” – وقع في نفسي أشبه يوقع رواية رعب، فقد كانت عبارة عن طالبة جامعية تبدأ دراستها في قسم الأنثروبولوجيا في الستينات، انظر/ انظري :
Elenore Smith Bowen, pseudo,, Return to Laughter (New York: Harper & Row, 1954).
18. في عام 1950 أدخل ميشيل لاريس Michel Leiris مفهوم “مواجهة الكتابة بكتابة أخرى” (writing back) في سياق مقالته:
L’ethnographe devant le colonialism,” Lex Temps Modernes 58.
وقد تم إحياء هذا التقليد على أبلغ نحو على يد إدوارد سعيد في كتابه بعنوان “الاستشراق” :
Orientalism (New York: Pantheon, 1978).
انظر/ انظرى كذلك:
James Clifford, The Predicament of Culture: Twentieth Century Ethnography, Literature, and Art (Cambridge, Mass Harvard University Press, 1988), 256.
وقد جرى في عهد أقرب استكشاف موضوع “مواجهة الكتابة بكتابة أخرى” على يد جاباتري سبيفاك من بين آخرين. أنظر /أنظري:
Gayatri Spivak, In Other Worlds: Essays in Cultural Politics (London: Methuen, 1987); Bill Ashcroft et al. The Empire Writes Back: Theory and Practice in Post-Colonial Literatures (London: Routledge, 1989); and Homi K. Bhabha, ed.Nation and Narration (London: Routledge, 1990).
19 كثبت سهير مرسى عن هذا الموضوع بشكل مقنع وقوي، انظر / انظري:
Soheir Morsy. “Toward the Demise of Anthropology’s Distinctive Other Hegemonic Tradition.” In Arab Women in the Field Studying Your Own Society, ed., Soraya Altorki and Camillia El-Solh (Syracuse, NY: Syracuse University Press, 1988), 69-90.
20. Renate Duelli Klein, “How To Do What We Want To Do: Thoughts about Feminist Methodology,” in: Theories of Women’s Studies, ed. Gloria Bowles and Renate Duelli Klein (London: Routledge and Kegan Paul, 1983), 94-95 and 98; Marcia Westkott “Feminist Criticism in the Social Sciences,” Harvard Educational Review, 49 (1979): 422-30.
وليس ذلك ببعيد الشبه عن عمل باولو فرير:
Paulo Freire, Pedagogy of Oppressed (New York: Seabury Press: 1970).
21. أجريت هذه المقابلة، التي تمت باللغة الإنجليزية، يوم ١٢ يوليو ١٩٨٨ في مدينة أم درمان بالسودان، جميع الاستشهادات تم أخذها من هذه المقابلة.
22. بالإضافة إلى المكتوب في هامش ۲۰ عن الباسيوناريا (أي زهرة العشق)، تجدر الإشارة إلى أنها أيضًا كانت مناضلة ثورية شيوعية تولت فيما بعد زعامة الحزب الشيوعي الأسباني على مدى يقارب ثلاثة عقود بدءًا من الستينيات من القرن العشرين.
23. Eric Rouleau, “Sudan’s Revolutionary Spring.” Middle East Report, 15 (1985): 4.
دولورس إيباروري جوميز (1981-1895) Dolores lbarruri Gomez المعروفة باسم الباسيوناريا، اشتهرت بوصفها زعيمة ثورية في الحرب الأهلية الأسبانية، وكانت تمثل الشجاعة وروح الإقدام.
٢٤ في يونيه ١٩٨٩ وقع انقلاب عسكري جديد أطاح بالحكومة المنتخبة ديمقراطيًا وحل مجلس عسكري في مكانها، وتم حظر جميع الجماعات السياسية والنقابات المهنية، واعتبار كافة الاجتماعات السياسية خارجة عن القانون. أنظر/أنظري :
Alan Cowell, 1989: 1; and Andrew Buckoke, “The Military Seizes Power in Troubled Sudan,” The London Times, 1 July 1989; 7.
كما جرى القضاء على اليسار خصوصا، مما يعني بالطبع أن الاتحاد النسائي والحزب الشيوعي السوداني قد تم حظرهما من جديد.
25. Sondra Hale, “The Wing of the Patriarch: Sudanese Women and Revolutionary Parties,” Middle East Report, 16 (1986), 25-30.
تجدر الإشارة إلى أن نساء اليسار السودانيات تناقشن معي، ليس حول مسائل نظرية أو أيديولوجية، وإنما عن أهمية كتم الانتقادات الموجهة لليسا “أخل البيت“؛ وذلك إلى أن تقوى شوكة الحزب اليساري السوداني والاتحاد النسائي من جديد. ينبغي التنويه إلى أن النسويات اليساريات في الغرب، قد نفذ صبرهن في هذا العقد الأخير على الأخص، إزاء العلاقة بين الماركسية والنسوية، وإزاء نوع استجابة المنظمات اليسارية إلى الأفكار النسوية. انظر/ انظرى على سبيل المثال:
S Rowbotham, L. Segal, and H. Wainwright, Beyond the Fragments: Feminism and the Making of Socialism, (London: Merlin, 1979(
ومن أحدث الأعمال التي تتناول هذا الموضوع بالاستكشاف:
Promissory Notes: Women and the Transition to Socialism, ed. S. Kruks, R. Rapp, and M. Young (New York: Monthly Review Press, 1989)
وفي حين أن موقفي النقدي هنا يتفق مع خطوط هذه المدرسة، يجدر بي أن أعلق قائلة إنني ظللت لسنوات طوال من أنصار الاتحاد النسائي والحزب الشيوعي السوداني وأؤيدهما بشدة.
26. Sondra Hale, “Women’s Culture/Men’s Culture: Gender, Separation, and Space in Africa and North America,” American Behavioral Scientist, 31 (1987), 115-34.
27. في حين أن هذا النوع من المقاربة، المعنية بتقديم سردية بطولية، قد يكون متناسبًا مع أغراضها بشكل يبرره ويشرعه، ليس الوضع كذلك بالنسبة لي. في ضوء هذا الإدراك، ناهينا عن الاختلافات الأخرى المتعلقة بـ “السيرورة ، فلا بد لي من أن أعيد النظر فيما إذا كنت لا زلت راغبة في أن أكون كاتبة سيرة حياة فاطمة، وأعتقد أنها هي الأخرى قد تعيد النظر بعد أن تقرأ هذه المقالة.
28. استعرت هذا التعبير من أدريان ريتش، في:
Adrienne Rich, The Dream of a Common Language: Poems, 1974-1977 (New York: W.W. Norton, 1978)
…
الخلاصة
لقد تطلبت تجربة إجراء مقابلة مع فاطمة نوعًا من التفكيك له شقان: أحدهما شخصى يستند إلى تجاربي والآخر تحليلي، على الصعيد الأول، بدأت أخشى من اضطراري إلى فرض شيء من الرقابة على ذاتى وأنا أتولى الكتابة عن فاطمة أحمد إبراهيم، لئلا يصبح مسردي النقدى عن المقابلة بمثابة نوع من الغدر أو الخيانة. فكيف لى أن أتخذ موقفًا نقديًا من واحدة كنت دائمًا أكن لها أجل الاحترام، وهي شخصية لها مثل هذه الأهمية في التاريخ السوداني؟ وفضلاً عن ذلك، كانت فاطمة ودودة ومهذبة وكريمة؛ إذ منحتنى ساعات عديدة من وقتها من أجل ما قد يكون بالنسبة لها مشروعًا مجردًا، بعيدًا عن أرض الواقع، بينما تنهمك هي في العمل الحقيقي المعنى بالإبقاء على حياة النساء، في سياق أوضاع الفقر في العالم الثالث.
لم ترَ هؤلاء النسويات السودانيات القليلات اللاتي ناقشت معين أمر تلك المقابلة داعيًا لعذابي بشأنها، واستحثثنني على أن استخدامها لإثارة النقاش حول الاتجاه الذي يأخذه الاتحاد النسائي. غير أنه كانت لي تجربة سابقة مع نسويات سودانيات قمن بتشجيعي على نشر رأى نقدي مبنى جزئيًا على أساس من معلومات أعطيتني إياها، ثم إذا بهن “يتخلين عني” إذ تم النشر بالفعل، فبدأت أفهم كيف يمكن أن يتم استخدام المرء بوصفه وسيلة لإخراج آراء نقدية في مسائل معينة إلى الحيز العلني دون أن يمثل دور الحث على النقد ضمانة ضد الهجر والتخلي. وحين يجد المرء نفسه في هذا الوضع يتولد لديه شعور بأن موقفه يوحي لا بعدم اللياقة السياسية وحسب، وإنما أيضًا بغدره بالسودانيين، ومع ذلك، أظل أرى في الاعتناء بمصالحي وبالأجندة التي لدى – وحدها – ما يحمل نوعًا من النزعة اللاأخلاقية على أفضل تقدير.
إن اتباع الأجندة الشخصية التي تخص المرء مسألة قد تعنى بالتأكيد انتفاء سيرورة التمكين والتأهيل لدى كاتبة السيرة/ المؤولة/ النسوية. وقد وجدت أن أحد الحلول الممكنة لهذه المعضلة يتمثل في الإقرار بوجود اختلاف بيني وبين فاطمة من حيث نوع الأجندة وشكل النسوية التي نعمل بها، ثم في السعى أيضًا إلى التخفيف من حدة النقد فيما يخص مضمون المقابلة عن طريق تولى عملية نقد ذاتي مباشر وضمني في آن واحد. وفي الواقع يحدوني الأمل أن تتم قراءة هذه المقالة بأكملها بوصفها تنطوي على نقد الذات، وكذلك بوصفها مراجعة نقدية لبعض جوانب النسوية الغربية، وعلى وجه التحديد هيمنة “السيرورة” ، غير أنه من ضمن المشاكل الخطيرة التي تحيط بهذا التأمل الثاني – وبخاصة من كان (أو كانت) ينخرط في حوارات ومساع نحو إزاحة الغرب من نقطة المركز – هو أن الباحث (أو الباحثة) الغربي الأبيض يضع نفسه – مرة أخرى – في نقطة المركز، أما الراوي (أو الراوية) المنتسب إلى العالم الثالث فيتم تهميشه.
ثمة مجال مهم من مجالات نقد الذات يتعلق بتوقعاتي وافتراضاتي “النسوية” ، فلأنني أنا وفاطمة نسويتان لنا الخلفية العامة نفسها (أي أننا مدرِستان من الطبقة المتوسطة وناشطتان يساريتان)، ولأن أجندتينا تساويان في خطوطهما العريضة – ألا وهي تحرير النساء وتيسير قيام الثورة الاشتراكية السودانية – لهذا افترضت – مخطئة – وجود قدر أكبر من الوحدة في القضايا الرئيسة. فالمحصلة النهائية لما أقدمت عليه فاطمة من إعطائي إجابات مستحسنة اجتماعيًا – أو لائقة سياسيًا من وجهة نظرها – وسواء كان ذلك محاولة منها أن تستخدمني في تلميع صورتها وصورة الحزب الإعلامية، أو كان ذلك المجد في تاريخ الاتحاد النسائي ووصف مبادراتها – هي – الإيجابية. والنتيجة أنه قد تم إعطائي صورة عن حياتها وتاريخها في النشاط العملي، تخلو من أية تناقضات، وأية أخطاء، وأية لحظات ضعف إنساني، باختصار سردية بطولية.٢٧
كان مرامها – إذن – أن تقنعني بنبل قضيتها والدور الحيوي الفعال الذي لعبته فيها، وذلك لكي تحمل كتابتي عنها هذه الصورة على وجه التحديد، في حين كان هدفي أنا – بطبيعة الحال – أن أجرى بحثًا ليست هي سوى إحدى مصادره. قد يبدو هذا التأويل المتشكك متعارضًا مع العقيدة النسوية التي يتمثل شعارها في العمل البحثي من أجل النساء، غير أن أي ادعاء آخر من جانبي لن يبدو لي سوى ادعاء كاذب. كنت أيضًا أبحث عن معلومات تساعدني على الإلمام بالدور الطليعي الذي أؤمن أن نساء العالم الثالث يمكنهن لعبه في تحرير النساء في كل مكان. وبصفتي ناشطة نسوية، أعتبر نفسي – أنا الأخرى – صاحبة قضية؛ بيد أنه كان ضربًا من التطاول من جانب أن أتصرف على أساس أنني اشترك معها في القضية نفسها، الشيء الذي جعلني أنتظر منها أن تراه، وأن تشهد بدوري في تلك القضية.
فضلاً عن ذلك، افترضتُ أن لدينا – أنا وهي – “الجمهور” نفسه، وهو جمهور التيارات اليسارية والنسوية، ولكن الموقف كان أكثر تعقيدًا في الواقع من حيث الاختلاف في جمهور السامعين. فقد كان على فاطمة – أثناء تبادل الحوار بيننا – أن تأخذ بعين الحسبان سمعتها السياسية/ المهنية، كما فعلت أنا. فهي كانت تحمل على كاهلها عبء توقعات الحزب منها، وكان عليها أن تأخذ بعين الحسبان من هم الذين سيطلعون على المقابلة. كانت كل واحدة منا مطالبة بأن تكون على وعى بما يمكن أن ينظره الآخرون من هذه المقابلة: فلا بد أن الاتحاد فضلاً – والحزب معًا بود – كلاهما – أن يخرج من هذا الموقف “صاغ سليم“، ولا بد أن قراء بحثي يريدون تقييمًا نقديًا. كنا – أنا وهي – نتولى حماية السمعة السياسية الخاصة بآخرين، هي تضع في حسبانها رؤوس الحزب وأعضاء الاتحاد، وأنا أهتم بمراعاة بعض النسويات السودانيات من اليساريات اللاتي كان لي سنوات وأنا على ارتباط بهن.
في حالة هذه المقابلة، كان البعدان المتعلقان بالعمل التفاعل وبالتفاعل بين الذوات – كلاهما – يمران عبر مفاهيم متباينة عن التواضع، عن السلطة المرجعية، عن تعرية النفس، عن معنى أن يكون المرء “صادقًا وأمينًا“، عن دور “التظاهر“، وعن الظرف الذي من المقبول فيه “استخدام” شخص آخر، فضلاً عن ذلك، في حالة الحوار بين شخص من الطرف المقهور وشخص يمثل الطرف القاهر – حتى ولو كان الشخصان من النسويات – قد ترجح كفة الأهداف “القومية” على تلك “النسوية“، ولو بصورة مؤقتة، كما أنه من المؤكد أن المحصلة قد ترجح كفتها على السيرورة فلعل لفاطمة العذر في أن تستخدمني، في أن تَعدني لا وجود لي، في أن تنظر إلى بوصفى شيئًا، قناة تدفع عبرها قدما قضية قضت عمرها تعمل في سبيلها، وأنا، بالرغم من الذنب الذي أحمله بصفتى من البيض، وبالرغم من دوري الذي قد يعد – لا محالة – استعماريا، لعل لي عذرًا في أن أشعر بأن عواطفي المؤمنة بالمساواة بين البشر، هي ومذهبي المعين في السيرورة النسوية، قد تم انتهاكهما على نحو ما.
من الواضح أن خيبة الأمل التي ساورتني كان منبعها توقعاتي المبالغ فيها، وكذلك الفهم الذي لدي عن معنى “السيرورة النسوية“. ولعل منبعها أيضًا ما كان ماكثًا في نفسي من غطرسة بفضل نظرة الآخرين إلى بوصفى منتمية إلى الداخل لم تكن فاطمة سوى شخص غريب عني، وما كنت إلا كذلك بالنسبة إليها، ومع ذلك فقد أردت منها الاعتراف نفسه بي الذي وجدته من غيرها في الماضي، بوصفى لم أكن مجرد أية مستجوبة أو باحثة؛ بل واحدة تم منحها عضوية شرفية، وقضت ثلاثين عامًا تجرى أبحاثها في السودان.
ثمة مسألة أكثر تعقدًا والتفافًا إلى حد ما، ألا وهي مسألة الوضع الطبقي. تنتمي فاطمة إلى طبقة متميزة إن لم يكن اقتصاديًا فعلى الأقل من حيث مكانتها الاجتماعية التقليدية. فلعلها عدتني من أصحاب الامتيازات بصفتي أستاذة أمريكية، وبصفتي بيضاء، وبصفتي المستعمر الجديد، الطرف المستغل، إلا أنني في الواقع أنحدر من الطبقة العاملة. من ناحية أخرى، كان انتسابي إلى اليسار الأمريكي له أثره، إذ إنه من الناحية السياسية الخالصة ظلت إحدى مشكلاتي الدائمة مع اليساريين (أو اليساريات) السودانيين تتمثل في ازدرائهم اليسار الأمريكي.
على الصعيد التحليلي، يمكن النظر إلى تجربتي في مقابلة شخصية من الشخصيات البارزة والمتميزة في السودان، بصفتها تجربة تلقي الضوء على العيوب الموجودة في بعض الأفكار النسوية الغربية حول المنهجية. إذ إن مسألة إيثار السيرورة على المحصلة قد تحدث تأثيرا عميقا في أعمالنا البحثية، أي في قدرتنا على خلق أي قدر من المسافة، فضلاً عن تأثيرها في تقييم حياة الراوية بوصفها منفصلة عن حياتنا، وفي اتخاذ موقف نقدي دون أن نعطيه صيغة شخصية. ربما يصلح الاعتماد على التماهي النسائي التفاعلي، وعلى سلطة التجربة المشتركة، في مواقف أو أوضاع بعينها، ولكنه من الجائز جدًا أن ثمة تناقضًا بين تولى عملية تيسير تكون فيها امرأة من النساء هي الراوية لقصة حياتها بنفسها – أي هي التي تحتل دائرة الضوء – وبين طبيعة السيرورة التفاعلية (the interactional process). وحتى تضع هذا الكلام في السياق السوداني، لا يصح للمستجوبة/ كاتبة السيرة، حين تتواجد فوارق طبقية و/أو فوارق عنصرية، أو حين تمثل المستجوبة المستعمر وتمثل الراوية المستعمر، أن تطالب “بوقت متساو“، أو أن تنتظر الاعتراف نفسه بها.
فهل من المنطقي أن أنتظر – أنا النسوية الغربية البيضاء المستجوبة لامرأة سودانية – منها أن تراني وأن تعاملني كما أرى نفسي، في حين أننى قد أمثل بالنسبة إليها طائفة من فئات أخرى كثيرة؟
ومع ذلك، إن عدنا إلى السؤال المثار في مقدمة هذه المقالة، هل بوسع أية كاتبة سيرة أن تتجنب فرض واقعٍ ماء انتهينا إليه؟ إن كنا ملتزمات بنظرية معينة، ومنهجية معينة، وكنا منخرطات في الممارسة العملية، هل من الصدق أن تكون أو أن نفعل شيئًا عدا ذلك؟ ومع ذلك، إن حاولنا – على الجانب الآخر – في موقف مثل الذي وصفته أعلاء، أن نتصرف بوصفنا أكثر من مجرد قنوات لنقل حكاية الراوية، أي بوصفنا – مثلاً – مؤولات، أو محاورات، أو حتى شريكات في الجرم، هل معنى ذلك أننا نمارس إمبريالية ثقافية؟
إن جزءًا كبيرًا مما تقوم به باحثات (أو باحثو) الأنثروبولوجيا “في الحقل الميداني” قد جرى التخطيط له أو سبق إعداده إلى حد كبير، بما في ذلك المنهج بارز المكانة، الذي يشار إليه بـ “الملاحظة بالمشاركة“. فقد أعادت بعض النسويات تعريف المقابلة بوصفها شيئا أشبه ما يكون بمنهج “الملاحظة بالمشاركة“، فالمستجوبة تهيئ – أو تخلق – موقف المقابلة، ثم تشارك فيه. تُعد الكينونة (being) والفعل (doing) مسألتين مهمتين بالنسبة إلى الراوية ومؤولتها النسوية على حدٍ سواء، إلا أنه من الجائز أن ذلك القدر من المسافة الضئيلة – وإن ظلت مهمة – والتي هي مطلوبة في حالة منهج الملاحظة بالمشاركة المعتاد – يقي الباحثة الآخذة بمنهج التفاعلية والتفاعل بين الذرات في تأويلها لحياة امرأة غيرها، حيث يقيها من أن تكون افتراضات خاطئة عن المساحات المشتركة أو الهموم المتبادلة. وفي الوقت نفسه، تبقى الحميمية، و“الذاتية المشتركة” في سياق “المقابلة النسوية“، تبقى – في أغلب الأمر – مسألة اصطناعية مؤقتة، محبطة للتوقعات، ومن الممكن أن تؤدي إلى خلق توترات، من أشكال من النسوية مختلفة فيما بينها.
إن “حلمى بلغة مشتركة” هو حلم قد حطمته هذه المقابلة، غير أنه ربما كان ذلك مبعثه أننى على الرغم من استدعائي لشكل من أشكال النسوية“، نسيت في الوقت نفسه شيئًا من الأنثروبولوجيا، والسياسة، والتاريخ.28
…
في الواقع، كما يبدو من هذا الاستشهاد، كانت فاطمة تفصل نفسها – في أكثر الأحيان – عن أغلب نساء السودان الأخريات، كذلك حين كنا نناقش حركة حقوق النساء عام 1965 ذكرت أنها كانت مع الاتحاد يؤيدان مبدأ الأجر المتساوي عن العمل المتساوي؛ بالرغم من أنه كان من المزمع تطبيقه فقط على خريجات الجامعة والمدرسات. وحين أقحمت جملة افترضت فيها “أننا” (هي وأنا وأية نسوية أخرى) لدينا موقف ناقد للذات تجاه الفشل في مد هذا الحق إلى نساء الطبقة العاملة والفلاحات، وأننا نرى هذا الموقف – بالطبع – مسألة اضطرارية يؤسف لها، ما كان منها إلا أن قابلت ما قلته بالتجاهل. وكانت فاطمة على العقيدة الآتية: “يجب أولاً أن نعلمهن (النساء العاديات). وإن لم يقتنعن بذلك، فليس بوسعي أن أفعل ذلك نيابة عنهن“. وأشارت إلى لجوئها إلى الحيل حتى تدفع النساء للقيام بشيء ما، من قبيل أن تنظم لهن دروسًا في الحياكة والتفصيل حتى يتعلمن مبادئ القراءة والكتابة.
وبالرغم من تكرار إثارتها لذكر “قضايا المرأة” فلم يحدث أبدًا أن وضحت المقصود بالكلمة؛ حتى وهي تناقش الانشقاقات داخل المنظمة حول “قضايا المرأة” مقابل “السياسة القومية“، ولا وضعت أبدًا موضع السؤال هذا التعارض المفترض بين الشقين. وطبقًا لفاطمة، كان ثمة نساء داخل الاتحاد لا يجدن عمل المرأة في السياسة القومية أمرًا لائقًا، أما هي فكانت تنتمي إلى الفصيلة التي تحث على مشاركة النساء في الحركة السياسية القومية. وحين طلبت منها أن تعطى تعريفها القضايا المرأة“، ما كان منها إلا أن تجاهلت السؤال.
اتخذت فاطمة – على الأقل خلال المقابلة – موقفًا غير نقدي إزاء الحزب الشيوعي السوداني، من حيث علاقته بالاتحاد النسائي. وقررت عدم وجود تناقضات بين الحزب والاتحاد أو اختلافات حول قضايا النساء، وأن الاتحاد مستقل تمامًا، وأن نساء الحزب لم يخلطن – بالمرة – بين شئون الحزب وشئون الاتحاد. وألمحت إلى خلاف داخل الحزب غادرت في إطاره بعض النساء الحزب، ولكنها لم تشأن أن تشرح سبب الخلاف. وبينما كان من الممكن تفهم بعض أسباب مراوغتها فيما يخص الحزب الشيوعي، كنت قد اخترت بعناية الأسئلة التي أطرحها عليها؛ بحيث لا تتعارض مع اعتبارات استراتيجية في تنظيم الحزب.
وبالرغم من أن نشاط الحزب لم يكن محظورًا وقت المقابلة – وأن قياداته كانت معروفة للجميع – أغفلت فاطمة ذكر زميلاتها، حتى حين كنت أستحثها على ذكر أسماء أعرفها لكي أصل إلى فهم ديناميات النشاط والعلاقات داخل الاتحاد. فقد كانت تستخدم “نحن” في وصفها لإحدى المظاهرات أو الانتخابات أو لوفد ما، ولكن دون أن تفصح عن الهويات التي تشير إليها كلمة “نحن“. وحين نسبت لنفسها معظم فضل الزعامة في كل الأحداث الحاسمة، حتى وهي تحكي عن فترات كانت وقتها داخل السجن أو رهن الإقامة الجبرية، فقد كان في ملك عقل من شأن دور شخصيات أخرى بالغة الشهرة والأهمية. وحين سألتها إن كان ثمة كوادر جديدة صاعدة كانت إجاباتها بالنفي ولغتها الجسدية لا تسمحان بأی اعتراض من جانبي، وتجاهلت فاطمة الملحوظة التي أبديتها عن وجود عديد من الوجوه الشابة كنت قد شاهدتها خلال مناسبة عقدها اليسار منذ فترة قصيرة، وأخيرًا، حين سألتها من كان ثمة شريحة جديدة، لاسيما من بين العضوات الشابات في الاتحاد النسائي، تنادي بأفكار جديدة وتدفع المنظمة في اتجاه مختلف، ردت بأن وصفت الرعاية الفائقة التي تشمل بها الأعضاء الجدد، من قبيل حرصها على اصطحاب العضوات الشابات إلى بلدات أخرى حيث تلقى خطاباتها وتترك لهن حرية التعبير عن أفكاره وآرائهن.
وفيما يخص “منافساتها“، وما يخص مسألة الانشقاقات داخل الحزب، لم تبد فاطمة إقرارًا بالاختلافات الشرعية أو تقبلها؛ بل فعلت ما وجدته يشكل هجومًا شخصيًا على منافساتها بالاسم، أو أبدت استخفافًا أو ذمًا في العضوات اللواتي لهن رؤية أخرى لقضايا النساء، فلا تحدثت بمرارة – على سبيل المثال – عن الأموال التي منحتها الحكومة السودانية وبعض الوكالات الأجنبية إلى عائلة البدري (التي يدير أفرادها جامعة الأحفاد للبنان ويُعدون من الليبراليين المناصرين لحقوق النساء) من أجل دعم العمل في قضايا النساء، متهمة إياهم بالخطأ في اختيار القضايا واستراتيجيات العمل، وبالاستيلاء على أموال المنح لأنفسهم. وعلى المنوال نفسه، حكت كيف عارضت عضوتان في الاتحاد – في عام 1965 حين كان الاتحاد يضع البرنامج السياسي لحقوق النساء – الدعوة إلى منح المرأة فترة أربعة شهور كإجازة وضع مطالبتين بأسلوب واحد فقط، وحين حاولت أن أدفعها إلى الاستفاضة في شرح حجج العضوتين – وهن من النسويات المعروفات – لم تفعل فاطمة إلا العزف على لحن كثيرًا ما كررته عن أن مثل هؤلاء النساء لم يكن أكثر من مغفلات يسيطر عليهن الرئيس جعفر نميري.
كانت فاطمة تلجأ كثيرًا إلى هذه الطريقة من إطلاق النعوت في التعامل مع خصومها السياسيين، فقد استخدمت مثلاً لقب “الأخوات المسلمات” (أي عضوات في تنظيم الإخوان) للإشارة إلى أسماء بعينها لنساء ليبراليات، فيما يعنى أنهن من التيار الإسلامي الأصولي أو من التيار السياسي الرجعي. وحين أبديت دهشتي إزاء استخدامها هذه النعوت في الإشارة إلى امرأة معروفة من أصحاب الاتجاهات الديمقراطية، لجأت فاطمة إلى المراوغة قائلة “بأنها لم تكن قد انضمت تمامًا إلى التنظيم في ذلك الحين“. وبتفكيك هذه العبارة، استنتجت أن فاطمة كانت تحاول الإلماح إلى أن تلك المرأة كانت من الأخوات المسلمات في سريرة نفسها حتى في ذلك الزمن، وإن لم تنضم صراحة إلى صفوف تلك المنظمة الأصولية إلا فيما بعد، بيد أن أيًا من الأمرين لا يبدو لي وارد الحدوث.
لا تقتصر المعلومات المضللة التي تعمدت فاطمة – فيما يبدو أن تعطيني إياها – على هذه الأمثلة فحسب. فقد حاولت أيضًا التعتيم على النواحي الإيجابية في دستور ۱۹۷۳ (في عهد النمبري)، وسعت إلى تبرير اختيار الاتحاد للنضال في سبيل الحقوق السياسية، معطيًا إياها الأولوية فوق الحقوق الاقتصادية (إن كان يجوز الفصل بينهما)، بدعوى أن “غالبية النساء من ربات البيوت“. وقد أثار قولها استغرابي وبخاصة أني لم أكن أتوقع من أبرز نسويات السودان أن تدلى بمثل هذا القول عن دور النساء الاقتصادي في السودان، حيث كل امرأة من النسويات السودانيات وكل شخص من المهتمين (أو المهتمات) بالسودان لديه إلمام بوجود نسبة مرتفعة من النساء العاملات بالزراعة، واللواتي يوظفن في الصناعات المنزلية الصغيرة (cottage industries)، أو يعملن على مقربة من منازلهن، أو يقدمن خدمات شخصية، لا تدخل في الإحصائيات.
ولعل فاطمة قد افترضت أن لي آراءً ذات وجهة معينة، بوصفى قادمة من الغرب، في مسألة ختان الأنثى ولهذا أثارت ذكر هذه المسألة عدة مرات – بنبرة دفاعية – رغم أنني أتبع سياسة عدم مناقشة هذا الموضوع إطلاقًا في الولايات المتحدة، وأيضًا في السودان إلا إذا دُعيت إلى ذلك. قالت فاطمة إن “الختان يمثل العرض وليس المرض” ، وعادت مرة أخرى إلى ذكر التعليم بوصفه حلاً لمشكلة الختان على المدى البعيد، وأبدت نقدًا شديدًا نجاء جميع النساء والجماعات النسائية العاملة على استئصال هذه العادة (مثل عائلة البدرى المذكورة آنفًا). وقالت إن المشكلة قد أحيطت بالمغالاة على أيدي “قوى خارجية” (أي نسويات من الغرب)، ما أبديت حوله اتفاقى معها، بوصفى – أنا نفسي – أدعو إلى ترك هذه القضية ليتناولها أهل السودان، لا أحد غيرهم. وقد ساقت فاطمة حجة تؤسس أولوياتها “إذا نظرنا إلى نسبة النساء اللاتي يلقين حتفهن بسبب الختان أو أثناء الولادة نجدها نسبة بسيطة للغاية، ولكن إذا نظرنا إلى عند النساء اللاتي يمتن من الجوع، نجد نسبتهن كبيرة للغاية. أي الأمرين أهم إذن؟“. وبالرغم من أننى أيديت ما يوضح موافقتي، لم تلتفت فاطمة إلى ذلك، بل واصلت كلامها، كما لو أنني كنت أبدى اعتراضي.
بدا لي موقف فاطمة – على وجه العموم – إزاء “الثقافة التقليدية“، سواء كان ذلك في كتاباتها أو كان خلال مقابلتي معها، بدا لي يحمل تناقضًا. فقد كرست الكثير من وقتها وجهدها لشجب مسألة الزار، وهو طقس يمارس الطرد الأرواح الشريرة ولا يبدو في ضرر. وحين عرضت أفكاري عن الزار، ذاكرةً أن بعض النسويات يرين هذا الطفس شكلاً من أشكال المقاومة وممارسةً تعبر عن تضامن النساء، لم تبد فاطمة اهتمامًا. 26 وبينما أشارت خلال المقابلة – وكذلك في كتاباتها – إلى ضرورة أن يقوم الاتحاد النسائي بمكافحة العادات التقليدية من قبيل الزار، جاء موقفها مختلفًا تجاه الإسلام، الذي قد يعده البعض أمرًا ينتسب أيضًا إلى “الثقافة التقليدية“. ففاطمة تحسب قرار الحزب الشيوعي السوداني والاتحاد النسائي في الخمسينيات بالتعايش مع التوجه الإسلامي، بوصفه استراتيجية بالغة الفاعلية، و “عملاً عبقريًا” أدى إلى إنقاذ هاتين المنظمتين. فلأنها تعد الإسلام شأنًا شخصيًا، تعتقد أنه ليس ثمة تناقض بين نضال (النساء) ومقاصد الإسلام الحقيقية ، غير أن محصلة هذا الموقف أن الاتحاد النسائي لم يجعل من تغيير قوانين الأسرة والأحوال الشخصية هدفًا له؛ بالرغم من تقييدها للنساء، الأمر الذي تقرُّ به فاطمة بسهولة، وذلك لأن هذه القوانين “وثيقة الارتباط بالدين“.
غاب عن النقاش حول الثقافة الإسلامية أي مناقشة حول العناصر الموجودة في الإسلام – مثل بعض جوانب قوانين الأحوال الشخصية والشريعة – التي يمكن استخدامها لتحرير النساء في مقابل العناصر التي قد تستخدم في قهرهن، ولست بصدد الإيحاء بأن فاطمة ليست واعية بما يحيط دور المرأة في الإسلام من تعقيدات، وإنما فقط أردت الإشارة إلى أنها ترى – فيما يبدو – حكمة استراتيجية في تبنى موقف غير ناقد علانية، وفيما يبدو، ينطبق على المقابلة معى شروط العلانية. تمثلت إحدي معضلاتي – سواء كان ذلك بالأمر اللائق أم لا – في كوني قد وضعت في خانة المستمعة فحسب، فقد بدا أنه ما من أثر يُذْكر ترتب على كوني أختًا في النسوية، من بلد تموج بحركة نسائية نشطة ويسارية، على دراية بالسودان وأتعاطف مع الحزب والاتحاد.
شهادات ثلاث نساء
وداد متری – زينب الأتربي – عايدة فهمي
وداد متری – زينب الأتربي – عايدة فهمي1
تنسيق
سحر صبحي:
مساء الخير، جلستنا مختلفة عن الجلسات السابقة من ناحية تمركزها أو من ناحية تمحورها حول شخصية نبوية موسى، الندوة على مدى اليومين كانت تحاول أن تقدم لنا نبوية موسى من خلال محاور المرأة، والتعليم والعمل، وأفردنا جلسات مختلفة للمحاور المختلفة. جلسة اليوم تختلف عن المسابقات لها، لكن تتكامل معهم.
اليوم لا نتحدث عن نبوية موسى في هذه الجلسة، وإنما سنطرح ثلاث تجارب مختلفة، ومتتابعة توالت في تجربة نبوية موسى، بمعنى أنه إذا كانت نبوية موسى إحدى المنجزات اللاتي ظهرن في بداية القرن الحالي العشرين، نحن اليوم في أواخر القرن، وتحاول طرح سؤال مدى استمرارية عمل وتعلم المرأة؟ وأيضًا محورنا المرأة والتعليم، والعمل، هل يوجد استمرارية أو هل توقف العمل؟ نبوية موسى بطرحها الحالي من خلال الندوة، هل نحن تحتفى بها بوصفها امرأة شذت عن القاعدة كما يرد في بعض النظريات، التي تحاول احتواه إنجازات المرأة، وتأتي عند المرأة الناجحة وتقول إن هذا شذوذ على القاعدة، هل هو فعلاً شذوذ عن القاعدة أم أن القاعدة نفسها بدأت تتغير ؟ وربما كانت متغيرة وليست معترفًا بها.
الهدف الثالث، أو الإطار الثالث، أو البعد الثالث لهذه الجلسة هو التعريف بإنجازات أخريات. لدينا اليوم ثلاث شخصيات مثلما قلت يمثلن جيل ما بعد نبوية موسى، وتجربة مستمرة معها من ناحية أنهن تعلمن، وعملن، لكن عملت كل واحدة في مجال مختلف عن الأخرى. وبالتالي نحاول أن نعرض تجارب متباينة ومختلفة عمل المرأة.
معنا اليوم الأستاذة وداد متري، الإعلامية وأستاذة التربية والتعليم. ومن الطريف أنها تشترك مع نبوية موسى في ازدواجية العمل، من ناحية، فقد بدأت فعلاً مدرسة مثل نبوية موسى وبعد ذلك استمرت في العمل الصحفي، وطبعًا نحن نعرف أن نبوية موسى أنشأت جريدة، وأيضًا عملت في الصحافة، فاليوم لدينا نفس تجربة العمل، وبعد ذلك سنتكلم مع الأستاذة عايدة فهمي وهي ستطرح لنا تجربتها الشخصية في الحياة، وهي قد اشتغلت بالعمل النقابي وكان لها إنجازات كثيرة في مجال مختلف عن مجال الأستاذ وداد، وبعد ذلك نقابل الأستاذة زينب الإتربي وهي من أوائل خريجات جامعة فؤاد الأول، تخرجت سنة 1935، وعملت بالتدريس ولها إنجازاتها على المستوى البشري. الأستاذة وداد مترى حصلت على ليسانس الفلسفة سنة ١٩٥٢، ثم دبلوم معهد التحرير والترجمة والصحافة وهو يعادل الماجستير سنة 1956، ثم دبلوم دراسات تربوية سنة ١٩٦٢، وعملت مدرسة ثم أُبعدت عن التدريس ونُقلت إلى وظيفة إدارية فاتجهت إلى الصحافة، وعملت بالعمل الصحفي، هذه بدايات حياتها، مؤخرا تم تكريمها من جامعة القاهرة بمناسبة احتفال الجامعة بمرور 90 سنة على إنشائها، واحتفال كلية الإعلام بمرور 1960 سنة على إنشاء الدراسات الإعلامية، وحصلت على درع الجامعة ودرع كلية الإعلام وشهادات تقدير من المؤسستين، وأنا أقرأ من الشهادة نفسها وهي تقول اعترافًا بإسهامها المتميز في تطوير الإعلام المصرى على مدى سنوات عملها الطويلة، وما قدمته من جهد صادق من أجل. مصر الحبيبة، وسأذكر أيضًا بعض النقاط الوجيزة عن إنجازاتها، هي أول من أسهمت في تأسيس الصحافة المدرسية، وقدمت أول برنامج تدريس في الصحافة المدرسية سنة 1961، وحصلت بها على المركز الأول على مستوى الجمهورية، سنة 1959 عملت مسئولة الصحافة بمنطقة شرق القاهرة، ثم موجهة أولى للصحافة المدرسية، كما تولت إعداد مجلة أسبوعية وسنوية للمنطقة إضافة إلى إشرافها على الصحافة المدرسية. وهي أيضًا عضو لجنة أوضاع المرأة باتحاد المحامين العرب، وعضو اللجنة المصرية لمنظمة تضامن الشعوب الأفروأسيوية، وعضو مؤسس بجمعية خريجات الجامعة، وحاليًا عضو في مجلس إدارتها، بالإضافة إلى عضويتها في جمعيات هدى شعراوي وجمعيات سيدات مصر.
هذا التقديم هو التقديم الرسمي لكنني أعترف أنه قاصر بشدة لأنه لا يغطى الجانب الأهم في حياة الأستاذة وداد، فنحن نعرفها أكثر من خلال نشاطها السياسي الذي لم ترد أن تذكره لي لكني عرفته، فلقد كانت نشيطة جدا، نشطت سياسيًا خاصة خلال سنوات 1956 و1967، حيث اهتمت بقضايا العمل الوطني، وقامت بدور مهم في توعية التلميذات. حيث كانت تلقى المحاضرات من أجل التوعية والتثقيف مثل محاضراتها سنة 1965 بعنوان كيف نواجه العدوان؟ ومحاضراتها عن “التصنيع وسياسة مصر ” وكذا محاضراتها الكثيرة سنة 1967. كانت محاضرة التصنيع في مصر سنة 1957، لكن في 1967 قامت بإلقاء مجموعة وفيرة من المحاضرات، لا نستطيع أن نجمع كل عناوينها الآن أو نسردها، وكانت من أشد المناصرات للقضية الفلسطينية. لقد ذكرت أنها عملت مدرسة، ومعى شهادة قدمتها لي تلميذاتها لو أحببتم أقرأها عليكم.
تقول تلميذاتها عنها: “لم تكن مجرد أستاذة ومعلمة قديرة وإنما كانت قدوة ومثلاً، فقد حولت المدرسة التي كانت تديرها ناظرة شديدة السطوة والجبروت من مدرسة تكرهها التلميذات إلى مدرسة يتقن إلى الذهاب إليها ليلتقين بمدرستهم التي أحبوها، أبلة وداد، واتسمت علاقة تلميذاتها بها بصداقة حميمة، فأضحت لهم أختًا يستشيرونها في كل أمور حياتهن أسرية والعاطفية، سعت إلى إنشاء مركز للخدمة العامة بالمدرسة وكان لهذا المركز دورًا بارزًا في إشاعة نشاط ثقافي، وسياسي، وفني، ليس في نطاق المدرسة فقط، وإنما على امتداد مدينة شبين الكوم كلها، وقد أحتل الجانب الثقافي والسياسي مكانًا خاصًا من نشاط هذا المركز، وذلك بفضل سعى الأستاذة وداد إلى استضافة شخصيات ثقافية وسياسية وأدبية من العاصمة، لعمل الندوات والقاء المحاضرات، وإثارة النقاشات، وكان ذلك نافذة أطلت تلميذاتها منها على عالم رحب واسع من الثقافة والعلم والمعرفة. وقد جندت تلميذاتها للاشتراك في حملة قيد الناخبات في الجداول الانتخابية، وكانت محافظة المنوفية بفضل ذلك الجهد هي أعلى محافظة في نسبة قيد النساء، وقادت كتيبة من تلميذاتها للتدريب على السلاح والتمريض، إبان العدوان الثلاثي على مصر وكذا حملة التبرع بالدم وأيضًا سجلت محافظة المنوفية أعلى نسبة للتبرع بالدم، ودخلت معترك العمل النقابي ونالت ثقة زملائها وزميلاتها وكانت تحصل دائمًا على أعلى النسب في الأصوات.
هذه شهادة من صوت آخر، والآن نتوجه للأستاذة وداد لتحدثنا هي عن مشوار حياتها.
…
وداد متري:
أشكرك جدًا لتقديمي، وأنا أشعر أنني في موقف صعب جدًا، لأن من أصعب الأمور على الإنسان أنه يتكلم عن نفسه، وشهادة معناها لابد للإنسان أن يتحدث عن نفسه، فبالنسبة لي أشعر أن هذه مهمة صعبة جدًا، المهمة الصعبة الثانية أنكم منذ يومين تسمعون دراسات أكاديمية، وعلمية.
من أشق الأمور على الإنسان أن يتحدث عن نفسه، وبما أنني الآن محاصرة وفي موقف لا أحسد عليه فلا مفر من الكلام، وسيكون كلامي قاصرًا على مراحل معينة من حياتي الطويلة التي أتيحت لي فرصة أن أكون مفيدة بشكل ما، وأن يكون عطائي بقدر ما سمحت به الظروف والإمكانيات، وخلال المسيرة الطويلة استمتعت بالنجاح، وآلمنى الفشل، وارتكبت الكثير من الأخطاء في مراحل من حياتي، أفتقدت فيها الخبرة والنظرة الموضوعية للأمور. وكل ما أرجوه أن يتسع صدركم الآن للوقوف على خبراتي المتواضعة، خلال مرحلة من تاريخ مصر بدأت قبل ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ وامتدت حتى الآن، ولما كان لابد لكل نشاط من مجال، فقد كان المجال الأساسي هو العمل الوظيفي، وإلى جانب العمل الرسمي كان هناك النشاط النقابي والنشاط السياسي من خلال الاتحاد الاشتراكي، كنت الأمينة المساعدة لمنطقة شرق القاهرة التعليمية بالانتخاب طبعًا. ثم كانت هناك الجمعيات النسائية والجامعة الشعبية، والهلال الأحمر، واللجنة النسائية للمقاومة الشعبية، وجمعية المرشدات المصرية. وكان دستوري دائمًا أن العمل الوظيفي والاجتماعي والسياسي ليس تجهنا ولا افتعالاً للأهمية الشخصية بل هو جزء من الحياة الاجتماعية، تدعمه العلاقات الإنسانية وتزيد من فاعليتة لحظات المرح والانطلاق، ومخاطبة كل فئة من الناس تبعًا لظروفها وتكوينها النفسي.
بالنسبة لمرحلة الدراسة، كان لي نشاط أثناء الدراسة، نشاط رياضي، ثقافي، فني، نشاط وطني من ناحية الاشتراك في المظاهرات في الفترة التي سبقت الثورة، وكان لي الشرف أن أفوز بعضوية اتحاد الطلبة سنة 1951، أنا أقول غالبًا يمكن كنت أول طالبة تدخل الاتحاد، لكن أنا لست متأكدة من هذه المعلومة، ممكن أن تكون هناك من سبقتني ولكن أنا لا أعرف، ويوجد اشياء كثيرة بالصدفة كنت أنا أول شخصية فيها، كنت أول طالبة تدخل بوفيه الآداب، بوفيه كلية الآداب كان مشهورًا جدًا، ولكن بالنسبة للطالبات كان هناك فقط طرقة لا تتعداها، لكن لا نقدر أبدًا أن تدخل البوفيه، لأن البوفيه بالداخل كان يوجد فيه طلبة وأساتذة، وفيه ضوضاء ومستمعين، لكن لا تتعدى هذه الحدود، كانوا يخرجون لنا السندوتشات والمشروبات بالخارج، فأنا في الحقيقة كنت غاضبة جدًا ومستقرة، فقررت أنا وزميلة لي هي الأستاذة سعدية غنيم، كانت مخرجة في التليفزيون المصري، قررنا أن نقتحم النادي وندخل، قطعًا هذه خطوة كانت مثل عمل ثوري بالنسبة لهذه المرحلة وفي هذا الوقت، لكن الحقيقة يوجد اساتذة كثيرون شجعونا ودخلوا معنا وأذكر منهم أستاذا، لأن الجرائد أخذت لنا صور، وصورت هذا الاقتحام الفظيع، فيوجد صور في الصحف؛ فقد كان يجلس معنا المرحوم الدكتور محمد محمود الصياد، وكان أستاذ الجغرافيا، وكان هذا شيئًا غريبًا جدًا.
العمل الوظيفي
بدأت العمل الوظيفي مدرسة عام ١٩٥٢، ولم تكن العملية التعليمية قاصرة على التلفين والحفظ في إطار منهج معين بهدف النجاح والحصول على مؤهل علمي ثم وظيفة، بل كانت الطموحات أبعد من ذلك، وقد تمثلت في معرفة الواقع وتطويره لصالح الإنسان بأسلحة الوعى الموضوعي بكل ما يعاني منه المجتمع، ودفع الطلبة للإحساس المستمر بالمسئولية تجاه هذا المجتمع، ولما كانت ظروف المدارس في تلك الفترة تسمح بالأنشطة التي تمثلت في جمعيات النشاط المدرسي، كان هناك جمعيات للأدب، والموسيقى، والإعلام، والتصوير، والصحافة، فقد استغلت هذه الأنشطة في تحقيق الاتجاهات السليمة لأبناء، وبنات الجيل، طبعًا للذي يريد أن يستغلها وذلك كان متاحًا، وكان يمكن ربط هذه الأنشطة بالمشروعات الإنتاجية والأهداف الوطنية الكبرى، وقد ساعد على ذلك اتساع الفصول وقلة عدد التلاميذ، ووجود الملاعب الرياضية، وطول اليوم الدراسي، فكان الوقت طويلاً جدًا، وهذا كان يتيح الفرصة لمعرفة كل تلميذ على حدة، والوقوف على مواهبه ومشاكله، وكم من مساعدات قدمت للتلاميذ من ناحية تذليل المشاكل بينه وبين أسرته، وكم من مساعدات مادية أعانته على استكمال دراسته في سرية تامة.
النشاط النقابي والوطني
أتاح التدريس أيضًا فرصة للعمل النقابي في صفوف المعلمين عن طريق نقابة المعلمين، وعن طريق اللجنة النقابية للخدمات التعليمية، وكانت كل هذه المواقع بالانتخاب، طبعًا يوجد معارك وملابسات كثيرة كانت تصاحب كل عملية انتخابية لكل هذا ليس الوقت المناسب لسردها، عام 1956، هذا عام مهم في تاريخ مصر، في هذا العام تم حصول المرأة على حق الترشيح والانتخاب وحدوث العدوان الثلاثي على مصر، في هذه الفترة كنت أعمل في شبين الكوم مدرسة، وفي هذه الفترة تمت أكبر حملة لتشجيع المرأة على قيد اسمها في جداول الانتخاب في بندر شبين الكوم والبلاد المحيطة مثل مليج وقوسنا وكفر المصيلحة وسرس الليان. ونجاح فكرة اختيار مقر للقيد غير القسم أو نقطة البوليس، وقد أمكن أن يتم ذلك في المدارس، ومعي الآن نماذج، قبل أن نخرج لكي نحث الناس على أن يقيدوا أسماءهم، هذا شيء جديد بالتأكيد، فكنا نطبع بيانات للمرأة المتعلمة والتي تعمل مدرسة أو في المنزل أيضًا، بالنسبة للسيدات الأخريات كنا نأخذهم إلى نقطة البوليس بالاتفاق طبعًا، نأخذ إذن ونأخذهم إلى إحدى المدارس وتسهل لهم العملية، ومعى أيضًا نموذج من البيانات التي كنا نقدمها أولاً، ومعي نموذج لصيغة انتخابية، السيدة التي نأخذها نكتب اسمها وتختم أو تمضي في المدرسة وبكل سهولة، الحقيقة هذه المطبوعات لفت نظري أنها كانت على حساب المدرسة، أي أن المدرسة هي التي كانت تدفع مصاريف الإعلانات وهذا أيضًا يبين أن العلاقة عندما تكون حيدة بين العاملين وبين الإدارة مهما كانت هذه الإدارة فإن هذا يذلل الكثير من المصاعب، أقصد أن هذه المدرسة أعطت لنا فرصًا كثيرة جدًا، وفي الوقت نفسه كانت مقتنعة أن ذلك لصالح المدرسة، وأنه نشاط على مستوى البلد كلها.
حدث أيضًا إنشاء مركز الخدمة العامة الذي تحدثت عنه الأستاذة سحر بالمدرسة وهذا أيضًا كان إنجازًا كبيرًا جدًا، أنشأنا مركز الخدمة العامة، وكان يوجد اقسام التفصيل الملابس للمجندين والمهجرين من التبرعات بالأقمشة والنقود، وكانت لافتة هذا المركز موجودة إلى عهد قريب، جاءت فرصة أن أذهب مع شاهندة مقلد إلى شبين الكوم ووجدت اللافتة موجودة على المدرسة “مركز الخدمة العامة” وأنا سعيدة جدًا، والمدرسة كانت متسعة جدًا، وكانت لافتة المركز موجودة إلى وقت قريب، ويوجد معي إعلان عن إنشاء المركز، إننا ستنشئ مركزًا للخدمة العامة في مدرسة شبين الكوم الثانوية للبنات، وعلى كل سيدة تجد عندها الوقت الكافي أن تتوجه للمركز، كنا نجعلهن يأتين بعد الظهر، ابتدأ من بعد الظهر – الحقيقة وشاهنده شاهدة – كان لا يوجد سيدة جالسة في المنزل فكلهن يأتين جميعًا للمركز، فنحن نقدم لهن وسائل إغراء ونشاط، فيمكن أن تقيم لهن سهرة مثلاً، في نادي يوجد فيه مناضد وشماسي وكان شيئًا جميلاً جدًا.
كان هناك أيضًا حملة تبرعات على مستوى تجار وأغنياء شبين الكوم، حملات للتبرع بالدم وتمريض وإسعاف من خلال الهلال الأحمر، والتدريب العسكري، هناك أيضًا أحداث طريفة أذكرها في تلك الفترة لكن لن يتسع الوقت لذكرها، أنا انتقلت من شبين الكوم وذهبت إلى القاهرة وفي هذا الوقت كانت معركة الجزائر ، حرب تحرير الجزائر، فمصر قامت بدور كبير جدًا في مساندة حركة التحرير حتى استقلت الجزائر، ونحن كنا نقوم بنشاط، بالنسبة لي كانت لجنة الجزائر بمجلس السلام العالمي، فبالتأكيد هذه مدرسة ونستطيع أن نستغلها في أنشطة كثيرة، وكان هناك محاضرات، وكن نصنع كتيبات وصور، ومجلات حائط، وأنا لدى نماذج من مجلات الحائط الخاصة بتلميذاتي في هذه الفترة، وأي شخص يود أن يشاهد هذه المجلات، سوف أرحب به، وأحب أن يأتي ويشرفني ويشاهد نماذج من عمل البنات في هذه الفترة لتدعيم ثورة الجزائر.
تم تنظيم أكبر مظاهر نسائية شعبية من أجل إنقاذ جميلة بوحريد، وقد توجهت المظاهرة إلى مبنى الأمم المتحدة، وفي المقر أرسلت المتظاهرات برقية إلى داج هامر شولد سكرتير عام الأمم المتحدة، أنا لدي نصها لكن لن أذكره لضيق الوقت، وقد شاركت في هذه المظاهرة تلميذاتي من مدرسة التوفيق الثانوية بالقاهرة التي كنت نقلت إليها من شبين الكوم، كما شاركت فيها تلميذتي الحبيبة شاهندة مقلد، والتي حضرت خصيصًا من شبين الكوم للمشاركة والتي تعلمت منها بعد ذلك دروسًا في النضال والصعود، أضافت لي الكثير. شاركت أيضًا في معسكر اسمه معسكر البراجيل. وطبعًا أنا شاركت في معسكرات كثيرة، ولكن هذا المعسكر أنكره بالأخص لأن له دلالة معينة، فقد كان عن طريق جمعية المرشدات المصابة، فالخطوات المكتسبة من المعنية الكاملة للفلاحين ومشاكلهم والبراجيل قرية قريبة من إمبابة، وعشنا فيها لمدة أسبوعين، في إحدى القرى المصرية. كان معى هذا الوقت طالبات من معيد الخدمة الاجتماعية، ومن كلية الآداب قسم اجتماع ومن معهد التربية الرياضية، ونظمته جمعية المرشدات المصرية برئاسة سيدة عظيمة اسمها زهرة رجاء والحقيقة قامت هذه السيدة بنشاط عظيم جدًا، ويوجد لدى سجل كامل لكل ما كتبته الصحف والمجلات بالصور تسجل ما حدث في هذه القرية بعناوين معبرة مثل “ثورة في قرية مصرية“، ولدي ملف كامل، معظم الجرائد والمجلات كتبت عن المعسكر، لأن فعلاً خلال الأسبوعين لـ تحقيق إنجاز كبير جدًا لدرجة أنني كنت ساقوم بعمل يمكن أن يكون فيه قليل من الحماقة من كثرة النجاح الذي حققناه في هذه القرية، فأنا كنت مدرسة ثانوي لكني ذهبت أطلب من الوزارة أن أعمل في مدرسة هذه القرية، فطبقًا لم يوافقوني، وقالوا إن الناس تكافح لكي ترقى من درجة لدرجة، ولكن أنا سعيدة جدًا بالإنجازات التي حدثت في هذه القرية المصرية.
ويوجد مرحلة أخرى، وهي مرحلة السجن والإبعاد عن التدريس، وكان هذا الإبعاد هو إحدى الصدمات الكبرى في حياتي، أنا طول مدة خدمتي عملت في التدريس فقط 7 سنين، بعد الإفراج عنى في نهاية عام 1959 عدت إلى العمل، ولكن نقلت من التدريس إلى عمل إداري بالمنطقة التعليمية حتى لا تتأثر الطالبات بالمبادئ الهدامة، وفي تأشيرة جانبية على أمر النقل عبارة أتاحت الظروف أن أطلع عليها، وهي مع إفادتنا عن مدى إمكان مراقبتها، وذلك حتى لا تخرب الدنيا، وكان هذا العمل الإداري لا يتعدى تسلم وتسليم خطة عمل الموجهين والموجهات بالمنطقة. وقد بذلت الجهد لتغيير هذا الواقع ونجحت في العمل بالعلاقات العامة بالمنطقة، ولما كنت أثناء عملي قد درست صحافة وحصلت على دبلوم معهد الصحافة الذي كان يتبع جامعة القاهرة في ذلك الوقت قبل إنشاء كلية الإعلام، وبالتدريج، وبالعلاقة الطيبة استطعت أن أقنع مدير العلاقات العامة بعمل نشرة أسبوعية للمنطقة، وتطورت هذه النشرة من صفحة واحدة إلى مجلة أسبوعية منتظمة أصبح لها كيان ووجود على مستوى الوزارة كلها، وكانت ترسل لجميع المناطق التعليمية من الإسكندرية إلى أسوان، وقد أتاحت لي هذه المجلة فرصة لم أكن أحلم بها، وعن طريقها تابعت نشاط جميع المدارس، وكنت أدخل المدارس وأحضر كل شيء في جميع مدارس المنطقة، وألقيت الضوء على كل الأحداث المهمة في تاريخ الوطن ولدي العديد من خطابات الشكر والتقدير من رؤساء ومديري المناطق الأخرى. وأنا لدى جميع أعداد هذه المجلة منذ كانت صفحة واحدة وحتى أصبحت مجلة أسبوعية تصدر كل أسبوع بانتظام، وكان مدير المنطقة يوم السبت عندما أجد هذه المجلة أمامي، وأنا كنت أكلفها مبالغ قليلة جدًا ولكن طبعًا كنت أبذل جهدًا كبيرًا كي لا تتوقف.
…
المرحلة الثانية هي نقابة المعلمين. بعد أن تدعم موقفي من خلال عملي، ومن خلال العلاقات العاملين تقدمت لانتخابات نقابة مع المعلمين، وكان فوزي مساعدًا لي على تبني مطالب المعلمين بشكل شرعي. ومعى أيضًا نموذج لبيانات انتخابية، كنت أعطيها للناس، بعد ذلك أصبح مركزى جيدًا ولى نشاط، والناس تثق بي، لكن فوجئت أنني فقدت هذه الشرعية عندما تم عزلى من الاتحاد الاشتراكي عام 1963، ونتيجة لذلك العزل وصلني خطاب فصل من النقابة لأنه لا يوجد موقع قيادي لا يكون صاحبه عضوًا في الاتحاد الاشتراكي، أخذوا منى العضوية وبالتالي جاءني فصل من نقابة المعلمين، بذلت الجهد وتعرضت للمعاناة حتى تم رفع العزل، وقد كان لرؤسائي في العمل الجهد الأكبر في المساندة، ورفع التقارير التي تشهد بإخلاصي في عملي ووطنيتي للمسئولين. بعد ذلك في ١٩٦٨ جاءت انتخابات الاتحاد الاشتراكي، تقدمت إلى انتخابات الاتحاد الاشتراكي عن وحدة منطقة شرق القاهرة التعليمية، وقد فزت في الانتخابات بأغلبية كبيرة، ثم فزت أيضًا بموقع الأمينة المساعدة للوحدة بالانتخاب، وهنا حدثت أشياء أثرت في مجرى مسيرتي، في ذلك الوقت كان لى وضع شرعي في نقابة المعلمين وكنت الأمينة المساعدة للوحدة في الاتحاد الاشتراكي، وأعمل في العلاقات العامة، فجاء شهر رمضان وفكرت في أن أقوم بنشاط في النادي الفرعي للمعلمين وكان في العباسية، هذا النادي كان فارغًا لا أحد يذهب إليه، وفكرت أن أقوم بحركة تنشيط لهذا النادي، واخترت شهر رمضان بالذات، فأعددت مجموعة ندوات بحيث يكون هناك نشوة كل أسبوع، ففي الأسبوع الأول الذي وافق 23/ 11/ 1968 وكان يوافق ۲ رمضان، كانت أول ندوة عن التعبيلة القومية في القرآن الكريم وتكلم فيها الأستاذ الشاعر على الجمبلاطي كبير مفتشى اللغة العربية بالوزارة، في الاسبوع الثاني نظمت ندوة عن حزب الشعب تكلم فيها الأستاذ طاهر عبد الحكيم المعلق السياسي بجريدة الجمهورية والخبير في حرب فيتنام، وأعقب المحاضرات فيلم سينمائي عن حرب الشعب في فيتنام، وهكذا بدأ النادي ينشط وتأتى إليه الناس. ثالث ندوة كانت المقاومة الفلسطينية، وإحدى المقاتلات من حركة فتح، وهذه الندوة بالذات كان لها أهمية خاصة لأنه قد اتخذت فيها قرارات مهمة لمساندة المقاومة الفلسطينية، وتم تنفيذها على مستوى جميع مدارس المنطقة والعاملين فيها.
وخلال المسيرة الطويلة هناك مكاسب كثيرة تحققت، وهناك أخطاء كثيرة وقعت فيها، ممكن أن أقول لكم فقط نموذج من المكاسب التي تحققت، وباختصار شديد بعض الأخطاء لكي لا يقع أحد فيها.
في البداية تحقق مشروع مثل التأمين الصحي الذي وضعته وتبنته اللجنة النقابية للعاملين بمنطقة شرق القاهرة التعليمية، وكنت إحدى أعضاء اللجنة بالانتخاب، هذا المشروع يعتبر النواة لمشروع التأمين الصحي على مستوى الجمهورية. هناك مثل آخر: مشروع دور النصر العلاجية، هذا من خلال برلمان مصر الجديدة الصغير، أنا كنت أسكن في مصر الجديدة، وكان لدينا نشاط مع عضو مجلس الشعب في هذا الوقت، أتاح لنا فرصة العمل، وأعطى لنا حجرة في مقره، فعملنا برلمان مصر الجديدة الصغير، وكانت رئيسة هذا البرلمان سيدة فاضلة هي السيدة نادر صبور، وهذه السيدة كانت أول أم مثالية لمصر، من خلالها تمت إنجازات كبيرة جدًا للحي، وكان أهمها مشروع لمحو الأمية، دور النصر العلاجية كانت مشروعًا علاجيًا ينتفع به سكان مصر الجديدة للآن، والشيء الذي يضايقني أنا شخصيًا أنا ذهبنا إلى معظم بيوت مصر الجديدة، وعملنا لهم الاشتراكات ونسيت أن أعمل لنفسي، هم الآن مستفيدون من هذا المشروع.
هناك نقطة أخرى كانت مهمة جدا بالنسبة للموظفات، وهي تبنى مشروع تعديل قوانين المعاشات والتأمينات الاجتماعية للمرأة، والمطالبة بالجمع بين مرتب المرأة ومعاشها عن زوجها أو أبيها، وهذا لم يكن موجودًا من قبل، فقد كان هذا القانون يضطر المرأة أحيانًا إلى أن تترك عملها نهائيًا حتى تحتفظ بالمعاش الأكبر، تعدل هذا القانون وأصبح الآن الجمع بين المعاش والمرتب بدون حدود.
النجاح في إلغاء التفرقة بين المعلمين التي كانت تقسمهم إلى فئات حسب مؤهلاتهم. .. طبعًا المعلمون يمثلون تكتلاً كبيرًا، وقوة ضغط كبيرة، وهذا كان يعوق نشاطنا، لأن كل فئة كانت تحاول أن تأخذ مكاسب للفئة الخاصة بها، الآن أعتقد أن المعلمين كلهم أصبحوا شيئًا واحدًا.
نجاح الخطة الشعبية لمحو الأمية التي وضعتها وحدة الاتحاد الاشتراكي بمنطقة شرق القاهرة التعليمية وحددت لها زمنًا محددًا، واستغلت في ذلك المصانع، والمدارس، والمؤسسات في محيط المنطقة، وقد نجحت في محو أمية المئات من العاملين، والعاملات، وربات البيوت، وتم رصد مكافآت تشجيعية للقائمين بهذا العمل، وتم إلقاء الضوء على مجهوداتهم في مجلة المنطقة، ولما كانت الأمية من أكبر همومي ودائمًا في دائرة اهتماماتي، فقد قمت بمحو أمية بعض السجينات في سجن النساء بالقناطر الخيرية، حيث كنت مسجونة معهم وهذه القصة طويلة تحتاج لمحاضرة خاصة.
من الإنجازات التي تمت أيضًا إنشاء الجمعية الفلسفية، وتسجيلها في وزارة الشئون الاجتماعية عام ١٩٥٨، هذه الجمعية ما زالت قائمة للآن، استولى عليها أساتذة كلية الآداب وأصبح لا علاقة لنا بها، وأحب أن أسجل هنا للتاريخ أن الفضل في هذه الجمعية يرجع إلى اثنين من زملائي كانوا معي، الله يرحمه الأستاذ إسماعيل المهداوي، وزميل آخر لنا اسمه الأستاذ عيسى جبران، نحن الثلاثة اجتمعنا وجلسنا في حديقة الأزبكية وكان يوجد كازينو اسمه الجيلاية، وفكرنا في الجمعية وعملنا خطتها، وكان لنا صديقة لها علاقة بوزارة الشئون الاجتماعية وسجلناها، وهذه الجمعية قامت بنشاط جيد جدًا، وكان يجب أن يكون لها مقر ، كان يوجد في ميدان الأوبرا جمعية اسمها جمعية المعلمين، وأنا ذهبت واشتركت في الجمعية وأعطوا لنا حجرة، لأن التسجيل يجب أن نقول فيه مقرها كذا، وبدأنا في عمل ندوة كل أسبوع، وترجمنا كتنا وفي يوم نظمنا ندوة مناظرة بين الماركسية والوجودية، ودعونا الأستاذ محمود أمين العالم عن الماركسية، والأستاذ أنيس منصور عن الوجودية، وقبل أن تبدأ الندوة جاءت المباحث وألغت هذه الندوة، وبعد ذلك قبض علينا. وأيضًا من الشخصيات العظيمة التي أذكرها وكان لها فضل في أن تسجل هذه الجمعية، كان لنا أستاذ محمد حسن ظاظا مفتش الفلسفة، أقنعناه أن يتولى رئاسة الجمعية، فوافق وطبعا اسمه كان له احترام وله ثقل كبير فتمت الموافقة لنا على الجمعية، والجمعية تعمل حتى الآن، وقرأت هذا الأسبوع أنها تعد احتفالية للدكتور حسن حنفي، هذه الإنجازات تمت بجهد جماعي من أناس يحبون هذا الوطن، وإذا كانت المعوقات كثيرة، والجهود مضنية فقد فاقت المكاسب كل التضحيات.
هناك بعض الأخطاء، لعل أكبر خطأ وقعت فيه، هو أنني وصفت انقلاب 15 مايو عام ١٩٧١ بعد وفاة جمال عبد الناصر بأنه ثورة، وقد كان هذا الحكم من منطلق وضع شخصي وقصور في الرؤية والتحليل العلمي السليم، معظم المعاناة التي تعرضت لها كانت في الفترة قبل 15 مايو. أنا أسجل أن هذا خطأ لأني سجلته في بيان، بيان محسوب على وأنا أعترف أن هذا كان خطأ وقعت فيه، وأقول للناس لا تصدروا أحكامًا من منطلقات شخصية لابد أن تكون موضوعية أكثر.
من خبرتي في العمل الجماهيري اكتشفت أنني وقعت في أخطاء سببت لي إحراجًا وارتباكًا كبيرين، ومن هذه الأخطاء توعية الجماهير البسيطة بقضايا كبيرة بعيدة عن مصالحهم المباشرة، واستغلال ثقتهم الزائدة في طلب ما يفوق قدراتهم، وعندي أمثلة كثيرة.
هناك مواقف متعلقة ببعض تلميذاتي وأهمهم شاهندة مقلد، ولا أدرى إذا كانت ضمن أخطائي أم ماذا؟ منها التي استغليت حماسها الزائد وحسها الوطني العالي في أنشطة متعددة وفي الطواف على المنازل لإقناع المرأة بقيد اسمها في جداول الانتخابات، مما استدعى أننا كنا نعود من جولاتنا في وقت متأخر من الليل ونحن في بلد صغير، ولم أنتبه لذلك إلا عندما فوجئت بوالدتها تأتي إلى سكن المدرسات في ساعة متأخرة لتسأل عن ابنتها، وتوجه لي نقدًا شديدًا أمام كل من في السكن ومعها حق في ذلك.
هناك موقف آخر أخذته شاهندة على مسئولياتها وكان ضد رغبتي ولكني اعتبرت في النهاية المحرضة عليه لأنها كانت تلازمني معظم الوقت وتشارك في كل الأنشطة، هذا الموقف هو قصة زواج شاهندة عندما أحبت الشهيد صلاح حسين وكان ابن عمتها، وكانت تحبه وهو يحبها ويريدون أن يتزوجوا، وعندما ذهبت عمتها إلى والدتها لخطبتها قالت والدتها أنا أقطع شاهندة وأعطى جزءًا لكل شخص إلا صلاح، لأنه كان غير مستقر في دراسته وعمله فكانت الأسرة رافضة، وشاهندة معجبة بابن عمتها وهو مناضل وهي تحبه وتريد أن تتزوجه، فجاءت لي في مصر وقالت لي يا أبله وداد أنا قررت أهرب أنا وصلاح من شبين، قلت لها يا شاهندة بهذا الشكل سوف تفسدين كل ما قمت به، أنت الآن لديك صورة جميلة بين الناس، وأصبحت قدوة للبنات اللاتي في سنك، لأنها كانت صغيرة، وعندما تقومين بعمل مثل هذا العمل في بلدة صغيرة، فأنت تضيعين كل المكاسب التي حصلت عليها، وحاولت أن أعظها، وكنت أعي الكلام الذي قلته لها، فقالت لى أنها توافق على كلامي وذهبت إلى منزلها، وبعد ذلك وجدت أنها تزوجت، هريت من شبين، وأنا متحفظة في هذه النقطة، بعد الزواج والنضال المشترك والمكاسب التي تحققت قبل الاستشهاد وبعده، لا أدرى إذا كانت نصيحتي لها قبل الزواج خطأ أم صوابًا خاصة وهي للآن لا تتمنى لي هذا الموقف.
بعد نقلى من شبين الكوم وعملي في مدرسته بالقاهرة أقنعت طالباتي في الثانوية العامة بالمشاركة في المظاهرة النسائية لإنقاذ جميلة أبو حريد من الإعلام، وكان حماس الطالبات كبيرًا جدًا، وكانت هناك ظروف وملابسات تعرضت لها الطالبات وكان هناك غضب من الأهالي وإدارة المدرسة تحملت تبعاته لفترة طويلة.
في العيد السادس لثورة ٥٢ سنة ١٩٥٨ خصص الاتحاد القومي مقصورة للسيدات أمام المنصة في الاحتفال بعيد الثورة وهذا كان في ميدان الجمهورية، وحاولنا أن يكون لنا استعداد خاص للاحتفال خاصة عندما عرفنا أننا سوف نجلس في مقصورة خاصة للسيدات أمام الرئيس جمال عبد الناصر، وكان لنا مطالب وحاولنا ترتيب هذه المطالب وحاولنا أن نجهز هتافات معينة لمطالبنا تقولها مباشرة لعبد الناصر بدون أي واسطة من أحد. هذا ما رتبناه، وكان لنا استعداد خاص لهذا الاحتفال من حيث حشد أكبر عدد ممكن من السيدات ومن الالتزام بهتافات معينة أردنا توصيلها مباشرة للرئيس عبد الناصر، وبجهد شخصي تمكنت من دعوة مجموعة من الطالبات الإندونيسيات بملابسهم الوطنية، ومن العراقيات والسوريات ومن البحرين، ومنهم الفتاة التي قطعت أنابيب البترول أثناء العدوان الثلاثي على مصر (كنا نذهب لهن أنا وشاهندة في بيت الطالبات والمغتربات) ومن بلاد عربية أخرى وقد كان كل أملهن رؤية الزعيم عبد الناصر وجها لوجه، وتكلفت أنا بمفردي بنقل كل هؤلاء الطالبات بتاكسيات من بيت الطالبات بالدقي إلى مقر الاجتماع ثم توصيلهم بعد انتهاء المؤتمر بتاكسيات أيضًا إلى بيت الطالبات، وكانت مهمة شاقة، وقالت لي وقتها إنجى أفلاطون في تلك الليلة (أنت مجنونة). بعد ذلك حدثت مشكلة كبيرة من إدارة بيت الطالبات ومن بعض السفارات ومن الجامعة العربية، ليس لأنهن حضرن المؤتمر لكن لإجراءات إدارية كثيرة يجب أن تتبع في مثل هذه الظروف، ليس لدي الآن سوى أن أشكركم لإتاحة الفرصة لي للكلام.
…
سحر صبحي:
نحن الذين نشكر الأستاذة وداد شكرًا جزيلاً جدًا على قيمة التجربة وصراحة العرض، لكن الأستاذة شاهندة وردت ضمن أخطاء الأستاذة وداد فقط، وتريد أن نضيف إلى هذا الموضوع أن الأستاذة شاهندة كانت تلميذة للأستاذة وداد ورفيقة وصديقة ونطلب من الأستاذة شاهندة أن تعطينا شهادة قصيرة عن الأستاذة وداد لتكمل لها الصورة ولو دقيقة واحدة.
شاهندة مقلد:
أهلاً بكم وأشكركم على استقبال وداد هذا الاستقبال الجميل لأنها إنسانة جميلة وتستحق كل تحية وتقدير. وداد أستاذتي وأنا من سنة 1953-1954 وعلى امتداد كل هذه السنوات تتلمذت على يديها سياسيًا ووطنيًا وأخلاقيًا وإنسانيًا وكل شيء، وداد كانت أستاذتي عندما كنت تلميذة. تعلمت منها كيف أحب وطنى وبلدي، وكيف أضحى من أجل الناس وكيف أكون قريبة منهم، ولا أتعالى عليهم ولا أقلل من وعيهم، وإذا كانت هي تنتقد نفسها، فهي لم تكن تفرض على الناس موقفا أكبر منهم، بالعكس ميزة وداد أنها كانت تستطيع أن تأخذ من الناس مثلما تعطي، المرحلة التي ربتني فيها وأنا صغيرة في وسط شبين الكوم ووسط العمل الوطني في 1956 أعتقد أن هي التي نقلتني إلى مستوى الوعي الأكبر ومكنتني أن أستمر حتى هذا العمر الطويل كواحدة منتمية لجماهير الشعب المصري، منتمية للفقراء.
وأنا أريد أن أقول إننى كنت مشكلة لوداد، أنا كنت أكره المدرسة جدًا، وكنت أود أن تأتي قنبلة تكسر جميع المدارس في العالم ولا أدخل المدرسة، لكن عندما التقيت بوداد بدأت أحب الذهاب إلى المدرسة لأتعلم منها، لأني كنت أريد أن أصبح مثل وداد، فهي جعلتني أحب المدرسة كمدرسة، وأعطتني إحساسًا بأن المرأة لابد أن تتعلم وتنتقف وتستقل وهذا ما قلته لكل زميلاتي، وعندما تركتني وداد وانتقلت إلى القاهرة وأنا انتقلت لقنا كان كثير جدًا من زميلاتي لا يريدون إكمال تعليمهم، ومنهم فريال صالح وهي في التليفزيون الآن.
أريد أن أذكر الجانب الإنساني في علاقتنا، علاقتي مع وداد علاقة حميمة لأنها تحولت إلى أسرتي وأصبحت الأم والأخت والصديقة، سوف أذكر بعض الأشياء عندما كنت أذهب لها في منزلها، فكانت هي سيدة مرتبة ومنظمة سيدة فوضوية، فأنا أحب أن أمشي حافية (فكانت تجيب لي الشبشب أقلعه وأمشي، فتروح جايبه الشبشب ومديهولى ثانى فبقت تخجلني. وبعدين في الآخر قلت لها يا أبلة وداد أنا مش عايزه ألبس الشبشب، ولا أبلة وداد قدرت تخليني أتعلم البس الشبشب ولا أنا قدرت أخليها تتنازل عن ده). ولن أنسى دور وداد والدكتور سعد وأسرتها كلها في أيام استشهاد الشهيد صلاح حسين لأن الدكتور سعد كان أستاذًا في جامعة عين شمس في كلية الهندسة، ووداد في مكانها، برغم ذلك كان هناك تضييق على مؤتمرات ذكرى الشهيد صلاح حسين باعتبارها تأخذ جانبًا أكثر ثورية في هذه المرحلة، والدكتور سعد كان موجودًا دائمًا في البلد وموجودًا بين الناس، وسيارته دائما مليئة بالفلاحين، ليذهبوا للمؤتمر ويحضرهم ويتركها تمامًا للفلاحين ليقودونها، لدرجة أن السيد شعراوي جمعة استدعاه للتحقيق معه، رغم أنه لم يكن علاقة بالسياسة، وداد طبعا كان لها علاقة بالسياسة.
الحديث عن وداد لا ينتهي ومن ضمن الأشياء التي سببت لها فيها متاعب – وحتى اليوم وأنا أسبب لها المتاعب – أنها قد انتظرتني اليوم ولم أحضر في الموعد، فطوال عمرها تنتظرني وأنا أتأخر، وأنا أقول لوداد أنني أستاذتي، وسوف تبقين أستاذتي وأنا تلميذك وأتمنى أن أكون نجيبة.
سحر صبحي:
سوف نقدم الآن الأستاذة زينب الأتربي، وسأكون موجزة جدًا في تقديمها، وهي من المتعلمات، ومن أوائل العاملات في مصر، حصلت على الشهادة الابتدائية سنة ١٩٢٥، وحصلت على ليسانس الآداب في جغرافيا جامعة القاهرة سنة 1935، ودبلوم معهد التربية سنة 1937، عملت مدرسة في مدرسة حلوان الثانوية وكانت من أوائل المدرسات المصريات، ثم في مدرسة السنية، وبعد هذا عملت في المعهد العالي للتربية مدرسة في جامعة عين شمس، أي أن حياتها كلها في مجال التدريس، وأنا لن استفيض أكثر من ذلك لكن أريد أن أعرض عليكم آثارها كإنسانة وكمدرسة من خلال وضعها الوظيفي، أثرها الذي تركته على تلميذاتها، فهي قد ريت جيلاً من التلميذات، ومعى شهادات من مجموعة من تلميذاتها، أحب أن أقرأها على حضراتكم من باب عرض أثرها، ومعنا هنا واحدة من تلميذاتها، الأستاذة معالي كبرة ناظرة مدرسة بورسعيد، وهذه هي شهادتها التي تقول فيها: “المربية الفاضلة والأم الحنون الأستاذة زينب الإتربي علمتنا في المرحلة الثانوية مادة الجغرافيا فكان شغفنا بها عظيما، حيث فتحت علينا النوافذ على العالم كأننا نجوب أرجاءه معها، فاستمتعنا بمادة الجغرافيا استمتاعًا لا حدود له، ولم تكن ابلة زينب الإتربي أستاذة جغرافيا فقط بل تعلمنا منها المبادئ والخلق السليم. تعلمنا تحمل المسئولية واحترام الصغير للكبير، فقد كانت هي قمة الاحترام، متالفة في ملابسها وسلوكها وعملها ومعاملته للكبير والصغير، جازاها الله كل الخير وأطال عمرها بالصحة والسعادة.
ومعى أيضًا شهادة الكاتبة الكبيرة الدكتورة نعمات فؤاد: درست لي أبلة زينب في عام ١٩٣٩، ورغم أن الجغرافيا مادة مخيفة إلا أنها جعلتها علمًا جميلاً، كانت تتناوله بفكاهة، فحين كانت تناقش معنا الامتحانات برقة كانت تقول لزميلة لنا: أنت راسمة استراليا زي البسكوته بتحبى البسكوت، فتعلمنا منها الرقة في المعاملة، وكانت أنيقة جدًا، فكان عندها أفرول تلبسه أثناء التدريس، وكانت تخيط وترسم خرائط وتستعمل الطباشير ، تعلمنا منها الأسلوب الراقي في الحديث، لم تسمع منها لفظًا خارجًا أو صوتًا عاليًا، تعلمنا في مدرسة حلوان الثانوية الانضباط ونشأنا على هذا، لأن كان أمامنا لماذج مثل أبلة زينب، نماذج رقيقة مرسومة، كان الخالق الأعظم رسمها ونق فيها، فهي شخصية أثرت ودخلت في تكويننا، كانت طول حياتنا نبراسًا أمامنا، نغوص في قضايا سياسية والتعرض لوعد ووعيد، كنا نستلهم النموذج الرفيع ونسترشد بخطاها، تعلمنا منها كيف تتصرف كيف تتكلم، رقة الصوت نوع من الألفاظ، لقد نسجتا خيطًا خيطًا بدون عشوائية في التشكيل، كما كالأهل، ففي الداخلية تصبح المدرسة في كل شيء، المدرسة والبيت والمدرسين والزميلات هم الأهل، كان لدينا انتماء شديد لمدرستنا حلوان الثانوية، كان يظهر في مباريات الكرة في المدرسة السنية مثلاً، وكان يظهر بعد فترة من الإجازة الصيفية، فنشعر بعدها بالشوق للعودة للمدرسة ثانية. وفي النهاية أبله زينب علمتنا كل ما هو جميل، فكانت الدماثة الشخصية الراقية الألفاظ، الراقية الأناقة والشفافية، والشعب المصرى قمة المدح عنده أن يقول فلان من بيت وأنا أقول إن أبله زينب الإتربي أستاذة من بيت“.
الدكتورة نعمات فؤاد ستصدر قريبًا كتابًا عن حياتها وتجربتها يتضمن جزءًا كبيرًا عن مدرسة حلوان الثانوية وعن دور الأستاذة زينب في حياتها.
معى شهادة أخرى للأستاذة إجلال السباعي مدير المركز القومي للبحوث التربوية والتنمية: “فتحت عيني على العالم من الناحية العلمية والعملية معًا، فربطت بين الجغرافيا الطبيعية والفلكية والمعارف والممارسات اليومية. أنشأت الجمعية الجغرافية بالمدرسة فعشنا فيها على خريطة أفسح، نقلتنا نحن الصغار بين الأقاليم المناخية والطبيعة والأفلاك فنمت فينا الخيال والعلم معًا، علمتنا أن المادة المدروسة هي معرفية وخيالية وفنية في آن، قفي الجمعية الجغرافية وتحت إشرافها تعلمنا رسم الخرائط وعمل المجسمات، وبذلك نمت فينا مهارات عقلية ويدوية أكدت وثبتت معارفنا، فربطت بين العلم والحياة. كانت مدرسة قديرة متمكنة من أدواتها محبة لتلميذاتها عوضتنا نحن طالبات القسم الداخلي عن غياب الأسرة باهتمامها بالجوانب الشخصية لحياتنا وإشرافها الصارم على نظافتها وحرصها على توجيهنا ومشاركتنا وجدانيًا. أحببتها فحذوت حذوها، وعندما تركت المدرسة لألتحق بالجامعة اخترت التخصص في الجغرافيا آملة أن أكون يومًا مثلها“.
أريد أن أوضح أنني كان عندي صعوبة شديدة في الحصول على شهادات من التلميذات، لكن أود أن أتوجه بالشكر لأسرتها والتي حاولنا معها أن نتتبع تلميذاتها بصعوبة. معى شهادة الأستاذة ملكة عليشة، وكانت تلميذة في مدرسة حلوان الثانوية وعملت بالتدريس وأصبحت ناظرة في مدرسة حلوان الثانوية أيضًا وتقول: “إن الحديث عن أستاذتنا الجليلة زينب الإتربي لابد وأن يكون مزيجا من الأحاسيس والمشاعر، فقد كنا نكن لها تقدير المعلم وحب الأم واحترامها، رغم أنها لم تكن تكبرنا كثيرا، لقد أمتعتنا بألفة خففت عنا معاناة الغربة وحببتنا في الجغرافيا. شعرنا أننا نطوف العالم معها نعبر قاراته ونحلق فوق بحاره ومحيطاته حتى أحببت الجغرافيا وتمنيت أن أدرسها، ورغم إصرار أبي على أن ألتحق بكلية الطب، بدأت أعيد التفكير ثانية ولكني لم أستطع التخلص من حلمي في دراسة الجغرافيا فالتحقت بكلية البنات حيث تخصصت في الجغرافيا، وكانت طريقة أبله زينب وأسلوبها في التدريس هي المثل الأعلى لى دائما أملاً وهدفًا سعيت إليه، منعها الله بالصحة والعافية جزاء لما تعلمناه منها من علم وما أسعدتنا به أثناء تلمذتنا على يديها الحانيتين“.
أريد أن أشكر الأستاذة زينب على تشريفها لنا اليوم، أشكرك شكرًا جزيلاً لأننا الحقيقة أثقلنا عليها في الطلب، وكتبت لنا ورقة عن تجربتها وسوف تقرأها الأستاذة آية كامل عن والدتها.
زينب الإتربي:
اسمحوا لي في البداية أن أشكر وأهنئ ملتقى المرأة والذاكرة على فكرة تقديم أوائل السيدات الرائدات في التعليم والعمل، وسأقرأ بعض الخواطر التي كتبتها والدتي. “ولدت وعشت طفولتي مع اسرتي واخواتي البنات بقرية إخطاب بمحافظة الدقهلية، وكانت القرية كلها تتكون فقط من بيوت العائلة أعمامي وعماتي وأخوالي وخالاتي وأسرهم. تخرج والدي من الأزهر الشريف وكان حاصلاً على إجازة العالمية، فكان رجلاً مستنيرًا يحب العلم ويحترم المثقفين، وكانت والدتي وهي قريبة والدي سيدة رزينة وقورة قوية الشخصية، كان بيتنا في القرية مركز التقاء سيدات العائلة كل يوم بعد صلاة المغرب، فالتزاور كان هو التسلية الوحيدة في ذلك الوقت، أرسل أبي أخواتي الكبار للتعلم في مدينة المنصورة فألحقنا بالقسم الداخلي لمدرسة المنصورة الابتدائية، وحصلت أختي الكبرى على الشهادة الابتدائية وتوقفت عند هذا الحد من التعليم، بعد أن حصلت على قسط كبير من مهارات الأشغال اليدوية كالخياطة والبرودريه والكروشيه، وكذلك بعد أن أجادت اللغة الإنجليزية إجادة تامة كتابة وحديثا، حيث كان معظم المدرسات من الإنجليز في ذلك الوقت، أما أختى الثانية صفية فقد حصلت على الشهادة الابتدائية من المنصورة الابتدائية، ثم أرسلت للالتحاق بالمدرسة السنية بالقاهرة، وبعد حصولها على دبلوم السنية عينت مدرسة بإحدى المدارس الحكومية في ذلك الوقت، أما أنا وكنت أصغرهن، فحينما بلغت سن التعليم بدأت أختى الكبرى بتعليمي اللغة الإنجليزية، والتحقت بمدرسة القرية لأتعلم اللغة العربية والحساب، وكانت المدرسة خاضعة لإشراف مجلس المديرية التعليمي، وبعد أن أديت امتحانا في مادة العلوم ألحقت بالصف الرابع الابتدائي بالمنصورة الابتدائية لألحق بأخواتي بالقسم الداخلي، كنا نقضي طول الوقت بالمدرسة ونعود لبلدتنا في الأعياد والإجازات فقط، وكنا ننشغل في الإجازة الصيفية بخياطة ملابسنا وبالأشغال اليدوية والفنية، وكان أبي يشجعنا على ذلك بشراء الباترونات الجاهزة كالفوج وكتالوجات الأزياء والخشب وعمل الأركت، كذلك اشتري لنا بيانو لنتدرب عليه أثناء الإجازة الصيفية. ومن مدرساتي اللاتي أحببتهن في المنصورة الابتدائية أذكر مس هاندلي مدرسة الرسم والسيدة كاترين لولى مدرسة البيانو وقد حببوني في الرسم والموسيقى منذ الصغر.
حصلت على الابتدائية من مدرسة المنصورة الابتدائية عام ١٩٢٤، وفي عام ١٩٢٥ قرر والدي إرسالي إلى القاهرة للالتحاق بالتعليم الثانوي، وكان قد بدأ في ذلك العام التعليم بمدارس البنات على نسق مدارس البنين الثانوية، فالتحقت بمدرسة شبرا الثانوية للبنات، وأمضيت بها 5 سنوات هي مدة التعليم الثانوي وكنت بالقسم الداخلي حينئذ، وكانت مصاريف الداخلية 40 جنيهًا في السنة، وكانت الناظرة السيدة الفاضلة إنصاف سري وكانت من أوائل السيدات اللاتي أرسلتهن الوزارة في بعثات دراسية للخارج وعدن للعمل في تعليم البنات، اشتهرت في المدرسة بحسن الخط وبحبي للرسم، وكانت أبله زينب عبده مدرسة الرسم حينئذ هي مثلي الأعلى، وقد شجعتني أبله إنصاف سرى على تنمية قدراتي في الرسم، بل رشحنتی 3 مرات على التوالي للسفر في بعثة للخارج على نفقة الوزارة لدراسة الرسم ولكني رفضت، كنت أحب الألعاب الرياضية وخاصة الجمباز، وما زلت اذكر جائزتی في أولى ثانوى وكانت علية قطيفة خضراء تصدر موسیقى، ولا أنسى كذلك مدرسي الجليل الشيخ عبد اللطيف المغربي مدرس اللغة العربية في مدرسة شبرا الثانوية، وكانت شيخًا معممًا وكان يشجعني لتميزي في التعبير.
…
وكان يقول لي ولصديقة عمري رحمها الله جملة شهيرة وهي أنت تغرقين من بحر وأنت تقدين من صخر، وكانت صديقتي عبقرية في الرياضة والعلوم ولا تحب الفروع الأدبية. أما في القسم الداخلي فقد كانت المسئولة عنه سيدة إنجليزية تدعى مس هوفمان، غرست فينا الكثير من العادات الحميدة التي لازمتنا طول عمرنا، علمتنا النظام والانضباط والمحافظة على المواعيد وتنظيم الوقت.
كنت أسافر إلى القرية لأقضى الإجازات مع أسرتي وكان السفر وقتها مشقة، فكنت أستقل سيارات تاکسی الأقاليم وأذكر أنه في إحدى المرات انقلبت بي السيارة وكدت أقع في النيل، كما أن الحياة بعيدة عن الأهل كانت مشقة كذلك، وأذكر أنني اضطررت للسفر من بلدتي إلى القاهرة ليلة امتحان البكالوريا وكنت مريضة بالبراتيفود مرضًا شديدًا أعقبه هبوط في القلب، وأديت الامتحان وأنا أعاني من ارتفاع في الحرارة والقشعريرة وزرقة الأظافر. كنت أول فتاة في العائلة تواصل تعليمها للمرحلة الثانوية، وكان موضوع تعليمي وما أعانيه من مشقة هو الحديث الرئيسي في اللقاءات اليومية لسيدات العائلة بمنزلنا بالقرية، وكان الأقارب تتنازعهم المشاعر المتعارضة، الرغبة في تعليم بناتهن والخوف والشفقة عليهن من مشقة رحلة التعليم. وبالرغم من هذا فقد ظللت لفترة طويلة الوحيدة من بنات العائلة التي استمرت في التعليم، ففي الوقت الذي كنت أستعد فيه لدخول الثانوي عام ١٩٢٥ كانت ابنة عمى تستعد للزواج، أما بقية العائلة فقد تعلموا حتى الثالثة الابتدائية وما دونها.
ظهرت نتيجة البكالوريا وكان ترتيبي الـ 66 على مجموع الناجحين، وتوفي والدي في ذلك الصيف، وشجعتني والدتي على المضي في طريقي والسفر إلى القاهرة لدخول الجامعة. وفعلاً قدمت أوراقي للجامعة وبقيت مشكلة الإقامة بالقاهرة، ذهبت إلى الأستاذ عوض إبراهيم وكان وكيلاً لوزارة المعارف حينئذ، وقد سمح لي وبعض الزميلات من الأقاليم بالإقامة في القسم الداخلي بمدرسة الأميرة فوزية (التي هي شبرا الثانوية سابقا)، والتي كانت قد نقلت إلى بولاق، دخلت الجامعة سنة ١٩٣٠، وكنت ضمن ثاني دفعة من السيدات تدخل كلية الآداب، وكان عددنا 4 سيدات. في السنة الأولى نجحت ثم انتقلت للسنة التالية، وفي بداية العام الدراسي وهو عام التخصص جاءنی مسيو كاميل وكان مديرًا لمكتب الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب في ذلك الوقت، وأبلغني أن الدكتور طه ينتظرني في مكتبه، ولما ذهبت لمقابلته أبلغني أنه قد استعرض النتائج، وأنني قد حصلت على أعلى درجات في اللغة العربية في السنة الأولى، وأنه يرى أنه من الأفضل أن التحق بقسم اللغة العربية، ولما كنت قد عقدت العزم على الالتحاق بقسم الجغرافيا التي كنت أعشقها لذلك قد اعتذرت له وقلت له إنني أحب الجغرافيا وأرغب في دراستها فقال لي وقتها كما تشائين.
لم أتمكن من الدخول مع دفعتي في امتحان الليسانس عام 1934 حيث فاجأني مغص كلوى حاد منعني من أداء الامتحان، وتخرجت في العام التالي عام 1935 في جامعة فؤاد الأول، والتحقت في نفس العام بمعهد التربية العالي للمعلمات بالزمالك بعد حصولي على الليسانس قسم جغرافيا، وحصلت على دبلوم معهد التربية الذي يؤهلني للتدريس، في عام ١٩٣٧، كان مرتب أول التعيين حينئذ 15 جنيه، عينت في مدرسة حلوان الثانوية للبنات وكانت هيئة التدريس بها خليطا بين الإنجليز والفرنسيين والمصريين، كانت المشكلة أمامي أنه لم تكن هناك كتب مقررة، كان يجب على إعداد كراسة تحضير وجمع مذكرات أدرسها، فالتجأت إلى أساتذتي بالجامعة، وعاونني كل منهم في البداية، عوض بك في الجغرافيا الطبيعية والدكتور حزين في جغرافية المناخ ومصطفى بك عامر في الجغرافي الاقتصادية، كذلك كنت أجمع المراجع الإنجليزية والفرنسية كالجيوجرافي ينيفرسال، ودأبت على مدى عام كامل على إعداد مادة كراسات التحضير.
كنت أسهر كل يوم لاحضر دروس اليوم التالي من المراجع والكتب التي كان يصل عددها في بعض الأحيان إلى أحد عشر مرجعًا في وقت واحد، وأصبح لدى سبع كراسات تحضير أشاد بها يوسف بك مجلي المفتش القدير المشهود له بالدقة في ذلك الوقت. أقمت بالقسم الداخلي بحلوان الثانوية واخترت حجرتي بالدور الثاني بجوار حجرة الجغرافيا، أخرجت من مخزن المدرسة الخرائط ووسائل الإيضاح اللازمة لترتيب حجرة الجغرافيا وأنشأت بها مرصفا به دوارة للريح لحساب اتجاه وسرعة الريح، وساعدني فني المعمل في توصيل الأجهزة لسطح المدرسة، ووضعت جهاز الباروميتر وباروجراف لتسجيل الضغط الجوى وهايدروميتر لقياس الرطوبة، وكنت أشرك الطالبات في إصدار نشرة أسبوعية لقراءات الضغط والرياح والتنبؤ بحالة الجو. أتذكر أنني في العام الأول من التدريس لم أتمكن من رؤية الحديقة اليابانية بحلوان، وهي على بعد دقائق من المدرسة إلا في آخر يوم من العام الدراسي وذلك لشدة انشغالي بالتحضير والتدريس. حضرت الدرس الأخير وكان جزر الهند الشرقية ونزلت للفرجة على الحديقة. في الفصل كنت أحب التدريس واستمتع به، وكنت أرسم 4 خرائط على السبورة قبل بداية كل حصة للشغل عليها مع البنات، ولما كانت معظم الطالبات من سكان حلوان والباقي بالقسم الداخلي، فكنت أجمعهن لإعطائهن دروسا إضافية، وكانت نتيجتي دائما مائة بالمائة.
لم يقتصر دوري في الفصل على التدريس، ولكني كنت أتدخل في طريقة اللبس والتسريحة، فكنت أحب للميداني كثيرًا، وأتبرع بنصحهن، ورغم التعب في التدريس إلا أن كل هذا كان يزول مع ظهور النتائج، فنجاح الطالبات كان أكبر مكافأة لى على التعب طول العام، عملت بحلوان الثانوية خلال 5 سنوات، ثم نقلت إلى المدرسة السنية فعملت بها 4 سنوات، وكنت قد تزوجت في هذه الأثناء ورزقت باثنتين من بناتي، وتدخلت أمى في ذلك الوقت لإثنائي عن العمل وعرضت على أن تعوضني إذا ما تركت التدريس، فكانت تعتقد أن التدريس مع أعباء الأسرة الجديدة سيرهقني، فقلت لها في ذلك الوقت يا نينتي أنا أحب التدريس ولا أتصور حياتي بدون تدريس، عيلت بعد ذلك أستاذة بمعهد التربية العالي للبنات بجامعة عين شمس، وبقيت به إلى أن أحلت على المعاش، أنا راضية والحمد لله وسعيدة بما أنجزت في حياتي خاصة حينما أسعد واستمتع بنجاح تلميذاتي في شني مجالات العمل، خاصة وأن الكثيرات منهن قد شغلن مناصب كبيرة وبرزن في تخصصاتهن، ولكم جزيل الشكر“.
سحر صبحي:
تنتقل الآن إلى الأستاذة عايدة فهمي النقابية المعروفة، فهي حصلت على ليسانس الآداب في التاريخ من جامعة القاهرة، وليسانس كان في الحقوق، وماجستير في التاريخ، ودبلوم في القانون المدني والجنائي والعام، عملت في وزارة المواصلات ثم شركة “شل” حيث اهتمت بالعمل النقابي وانخرطت فيه حتى أصبحت عضوًا في المجلس الاستشاري الأعلى للعمل، ومن خلال عضويتها في المجلس استطاعت أن تؤثر في طرح بعض القضايا، وإجازة بعض القوانين، وأذكر منها على سبيل المثال فقط أنها نادت بالاعتراف بحق المرأة العاملة في الزواج مع العمل، وعملت على مد سن التقاعد للمرأة إلى ستين سنة أسوة بالرجل، وكان خمسين سنة قبل ذلك، نادت بحق المرأة في أن تمثل وتتمثل في المؤتمرات العالمية، على أن تخرج بجواز سفر دبلوماسي لتعطيل تدخل الزوج لمنعها من السفر أثناء أدائها عملها وخدمتها لوطنها. قامت بإنشاء نظام التأمين الصحى وبفضلها تم إصدار قانون التشغيل الليلي، حيث كان القانون السابق على ذلك يمنع المرأة من العمل الليلي. في الوقت الذي كانت فيه ٢٨ فئة من الأعمال تستخدم النساء ليلا، فتم تقنين ذلك واستصدر القانون الذي سوى بين الرجل والنساء العاملين والعاملات ليلاً، كما دفعت بقانون تحديد حق صاحب العمل في طرد العمال وإلزام أصحاب الأعمال بالإخطار عن المحال الخالية بصفة مستمرة، وأيضا أسهمت في دفع قانون حق العمال في إجازة لمدة ٢١ يوم في السنة على أن يكون منها أسبوع متواصل، وهي حاصلة على شهادات تقدير وسجلها حافل بالإنجازات.
عايدة فهمي:
أشكر أولاً لجنة تنظيم المؤتمر والدكتورة هدى الصدة والدكتورة سحر صبحي، كما أشكر كل الحضور، أنا عملت في سن 18 سنة ونصف، السن القانوني ١٨، لكنها كانت مرحلة مشرقة بالنسبة للمرأة وضيقة بالنسبة للمرأة، ففي الثلاثينيات بدأت عملية تمصير تحت ضغط القوة الوطنية بأنه يجب أن تعود كل الأشياء لمصر، ومصر هي التي تدير شئونها.
كان التعليم هو المهنة الأساسية للمرأة، ولكنه كان فيه مأساة، حيث كان التعليم الإلزامي بأمر من السيد دانلوب – وهو مستشار التعليم – وقد منع في سنة ١٩٢٤ زواج المرأة المدرسة مع استمرارها في العمل، ويقتصر أجرها على ٢ جنيه، أما المدرسات فكن يتخرجن من الجامعة ويلتحقن بالوظيفة، لم يستطع أحد أن يقول لها إن هناك تشغيل للمرأة وتشغيل للرجل، فهي كانت تعمل في نفس الظروف المتساوية مع الرجل طبقًا لقوانين العمل بالحكومة. في هذا الوقت بدأت الحكومة المصرية تحت ضغط المواطنين في تشغيل المصريات، وهذا بدأ يحدث في الإسكندرية حيث تمت عملية نقل السنترال من الإيطاليين إلى المصريين، وكان هناك شيء غريب، أن البنات طبعًا كن يدخلن الجامعة، إنما يبدو أن من كانوا في الجامعة على قدر ما فتحوا الأبواب كانوا لا يضمنون أنها تنجح وتتخرج، فكانت نسبة السقوط مرتفعة جدًا في سنة أولى، فبعد الثانوية العامة تدخل البنت أول سنة، وتنتهى بأن يسقط معظمهن، وتعليم المرأة كان وقتها مجانيًا، ومعنى أن الفتاة تعيد السنة أي أنها تدفع مصاريف السنة الثانية، والأسرة المصرية من الطبقة المتوسطة، والطبقة الوسطى كلها كانت في هم شديد من مصاريف التعليم، لتعليم البنين كان في الحكومة ٢٠ جنيها ولم يكن التعليم الأزهلي قد ظهر، كان هناك التعليم الأزهري، إنما كان البنت، الذين يذهبون إلى المدارس الحكومية يدفعون المصاريف، فكيف يدفع الأب للولد والبنت أيضًا، إذن تتزوج فظهرت فكرة أن الحكومة تحتاج إلى موظفات مصريات، فكانت المسألة سهلة، وجاء التعيين في الإسكندرية، فعملت البنات في الإسكندرية ابتداء بـ 8 ينات، 3 منهم من قسم إنجليزي سنة أولى، و٢ من حقوق سنة أولى، ومن قسم التاريخ، المهم ذهبنا إلى الإسكندرية، ففكرنا أين ستعيش؟ فالإسكندرية مصيف يدفع له أجره، وهو يختلف عن الأجر الذي سنقبض به، فهناك سيدة فاضلة لها مدرسة في الإسكندرية وهي مدرسة الأشراف، السيدة نبوية موسی، قالت واحدة ممن لهن اتصال بها أننا سنقيم عندها في القسم الداخلي، وقد أعطت الفرصة للموظفات في أن يقمن عندها، وكنا نقابلها كل شهر لأنها كانت تأتي للإسكندرية في زيارة للتفتيش على المدرسة ونسهر معها في هذه الليلة، وكانت تأتي في ليلة حفلة أم كلثوم التي كانت تقام في أول خميس من كل شهر، فننزل عندها، تبدأ الليلة بالشجار على الطعام الذي تقدمه لنا، والخبز كان في الإسكندرية وقتها يصنع من الأرز، كان الأرز كثيرًا جدًا هناك، والإنتاج الزراعي كبير جدًا بحيث إنه ممكن أن يستعمل في أشكال كثيرة، فكنا نأخذ وجه العيش ونرمى الباقي، قلنا لها هل هذا ما تقدمينه لنا؟ وتنتهي السهرة بأن تجلس عندها حتى الساعة الواحدة والنصف صباحًا نسمع أم كلثوم وتستمع إلى حديثها الشيق.
حقيقة أنا تعلمت حرية الفكر منها، لأنها سيدة منطلقة، ولو عادت ليلة من الليالي التي كنا نسهرها يمكن أن تنير المرحلة التي نعيش فيها في الوقت الراهن، الشق الآخر أنها أعطت صورة للبنات اللاتي كن في المدرسة (تقول بعد ما تتعلمى حتروحي فين حنتجوزی طب ليه متشتغليش) عملت دعاية لتشغيل المرأة من خلال الموظفات ، أقمنا عندها حوالي 3 سنوات كانت ممتعة، ويعد هذا انتقلت للقاهرة في نوفمبر ۱۹۳۹ مرحلة الحرب، ولم ترجع بإرادتنا إنما بسبب ظروف الحرب وإعلان الحرب في أوروبا، وجدت الحكومة أن هناك أشخاصًا مهيأة لأن تعمل بالإسكندرية، من خلال ما قمنا به هناك. الناس كانت تندهش عندما تسمع كلمة عربية، لأن في الإسكندرية وقتها كان عندما تنادي على بائع الجرجير تتكلم معه بالإيطالية وعندما تذهب لشراء جبنة من محلات البقال تتحدث باليونانية، وكل الإسكندرية كانت بهذا الشكل، فالكلام باللغة العربية الموجودة في القاهرة شيء غير معروف وغير متداول والناس لا علم لهم به، لكن أنا أعيب على بعض الأجهزة الإدارية، لأنها كانت تعطى الأعمال المرموقة والتي تتسم بالسرية للأجانب، وتمنع المصريات منها على الرغم من كل ما قمنا بعمله، كان الطبيب الموجود في الإسكندرية لبنانيًا، وكان المجتمع لا يقبل أن يكون للفتاة صديق، فلابد أن تتزوج، والحمل نتيجة للزواج، فكان ممنوعًا أن تعمل المرأة وتتزوج وتنجب أطفالاً، فكان الزواج يتم سرًا كله، طبعًا ليس زواجًا عرفيًا إنما زواجًا قانونيًا، فكانت تتزوج وعندما تحمل تأخذ إجازات مرضية، ومما سهل هذه العملية أن الطبيب اللبناني كان يتمتع بالجنسية الفرنسية، وعندما نتحدث في هذه النواحي كأننا أخطأنا في الإنجيل والتوراة والقرآن وما يمكن أن يكون من مقدسات، لأن هذا تعدى على الإدارة.
…
عندما انتقلنا إلى القاهرة وحلت أماكننا البنات اللاتي تعلمن في مدرسة الأشراف، كانت هناك مدرسة أخرى حكومية هي مدرسة الأميرة فايزة، وهي مجتمع مغلق، وقد تكون واحدة أو اثنتان عملن بعد ذلك، لكن هذا أعطى الفرصة للفتاة أن تتخطى القيد الحديدي وهو أن المرأة لا تعمل، وأتينا نحن إلى القاهرة، في القاهرة رأيت الموظفات يعملن، المرأة تعمل لكن الشغل عيب، وعندما تقضين المرتب عيب، وكانت المرأة لكي تذهب إلى عملها تلبس البرنيطة، وتضيع الفيلو الكحلى على وجهها وتمشى به، فلماذا لا يكون وجهها مكشوفًا؟ أنا أمام كل هذه المواقف لکی أغير شيئًا أو اعترض على موقف، كان لابد أن يكون وجهي مكشوفًا ورأسي مكشوفة ومواجهة للإنسان، لكن لا يمكن الوصول للحق بالطريق الجانبي، فبدأت المواجهة والصدام، ولم استطع أن أخذ حقًا أو باطلاً، وبدأت أبحث عن فرصة عمل بالخارج لكي أرفع أجرى، لأن الأجور في الحكومة أجور حديدية، فبدأت أبحث عن عمل عن طريق أحد أقاربي وسيدة مديرة إنجليزية أسلقي فرصة أن أصل في شركة Boc بمرقب ۱۲۰ جنيه، في جميل، فقالت السيدة لقريبي هل هذه الموظفة تهمك، قال لها تهمني جدًا فقالت له لا تجعلها تأتي، فكانت صدمة بالنسبة لي.
وحاولت أن أخذ وظائف في شركات أخرى، وفي سنة ١٩٤٧ لو ١٩٤٨ حاملي الفرصة أن أعمل في شركة “شل“، وكان معنى هذا أن هناك فرصة لأن أخذ أجرًا جيدًا وإنطلق في العمل وأطرح آرائي، فما اعترضت عليه في الحكومة لن أجده هناك، فأخذت فترة الاختبار وبعد ذلك كتبت العقد وعملت، بعد ذلك وحدث أن هناك شيئًا يسمى مجمعات بنات وهي حكومية، فلقد نسيت أن من يحكم مصر في الأماكن الحساسة هو مدير الجليزي، وهذه الشركة مديرها إنجليزي، أي أن الإنجليز يحكمون هذا ويحكمون هنا، فهل هو سيقوم يعمل قانون خاص به وحده، أو خاص بي أنا وحدي، فكانت عملية شاقة جدًا، وحاولنا أن تأتي فرصة للترقية، لكن كانت مهمتنا وقتها أن تقوم بعملية محددة وهي إعداد الأوراق كلها لكي تختزل وتصبح حدود الشركة مصر فقط، ففي البداية كانت حدود الشركة من اليونان إلى أوغندا ومن إيران إلى المحيط الأطلسي، وأذكر أن هذا كان الإعلان، الذي جاءت قيادة مصرية بعد ذلك لتعلن أن العروبة من المحيط إلى الخليج، المهم لم تكن هناك فرص طيبة، وكانت هناك مشكلة محددة تناقش في هذا الوقت. النقابة بدأت تتكون، ومن النقاط الخاصة بها عقد عمل مشترك يضم الوظائف ولائحة الأجور، وهناك نقطة مهمة أخرى وهي نظام المعاش، صندوق المعاش كان فيه 5 مليون جنيهًا ولم يكن معاشًا الشركة كانت تسعى وقتها لتطبيق النظام المطبق الآن في الشركات الحالية، شركات نقل الملكية، أن يكون هناك معاش مبكر، نصفه معاش والنصف الآخر مكافأة، فقالوا لي لماذا تهتمين بهذا المشروع، هذا مشروع للرجال فقط، لكن أنت امرأة ستتزوجين وتتركين الوظيفة، فمن الذي أخبرهم أنني سأتزوج؟ ومن الذي أخبرهم أننى إذا تزوجت لن أستمر هذا؟
أثناء كل هذه المباحثات عرفنا المشروع الذي يجرى وراءه الأجنبي، وهو أن صندوق المعاشات وفيه 5 مليون جنيها، هذا المشروع يكتب باسم المدير العام وهو مستر سيرايت، هذا الكلام كان في حدود سنة 1950، وفي ذلك الوقت بالتحديد كتبت الصحافة المصرية أنه كان في السويد شركة كبريت يملكها شخص اسمه مستر كروجر وضع يده على معاشات العمال وكتب بها شيكًا ومشي، وكانت نتيجة ملاحقة القضاء له والعمال أيضًا أنه ضرب نفسه بالرصاص عندما اكتشف أمره. فأنا جلست في مناقشة عامة وقلت هذا الكلام “يا جماعة هل تكرر عملية السويد ويأتي السيد الذي يملك – المدير العام – ويضع إمضاءه على صندوق المعاشات ويمشي، ويبقى نوصل لحد فين“، هذه الكلمة أو هذه المناقشة هي التي أدخلتني إلى مجلس إدارة النقابة بالانتخاب، جاء الزميل صلاح التهامي الله يرحمه، كان في قسم الإعلان وقال لي ستدخلين الانتخابات وتصبحين معنا، لأن هذا الموضوع أنتم لكم فيه حق، هناك نقطتان وهما حق المرأة في أخذ المعاش، وصندوق المعاشات لن يكون باسم المدير، وقد كان، وكان أول دخولي النقابة، دخلت بصندوق المعاشات، بعد دخولي قالوا لي ستكونين معنا في عقد العمل المشترك للمفاوضة مع الشركة، فعقد العمل المشترك كان ينص وقتها على أن الجنيه يدفع عليه غلاء معيشة 140 قرشًا، فسرت إشاعة بين الناس أن غلاء المعيشة سيلغى، ومعنى هذا أن الأجور ستنزل إلى الحضيض، وبالتالي سيخفض غلاء المعيشة بالنسبة للمستقبل، العلاوة السنوية ستكون بنفس الطريقة، تأخذ العلاوة الثانوية الأساسية وعليها غلاء معيشة منخفض، فمعنى ذلك أن الأجور ستخفض في المستقبل باستمرار ، أنا آسفة أنني أدخل في تفاصيل، لكن في تصوري هذا من الأشياء المريرة التي واجهتها مصر نتيجة وجود أجنبي يتدخل في أشياء لابد أن يتدخل فيها جميع المصريين والمرأة خصيصًا.
كان في علمي أننى أتحدث مع زملائي داخل المجلس ولا يخصنى ما يحدث، لأن رئيس النقابة والسكرتير ووكيل النقابة يذهبون لمفاوضة الشركة، وأثناء كل هذه العمليات حدثت ثلاثة أشياء، هناك زميلة متزوجة من أجنبي، وكان ممنوعًا أن تتزوج الموظفة زميلها الموظف، تحبه تمشى معه لكن لا تتزوجه، لكن من الممكن أن تتزوج أجنبيًا وتنجب منه أولادًا، لكن لكي تأخذ إجازة الوضع تأخذ 15 يومًا بنصف فيها الزواج والولادة عقوبة ضد الموظف، فعندما تعود الموظفة إلى المكتب ومعها طفلها يقتطع منها سبعة أيام ونصف، الشيء الثاني كان هناك عشر موظفات وهن حاصلات على شهادات عليا ويعملن، لكن في قطاع الوظائف، وبعيدًا عن أي عملية، ولا يمكن أن ترقين ولا يمكن أن تصلن لأى شيء بالمرة، فأنا كتبت أسماء الزميلات والشهادات التي حصلن عليها ولكن لم أكتب اسمي. بعد ذلك عندما دخلت في لجنة المفاوضات لعقد العمل المشترك لاحظت شيئًا يخص المرأة الأجنبية، وللعلم أنني أعمل في مكان 60% من الموظفات أو الموظفين فيه إما من أوروبا الشرقية أو من بولندا أو من دول البحر الأبيض المتوسط التي كانت تخضع وقتها للحكم الفرنسي وتأخذ الجنسية الفرنسية، إنما الجنسية المصرية لم يكن وضعها مستقرًا، استقرار الجنسية المصرية لم يحدث إلا سنة 1956 في خلال حرب السويس، فهي التي أكدت هذا الوضع للمصريين، أنت مصرية وتعملين في هذه الجهة، ما حدث أنني كتبت هذه البيانات فوجدت أن الأجور المالية للمرأة حتى الأجنبية أقل من 3 سنوات من الرجل، لماذا؟ هي تعمل وهذه لائحة مالية لماذا لا تأخذ حقها وتصل إلى قمتها؟ فكتبت هذه المذكرة وحدث الآتي: أجور الموظفات الأجنبيات أصبحت مثل الرجال، والسيدة التي ذهبت لتلد أعطوها إجازة بأجر 15 يومًا، والموظفات اللاتي كن في وظائف متدنية بدأ نقلهن إلى وظائف أخرى في علاقات إنسانية أو علاقات عامة إلى آخره، فأعطوهن فرصة الترقية، فأنا قلت إن هناك أملاً في النقابة، وأن ما يحدث شيء جميل جدًا، ومعنى هذا أن الكفاح سيوصل إلى الهدف، لكن لم تكن هذه هي الحقيقة بالنسبة لى على الأقل، فثارت الأمور وحدثت مشاكل كثيرة جدًا وصدامات وصلت إلى الإدارة أو وصلت للحكومة أيضًا. أنا لم أكن أتحرك وحدي في الحقيقة، إنما دائمًا كان لي صديقات في مصلحة العمل، ومصلحة العمل للعلم هي مصلحة طبقية ثلثيها من الملاك أقارب اتحاد الصناعات، أي أنهم إما لهم مصانع أو لهم شركاء فيها في العمليات التجارية، والثلث الآخر مهنى، هذا الكلام كان في حدود سنة 1953، وكانوا هم يشيرون علي، وألجأ لهم في كل المشكلات، ثم قال لي موظف في العلاقات الدولية هناك لا تأخذى الأمور بهذا العنف لأنك سوف تخسرين، لأنك تعملين في شركة أجنبية، هل هذا أفضل أم عملك في الحكومة؟
الحقيقة وأنا بمؤهلى داخل الشركة على الرغم من أني لا آخذ نفس فرصة زملائي، لكنني كنت أفضل من الزميلات اللاتي يعملن في الحكومة. حدث بعد ذلك تضيق واصطدام وحدثت معارك شديدة داخل المجلس، وقال لى أحد الزملاء “إشمعني انتي اللي قالية الدنيا كلها، هو ما فيش غيرك ما الشركات بره أهي في البنوك“، هذا حقيقي لكن البنك الإيطالي موظفاته معظمهن إيطاليات وواحدة أو اثنتين مصريات فقط، شركة السكر معظمهم أجنبيات إنما المصريات واحدة أو اثنتين، البنك الأهلي كان في وقتها بنكًا معظمه إنجليز، المهم أنني ذهبت لمن أعرفهم ليقوموا بتنشيط الزملاء لكي يتقدموا للنشاط النقابي، وفعلاً بكل قوة سواء كان بالمعرفة المباشرة أو غير المباشرة تقدم كثير من السيدات العاملات، وأذكر منهن عليه عزمي، دخلت البنك الأهلى ومادلين عزيز في المحلات التجارية، وامتدت المسألة، وكان هناك خيرية في النسيج، لكن ما يسعد أكثر أن المرأة خريجة الجامعة التي تعمل وجدت فرصة للعمل في النقابات المهنية، فتقدمت أمينة الحفني ورشحت في نقابة المهندسين، ودخلت علية إسماعيل نقابة التجاريين، وعايدة العمروسي دخلت نقابة المهن الطبية، وتقرر انتخابها، وأمينة السعيد دخلت نقابة الصحافة، وهذا أعطى فرصة ودفع لأننى لم أصبح وحدي، هناك قوة تسندني وهذا شيء مهم جدًا، فالذي كان يدعم الموقف أن الانتخابات تحدث كل سنة، أي أن العملية الديمقراطية تتم سنويًا. لا يوجد شيء مؤجل بعد سنتين أو ثلاثة أو أربعة مثلما يحدث الآن، حيث أصبحت مدة الدورة النقابية 5 سنوات، هذه عملية خطيرة جدًا ، إنما سنويًا نحن نقدم حسابًا سنويًا، من خلال القوة الوطنية ولهذا استطعنا أن نؤثر في الأوضاع.
أنا مولودة سنة ١٩١٨ وعندي 80 سنة، والدي كان صاحب مكتبة ومطبعة، والمكتبة كانت تقوم بتوريد الكتب الدراسية لمدارس مجالس المديريات، وكانت في الوجه البحرى والوجه القبلي، وكنا نستورد الكتب من ماكميلان في إنجلترا، وأدوات الرسم من الدانمارك وهولندا، والأفلام والريش من المجر، حيث لا توجد صناعة وطنية، نحن تتعلم بالأجنبي وعندما يكون لك في منتصف العام مطالبة زائدة تكتب بها طلبية وتأتى بالبريد من الشمال، أنا أذكر هذا لسبب مهم جدا، أننا في يوم من الأيام أوجدنا شركة النصر لتقوم بعمل الأقلام الرصاص، ولقد قامت بعملية خطيرة جدًا للتعليم في مصر ولا أدري لماذا أغلقت، المهم في سنة 1953 أرسلت خطابًا لوزير الشئون على أثر واقعة حدثت، جاءني زميل يعمل ليلاً في نهاية خطوط الأنابيب سنة 1950 عامًا، جاءني في المجلس، المجلس أحاله لي، وجدت من التحقيق أنه يعمل ليلاً وهو مريض بالقلب وعنده ثلاثة أولاد، فقالوا لي كلمي الإدارة بما أنني عضو لجنة الشكاوي، فتحدثت إلى مدير الإدارة وهو من خريجي قسم الإنجليزي وكان قبل ذلك في إذاعة BBC وهو رجل مرموق جدًا، فذهبت وتحدثت معه فقال لي يا سيدتي الفاضلة هناك تعاقد بينك وبين الإدارة يقول إن الإدارة حرة في أنها تضعك في المكان الذي تراه بنفسها، أما مسألة أنه يعترض على العمل الليلي، فأمامك القانون، إذا غيرتي القانون أنا مستعد للتغيير، أنا أنفذ القانون، القانون يقول إنني أجعل الموظف يقوم بعدد ساعات معينة، وأنا لم أخرج عن ذلك، لكنه يعمل ليلاً لأن العمل يحتاج وجوده ليلاً، لكن الرجل عمره 50 سنة، أي أن المفروض أن الشباب هو الذي يأتي في هذا الوقت، فقال لي غيري القانون. الحقيقة فكرة جيدة، لكن مجلس النواب مكون من الملاك الزراعيين وأصحاب المصانع، فكيف سيتفاعل هؤلاء معي إذا ذهبت وقدمت طلبًا للمجلس.
كتبت الجواب وكان هناك مجلس يسمى المجلس الأعلى للعمل مهمته أن يناقش قوانين العمل ومشاكله، كتبت الطلاب وهو لا يتجاوز أربعة مطور، وقلت له إذا كنت تريد أي بيانات أخرى أنا مستعدة، ووضعت طابع بقرش صاغ ووضعته في صندوق البوستة، ولم أكن أتخيل أنه سيرد على طلبي، من الوزير الذي سيسأل عني؟ وفجأة بعد ثلاثة أيام وجدت مكتب الوزير على التليفون وقالوا لي أن الوزير حدد لي موعدًا يوم السبت الساعة التاسعة صباحًا بشأن الخطاب، الحقيقة انا شعرت بخوف شديد، كان الوزير اسمه عباس عمار، فسألته هل أحضر أحدًا معي، قال لى لو أردت أحضري المجلس كله، ذهبت إلى رئيس النقابة فقال لي أن الوزير كان زميلي في الكلية، قلت له هل ستأخذ أحدًا من المجلس معنا، قال لي هؤلاء لا يفهمون أى شيء، كان رئيس مجلس الإدارة يشعر بفخر شديد لأنه سيذهب عند الوزير. ذهبنا إلى الوزير، المفاجأة أنني عندما دخلت سألت مدير المكتب ما هي المدة الممنوحة لي؟ قال: لى خمسة عشر دقيقة أقصى مدة لك. كانت قبلنا د. درية شفيق تعرض قضية زواج أو طلاق، لا أذكر، المهم أنني دخلت وجلسنا معه ساعة ونصف، تحدث في موضوعات كثيرة، وفي النهاية قال لي: “اسمعي يا عايدة إنتى حاتوصلي للمجلس بس مش الدورة دى وعليكي أن تستمرى وبنفس المنطق الذي تدافعين به عن هذه القضية“، بعد خمسة أيام ظهرت صحيفة أخبار اليوم وفيها خبر أن عايدة فهمي ذهبت وحدها عند وزير الشئون الاجتماعية، انقلب على المجلس، كيف أذهب عند الوزير وأنا سكرتير عام النقابة، لم يسألني أحد لماذا ذهبت؟ وقالوا لي أنت تستغلين الأوضاع وتستغلين المظاهر، وكانت قضية كبيرة وهرب رئيس النقابة ولم يحضر الجلسة، حكيت لهم القصة. وكانت هناك قضية أخرى فصل فيها رئيس النقابة، وبعدها بأربعة شهور قرروا أن أفصل من النقابة، لأنني أستغل الأوضاع. فصلت وجاء السكرتير المساعد الذي أصبح بعد ذلك رئيسًا للنقابة. وأنا أحكى هذه القصة لأنها نموذج لتجربة المرأة في العمل العام، فهناك من يقول لي أنت كنت تأخذي شهرة، أنا أقول ما هي المشقة التي كنت أواجهها ليلاً ونهارًا في هذا المجلس، المهم أننى خرجت من المجلس، خرجت من السكرتارية العامة وظللت عضوًا في المجلس، وقرروا أنني لن أترك عقد العمل المشترك واستمر في عمل المفاوضات مع الشركة، لأنهم لو أبلغوا الشركة بأنها تركت لجنة المفاوضات سيحدث انقسام في الداخل والانقسام ضدنا، لذلك قرروا أن أبقى في اللجنة، في آخر السنة انتهينا من الاتفاقية ووقعنا عليها، وقد فاجأني بعد الانتهاء من الاتفاقية أننا أخذنا ما استطعنا الحصول إليه من المكاسب، كانت هناك أشياء مهمة جدًا أعطتها لنا الشركة باسمي أنا ورئيس النقابة، من بين هذه الأشياء أن يرفع من الوظائف العامة ووصف وظائف البنات وتصبح الوظائف كلها عامة، وأن لا يصبح هناك تخصيص للفتيات. وتفتح الدرجات المالية للجميع. ثم قال وجيه قطب إنك أنت التي قمت بهذه العملية، في آخر العام ونحن نوقع على الاتفاقية في احتفال كبير في قاعة رئيس مجلس الإدارة، قالوا لي إن رؤساء مجلس الإدارة يريدون أن يسلموا علي، وعادة في يوم 31 ديسمبر يكون هناك حفلات في الشركات الأجنبية، فاجأني أن رئيس مجلس الإدارة يقول لي، آنسة عايدة نحن نقدر نشاطك، أنا كيف؟ لقد اتهمتموني بالشيوعية؟ نظرت لمدير العلاقات العامة المصري وقلت له: هل هذا حفل تكريم أم حفل تأبين، فكانت عملية مريعة جدًا، وسألت مدير العلاقات العامة وقلت له كلام المدير هل هو تكريم أم تأبين؟ فقال لي يا عايدة لماذا تقلبين الأوضاع؟ الناس تحتفل بمجهوداتك، لكنه قال لي ما الذي كسبناه من الشركة الإنجليزية۲۸ عامًا.
وأنا أعرض هذه الواقعة لأننا اليوم في مرحلة نطلب فيها من الاستثمار الأجنبي أن يأتي، وهناك نسبة كبيرة من الأجانب تعمل، في عام 1956 لم ينقصهم إلا أن يمشوا في الشوارع يقولون الحاصل على شهادة إعدادية يأتي لكي يعمل، كانت الأشغال كثيرة، اليوم هناك بطالة من أبشع ما يمكن، وأنا أحكي حكاية صندوق المعاشات لأن هناك أشخاصًا اليوم يحاولون استغلال معاشات العاملين باللعب بها في البورصة من أجل إنعاش البورصة، وليس انتعاش البورصة لكي نستفيد منه وهذا ذكر في الأهرام، وأنا انتهز فرصة وجودي في هذا المكان لأن الكلام لا ينصب على وحدي، لكنه يخص المجتمع ككل والقضية كلها متصلة بعضها ببعض، وأرجو الاعتذار لإطالتي وشكرًا.
سحر صبحي:
أشكر الأستاذة عايدة وكل ضيوفنا اليوم، لقد تمتعت بشدة بشهادات وتجارب ممثلات عن بعض النساء المصريات، وشعرت أن المرأة المصرية ليست فقط التي يركز عليها الإعلام مثل سهير القلماوي أو أمينة السعيد أو نوال السعداوي على سبيل المثال، وكنت أود أن أسأل الأستاذة وداد عن الأسباب التي جعلتها تدخل السجن أكثر من مرة، وبصراحة أحييها جدًا لأنها قصة نجاح، وكيف كان لديها إصرار ولم تخشَ شيئًا وحاولت مرة واثنتين، أحييها وأحسدها على هذا، لأننا شباب الجيل الجديد محبطين وليس لدينا جزء صغير من الإصرار الذي لديها.
وداد متري:
الحقيقة السبب المباشر لدخولي السجن هو نشاطي في نقابة المعلمين، وأن هذا النشاط كان مؤثرًا فعلاً، وأذكر آخر جلسة حضرتها في نقابة المعلمين، كان في هذا الوقت المرحوم كمال الدين حسين وزيرًا للتربية والتعليم ونقيبًا للمعلمين، وكنا في هذا اليوم أصدرنا بيان احتجاج وكان لنا مطالب معينة، فأنا أعطيته البيان في يده، ووزعنا هذا البيان في الجمعية العمومية، كنا نجتمع في الجزيرة في النقابة، وهذا البيان تسبب في إثارة كبيرة وضجة كبيرة وكان هذا يوم 8 يوليو، وأنا قبض على يوم 10 يوليو 1959، فكان هذا هو السبب المباشر، الوضع كان ضد أي نشاط جماهيري يكون من وجهة نظرهم فيه نوع من الإثارة أو حشد الجماهير، لأن الجماهير عندما تحشد ممكن بعد هذا أن نجعلهم يفعلون أى شيء.
الهوامش
1. “شهادات ثلاث رائدات: وداد متري، زينب الإتربي، عايدة فهمي ، تسبق: سحر صبحي، من رائدات القرن العشرين: شخصیات وقضايا ، تحرير وتقديم: هدى الصدة. القاهرة: ملتقى المرأة والذاكرة: القاهرة، ۲۰۰۱، ص۳۰۹–۳۳۹.
عودة إلى بقايا الأطلال
الذاكرة والذاكرة المولدة والتاريخ الحي في فلسطين
الذاكرة والذاكرة المولدة والتاريخ الحي في فلسطين1
ليلى أبو لغد2
ترجمة حسام نايل
تعنى العودة في السياق الفلسطيني الرجوع إلى الوطن السليب، ويثير هذا التعبير المشحون، عند الفلسطينيين المشتتين، حنينًا إلى أرض الوطن التي أجبروا على الرحيل عنها في 1948. كما يثير رغبة في التخلص من تجربة الشتات الصادمة التي فرقت العائلات وقطعت سبل العيش، واضطرت الفلسطينيين إلى الإقامة في مخيمات اللاجئين المذلة، أو إلى مغامرات فردية حتى يقيموا حيواتهم من جديد متسلحين بما لا يكاد يتجاوز شهادات ميلادهم ومفاتيح بيوتهم التي تركوها خلفهم، موصومين بفقد بلدهم – بطريقة ما – على أيدي أناس غرباً. ويَعدُّ الإصرار السياسي على حق العودة مطالبة بتصحيح خطأ أخلاقي. كما يَعدُّ، أيضاً، مطالبة بعدم محو قصة هذا الطرد.
وبطبيعة الحال، لم يرحل كل فلسطيني عن فلسطين في ١٩٤٨: بل يظل بعضهم في الأراضي التي وقعت تحت السيطرة التوسعية المطردة للدولة الإسرائيلية التي أعلنت في 15 مايو 1948، تشبثوا بقراهم أو أقاموا بالقرب منها، أو ظلوا في مدنهم، يرقبون عالمهم وهو يتحول أمام أعينهم. عاشوا في المكان على المستوى الفيزيقي، مطرودين على المستوى الاجتماعي والسياسي، تعلموا لغة مستعمريهم وعملوا بينهم في أعمال حقيرة معظم الوقت. أما الذين رحلوا إلى مدن الضفة الغربية أو عزة، فلم يخضعوا مباشرة للحكم العسكري والإداري الإسرائيلي إلا بعد عشرين سنة، عندما احتلت إسرائيل الأجزاء المتبقية من فلسطين التاريخية بعد حرب 1967.
ولكن معظم اللاجئين الفلسطينيين وجدوا أنفسهم مقتلعين من وطنهم وماضيهم فحاولوا إقامة حيوات جديدة في بلاد مختلفة، في لبنان والأردن وسوريا والعراق والكويت والولايات المتحدة وإنجلترا، بل وفي دول أمريكا الجنوبية. نجح بعضهم نجاحًا اقتصاديًا وثقافياً، أما الكثير ممن ينتمون إلى الأجيال اللاحقة فظلوا يعيشون في مخيمات اللاجئين التي صارت – بشكل مقلق – إقامة دائمة، وقد تجمدت في مخيلتهم ذكريات الوطن.
ظل والدي حتى عام 1991 أحد هؤلاء المطرودين الذين لم يتمكنوا من العودة لرؤية ما حدث لبلدهم، رحلت عالية والدي إلى الأردن، ومن هناك اقترض مالاً حتى يستقل سفينة راحلة إلى الولايات المتحدة، بحثًا عن التعليم. وهناك، أقام حياته، عمل ليدفع مصاريف الدراسة وتزوج أمي وأنجب أطفالاً، ثم ذهب إلى جامعة برنستون – في نهاية المطاف – للحصول على درجة الدكتوراه في التاريخ العربي، وبعد مرور ثماني سنوات على خروجه لمكن من القيام برحلته الأولى إلى العالم العربي ليشغل وظيفة تابعة لليونسكو في مصر، غير أنه لم يتمكن من العودة لی قسطين. وعلمت من أن عائلها قامت بزيارات متقطعة إلى الضفة الغربية والقدس. ومن هناك، كان ولدي يحدق باشتياق إلى الجانب الآخر من فلسطين: ساحل يافا، ولكن بعد احتلال إسرائيل هذه المناطق في 1967، صار ما كان يفعله مستحيلاً ثم بعد أن حصل والدي على جواز سفر أمريكي – وكان ذلك في وقت متأخر – يعطيه حق الدخول، بوصفه سائحاً، فيما صار يعرف الآن بإسرائيل، ظل واحدًا من الفلسطينيين الذين رفضوا الذهاب إلى وطنهم السابق ورؤيته. كان والدي يكتب دون كلل عن فلسطين، ويلقى محاضرات عامة عنها، ودرس تاريخها، وقد ذهب مرتين إلى بيروت للإقامة حتى يباشر من هناك مشروعًا فلسطينيًا. وفي عام ١٩٨٢، طرده الجيش الإسرائيلي للمرة الثانية في حياته وهي تجربة جعلته مكتئبًا – وبعيدًا بعدًا نفسيًا عنا، عن عائلته – لبضع سنوات فلم يكن يتخيل وضع نفسه تحت رحمة وسلطة الدولة التي أغارت على بلده كلها ، لم يكن يتخيل أن يت وجها لوجه أمام أناس يواصلون تدمير أسلوب الحياة اليومية للفلسطينيين الذين يعيشون هناك، وأولئك الذين يعيشون في أماكن أخرى. أما الجيش الذي ألقي قنبلة عنقودية على شرفته في بيروت فقد حطم حلمه بإقامة جامعة فلسطينية مفتوحة والكثير من أحلامه الأخرى.
ثم حدث تغير؛ إذ بعد تعافيه من مرض ألم به أدرك أنه قد يموت دون رؤية فلسطين مرة أخرى. ومع إدراكه لحدوث تغير طفيف في السياسات، مما يعني تخفيف القيود في الأراضي المحتلة، قرر الذهاب إليها. وأتذكر كيف كنت أستمع إلى حكاياته المثيرة حين عاد. وكان في زيارته الأولى عام 1991 متوتراً، على الرغم من الفضول الذي كان يغشاه، قال إن صدمته الأولى عاناها عند وصوله إلى مطار اللد حين فاجأته لافتة ترحيب تقول: “أهلاً بكم في إسرائيل“، ومع ذلك كان مبتهجاً. بعد هذه الزيارة، جاء قراره عام ١٩٩٢ بـ “العودة” والرجوع. كان قد انفصل عن أمي بالطلاق في وقت سابق، وكان قد تقاعد من جامعة نورثويسترن التي كان يدرس فيها العلوم السياسية لمدة خمسة وعشرين عاماً، وحين جاء إلى زيارتي في إنجلترا، بعد أن وضعت توأماً، رأيت أن إحساسه بموطنه قد أفعمه بالحيوية. ثم بعد هذه الزيارة بوقت طويل، وبينما كنت أراجع أوراق مؤتمر غير مؤرخة كدسها فوق مكتبه، وجدت تعليقه الآتي: “معظم الناس الذين تحدثت معهم (ممن عادوا) يشعرون بالحزن أو الفقدان. أما أنا فأشعر بالعكس تماماً. كنت سعيدًا لأني ارتبطت بأرضي من جديد، ولأنى عرفت – مع التغيرات التي طرأت – أن الكثير من الثقافة الفلسطينية قد استمر حيا على الرغم من العدوان الإسرائيلي، بفضل المجهودات الكبيرة التي بذلها الفلسطينيون الذين استمسكوا بأرضهم، سواء أرض 1948 أو الضفة الغربية وغزة“. 3
وحين وافقت أن أزوره في إسرائيل/ فلسطين، بعد انتقاله إليها بخمسة أشهر، على الرغم من شعوري بالقلق، عرفت في هذا الانتقال غير من خبرته بحادثة كارثية فاصلة يسميها الفلسطينيون تسمية واضحة في النكبة أو “الفجيعة“، رأيت أن والدينجح في إدخال ذكرياته عن فلسطين، مباشرة، في الزمن الحاضر؛ لقد غرسها في التاريخ الحي وكان إدماج الذاكرة في الحاضر التاريخي – على نحو ما فعل والدي – مما أتاح لأولاده اكتساب معرفة وتماهٍ مختفين أيضًا. وتسعى هذه المقالة إلى استكشاف ما حدث لوالدي وما حدث لي أيضًا بسبب عودته. وتطلق ماريان هیرش Marianne Wireh اسم الذاكرة المولدة postmemory على التجربة التي يحيا فيها المرء واقعًا يوميًا تظلله ذاكرة عن ماض عاشه الوالدان ينطوي على دلالة أكبر ؛ وذلك في سياق تحليلها المرهف لانتقال الذاكرة المفجوعة traumatic memory عبر الأجيال عمن بقوا على قيد الحياة بعد كارثة المحرفة (Hirsch ص ٢٢–٢٤). غير أن الموقف الذي تصفه هيرش هو موقف ذكريات الوالدين عن أحداث مرًا بها وانقضت؛ وقد استنكر العالم هذه الإبادة الجماعية وفظائعها. وفيما يخصني يختلف الموقف، فأنا ابنة شخص عاش أحداث النكبة وتلقيتُها عنه بعد عودته إلى فلسطين؛ فالذاكرة والذاكرة المولدة – بالنسبة لي وبالنسبة إلى الفلسطينيين – ينطويان على قيمة تفاعلية خاصة؛ لأن الماضي لم ينقض بعد.
الذكريات المحكية
كان والدي راويًا وحكاءً. ولذا، كنا – ونحن أطفال صغار – تعرف دائمًا أننا فلسطينيون. وما أتذكره من حكايات عن صباه في الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات كان يحمل عبق الحنين، وتمتزج فيه الفكاهة بالأسي. كان صعبًا على أن أتخيل والدي في طفولته، حالي في ذلك من حال آخرين، فقد كان هناك عامل الاختلاف الجذري عن الحياة التي عرفتها من خلال نشأتي في الولايات المتحدة، ولعلي لم أستوعب تلك الحياة (التي عاشها والدي) إلا بشكل غير مباشر من خلال بعض سنوات الطفولة التي قضيتها في مصر والعطلات الصيفية التي كنت أقضيها مع أقاربي في الأردن، ثم بشكل أكثر مباشرة بعد أن أصبحت باحثة أنثروبولوجية وعاشرت المجتمعات العربية معاشرة حميمة. ولطالما أحببت تخيل ذلك الطفل الذي كان يعتريه الفرح بحذاء جديد في أيام العيد؛ فينام وهو يضعه تحت وسادته. وقد غمرني توحد عاطفي مع والدي حين حكى قصته مع “نمرة صفر“؛ إذ كان أبوه يعاقبه بحلاقة رأسه على الزيرو حين يخطئ، فكان والدي يتوصل إلى الحلاق أن يحلق له “نمرة واحد” حتى يجعل شعره أطول قليلاً عند منابت الشعر. ثم اعترتني دهشة من الحكايات الطريفة التي حكاها عن نفسه وهو صبي متدين في سن الحادية عشر والثانية عشر والثالثة عشر من عمره، هذا الأب العلماني الراسخ في علمانيته الذي يستنكر باستمرار “آيات الله” كما يحلو له أن يسميهم – سواء كان هذا “الآية” مسيحيًا أم مسلمًا أم يهوديًا – هذا الأب الذي كان يلتمس لنفسه الأعذار حتى لا يصوم شهر رمضان بحجة أنه “على سفر ” دائم، في المنفى. 4 قال إنه كانت تأخذه الحماسية للتفوق على إخوته ونيل تفضيل والديه فكان يسارع إلى مساعدة الإمام الكسلان فيصعد إلى مئذنة المسجد المجاور لبيتهم في يافا ويرفع الآذان. ومع أن بواعثه على استعراض تقواه الدينية متعددة فقد كانت طريقته في التدين شديدة الذاتية. حكى لنا كيف أنه أم صلاة جنازة إسلامية كاملة على روح طائره الأليف. الهدهد، بعد أن قضى نحبه حين كانوا يقضون عطلة صيفية في النبي روبين.
ولقد أعطتنا حكايات والدي عن حنان أبويه ورعايتهما الأخلاقية لمحات عن طبيعة حياة العائلة في فلسطين قبل ١٩٤٨، وعن شخصية أبيه؛ ذلك الجد الذي لم نعرفه إطلاقًا. حكى والدي أنه، وهو طفل صغير، ذهب مرة إلى الحمام في منتصف الليل، وفي الظلام لم يكن يدرك أن والده موجود هناك، فظل والده صامتًا لا يتحرك، وهو الرجل الجليل، حتى لا يرتعب ابنه شبه القائم، مع ما في ذلك من حرج، غير أن والدي حكي، أيضًا، قصة اليوم الذي أرسلته فيه أمه لشراء ملح طعام، وكيف خسر النقود وهو يلعب مقامرًا في الشارع. ثم حين عاد إلى البيت متأخرًا دون ملح الطعام العشاء، قالت له أمه: “انتظر حتى أخبر أبيك“، فكان العقاب الصارم الحرمان من الخروج فيه في اليوم التالي، وكان يوم العيد الكبير، فقضى والدي يومه يطل من الشباك باكياً، وهو يرقب أصدقاءه وأقاربه يخطرون في الشارع بملابسهم الجديدة، يشترون ما لذَّ وطاب ويستمتعون بعطلة العيد. وكانت هذه الحكاية درسًا أخلاقيًا لنا أيضاً: لم يقامر والدي مرة أخرى على الإطلاق.
وإلى جانب هذه الحكايات، كان يقص علينا كثيرًا من الحكايات السياسية التي بدأنا نتعلم منها معنى أن يكون الإنسان فلسطينيًا تحت الانتداب البريطاني. فيما يرى والدي، كان الناس – في ذلك الوقت – واعين بالكاد أنهم على أهبة أحداث كارثية تجعلهم لاجئين لم يكونوا يدركون أن الصهاينة، وليس البريطانيين، هم الخصوم الحقيقيون. ومرة أخرى، كان من العسير على تخيل والدي شابًا متمردًا يصطدم بالجيش البريطاني؛ والدي الأستاذ المتميز الذي يدخن الغليون، والدي المغرم بالحديث في التليفون والذي يجد متعته في اللعب مع الأطفال. والدي الذي يقرأ كل ما تقع عليه عيناه، والدي المفعم بالحيوية وهو يلقى محاضراته العامة (فيقاطعه الصهاينة ليضايقوه بوابل من الأسئلة، الأمر الذي كان يدر دموعي الحارقة التي يختلط فيها الأذى بالغضب من أجله). وتوجد نسخة من إحدى حكاياته محفوظة على شريط كاسيته، سجلها هشام أحمد فرارجه عام ٢٠٠٠، وقد سجل قصة حياة والدي، وإليكم حكاية اعتقاله الأول، وهي حكاية طالما سمعتها منه مراراً:
كان البريطانيون قد فرضوا حظر التجول، كما يفعل الإسرائيليون الآن. وكنا أطفالاً في سن التاسعة أو العاشرة، وأذكر أننا كنا نلاحق جنديًا ونسبه، ثم فجأة اعتقلت دورية بريطانية أخي الأكبر، فساقته إلى قسم الشرطة، وهناك أشبعوه صفعاً، ثم أطلقوا سراحه. كان كل مرة يُعتقل يصبح بطلاً. وكنت أريد أن أكون بطلاً، فكنت أتبارى مع أخي الأكبر. ولما رأينا شرطيًا يقود دراجته البخارية شتمتُه. فما كان من أولاد الزناة إلا أن جروا روائي أنا وأصحابي؛ وكان أن اختفينا في أحد المخابز، شعرت أني في ورطة، فالمخبز مغلق، وكنا قد دخلناه من باب جانبي. جاء أحد الجنود البريطانيينوأمسكنا في حالة تلبس إن جاز التعبير، واقفين هناك لا تحرك ساكنًا. قبضوا على أربعة منا، وكان الجنود يقودون دراجات بخارية، فجعلونا نجري أمامهم، وكان معهم سياط، كنت أرتدي جلبابًا – وهو ما نلبسه عادة في الشارع – فكان على أن أرفع أطراف الجلباب وأضعها بين أسناني حتى أتمكن من الجري. شعرنا بالتعب ولكنها ألهبونا بالسياط حتى نظل نجري. كان الناس ينادوننا من داخل منازلهم : تعال هذا يا إبراهيم؛ تعال هذا يا محمد“. غير أننا كنا خائفين من أن يلاحقونا أينما توجهنا، ولهذا ذهبنا معهم.
…
وكما قال أبي بعد مزيد من الصراخ، الحقيقي مرة والمفتعل مرة، تركهم البوليس لحال سبيلهم، بعد أن وبخهم أحد العملاء من سكان الحي، ثم طاردتهم دراجة بخارية أخرى على امتداد طريق العودة، فكان الجندي يلهبهم بالسياط مرة أخرى. ولابد أن ترى – من خلال الطريقة التي حكى بها والدي القصة – الجانب المضحك الذي تثيره صورة طفل هزيل يصر على منافسة أخيه وهو يجرى ممسكًا أطراف جلبابه بأسنانه حتى ينجو بحياته. وعن المرة الثانية التي قبض عليه فيها، قال إنه تعلم درسا لن ينساه؛ ففي هذه المرة لم يتركهم البوليس البريطاني لحال سبيلهم، بل جعلهم يعملون، إذ أمرهم أن يرفعوا بأيديهم – والدي وأصحابه – كل الحشائش الموجودة في الفناء الواسع أمام قسم البوليس، كي يصبح ساحة لملعب تنس. وقد حكى لنا هذه القصة في مرحلة متأخرة من حياته على النحو الآتي:
كان هناك ضابط شرطة بريطاني أسميناه أبو نياب (شخص له أنياب كبيرة) وقد فهمت الآن، بالكاد، أنه كان ساديًا. كنا نخاف منه فهو يروح ويجيء بيننا وفي يده عصا غليظة، كنا نحاول اقتلاع الحشائش فلا تطاوعناء ضرينا وأمرنا بمواصلة العمل. استغرق العمل ساعتين حتى أنهيناه، فما الذي سيفعلونه بنا الآن؟ كان حظر التجول مستمرًا ولذا، طلبوا منا نقل الحشائش من جانب في الحديقة إلى جانب آخر، لمجرد أن نظل نعمل. شعرنا بالتعب الشديد وكانوا يضربوننا باستمرار. ولن أنسى ما حييت وجه أبو نباب ابن الكلب الذي أشبعني ضرباً. بدأنا نصرخ فلم نكن نريد أن نسجن. ما كنا نريده أن نصبح زعماء. وحين أفكر فيما مضى ألعن هذا النوع من الوطنية، أكان لزامًا علينا الضرب والتعذيب حتى تصبح زعماء ؟5
قال أبي إنه منذ ذلك الحين بدأ يستخدم الوسائل المشروعة – عقله، قلمه، موهبته في الخطابة – في نضاله ضد الاحتلال الاستعماري (الصهيوني الآن وليس البريطاني)، وكفى ضرباً.
ولا أذكر ، وأنا في طفولتي، استماعى إلى قصصه عن 1948 والشهور الأخيرة قبل سقوط يافا ، مسقط رأسه فهل كنا صغارًا إلى درجة أنه لم يكلف نفسه عناء قصَّها علينا؟ وهل كان كلامه سيعني شيئًا بالنسبة إلى أطفال لم يروا يانا مطلقاً؟ تقول أمي لي إنه حكى هذه القصص لها ولآخرين مرات كثيرة سمعتها، وأعتقد أنها اكتسبت معنى خاصًا ومزيدًا من الاتساق، بعد أن عاد والدي ليعيش في فلسطين وتمكن من رؤية يافا مرة أخرى، وكما يری موریس هلبفاكس Maurice Halbwachs. تتطلب الذاكرة إطارًا اجتماعيًا، ويرى هليفاكس، أيضًا، أنه كلما كبر الناس سنًا وتحرروا من ضرورات الحياة العائلية والمهنية صاروا في الأغلب – أوصياء حريصين على ماض متزايد حيويته عندهم، كان والدي ناشطًا في فلسطين، ولم يكن منعزلاً على الإطلاق؛ إذ بمجرد أن النقل إليها بدأت حكاياته تتدفق. كانت تجارب والدي في ١٩٤٨ هي التي حفزت مساعيه الطويلة في سبيل فهم ما حدث للفلسطينيين ونشره على الناس. لكن الشيء الغريب الذي حدث بعد عودة والدي إلى فلسطين أن ذكرياته أصبحت، الآن، دليلاً على تاريخ حي ومكان واقعي.
من الذاكرة إلى التاريخ: التجول في يافا
كانت يافا قلب فلسطين النابض عند والدي. وحين جئت للإقامة معه في ۲۰۰۱، رأيت على حائط من حوائط شقته في رام الله، ملصقًا كبيرًا ذا لون بني داكن. كان صورة فوتوغرافية تاريخية لرجل عربي ينظر بحنين إلى البحر، وفي الخلفية مدينة كبيرة، وفي أعلى الملصق مكتوب باللغة العربية “يافا ١٩٣٧“. ومع هذا، فقد كان والدي يقيم في رام الله وليس في يافا: حيث إن المؤسسات الفلسطينية كانت تمارس عملها – على نحو متقطع – في الضفة الغربية طوال عقد التسعينيات. فهناك كان بإمكانه العمل.
وفي أثناء زيارتي الأولى له في فلسطين عام ١٩٩٣، أحسست بالفرحة الغامرة التي كان يشعر بها لتمكنه من السيطرة على الموقف الجديد. ولعل الجانب الطيب أنه تمكن من احتواء المجتمع الذي وجده، كما أن هذا المجتمع احتواه أيضاً، سواء في الضفة الغربية أو في العديد من أجزاء فلسطين قبل 1948. أما التوتر فكان يظهر عليه كلما اقتربنا من نقاط تفتيش الجيش الإسرائيلي. كان فمه يجف وقطرات العرق تنز من جبهته، أو يتوه لأنه لا يعرف قراءة اللوحات الإرشادية على الطريق المكتوبة باللغة العبرية، وكان يخشى أن يسأل، وسرى خوفه إلي، فقد بدا كل شيء من حولي غريباً. أما المناظر فكانت مألوفة لتشابهها مع لبنان والأردن اللتين عرفتهما جيدًا بحكم نشأتي، ملأتنا الطرق العمومية والمدن المكتظة بالعبرية بإحساس الخطر، وبصفة خاصة عندما يحتشد فيها الجنود الإسرائيليون وجنود الاحتياط ومعدات القتال بحضورها الثقيل. ومع الوقت صار والدي معتادًا على ذلك.
كان والدي متلهفًا على أن يرينا، أنا وعائلتي الصغيرة، فلسطين كلها، من القدس إلى بيت لحم، ومن نابلس إلى الناصرة، ومن أريحا إلى عكا، كانت رحلة حافلة بالمشاهد والأصوات والتنقل بالسيارة، وأكاد ألا أتذكر مشاعري حينها ولا أستحضر صورًا من هذه الرحلة؛ فقد كنت حديثة العهد بالأمومة ومنشغلة بتوأمي ذي الخمسة أشهر ونحن في الطريق غير أني اذكر أن الزيارات التي قمنا بها إلى أصدقائه في أنحاء فلسطين كانت حميمة، تناولنا عندهم أنواعا من الطعام الطيب، وكما كان عهدي في طفولتي، تملكني شعور بالخجل وانتابني الصمت كلما تحول الكلام إلى حديث السياسة، أو كلما دفنت خوفي من إحراج والدي لأن عربيتي الفلسطينية لم تكن سلسة. شأن العديد منا في الشتات؛ فقد كان من الواضح أني أمريكية. ومع أن الكثير ممن قابلناهم درسوا، أو عملوا، في الولايات المتحدة أو بريطانيا، وقابلونا كلهم بترحاب شديد، فلم أشعر أني منتمية إليهم بالسهولة نفسها التي كان والذي يشعر بها.
كان والدي حريصًا على أن يرينا يافا على الأخص، وكانت جولته معنا فيها هي الجولة نفسها التي قام بها مع آخرين كثيرين، وقد ساءني قليلاً أن أكتشف ذلك فيما بعد. ولعلها تلك هي وسيلته في استرداد المدينة التي ولد فيها، واستعادة البحر الذي سبح فيه صبيًا، والبيت الذي أجبر على الرحيل عنه في ١٩٤٨. في زيارته الأولى عام 1991، طلب من أصدقائه أن يأخذوه إلى يافا أولاً. شعر في البداية بالارتباك والحيرة؛ فمعظم المعالم التي كان يعرفها لم تكن موجودة، الدثر الحي القريب من البحر حيث ترعرع. ومنذ عشرين عاماً، فعل أخوه ما فعل كثير من الفلسطينيين وتحدثوا عنه: طرق الباب ليستكشف أي يهود – روس أم مغاربة أم يمنيين أم بولنديين – يعيشون في بيوت عائلتهم القديمة. 6 وفجأة قال والدي إنه تعرف على مسجد حسن بك الذي رفع منه آذان الصلاة وهو صبي، ومن هذا المسجد استطاع أن يتوصل إلى موقع مقهاه الذي كان. لم ينس والدي هذا المقهى الذي كان يعتاد التسكع بالقرب منه في الأمسيات، على أمل أن يسترق السمع إلى رواة السير الشعبية، فلم يكن يملك ثمن كوب الشاي حتى يجلس داخل المقهى ويستمع إليهم. وشيئًا فشيئاً، وهو يدور دورات واسعة حول المسجد، بدأ يهتدى إلى طريقه.
إحدى طالباته السابقات، وقد صارت أستاذة في حقل سياسة الشرق الأوسط، هي التي جعلته يراجع قراره برفض العودة، كانت تعتاد السفر إلى إسرائيل والضفة الغربية، ويذكر والدي أنها قالت له مرة: “إبراهيم، فلسطين لا تزال موجودة” ، وقال والدي إنه شعر بالسعادة حين وجد كلامها صحيحاً، في زيارته الأولى، سأل بعض الأطفال العرب في الشارع إن كانوا يعرفون شارع الملك فيصل. وفي الحال، أخذه الأطفال إليه، مع أن لافتة الشارع تشير إلى اسم مختلف تماماً. ومن هذه الواقعة، عرف أن الأمهات والآباء الفلسطينيين لا يزالون يعلمون أولادهم الأسماء القديمة للأشياء، حتى وإن دفنت فلسطين ومحيت من الوجود، حتى وإن أعادت إسرائيل كتابتها من جديد.7
توجد صورة أدبية في إحدى قصص دوريس ليسينج Doris Lessing “حكايات أفريقية” ( African Stories 1987) لم تفارق مخيلتي. وكنت أكلف طلبتي بقراءة هذه القصة عام 1985 في سياق سلسلة محاضرات في مادة “الاستعمار“: مستوطنة بيضاء، شابة، تعيش في جنوب أفريقيا، تنظر إلى السافانا وأشجار السنط؛ فترى أشجار السنديان كثيفة الأغصان في الحكايات الخرافية الإنجليزية. لقد فعل والدي العكس. إذ بينما كنت لا أرى سوى صدوعات عميقة في منحدرات التلال الخضراء بغرض إقامة مستوطنات إسرائيلية ذات أسطح مطلية باللون الأحمر الصارخ، أو أرى أميالاً وأميالاً من الطرق العمومية التي تتشابك وتتقاطع في الامتدادات الصخرية مستحوذة عليها عبر لافتات خضراء حديثة مكتوبة بالعبرية والإنجليزية، أو غابات مزروعة بأشجار دائمة الخضرة غير محلية، تخفي قرى مندثرة – بينما كنت لا أرى سوى ذلك، كان والذي يتطلع من وراء ذلك، ومن خلاله، إلى المناظر التي ألفها في شبابه.8
قال والدي إنه، وهو صبي، كان يعتاد السفر إلى كل أنحاء فلسطين مع العاملين عند والده في ورشة السباكة، إذ يقومون بتوصيل مضخات المياه ومعاصر الزيتون وتركيبها وصيانتها، اكتشفت فيما بعد أنه سافر أيضًا، وهو طالب في المدرسة الثانوية المسيسة، محاولاً استقطاب زملائه الطلاب؛ مما كان يقلق أمه قلقًا شديدًا كلما شرع في ركوب الأتوبيس، كما حكت لي أمي. بدا من الواضح أن والدى – وهو يقودنا بالسيارة – لا يزال يعرف طريقه في فلسطين، مع أنه كان ممنوعًا من دخولها لأكثر من أربعين سنة، وبرغم أن كل شيء قد بدا مختلفًا أطلعنا على بساتين البرتقال التي ربما سرق منها برتقالة أو برتقالتين، وهو صغير (وأنا أربط والدي بالبرتقال بسبب طريقته الودودة، دوما، في تقشير البرتقال؛ يأكل بضعة فصوص ثم يوزع البقية على أولاده، وأعرف أنه كان من الصعب عليه رؤية برتقال يافا في السوبر ماركت وعليه بطاقة صغيرة تقول إن منشأه إسرائيل، بينما كان هذا البرتقال جزءًا لا يتجزأ من صباه). ثم أشار إلى نباتات الصبار التي لا تزال تنتصب عنيدة ترسم حدود المناطق العربية التي كانت. ثم يشير إلى نوافذ البيوت العربية القديمة المقوسة التي لم تطلها يد التدمير، والتي تندس بين المباني الجديدة التي غلبت على الضواحي والمدن. كان يبني بقايا الأطلال بخياله، بينما كنت أجهد نفسي حتى أتمثلها بين المباني الأسمنتية (الجديدة) البشعة.
بدأت جولة والدي في يافا بمصنع صغير أنشاه أبوه في ضواحي المدينة عام ١٩٢٩. ولا يزال ينكر إلى الآن حارس هذا المصنع؛ كان رجلاً أفغانيًا لطيفًا ذا شارب أبيض كبير، كان يخلب ألبابهم وهم أطفال حين يقرأ كف كل منهم، قال لنا والدي إن هذا الرجل كان يتمتع بالقدرة على قراءة المستقبل فأخبرهم أنهم سيضطرون كلهم إلى مغادرة يافا، أما هو نفسه – الرجل الأفغاني – فلن يغادرها، قال والدي إن الرجل الأفغاني لم يغادرها حقاً؛ فقد صدمته سيارة قبل أحداث 1948. وشعرت أن والدي عده رجلاً محظوظاً.
ركنَّا السيارة بعد أن عبرنا الشارع المزدحم إلى جانبه الآخر، عند سبيل أبي نبوت، وأشار إلى مصنع يبدو متهالكاً، كان على أيامه شركة فلسطينية محدودة للمسبوكات النحاسية والحديدية، لا يزال اسمها محفورًا على بالوعات مياه المجاري في يافا إلى يومنا هذا. وشرح لنا وهو يمتلئ بمشاعر الفخر أن هذا المسبك كان يخدم المزارعين الفلسطينيين؛ يصنع لهم مضخات الديزل والمعاصر والمكابس التي يحتاجها الفلاحون لبساتين البرتقال والزيتون. لقد تعلم أبوه، في البداية، المهنة على يد بعض الألمان الذين رحلوا عن فلسطين حين استولى البريطانيون على مصنعهم أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم استمر في العمل مع اليهود الألمان. بعد ذلك، قرر أن ينشئ شركته الخاصة مع الأقارب بوصفهم مساهمين فيها، خمسة جنيهات من هنا وخمسة من هناك وتأسست الشركة.
ثم شرح لنا أنه بهذه الطريقة تمكن العرب من ألا يتكلوا على مصنع أجنبي أو يهودي. وعلى مدى عشرين سنة، هي عمر المصنع، أغلقه البريطانيون عدة مرات. ففي وقت التمرد الفلسطيني عامي ١٩٣٦–١٩٣٧، اتهم الإنجليز أباه بتصنيع الأسلحة سراً، فهمت بعد ذلك أن الوطنية سرت شعلتها في العائلة. وذات مرة، حين أغلقوا مصنعه بالشمع الأحمر ، نقل أبوه سرًا كل الآلات؛ هربها قطعة قطعة عبر بساتين البرتقال خلف المصنع، ثم حملها على عربات الكارو إلى مكان جديد. أوقعتهم نشاطات جدي الوطنية في المتاعب. ويذكر والدي اقتحامات رجال الشرطة والعساكر والبريطانيين الليلية لمنزلهم. كان لهذا الموقف وقع سريالي على وأنا استحضر المشاهد العنيفة التي يصعب أن تتجاوب مع ما أعرفه عن والدي : الرجل الذي يركب الدراجة، ويقرأ الكتب، ويعتني بحديقة منزلنا في الضواحي، ويحاضر بأسلوب یفتن مستمعين. كان البريطانيون يدخلون المنزل صاخبين، آمرين كل واحد أن يرفع يديه إلى أعلى، ثم يتوجهون رأسًا إلى المطبخ ليفتشوا أجولة الدقيق والأرز بحثًا عن أسلحة. كان والدي وإخوته قد تعلموا من قبل أن يقدموا ضيوفهم الريفيين الذين يتسترون عليهم بوصفهم أولاد عم. كما اكتشفوا مبكرًا أيضًا من يمكن أن يرتشي من المحامين وحراس السجن البريطاني لتهريب الطعام والأغطية لأبيهم، مات جدي عام 1944، بعد أن تناوبته الاعتقالات كثيراً، ولم يكن عمر والذي قد تجاوز الخامسة عشر. ومع ذلك، استمر المصنع في الإنتاج حتى انهار كل شيء مع حرب 1948.
وكانت المحطة الأكثر أهمية التي توقفنا عندها، في جولتنا في يافا، هي مدرسة والدي الثانوية، المدرسة التي قال عنها بسخرية مريرة إنها علمته جغرافية إنجلترا، إلى درجة أنه حين وطأت قدمه أرض لندن – بعد ذلك بسنوات عديدة – كان يعرف اسم كل شارع فيها. قال إنه في هذه المدرسة تعلم كيف يستخدم عقله، وبخاصة حين قام المدرسون بتسييسه. أما الآن فتحمل المدرسة لافتة صغيرة خارجها تشير إلى أن اسمها “مدرسة وايزمان“، ويحيطها سور من القضبان الجديدة. كانت على أيامه تسنى “المدرسة العامرية الحكومية الثانوية“. كان والدي مغرمًا بالحديث عن ذهابه – ذات مرة – مع مجموعة من الضيوف لمشاهدتها، فوجدوا شبابًا أثيوبيا من المستوطنين حراسًا عليها، ولم يكونوا يعرفون شيئًا عن التاريخ إلى درجة أنهم لم يصدقوا أن والدي لا يتحدث العبرية حين أخبرهم أن هذه كانت مدرسته يومًا ما. وأثناء جولاته، كان يلقى نظرة فاحصة سريعة على البوابة، ويحاول مراودة حارسها حتى يدخل. نجح – ذات مرة – حين كان بصحبته بعض الأصدقاء من الولايات المتحدة، فكان عليهم أن يتركوا جوازات سفرهم الأمريكية مع الحارس، وأخذته الدهشة من أن كل شيء داخل المدرسة كان على حاله، باستثناء أن الأطفال اليهود رسموا رسومات على حوائطها الداخلية. صارت المدرسة، الآن، من مدارس التعليم المختلط بين الجنسين. أما عندما كانوا طلابًا فيها فكان عليهم أن يتسلقوا الحائط ليروا بنات مدرسة “الزهراء“.
…
ولأن يافا كانت مدينة تجارية غير متجانسة، فلم يكن لديه زملاء ينتمون إلى عائلات عريفة، كان هو وأصحابه تواقين إلى التعلم والتحقق والإنجاز. صار بعض هؤلاء الأصحاب من أصدقاء العائلة الآن: رجائي بصيلة، الشاعر الكفيف، وأستاذ الأدب الإنجليزي، الذي عاش في كوكومو في ولاية إنديانا؛ وشفيق الحوت الكاتب الذكي المفعم بالحس الذي أصبح، فيما بعد، مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت. ولا يزال جميعهم يذكر المدرسين الذين علموهم تعليمًا رفيعًا طبقًا للمواصفات عالية، إلى درجة أن والدي حين نجح في الذهاب إلى أمريكا وبدأ دراسته الجامعية أعفوه من اجتياز مقررات الجغرافيا والتاريخ الأوروبي، ومن هؤلاء المدرسين، قال والذي في لقاء أجرى معه وقرأته، إنهم تعلموا على أيديهم، أيضًا الفرق بين كسر الواحد المدرسة والانشغال بالعمل السياسي، كان المدرسون يقضون الوقت معهم في فناء المدرسة يجيبون عن تساؤلاتهم بشأن الإمبريالية، ويبتسمون حين يعتصمون وينظمون المظاهرات ويؤسسون اتحاد الطلبة الفلسطيني، كان هؤلاء المدرسون يدرسون الكيمياء والتاريخ، ويختلفون عن المعلمين الذين عرفتهم – أنا ابنته – في مدرستي الثانوية (Ahmed Farsryeh، ص ٣٧–٤١)
حين عاد والدي بتفكيره إلى عامه الأخيرة هناك، عام ١٩٤٨، لم يكن يصدق ما حدث، كان الإنجليز يعرفون که متوجد مشكلة حين ينسحبون في مايو، فأعلنوا أن امتحانات السنة النهائية سيتم تقديمها إلى شهر مارس، بذل والدي وأصحابه ما في وسعهم في المذاكرة والتحصيل، بينما الحرب دائرة في أنحاء البلاد، وعلى وجه التحديد بين رافا وتل أبيب، بعد نهاية اليوم الدراسي، كان يخرج هو وأصحابه للمساعدة، ولكنهم يقولون لأمهاتهم إنهم ذاهبون للمذاكرة معاً، قال والدي إن الطلاب كان منوطًا بهم نقاط التفتيش، فهم يعرفون الإنجليزية ويستطيعون التمييز بين الإنجليز وبين المقاتلين المهاجرين اليهود. ولكنهم لم يكونوا على دراية بأى شيء. ولم يخيل لهم أن حياتهم ستغير تغيرًا جذريًا في القريب العاجل، فقد كان همهم الأساسي اجتياز امتحانات نهاية العام، وظنوا أن مستقبلهم يتوقف على ذلك. وحين فقد شفيق – صديق والدي الحميم – أخاه، طلب والدي منه بإصرار أن يستغنى عن طقوس الجازة حتى يجتاز امتحاناته. ولما جاءوا إلى المدرسة التي تعقد فيها امتحانات القبول بالجامعة في فلسطين، وجلسوا إلى مقاعدهم، اكتشفوا سطح المدرسة قد نُسف، وأتمُّوا امتحاناتهم على هذه الحال. وبعد الانتهاء من الامتحانات بعدة شهور، سمعوا النتائج في الراديو، وقد أذاعتها وزارة التربية والتعليم اليهودية، إذ لم يعد هناك وزارة تعليم عربية. في ذلك الوقت، كان والدي لاجئًا في نابلس بالضفة الغربية، وكان على وشك الرحيل إلى عمان. أرسل تلغرافًا إلى شفيق – وكان لاجئًا في بيروت – ذكر فيه هذه المفارقة: “يا له من واقع مثير: اجتزنا الامتحانات؛ ونحن الآن لاجئون بلا مستقبل“.
أخذتنا جولة والدي في يافا إلى شارع به مكتب بريد كولونيالي (حيث حاول والدي بلا طائل أن يسترجع صندوق بريده القديم، لا لشيء سوى أن يشعر بالسعادة من إمكان ورود خطابات بريد مرسلة إلى يافا). وإلى المحاكم القضايا التي كان يحلم بممارسة المحاماة فيها، متخذًا من يوسف وهبي نموذجاً، وهو النجم الذي كان يتمتع بالقدرة على استمالة الناس إلى موقفه بحسن بيانه في الأفلام المصرية. كما أخذتنا الجولة إلى محل البوظة الذي كان يذهب إليه مع أصحابه، في فترة المراهقة، لمغازلة العاملة الأوروبية فيه أكثر من تناول البوظة. لم يكن من المألوف بالنسبة لهم رؤية فتيات يعملن، مع أن الفتيات في حيهم، والسيدات في الحي المسيحي، يخرجن سافرات، تعيق هذه المباني بمعان بالنسبة إلى والدي، يغمض إدراكها عليَّ؛ فما كنت أرى سوى مبان كولونيالية بدت أليفة إلى حد ما لوجود أمثالها في مناطق أخرى من الشرق الأوسط؛ حيث أنشأها البريطانيون والفرنسيون أما من أجل الحكم. وكان عندي تجاوب عاطفي مع هذه المباني في مصر حيث كنت أشعر بالراحة والاطمئنان. أما هذا فشعرت بالغربة، وذكريات والدي لم تكن الذكريات التي تؤثر في بسهولة، ربما لأنها ذكريات مشحونة بالهزيمة والعداء.
وأثناء الجولة، رأينا عمارة سكنية غير متميزة، كانت آخر مكان عاش فيه والدي، يافا وتل أبيب متجاورتان، ومع ازدياد حدة التوترات السياسية بينهما في غضون الأربعينيات انقسمتا إلى معسكرين، الأول للعرب والثاني لليهود. وفي شتاء عامی ١٩٤٧ ١٩٤٨، دار القتال بالقرب من الحدود بينهما. وكما شرح لنا والدي، صارت المنطقة المجاورة له شديدة الخطر فجأة، تطولها قذائف مدافع الهاون وطلقات الأسلحة النارية؛ فلاذت عائلته بابن عم لها يعيش في وسط المدينة. وبعد مرور أسبوعين، أدركوا أن القتال سيستمر أطول من المتوقع، وأنهم لن يتمكنوا من الرجوع إلى بيتهم في وقت قريب، وعندما نسفت عصابنا الإرجون Irgun والهاجانا Hagana بیت العدل غير البعيد عن منزل ابن عمهم، فقتلوا ستين شابا ممن يرعاهم قسم الشئون الاجتماعية، وكان بصحبتهم لاعب كرة ذو شعبية ضمن المسئولين عن هؤلاء الشباب، حينئذٍ أعتقد والدي أنه من الأفضل انتقال العائلة إلى منطقة أخرى مجاورة. وعن هذا الحادث الأليم، يصر المؤرخون الإسرائيليون على الزعم بأن الهدف من القصف كان مقرات قيادة اللجنة الوطنية، ويؤكد والدي – الأكاديمي المؤرخ صاحب المعرفة الموسوعية ومكتبة ضخمة عن النزاع الفلسطيني الإسرائيلي – أن الهدف لم يكن في حقيقة الأمر هذا؛ لأن اللجنة الوطنية كانت قد انتقلت قبل ذلك بأسبوعين. يؤكد والدي أن الهدف كان إرهاب أهل يافا، وقد تحقق الهدف.
في الكتاب الذي حرره والدي عام ۱۹٧١ تحت عنوان تحولات فلسطين The Transformation of Palestine نشر فيه مقالة إرسكين تشايلدرز Erskine Childers، وهو صحفى إيرلندي متميز، يصف الأمل الصهيوني – منذ أوائل القرن العشرين – في أن يختفى الفلسطينيون بأنه “أمنية مكنونة“. واستنادًا إلى مصادر وثائقية تتألف من إذاعات راديو صهيونية وبريطانية وعربية، يصف تشايلدرز ما حدث في يافا في الأسابيع السابقة مباشرة على الغارة. وقد صدمني الوصف حين قرأته للمرة الأولى. كان من الصعب على تخيل أن والدي وعائلته قد عاشا هذه الأحداث. ولم تحدثني جدتي عن ذلك أبدأ، فحكاياتها لي عن الماضي كانت عن ليلة زفافها، وشذرات عن السحر والحياة اليومية في فلسطين، لا غير. بدأ الهجوم، فيما يروى تشايلدرز، يوم ٢٥ أبريل بوحدات من الإرجون السرية تبعتها وحدات من الهاجانا الرسمية. ومع أن يافا لم تكن ضمن نصيب اليهود في قرار الأمم المتحدة بالتقسيم، فإنهم قذفوها بمدافع هاون 3 بوصة، ولم يكن التصويب محكماً، غير أنه أحداث دمارًا نفسياً. كانت يافا في مجال توجيه قنابل برميلية، وقد وصف ذلك ضابط احتياط إسرائيلي لمجلة سلاح البحرية الأمريكية المتخصصة، قائلاً إنها ضممت خصيصا لضرب المدن العربية، وكانت القنابل تتألف من “مواسير، أسطوانات خشبية أو معدنية محشوة بخليط من المتفجرات والبنزين، مزودة بإطارين من المطاط وتحتوي على فتيل تفجير“، ثم تُدحرجُ في الشوارع حتى ترتطم بالحوائط ومداخل البيوت، فتنفجر قاذفة اللهب بطريقة تتزايد تسلسليًا (Childers، ص۱۸۷) كما كان يستخدم في إرهاب أهل يافا نفسيًا عربات مزودة بمكبرات صوت تبثُّ “أصواتًا مرعبة” ، كان قد تم تسجيلها من قبل، عبارة عن صرخات نساء وعويل وندب، وصفارات وأجراس ونداءات تحذيرية باللغة العربية، كي يجرى أهل يافا فينجون بحياتهم (Childern)، ص ١٨۸) كما كانت النداءات تذكرهم بمذبحة دير ياسين، وأثناء ذلك، سلبت القوات اليهودية، ونهبت، كل شيء في طريقها (Childern، ص۱۹۱).
كان والدي – طالب المدرسة الثانوية – قد تطوع في اللجنة الوطنية التي أنشأتها المدينة على عجل للدفاع عن يافا، وبلا تدريب، شأن العديد من أفراد القوة العسكرية الصغيرة التي يصل عددها إلى ألف وخمسمائة متطوع، كان من نصيبه سلاح قديم غير مناسب للقتال. وقال والدي إن هذا السلاح كان مفيدًا مرة واحدة فقط؛ كان ذلك أثناء بحثه عن شقة تسكن فيها أمه وأخته، طرق الأبواب بحثًا عن شقة خالية، وفي نهاية المطاف سمع عن وجود شقة، فتوجه إلى السمسار ، وشرح له بشكل ودود حقيقة موقفهم الذي لا رجاء فيه، ولكن الرجل رفض تأجيرها لهم بحجة أن الشقة تخص زوجين يقضيان شهر العسل، فرجاه والدي أن يؤجرها لهم مؤكدًا أنهم لا يحتاجونها إلا بشكل مؤقت، وبمجرد أن يرجع الزوجان سوف يخلونها، وكان السمسار عنيداً، وبحركة مرارية أظهر والدي السلاح من تحت جاكتته، فتمت عملية التأجير. كانت شقة حديثة، وفيها – لأول مرة بالنسبة لهم – حوض استحمام وحمام أفرنجي، ولكن أمه لم تشعر فيها بالراحة. ولم تمتد إقامتها فيها طويلاً؛ فالذعر كان شديداً، وبخاصة بعد استمرار يافا في الانهيار، وبعد أن وصلتهم أخبار عن مذبحة قرية دير ياسين.9 ثم تقرر أن تذهب النساء والأطفال إلى نابلس في انتظار أن تهدأ الأحداث ومثلهم مثل الزوجين اللذين كانا يقضيان شهر العسل، لم يعودوا أبداً.
قضى والذي أيامه ولياليه “مدافعًا عن يافا، وكان عمره تسعة عشر عاماً، متنقلاً بين العديد من الأماكن فيها، فصارت هذه الأماكن جزءًا من جولته في المدينة. وبدون الحس الجغرافي، لم تكن تعنى الشوارع والمباني لي أي شيء، ومرة أخرى عجزت عن الربط بين صورة والدي ذي الشعر الأبيض والبيريه الأسود وموسيقاه الكلاسيكية التي يبثها مذياع السيارة، وصورة هذا الشاب الذي يحدثني عنه. بذلت مجهودًا حتى أتمثل الصورة القديمة بالأبيض والأسود لشاب بشارب داكن وعيون لامعة في هذا المكان. ولكن كيف يمكنني ذلك؟ كانت صدمته في فلسطين تعيش بين جوانحي بوصفها مجرد تماه جريح في الولايات المتحدة المعادية حيث ندر التعاطف مع الفلسطينيين، بل وسادت أكاذيب وعدوانية عما حدث. تذكر والدي، في نهاية شهر أبريل المشؤوم هذا، أن الطعام كان ينفد، والمخابز قد أغلقت أبوابها، بينما كان مدفع هاون موجهٌ من تل أبيب يهاجم المدينة بلا تزقف. في ذلك الوقت، كانت الشوارع في معظم المناطق المجاورة خالية. وكان الإنجليز يحمون قوافل الناس النازحين. أما الشباب الفلسطيني فكانت مغادرتهم المدينة عن طريق البر تنطوي على مخاطرة كبيرة؛ إذ كانوا عرضة للاعتقال أو ما هو أسوأ، ولم يكن الإنجليز بقادرين على حمايتهم أو راغبين، لم يكن يوجد سوى البحر.
ثم، وهو في جولته، أشار والدي إلى مكان التي فيه، هو وصاحبه، سلاحيهما غير الصالحين حين همُّوا بمغادرة المدينة، كان قد فقد وسيلة الاتصال بأخيه الذي كان على جبهة أخرى، أما بقية عائلته فرحلت. في صباح الثالث من مايو، أدرك الاثنان حشدًا غفيرًا من الناس على صندل بحري صغير يقلع بعيدًا عن الميناء باتجاه سفينة أشيع أنها سفينة النجاة الأخيرة. كان الصليب الأحمر قد أرسلها وكانت ستتجه إلى بيروت، وعندند، سری بينهما التردد وساء لا نفسيهما ما الذي عليهما عمله، عادا إلى الشاطئ، كانا ملتحقين باللجنة الوطنية التي كانت تحث الناس على عدم الرحيل مؤكدة أن المدينة آمنة، واعدة الناس بأن الإمدادات في الطريق (ولم تكن هنال إمدادات)، وحين عادا أدركا أن أحدًا لم بيق. قال والدي إن إطلاق النيران كان يأتي كله من الجانب الآخر، وعد الساعة الثالثة بعد الظهر ، رأوا سحابة دخان تنبعث من مدخنة السفينة، كانت السفينة تستعد للإبحار والرحيل. تخليا عن أسلحتهما وجريا للحاق بالزورق الأخير وعلى المركب، قابلا بحارًا بلجيكيًا ظلت كلماته تتردد أصداؤها في اذن والدي على مدى خمسين عاماً: كيف هان عليك أن تترك بلدك؟” ظل والدي يردد هذه الكلمات لنفسه مرات عديدة، مع أنه كان يعرف ألا خيار له.
تنتهي جولة يافا دائمًا بالبحر. كان والدي يتجاهل اللغة العبرية التي يتكلمها الناس من حوله، ويتجاهل أزواجًا من الشباب بالبنطلونات الجينز المحرقة يتغازلون ويضحكون، ويتجاهل عائلات من اليهود الشرقيين محدودي الدخل خرجوا للنزهة في الهواء الطلق. رفض أن يذهب إلى مقهى الشاطئ الإسرائيلي، فأعدَّ لنفسه مكانًا : الرمال، ثم ذهب يمارس هوايته في العوم. كنت مع طفلي على الشاطئ، كانا يرتديان قبعتين مضحكتين تحميهما من أشعة الشمس، وأدركت أنه يريد منى إظهار الإعجاب بروعة المكان. أعرف أنه يعشق البحر الذي نشأ على العوم فيه، وكان من الطريف أن يقول لزميل له عام ١٩٩٩: “نشأتي كانت بالقرب من البحر، لم أكن مقيدًا بالمدينة، ولم أكن أتقيد بجماعتي التي انتمي إليها، كنت جزءًا من عالم واسع حقًا، كنت أحلم على الدوام برؤيته (Ahmed-Fararjeh، ص۲۲). وقد كان: اضطر إلى الخروج ورؤية هذا العالم.
…
كنت طوال حياتي أرقبه وهو يحدق في البحر من الإسكندرية، من بيروت، من أسبانيا، ومن المغرب، ومن نيوجيرسي، ومن الكاريبي. كنت أراه يسبح، مادًا أصابعه الطويلة، وفيها خاتم زواجه يلمع في الشمس، أكتافه العريضة تخترق الماء عندما كان يعوم بطريقته المفضلة سباحة الفراشة (ضربات متكررة تشبه رفرقة الفراشة). وقد جعلنا – كلنا – نعشق البحر. أما هنا، في يافا، فقد أطل على المكان الذي عده – بطريقة ما وبإصرار – بيته، حاله في ذلك من حال الرجل في ملصقه البني الداكن، وكنت – أنا – أستشعر أننا دخلاء. جواز سفره الأمريكي ذو اللون الأزرق هو الذي سمح له بالجلوس على الشاطئ حيث كان يسبح طفلاً مع الدلافين وسلاحف البحر ذلك الشاطئ الذي كانت أمه تراه من نافذتها وهي تشرب قهوتها. شعره الأبيض الذي لا ينذر بخطر، والقمصان ذات الياقة المرفوعة هي التي سمحت له أن يُصنف بوصفه سائحًا أجنبياً، وليس : “مواطناً” عربيًا خطرًا أو محتقرًا وفي المكان المخصص للسيارات على الشاطئ، سمحت له الألواح المعدنية الصفراء – التي تشير إلى أن سيارته ذات رخصة إسرائيلية والتي منحته حرية الحركة – بأن يقف بحذاء الآخرين دون أن يلفت الانتباء (السيارات المباعة للزائرين المؤقتين الذين لا يدفعون ضرائب تأخذ دومًا لوحات معدنية مرخصة مثل بقية السيارات الإسرائيلية، مما يميزها عما عداها من السيارات في الضفة الغربية أو غزة). تلك هي الألوان الساطعة في عودته إلى يافا وليس اللون البني الداكن في ملصقه.
الذكريات بوصفها تاريخاً
وبوصف والدي أكاديميًا مهووسًا بفلسطين، كان كثيرًا ما يفكر في أهمية جمع ذكريات الناس عن الخروج الإجباري عام 1948. وتبدأ مقدمته لسيرة الحياة الرائعة – التي طلبها من صديقه القديم وزميل المدرسة الثانوية رجاني بُصيلة – بتعليق عن النكبة، حيث كتب يقول: “مع أنها كانت حدثًا قويًا وفاجعًا، ومع أنها شكلت وجهًا أساسًا“.10 كما كتب عام ۱۹۸۱، علينا أن نقوم بفهم الخروج، “وإن كان في هذا الوقت المتأخر“؛ حتى نفهم التجربة الفلسطينية، حتى نكون شهودًا على تاريخ مسكوت عنه، حتى نعيد بناء هذا الحدث بكل تعقيده، وكان يهتم، دائمًاً، بالمشهد في اتساعه، فكتب يقول: “نعرف أن ملابسات الخروج تختلف اختلافًا كبيرًا من منطقة لأخرى في فلسطين ومن طبقة اجتماعية لأخرى” (Busailah، ص۱۲۳).
تختلف سيرة الخروج الدامية، من مدينة اللد، التي عاشها بصيلة في يوليو عام 1948، عن حكايات والدي الخاصة بالقتال الذي أخفق دفاعًا عن يافا، ثم الهروب عن طريق البحر، تحتوي سيرة بصيلة على أشكال من الفهم السياسي لدى شاب راديكالي في المدرسة الثانوية، مع أوصاف لمواقف عاشها بنفسه وأخرى رويت له. قذفُ المدينة التي أغار عليها المقاتلون الصهاينة بالقنابل، شائعات عن المذابح، الخروج الإجباري الذي اضطر إليه سكان هذه المدينة جميعهم وهم حياري لا يعرفون إلى أين يتجهون، وكان يُعتقد أن هذه المدينة لن ينال منها أحد. لم تكن مدينة اللد ضمن حدود المنطقة المخصصة للصهاينة في قرار الأمم المتحدة بالتقسيم، غير أنها تعرضت للهجوم وطُرد سكانها في ثانية. حربين قصيرين مع القوات العربية دخلتهما دولة إسرائيل المعلنة حديثاً. ويصف بصيلة عملية طردهم في الصيف ومسيرتهم الطويلة إلى المجهول بتعبيرات توراتية: إلى البرية. وفي نهاية هذه المسيرة، على مدى يوم رهيب، انحرفوا إلى قرية عربية تسمى نعلين، على بُعد خمسة عشر ميلاً بما فيها من تعرجات وانعطافات حتى يتجنبوا المناطق المعادية. وتنطوى ذكريات بُصيلة على لحظات من الخوف الشديد قبيل الرحيل؛ إذ حين اقتحمت القوات اليهودية البيوت، كان يختفي خلف حصيرة مطوية، يرتجف من الخوف، وكانت طلقاتهم النارية تصاحبها صرخات النساء الفزعات، وتهجس ذكرياته، أيضاً، بأحداث تنمُّ عن قسوة قلبه ونكرانه الآخرين، كما حدث بعد وصوله إلى نعلين، حيث شق طريقه عائدًا خلال الجموع المتخلفة عن الركب ليحضر قليلاً من الماء لصديق حميم وأمه، وكان يخفي الماء عن العطشى الذين يلتمسونه بشكل يدعو إلى الشفقة.
يتذكر بُصيلة الأحداث التي عاشها بنفسه والتي سمعها عن الآخرين، ولأنه كفيف، فإن المزج بين التجربة المعيشة وما يرويه الناس له، مما يشكل ذاكرتنا، أکثر كثافة عنده. تصف سيرته لهيب الشمس والتكالب على الماء في الآبار الموحلة، كما تتضمن كلامًا عن الأجداد الذين تُركوا لأنهم لم يقدروا على مواصلة السير، وعن “أجساد خبت فيها الحياة” وأطفال تُركوا لمصيرهم في الخنادق. كتب بُصيلة يقول: “بدأت أستوعب رويدًا رويدًا من خلال الصراخ وما يتناهى إلى من جمل متقطعة أن بعضًا ممن لقوا حتفهم تدلت أسنتهم، وقد علاها التراب والزغب، لم أكن أرى، مما جعلني أشعر بفزع أكبر من غيري. ثم كتب يقول: “وفيما بعد، قال أحدهم – أظن حين وصلنا إلى نعلين – أنه رأى طفلاً لا يزال حيًا على صدر امرأة ميتة، كان من الواضح أنها أمه (الأم وطفلها يشبهان ما رُوى فيما بعد عن أمٍّ من دير ياسين شوهدت في القدس مع طفلها المقتول على صدرها)”.
وفي محاولة العثور على النبرة المناسبة، حوَّل بُصيلة – فيما بعد – هذا الوصف الموجز إلى صورة شعرية، إذ أبدع من هذه القصة الأخيرة قصيدة أسماها “ذكري بعد أربعين عامًا في البرية» ” Remembering After Forty Years in Wilderness ، ولم تعد كلمة البرية تدل، الآن، على الطريق الذي كان يتعثر فيه إلى نعلين فحسب، بل على عمره الطويل في المنفى، في الكويت والأردن والولايات المتحدة:
على وجه أوروبا سديم
وكانت أمريكا آنذاك في مخاضها
وقال الله ليكن نور
ولما كان نور
كان حشد من الناس يمشون على الطريق إلى نعلين
وكانت الريح تتماوت
وحلمتان میتتان
وكان رضيع يدفن وجهه بينهما
ينتظر الرضاعة.
كانت شمس يوليو قاسية آنذاك
تشهد على ما حدث، بينما تجلت في الربيع
رحمة الرب وأمر بأن يكون نور
ولما كان نور
وفي موكب على مشهد من مدينة الله
كان طفل من دير ياسين
يضوع منه عبق زهر البرتقال
راقدًا على بطنه، مينا بين حلمتين تتلهفان على إرضاعه.11
لم يكن والدي قلقًا بشأن بنيان الذاكرة الفردية المتشظي، ومساحات الصمت وانحناء الذاكرة بفعل الزمن الحاضر أو بفعل المزج بين المعيش والمسموع، وهو القلق الذي ينتاب التحليل الأكاديمي الراهن للذاكرة الفردية أو الجمعية. لقد رأى في السير الفردية، شأن سيرة صديقه، مادةً خامًا يشتغل عليها تاريخ التجربة الفلسطينية، فكان يحثُّ الناس على الكتابة والحكي، ولو أنه كان يركز على أصدقائه المثقفين أكثر ممن كانوا قروبين وأسهموا في كتب تذكارية من قبيل الكتب التي ناقشتها دافيز Davis وسلايموفيتش Slyamovies، أو النساء في مخيمات اللاجئين ممن حكين قصصين لباحثين من أمثال روزماری سایغ Rosemary Sayigh، وديانا ألان Diana Allan وایزابیل همفریز Isabelle Hymphries ولالة خليلي Laleh Khalili (وكل هؤلاء ضمن ،Sa’di and AbuLeghod eds. Nakba). لم يكتف والدي بحكاية قصصه لأولاده بل نشرها في جرائد ومجلات وحكاها لمحاورين بمن فيهم احمد فرارجه الذي جمعها في كتاب. ولعله من العوامل التي أعانته على تنشيط ذاكرته – شأنه في ذلك شأن فلسطينيين آخرين – المشروعات المعنية بإحياء ذكرى مرور خمسين عامًا على النكبة. وفي خريف حياته، عمل أيضًا على مقترح يتعلق بإنشاء “متحف الذاكرة الفلسطينية“، وهو مشروع يبدو أكثر وهمية، الآن، بعد أن أصبحت الدبابات الإسرائيلية تشق طريقها على مقربة من شقته القديمة (في رام الله)، وبعد موجات الاعتداءات الإسرائيلية منذ ٢٠٠١ التي دمرت ما تبقى من أمل ضعيف عندما كان والدي يحيا من أجل مرحلة هدوء وسيادة فلسطينية، وإن كانت مبتسرة. كان والدي يريد من هذا المتحف تقديم معروضات إثنوجرافية وأركيولوجية وفنية لإظهار استمرارية التاريخ الفلسطيني وحركته الدائبة. وكان يؤكد باستمرار أن هذا المتحف لن يكون – قطعًا – على غرار متحف المحرقة. فالنكبة يخصص لها، عن عمد، حيز صغير. وتكتمل هذه المعروضات بأرشيف الوثائق الأساسية التي يحتاج إليها البحث في التاريخ الفلسطيني.12
تحويل البقايا المادية إلى تذكارات
دومًا يكون لموت الأب وقع عسير على الابنة. غير أن هذا الأب حين يوقف حياته على شيء أكبر من العائلة، فلا ريب أن موته يتخذ معنى أكبر من المعنى الفردي، مات أبي يوم ٢٣ مايو ٢٠٠١، وهو في كنف عائلته وأصدقائه. وفيما يخصني، كان الوقع الأول لموته وقعًا شخصيًا قاسياً، ومثبتًا على الأشياء العينية (التثبيت بدلالته في التحليل النفسي). لقد كان على ظهر كرسيه المتحرك، الأسود ذي العجلات الحمراء اللامعة، بنطلونه الخاكي، وكما كان يشير له مقلدًا اللكنة العربية، ساخرًا من الذات بتنكيت كاريكاتوري (عن عدم تمييز الناطقين بالعربية بين الباء المهجورة والمهموسة b/p): “بير أوف بانتس” bair of bants (عوضًا عن بير أوف بانتس pair of pants). كان الحزام يتدلى معوجاً. وعلى طاولة الحمام كوز العلاقة لم يمس وقد صار ماؤه باردًا في كل أرجاء شقته في رام الله، ترك علامات على حياته المنقضية: أسطوانات موسيقى فيفالدي التي كنا نصر – أنا وأخواتي – على تشغيلها، بينما كان شخص ذو قرابة بعيدة يلح على ضرورة تشغيل تلاوة قرآنية. كانت هناك أسطوانات أوكسجين، اثنتان من الحجم الكبير بجوار سريره، وأربعة من الحجم الصغير تصطف في الصالة، وواحدة على عربة التروللي عليها نجمة داود، مما يعني أنها مشتراة من “الجانب الآخر“. كان في غرفة والدي الكثير من الأشياء الصغيرة، التي تجعل الابنة تبكي: ساعته، نظارته، حافظة نقوده، صندله، فاكهته المجففة، أكوام من أوراقه البحثية.
كل شيء توقف الآن، رعاية والدي بشكل يومي توقفت لن تُعد له عمتى بعد الآن قهوته العربية فتأتيه بها في فنجان أخضر يميل إلى الزرقة ومزخرف يدويًا، ثم تسمع إطراءه لها، أنا وأخواتي، وقد تركنا عائلاتنا وأعمالنا كي نأتي إلى رام الله، لن نساعده بعد الآن في ارتداء ملابسه يوميًا، لن نحثه بعد الآن على تناول إفطاره. ولن تفتح بعد الآن الباب لضيوفه الكثيرين، ولن نشتكي بعد الآن من كثرة الضيوف خوفًا على صحته. لن نقول له بعد الآن إن الوقت لم يحن بعد لتناول الحبوب المسكنة للألم، لن نعطى بعد الآن تعليمات الطريقة السليمة لإعداد شوربة الدجاج. لن نذهب بعد الآن لشراء الجرائد العربية والإنجليزية له، التي أصر عليها وإن لم يعد لديه قدرة على قراءتها.
وأما بعد موته مباشرة، فها نحن نغرق في تفاصيل الروح الشعبية الطقسية: أجلسنا صديقه سهيل، وأخذ ينبهنا ويشرح لنا بجدية أنه توجد عادات معينة علينا إتباعها، كما لو أننا لا نعرف شيئًا عن العالم العربي. وبينما كنا نحن – أولاده الذين تتفاوت درجة إلمامهم بالمجتمع الفلسطيني، وإن لم يكن لنا تقريبًا أية تجربة في فلسطين – نجلس حزاني، تكفل أصدقاؤه بعمل كل شيء، كان عليهم أن يقوموا بعمل تسوية مع عالم الجماعة الفلسطينية الغارق في السياسة أثناء الانتفاضة، وهو عالم لم نكن مهيئين للتعامل معه. كتبوا شهادة موته، وحصلوا على شهادة دفته من الوزارات الإسرائيلية المختصة. قاموا بعمل ترتيبات الجنازة في يافا، وكذلك ترتيبات العزاء الذي يستغرق ثلاثة أيام في رام الله، وصلت كراس بلاستيكية إلى الشقة، ثم رُصت في صفوف بموازاة حوائط غرفة المعيشة وغرفة السفرة والشرفة الواسعة. نظفت المناضد وأعدت القهوة السادة. علقت صوره على هيئة ملصقات. وفي المطبخ تكدست القهوة العربية وصناديق زجاجات المياه، وعلب مناديل ورقية، عرفنا أنها هدية من السلطة الوطنية الفلسطينية، وكان ذلك مما فاجأني. سيأتي عرفات من المطار مباشرة بين لفيف من المعاونين والحرس ليقدم تعازيه في هذا الأكاديمي الفلسطيني الذي بذل الكثير من أجل القضية. وُضعت الإعلانات وأجريت مقابلات صحفية، وأعدت قائمة بالمتحدثين – على سبيل التأبين – في هذه المناسبة. جاء أُناس وذهبوا علية القوم، جبران صحفيون، سياسيون، أصدقاء من المعارف الشخصيين ومن المثقفين. وعندما وصل عمى وابن عمي من الأردن حملوا عنا واجب تلقى العزاء؛ فهربنا إلى غرفة نوم والدنا، شاعرين بحضوره، شاعرين بالفراغ.
ثم رأينا والدي مرة أخرى يوم الجنازة، كان جسده هزيلاً، يرقد في غرفة صغيرة جامدة ذات أبواب معدنية خضراء تقع خلف مستشفى المقاصد الإسلامية في القدس، وقد جُهِّز وفقًا لطقوس الدفن المعتادة. كان ملفوف في أكفان بيضاء تحدده فبدا ضئيلاً ونحيفًا. وحين ذهبت لألقي نظرة على وجهه – وكان جزء صغير منه مكشوفًا – وجدتني أبتعد فوراً، كان وجهًا بلا حياة؛ فبدت النهاية حادة في ماديتها.
…
وفي الوقت نفسه، تحول أبي إلى رمز عند الآخرين. صحيح أن إجراءات التكفين تمت بوصفه مسلمًا، ولكنه صار أيضًا بطلاً قوميًا عند كل الناس. بدأنا في انتظار طويل حتى يتجمع الناس من أجل الذهاب به إلى يافا؛ فالطقس جماعي. وأثناء ذلك، كنا نترقب بتوتر أية تحركات غير عادية. ونتساءل إن “كانوا” سيمنعونا من أحد جثمانه، ثمة رجل يصورنا بكاميرا فيديو، وقد غمرتنا راحة نفسية بعد أن عرفنا أنه من تلفزيون الجزيرة، وهي قناة فضائية عربية، لم تكن معروفة خارج العالم العربي حينئذٍ، فقد كنا في شهر مايو قبل أشهر قليلة من أحداث ۹/۱۱ التي دفعت بهذه القناة إلى دائرة الوعي الغربي، وسبب هذا الترقب المتوتر الذي انتابنا أنه في المساء السابق، والبيت ممتلئ بالمعزين، تلقينا مكالمة تليفونية محبطة. كان المتكلم يتحدث بالعربية، وبعد أن قدم عبارات العزاء التقليدية طلب أن يتحدث مع الشخص المسئول عن ترتيبات الجنازة، وعرف نفسه بأنه من الاستخبارات الإسرائيلية، شين بيت Shin Bet. ضعفت قدماى عن حملي، ولم أفكر حينذاك إلا في حظي لكوني في منطقة واضعة للسلطة الفلسطينية (لا إسرائيل). كل ما يتمكن هذا الضابط من عمله مكالمة تليفونية، ولم يأت ليطرق الباب أو يهدمه، ولم أكن أتصور الإسرائيليين إلا من خلال صور الأبيض والأسود الباهرة للكوماندوز الفرنسيين الاستعماريين الذين يهدمون الأبواب، كما في فيلم بونتيكورفو Pontecorvo اللامع معركة الجزائر Battle of Algiers. ولو كان الحدث بعد أشهر قليلة، عندما احتلت الدبابات الإسرائيلية رام الله مرة ثالثة، لكان بإمكان هذا الضابط أن يقتحم حزننا الشخصي.
وعلى الفور، أعطيت سماعة التليفون لأصدقاء والدي. سمعت مناقشة حامية تأتي من أقصى غرفة النوم. كانوا يتكلمون عن أنه لن يسمح لهم بدفن والدي في يافا. كيف عرف الأمن الإسرائيلي بالموضوع؟ أذاع الراديو الفلسطيني والجرائد المحلية كل شيء: أول لاجئ فلسطيني يُدفن في مسقط رأسه. وأكد زملاء والدي أننا نمتلك الوثائق السليمة كلها: شهادة الوفاة من القدس وتصريح الدفن من الوزارة الإسرائيلية المختصة بفضل “أصدقائنا العرب الإسرائيليين الذين ترعرعوا في النظام الإسرائيلي. ولكن ضابط الأمن كان متشبثًا بموقفه. ثم قال إنه سيعاود الاتصال مرة أخرى. اجتاحتنا حالة انفعال عميق. وبدأ الرجال يفكرون في السيناريوهات المحتملة، وكلها كانت مفزعة بالنسبة لي: قد يقومون بتوقيفنا ونحن نأخذ الجثمان من المستشفى، أو في أثناء الطريق إلى يافا، أو على مشارف الجبانة، فهل من المعقول أن نواجه الجيش الإسرائيلي وجثمان والدي يرقد تحت وهج الشمس؟ ماذا سنفعل؟ اقترح البعض أن أتصل بالقنصل العام الأمريكي في القدس. فما من سبيل آخر. فاتصلت به، وشرحت المشكلة التي نواجهها. كانت أمنية والدي أن يدفن في يافا، ومعنا كل الأوراق السليمة. أثني القنصل على والدي وقدم العزاء، ثم أكد لى أنه سيتصل بالسفارة في تل أبيب، ولما لم نتلق مكالمة أخرى من ضابط الشين بيت الاستخباري في هذه الليلة اعتقدنا أن هذا فأل حسن. كنت أريد لوالدي أفضل شيء يمكن عمله، أما الآخرون فكانوا على استعداد لاستغلال هذه المناسبة من أجل تأكيد حقوقهم في مواجهة التحدي الإسرائيلي.
في صباح الجمعة، خلف مستشفى المقاصد، لم يكن يوجد سوى الناس المتجمهرين، وفيما عدا ذلك لم يحدث شيء ، فشعرت براحة نفسية. توافد المزيد من الناس: وجوه أصدقائه المألوفة، وكنا نعرفهم، وآخرون كنا نراهم في المنزل على مدى الشهور الماضية. أسعدني أن أرى بعض من أعدهم أصدقاءً، وهم أكاديميون من جيل الشباب تحدثوا معنا بالإنجليزية. وكان هناك آخرون كثيرون لم تكن تعرفهم. جاء أناس ليصافحونا. أما الأصدقاء فاحتضن بعضهم بعضًا، ووقف رجال عند مدخل غرفة الطوارئ ثم بدأ التهامس حين وصلت شخصيات بعينها علية. القوم أو مثيرة للجدل. جلسنا مع البعض داخل المستشفى، تحت أسقف أسمنتية عارية معروشة باسلاك ولم يكن في مقدوري أن أمنع نفسي من الشعور بالرثاء لهذا المستشفى العربي الفقير المتهالك، الذي يختلف تمامًا ، مستشفى هداسا Hadassah على مستوى المهارة المهنية والنشاط، حيث ذهب والذي من أجل لقاءاته الصعبة الأخيرة مع اختصاصي الرئة الحاذق واختصاصي الأورام السرطانية غير الودود.
وأخيرًا، حان وقت التحرك، عربة نقل بيضاء مغلقة، بلا أية علامة عليها، توقفت فجأة أمام المشرحة، ونُقل إليها النعش، أنا وأخواتي، تشبث كل منا بالآخر ونحن نحدق من شباك العربة إلى هذا الصندوق المنعزل الخالي من أي لون. استقلت جموع الناس سيارات وأتوبيسًا جاء من رام الله، فصنعوا موكبًا طويلاً. سرنا ببطه، ونحن نلتفت يمينًا ويساراً، نترقب ظهور عربات الجيش الإسرائيلي الجيب أو البوليس. ولكن الطريق كان خالياً. سمعنا أن سفير الولايات المتحدة قد طمأن، مرة أخرى، شخصًا ما بأنهم سيراقبون الموقف. وشعرت بالمفارقة: والدي – بوصفه مواطنا أمريكيا – تحميه الحكومة نفسها التي كان يلومها باستمرار ؛ لأنها تدعم قاتلي أهله وتسلحهم. ولكنى كنت أشعر بالامتنان.
سارت السيارات المسافة طويلة، على طرق عمومية، وخلال طريق خلفي في القطاع الصناعي يفضي إلى القسم العربي من يافا. وفي منطقة قريبة مزدحمة، تركنا سياراتنا ومضينا. على الجدران ملصقات تتضمن مقالات من الجرائد عن والدي وملخصًا عن مؤهلاته وخبراته، أدركت أن الأستاذ شخصية محترمة في هذا المجتمع. وكانت لوالدي خصوصية بسبب أسلوبه الجديد. اختراق عدم فاعلية الاعتصامات، تجاهل حظر التجوال، رفض أية حدود بين الفلسطينيين – سواء في الشتات أو في المناطق المحتلة أو داخل إسرائيل – الرغبة في أن تقوم المجتمعات بدور كما كان يدعو أثناء سنواته في الولايات المتحدة.13 كنا في مركز جمعية يافا العربية، وهي المكان الذي حاضر فيه والدي جمهورًا كان مولعًا به إلى أبعد الحدود. هذا المكان بقايا ما كان مدينة فلسطينية ذات يوم. كان يرأس الجمعية بعض الرجال الذين تحملوا – بكل تفان – عبء إسداء العون في ترتيبات الجنازة. كان دعم والدي واهتمامه بأنشطتهم يعنى لهم الكثير (وضع اليد على المباني المصادرة، إخلاء مداخل الطرق إلى البيوت المسدودة بأنقاض تل أبيب ومخلفاتها، الدفاع عن العرب المسحوقين في المناطق المتهدمة وتقديم خدمات اجتماعية للمحتاجين منهم، وبخاصة أنهم يعيشون في مستويات تختلف عن المستويات الاجتماعية المرتفعة في المناطق التي يعيش فيها اليهود).
وضع النعش على منضدة ضخمة في غرفة صغيرة على اليسار. وكانت توجد أكاليل من الزهور. بدا النعش فجأةً، وهو ملفوف الآن بالعلم الفلسطيني، نابضًا بالحياة. لم يعد والدي الجثة الهزيلة التي رأيناها من قبل. لقد اكتسب موته معنى كبيرًا. وفي وقت صلاة الظهر توقفت كلمات التأبين التي كنت أسمعها بالكاد. اندفع الناس من الأبواب كي يلحقوا النعش، حمله الرجال عبر الشوارع الجانبية المؤدية إلى مسجد العجمي، تدافعوا ليأخذوا دورهم في حمل النعش. وكان ابن اختى بينهم، هو الوحيد الذي يربط شعره خلف رأسه مثل ذيل حصان، لكنه الوحيد أحب والدي على الوجه الأمثل، إذ عاش معه في رام الله لمدة عامين. وفي طليعة الموكب رفع بعض الشباب الذي العلم الفلسطيني لواءً. وكان الناس يطلون من الشرفات العالية.
وعند المسجد، حملوه صاعدين السلالم. تساءلت متى كان آخر مرة في مسجد، لكن هذه هي المسيرة عند الموت: كان المجتمع يستوعبه والجماعة تسترده. بقيت كل النساء خارج المسجد، غير أني لاحظت أن عددًا من الرجال بقوا أيضًا خارج المسجد. وهم أكثر ممن دخلوا. فسألت زميلاً له من جامعة بيرزيت: “هل كل هؤلاء مسيحيون؟” فأجابني بابتسامة: “لا، يوجد الكثير من الماركسيين اللينينيين!”.
وقفنا تنتظر. كانت الشمس حامية لكننا بدأنا نشعر بتحسن، فقد أمكننا رؤية البحر الآن. ثمة فتاة مراهقة ذات شعر طويل وعيون كبيرة مثل عيون الوعل، ترتدي تي شيرت وبنطلونًا من الجينز، أقامت صداقة مع أختى أثناء هذا الوقت. قالت إنها لم تكن تعرف والدنا، ثم أضافت: “ولكنني لأول مرة في حياتي أشعر بالفخر لأني من يافا“. وفي حقيقة الأمر، كان يوجد كثير من الناس ممن لم يعرفوا والدي، على ما خمنت، وقد جاء هؤلاء من أرجاء فلسطين كلها، وبصفة خاصة من القسم الفلسطيني المحتل في 1948. كان يوجد، أيضاً، قليل من اليهود الإسرائيليين المناهضين للصهاينة، وقد كان والدي بالنسبة لهم جسرًا مهماً. ثم بدأت أفهم أن هناك الكثير من الناس لم يتمكنوا من المجيء! وهم الذين يحملون بطاقات هوية من الضفة الغربية أو غزة، إذ لم يكن مسموحًا لهم عبور نقاط التفتيش إلى “إسرائيل“. وهناك، أيضاً، صديق حميم من أصدقاء والدي، وهو أستاذ كان قد انتخب في الهيئة التشريعية الفلسطينية، رفضوا التصريح له بمغادرة غزة لحضور هذه المناسبة، على الرغم من أن زوجته الأمريكية السابقة حاولت التوسط له.
عدما انتهى المصلون، بدأنا في التحرك. النعش محمول على أكتاف أمواج من الرجال، يتأرجح تأرجحًا قوياً. وفي المقدمة، من بعيد، يلوح العلم الفلسطيني، وهو يتمايل تمايلاً متحديًا. موكب ضخم من الناس السائرين معًا صعدون مرتفعًا وأياديهم متماسكة، يتحدثون وهم شاعرون أنهم جزء من كل. مررنا بمطاعم السمك التي كان أني بحب أخذ ضيوفه إليها، الأسماك مثل البرتقال عنده. كانت جزءًا من المذاقات العالقة بحس الانتماء إلى ، وهي مذاقات أقوى من حلوى المادلين المشهورة عند بروست Proust. المتفرجون على المركب يرقبونه وقد المتهم الحيرة؛ لبعض الأطفال يلوحون معتقدين أنه موكب استعراضي. يعيش الآن كثير من الإسرائيليين في المناطق العربية من يافا، والبعض يستمتع ببيوت مرممة ترميمًا جميلاً بالبلاط والأقواس العربية، ولو أن عمتي ستنهار عندما تكتشف ذلك، فيما بعد، ونحن في طريق العودة إلى يافا بعد أسبوع. على جانبنا السفلي الأيمن يبدو البحر متألقًا، شمس الظهيرة تسقط على راكبي الأمواج المتزلجين الذين خرجوا يستمتعون بالنسيم العليل. كان الإحساس بالديجة شديدًا. أناس كثيرون يمشون معًا خلف نعش يلفه العلم الفلسطيني، وكان مما يدعو إلى الدهشة أن أحدًا لم يمنعنا من دفن والدي في جبانة تطل على البحر في مسقط رأسه، يافا، كما تمنى.
كنت قد تأخرت عنهم، وعندما لحقت بهم في الجبانة رأيت بضعة رجال على مرتفع على يمين ثلاثة أشجار وبينما كنت أسرع علقت قدماي، وهي في حذائي المفتوح ذي الكعب العالي، بنتوءات قبور منهدمة وغصينات. أخواني وعمتي وقفن عند منتهى حشد الرجال. كنا ترقب والدي وقد لفه العلم، وجهه الصغير مكشوف، تراء الآن للمرة الأخيرة سحبوه من النعش. وضعوه على أرض محفورة للتو. عادت بقاياه المادية إلى أرضه، في بقعة من أجمل بقاع الأرض (فيما عدا البيوت المنهارة ومساحات من الأرض الفضاء والتشييد المتواصل لـ “مركز بيريز للسلام“)، على هذا الجزف بجوار شاطئه المفضل.
…
وبينما كنا نشق طريقنا خلال الجبانة، سألنا صديق حميم من أصدقاء والدي: “هل تريدون رؤية قبر جدكم؟“، تذكر عمى مكانه، فقد كان وهو طفل يذهب إلى زيارته كل أسبوع. كان قبرًا كبيراً، ولا يزال يبدو جديدًا يقف بارزًا بين فتات الأحجار. ويبدو أن أحجاره من نوعية ممتازة، فهواء البحر لم يؤثر فيه مع أنه كان قاسيًا على أصلب أنواع الأحجار، على جانب القبر قصيدة مكتوبة بخط منمق، وبالقرب من قاعدته رأينا اسمه: على خميس أبو لغد. مات بعد إطلاق سراحه بوقت قصير منذ أن اعتقله البريطانيون آخر مرة بلا تُهمٍ. وبالقرب منه تمامًا، كان قبر عمى الذي قتله الإنجليز قبل عام من رحيل العائلة، في 1948. وفيما بعد، عرفنا أن هذه الجبانة لم يدفن فيها أحد منذ عشرين عاماً.
حين ظهرنا من البوابة، ونحن نخطو عبر التراب والأنقاض، جاء الناس يعزوننا واحدًا فواحداً. كم كان عددهم؟ كانوا كثيرين جداً. فهل يعرف كل هؤلاء الناس والدي؟ أم أنه كان رمزاً: ابن يافا، الفلسطيني المشهور، عاشق فلسطين، الذي حقق في النهاية حقه في العودة؟
قال محمود درويش، الشاعر الفلسطيني الكبير، وهو يتذكر والدي بعد موته بعدة أيام قليلة: “كل موت هو موت أول، مفاجئ، صاعق، غير معروف وغير مألوف“. ومع هذا، فقد طعم موت والدي بقصص معروفة من قبل. وقد أدهشني والدي نفسه بلجوئه أثناء مرضه إلى تعبيرات غريبة لها إيحاءات دينية، وعلى سبيل المثال كان يشبه الألم الذي يعانيه في جانبه برفسة الملائكة، وكلما عاني من ألم السرطان وهو صابر عليه، كان يعلق شبه مازح: “نحن (الفلسطينيين) ولدنا لنعاني… مثل المسيح“. أما الآخرون فكانوا أجرأ في استعاراتهم: ففلسطين ويافا هما “مواقع الذاكرة“، بأصدائها المثيرة (Nora). ويشبه درويش فلسطين عند والدي بـ “الجحيم والفردوس معاً. ولأن سدرة المنتهي تنمو في مدينة يافا“. ثم وصف حضور والدي في “قافلة الترحيل الجماعي” من يافا بأنه خطيئة أصلية، لا لاقترابه من شجرة المعرفة المحظورة، بل لأنه كان بعيدًا عنها بعدًا كبيراً؛ مما يفسر التزامه على مدى حياته بالبحث والاجتهاد الفكري. ثم يختم درويش كلامه – كما فعل غيره – بالحديث عن عودة والدي إلى فلسطين، فيقول: “عاد ليغرس فيها شجرة المعرفة، فكان هو الشجرة“. ثم يتناص مع اللغة القرآنية عن العودة عبر الموت، فيقول: “لقد ولد في يافا، وعاد إلى يافا ليبقى، هناك، إلى الأبد، قرب سدرة المنتهى“.
ثم بعد سنوات قليلة، لفتت نظري تعليقات انفعالية قالها لاجئ عجوز من يافا يعيش في غزة، جمع فيها أيضًا بين الجنة ويافا. ومما يسترعي الانتباه في فيلم عمر القطان التسجيلي عام 1995 عن سقوط يافا، وعنوانه “العودة… محارب بريطاني قديم في فلسطين“، أن رجلاً عجوزًا يقول لابنه إنه لا يستطيع تقبل ما حدث ولن يقبله.
ثم يؤكد بطريقة تنطوى على ما يقترب من الكفر: “في يوم الحساب، حين يخبرني الله قائلا: “أردت لك الجنة، فما قولك؟“، سأقول: لا، أرجعني إلى بلدي، فأنا أريد الحياة في يافا“. أرأيت؟ سأرفض الجنة وأقول: “من فضلك، دعنى أرجع لأعيش في يافا، فهي بلدي“.
ولعل القصة الأكثر شيوعًا التي تحتضن والدي وهو ميت كانت القصة التي عبر عنها العلم الفلسطيني الذي غطوه به. لم يكن والدي ممن يلوحون بالأعلام؛ كان يكرس حياته للعدالة، كان يعشق فلسطين وأهلها، ولم يكن وطنيًا فجاً، بل ظل مستقلاً على المستوى السياسي، ينتقد دائماً، ويبحث بحثًا أكاديميًا طيلة حياته. ومع هذا، لفوا نعشه في مبنى مركز جمعية يافا العربية بالعلم الفلسطيني في انتظار تشييع الجنازة. وأنا لم ألوح بعلم أبدأ، ووجدت في ذلك التسييس نوعًا من المزايدة. ومع هذا، فقد أحسست أن العلم يشحن النعش بكاريزما غريبة. لقد رفع الشباب العلم الفلسطيني عاليًا في طليعة الموكب الجنائزي ونحن في طريقنا إلى الجبانة. وتلك إشارة تحدٍ في بلد يعاني فيه الناس من ويلات السجن بسبب رفع هذا العلم. وبرغم ذلك، فهي حركة عادية على أرض حفلت بالكثير من جنازات “الشهداء” الشباب. ثم بعد يومين، امتدح خطيب متقد الحماسة والدي لاتخاذه قرار العودة إلى فلسطين، تاركًا وراءه رفاهية الحياة ومزاياها في أمريكا. ولأنه لم يضع شروطًا لهذه العودة، يستدل الخطيبُ من ذلك على أن “عشق الوطن لا شروط له“.
أما إدوارد سعيد، الأكاديمي المتألق، وأحد أصدقاء والدي المقربين، وقد امتد عمره بعد موت والدي لمدة تقل عن ثلاث سنوات، فهو أقل رومانسية فيما يتعلق بالوطن. وفي الطقس التذكاري نفسه في رام الله عارض سعيد الصورة الخادعة عن الوطنية – صورة حملتها أيضًا مئات اللوحات التي ظهرت باسم منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الوطنية الفلسطينية، وحركة فتح التحريرية، فيما صار تقليدًا يشير إلى شهداء النضال من أجل فلسطين – عارضها بالحديث عن المواطنة العالمية عند والدي. ثم أخذ سعيد يتكلم عن انفتاح والدي على الناس وثقافة البلد الذي قضى فيه أربعين عامًا – ألا وهو الولايات المتحدة – مع أنه كان يعارض سياساتها. كما تحدث عن فضول والدي وأسفاره العديدة إلى الصين وبيرو والهند وبلدان أفريقيا. وفي ذلك انتقاد ضمني للمحلية أو الإقليمية التي تنشأ عن النزعة القومية ولتخفيف جنون العظمة الذي يلازم أيضًا الوطنية. يستشهد سعيد بلازمة لوالدي تنطوى على حلاوة ومرارة في آن واحد: “نحن أناس عاديون. أناس طيبون، ولكن عاديون“. وفيما بعد، سوف يكتب سعيد كيف أن والدي – على الرغم من عودته – “كان لا يزال غير متحقق وغير مستقر“، مضيفًا أن “العودة م تغيره، مع أن شعوره بالرضى في وطنه كان أكبر من شعوره به وهو في المنفى. كانت فلسطين عنده سؤالاً لا يمكن أن يحظى بإجابة كاملة أو حتى سؤالاً يصعب التعبير عنه“. غير أن سعيد لا يتمالك نفسه عن قراءة حياة والدي وموته على أساس قصة أكبر. يلحظ سعيد تنقل والدي من “ميله إلى الحياة الجماعية إلى تأمله الباطني المزاجي، ومن نزوعه التفاؤلي والحيوية إلى الإحساس بالعجز، وهو إحساس معطل“؛ مما يجعله يستنتج الآتي: تغير حياته عن الانكسار والانتصار، عن القنوط والإنجاز، عن الإذعان والحسم في آن معاً. وبإيجاز، كانت حياته نسخة من فلسطين، عاشها بكل تعقيدها“.14
أما ما لم يغفله أحد في التأبين فهو أنه حقق “عودته” رجوعه في النهاية إلى يافا.
الماضي في الحاضر
طبقًا لوالدي، كان الرجوع يعني تطعيم خشونة التاريخ بحكايات مرهفة، كان يعني مواجهة أصيلة مع الحاضر. ومما يثير الدهشة أنه كان يحمل على كاهله هذه المهمة بكل حماسة. وهو من كان يرفض العودة لوقت طويل، بدأ في تشجيع كل فلسطيني على الرجوع، حتى وإن كان سيعاني من استجوابات سلطات الاحتلال الإسرائيلية المُهينة في المطار أو الجسر: خلع الأحذية من أجل التفتيش، مصادرة الدفاتر، إفراغ محتويات حقائب السفر تفتيش جسدي، وحتى حفاضات الأطفال الرضع وأدوات الزينة. وحين سأله أحد المحاورين على تليفزيون الجزيرة إن لم يكن شاعرًا بالمرارة من أن حلمه بالرجوع قد جعله في موقف يواجه فيه الفلسطينيون مشكلات يومية ويساقون إلى مناطق تسمى ألف وباء وجيم، تفصلهم نقاط التفتيش العسكرية الإسرائيلية – أجاب: “لا أشعر بالمرارة مطلقاً. وعلى الأصح، أشعر أن الحضور الإسرائيلي يمثل تحديًا لنا. ومن المستحيل أن نقابل هذا التحدى بالمرارة. إنه حاجز أصارعه: فأنا أنادي بالمساواة، أنادى بإزالة نقاط التفتيش كلها. ومهمتنا النضال معًا حتى نغير هذا الواقع. ومجيئي هنا – وجزء كبير منه – كان من أجل تغيير هذا الواقع. فإنا لا أقاتل بعيدًا عن ميدان النضال“. لقد شعر والدي شعورًا قوياً، عند النهاية، أن الفلسطينيين ارتكبوا خطأ كبيرًا في 1948 حين هربوا خائفين، مع أنه يعرف – أكثر من غيره – أنهم لم يكونوا ليقدروا على فعل شيء آخر. أنفق والدي حياته وهو يستقصى كل ما يتعلق بهذا التاريخ، ومع هذا كان يقول: كان من الواجب علينا أن نظل على الأرض، حتى وإن وصل الإسرائيليون. كان من الواجب علينا أن نبقى؛ فالنضال يتطلب مواجهة من خلال أشخاص يقاومون“. 15
وقد رأيت بنفسي المواجهة على أرض الواقع. رأيت جنود مكافحة الشغب المسلحين يواجهون أولادًا في سن المراهقة يقذفونهم بالحجارة. لكني رأيت أيضاً، والدي وهو يقترب من نقاط التفتيش الإسرائيلية يشد من عوده بتوتر مستعدًا للمشهد فترتسم ابتسامة متكلفة على وجه هذا الرجل المهذب الذي يخرج جواز سفره الأمريكي بسرعة حتى يمر. وفيما بعد، جزيت بنفسي إسرائيل أثناء مرضه وموته، فكنا لا نقدر على الذهاب إلى أي مكان في الضفة الغربية للحصول على المسكنات التي أوصى بها الطبيب الإسرائيلي، وكنا نعاني من ندرة ملصقات المورفين. ناهيك عن طعامه المفضل من البروكلي وسمك السالمون، بينما كان كل هذا يتوافر على “الجانب الآخر“. كنا نحتاج إلى سيارة إسعاف للحاق بمواعيد الطبيب خوفًا من نفاد أنبوبة الأوكسجين أثناء سخونة السيارة عند نقطة تفتيش متباطئة. وكان الخوف – ونحن نقترب من نقطة التفتيش – على وجه صديقته المفعم بالحيوية، الإسرائيلية الفلسطينية من الشمال التي تعرف العبرية، وقد جاءت لتساعده على التفاوض مع المستشفى، ولم يكن مسموحًا لها – أصلاً – دخول الضفة الغربية ببطاقة هويتها الإسرائيلية، مع أنها هي وزوجها والأطفال قد عاشوا هناك. ثم المكالمة الهاتفية من الأمن الإسرائيلي، ونحن في ذروة أحزاننا، تهدد ترتيباتنا التي قمنا بها من أجل الجنازة.
إن حقيقة موت والدي الفيزيقية لا تنفصل عندى عن تفاصيل الهيمنة الإسرائيلية، بدءًا من أطراف أصابعه الزرقاء إلى الممرضين الفلسطينيين الذين دفعوه على السلالم إلى سيارة الإسعاف، ولم يكونوا متأكدين من السماح لهم بالمرور السريع. بدءًا من المكالمة المتطفلة التي قام بها الضابط الإسرائيلي إلى علم ساكن القوه على النعش في مركز جمعية يافا. بدءًا من الشعور بالقلق من المراقبة إلى سخاء مجتمعه الذي يفوق الوصف، بدءًا من مخاوفنا على مصير مذكرة محاضرات ألقينا بها في الزبالة سهوا بينما كنا ننظف شقته إلى الرعب الذي شعرنا به في يوم موحش لم يأت فيه أحد من أصدقائه لزيارته؛ فقد جمعوا أطفالهم من المدرسة مبكرًا وجلسوا يشاهدون الأخبار باهتمام ليعرفوا ما إذا كان – أو أين – سيلقى أريل شارون القنابل “انتقاماً” لحادثة ما.
لقد سمعت حكايات والدي على مدى حياتي، أما أن تمشى وأنت شاعر باليتم، تعبُر نقطة تفتيش متربة وحارة، تُسحب فيها حقائبك لمجرد أنهم لا يريدون السماح لأية سيارات فلسطينية بالعبور – فهذا شيء آخر. أن يهاجمك جنود متعجرفون بنظارات شمسية عاكسة وعضلات مفتولة ليؤخروك عن قصد – فهذا شيء آخر، أن تذهب إلى المطار مستقلاً تاكسيًا عربيًا في طريقك للحاق بطائرتك، فتجدهم يفتشون السيارة ببطء، ثم يغيبون في الداخل ويطول غيابهم ومعهم بطاقة هوية السائق، فيهينونك بقدرتهم على جعلك تجلس أخرس وأنت تعرف أنك تمامًا من أي اتهام – فهذا شيء آخر. وبينما كنت أعبر من الضفة الغربية إلى بر الأمان في القدس حتى الحق بطائرتي، حضرتني حكايات شق في الولايات المتحدة في سبيل الحرية، وتزاحمت في مخيلتي صور اللاجئين المبعدين في الحرب العالمية الثانية وهم يمشون تنوء أكتافهم بحمل ممتلكاتهم. ولكن هذه الصور لا يمكنها أن تتمثل هذا الواقع المتفرد بدمدمته العبرية التي تدعي، بعجرفة، حق الامتلاك. الأسلحة والجنود المنتشرون أينما تولى وجهك. الفصل الكامل بين العرب واليهود. هذه التجارب والخبرات التي اكتسبتها بنفسي، أكثر من حكايات والدي، هي التي جعلتني راغبة في الكتابة عن النكبة. ليست الكارثة الفلسطينية أثرًا من الماضي. إنها حية في الحاضر، في كل منزل هدمته البلدوزرات الإسرائيلية، ومع كل حريق أشعلته طائرات الأباتشي، ومع كل إجهاض عن نقاط التفتيش العسكرية، ومع كل قرية تمزَّعت حقولها بالجدار “العازل“، ومع كل فلسطيني لا يزال يتوق إلى العودة إلى بيت لم يعد موجوداً.
الهوامش
1. ليلي أبو لغد، “عودة إلى بقايا الأطلال: الذاكرة والذاكرة المولدة والتاريخ الحي في فلسطين“، ترجمة حسام نايل، عدد خاص عن الفجيعة والذاكرة، ألف: مجلة البلاغة المقارنة، 30 (۲۰۱۰) ص٢۱۷–٢٤٩.
2. تشكر ألف ليلى أبو لغد وأحمد سعدى لسماحهما بترجمة ونشر هذا الفصل:
Lila Abu-Lughod. “Return to Half-Ruins: Memory, Postmemory, and Living History in Palestine.” Nakba Palestine, 1948, and the Claims of Memory, Eds. Ahmad Sa’di and Lila Abu-Lughod. N.Y.: Columbia UP, 2007, 77-104. Translated with permission.
3. الرد على ليلي فانوس: لا أعرف السياق.
4. امتدت علمانيته إلى اختصار مادة الدين والتعليم الديني في خطته السجالية لمنهج الدراسة الجامعية الوطنية الفلسطينية، وقد رُفضت خطته، راجع الفصل السابع من عمل Hovsepian في ثبت المراجع.
5. كل الاستشهادات من حكايات والدي مأخوذة من تسجيلات حرارية باللغة الإنجليزية قام بها هشام أحمد فرارجه، والاستشهادات التي وردت في عمل أحمد فرارجه تشير إلى الصفحة، وبعض الحكايات والمواقف الأخرى توجد في حوار من جزءين مع زكريا محمد، وفي هذا الحوار، ينكر والدي أنه ترك يافا بالمركب في 1 مايو، وليس في 3 مايو.
6. لوصف هذه الزيارات، راجع:
Al-Qattan, “Secret, Tamari and Hammami, Karmi Visitations”
وعن عودة إدوارد سعيد إلى بيت عائلته، انظر: الفيلم التسجيلي لـ Bruce. وللاطلاع على عمل عن الأفلام، بما في ذلك فيلم Bruce والمطالبة ببيوت ومنازل، راجع/ راجعی Bishara Sadi “Catastrophe”
7. وبخصوص شرح بعض الأساليب التي تم بها المحو وإعادة الكتابة، راجع/ راجعي: Benvenisti, Abu El-Haj
8. وللمزيد عن الغابات، راجع / راجعي : Bardenstein و Bresheeth و Slyomovies Davis
9. كانت دير ياسين قرية التزم سكانها بميثاق عدم التعدى مع الهاجانا، ومع هذا، فقد قامت قوة مشتركة من الهاجانا ومن “مقاتلون من أجل حرية إسرائيل” (LEHI وتعرف، أحياناً، بعصابة ستيرن) بمجزرة في دير ياسين ذهب ضحيتها – على أقل تقدير – 115 رجلاً وامرأة وطفلاً، ثم رميت جثثهم في الآبار (Smith، ص ١٩٤)، والإعلام بهذه المجزرة – من خلال قوات الإرجون والهاجانا بمكبرات صوت متنقلة في مدن مثل يافا وحيفا، ومن خلال الإذاعة العربية – تسبب في ذعر رهيب. وبخصوص دراسة عن أثر مذبحة دير ياسين في الفلسطينيين انطلاقًا من مقابلات مع اللاجئين، راجع/ راجعي: Nazzal. وكما بين Morris، لم تكن هذه المجزرة هي الوحيدة التي قامت بها القوات اليهودية. راجع، أيضاً، عمل Abdel Jawad الذي يوثق ثمان وستين مذبحة للفلسطينيين قام بها الصهاينة والقوات الإسرائيلية في عام 1948. وقد أقام النحات الجزائري الأمريكي خليل بن ديب نصبًا لضحايا دير ياسين في جنيف ونيويورك عام ٢٠٠٣، راجع/ راجعي أيضاً: McGowan and Ellis
10. ولعله يظلهم، هنا، عنوان دراسة قام بها صديقه إدوارد سعيد، ألا وهي: “الصهيونية من منظور ضحاياها“، المنشورة في كتاب سعد عن القضية الفلسطينية، راجع/ راجعي: ,Said, The Question of Palestine
11. يوضح بُصيلة في هامش على القصيدة أن نعلين قرية فلسطينية قام الإسرائيليون بترحيل ستين ألف فلسطيني إليها مشيًا علي الأقدام في يوليو 1948.
12. ويمكن الإطلاع على تفاصيل مشروع “متحف الذاكرة الفلسطينية” في مؤسسة التعاون.
13. أشكر روجر هيكوك Roger Heacock على توضيحه دور والذي في فلسطين، أثناء تعليقاته المؤثرة في ورشة “النكية في الذاكرة الفلسطينية الجماعية“، في الاجتماع السادس للبحث السياسي والاجتماعي المتوسطى ضمن برنامج البحر الأبيض المتوسط مركز روبرت شومان للدراسات العليا، مؤسسة الجامعة الأوروبية، مونتكاتيني تيرم، إيطاليا، ٢٠٠٥.
14. راجع: Said, “My Gunu”. وللمزيد عن صداقتهما، راجع/راجعي: L. Abu-Lughod.
15. لقد أعطاني والذي تسجيل فيديو لحوار بدون عنوان، أعتقد أنه كان مع محمد خريشات في برنامج “ضيف وقضية“، قناة الجزيرة التليفزيونية، وعلى الأغلب كان عام 1991. وأشكر لوري ألن Lori Allen على تدوينه.
المراجع العربية
درویش، محمود. “إبراهيم أبو لغد: طريق العودة هي طريق المعرفة“، رثاء في تأبينه الذي أقيم في رام الله يوم ٢٦ مايو ٢٠٠١. نشر لاحقا في مجلة “أخبار يافا“، العدد ۱1 (۳۱ مایو ۲۰۰۱)، ص٤.
زكريا، محمد. “عن يافا . .. والموت. .. والفرح. .. والهزيمة. .. والأمل. أبو لغد: خفت أن أموت دون أن أرى فلسطين فقررت العودة“، “الأيام“، (٢٥ و٢٦ ديسمبر ١٩٩٥)، ص 14 في العددين.
متحف الذاكرة الفلسطينية: وثيقة المشروع ، مؤسسة التعاون، نوفمبر ۲۰۰۰.
المراجع الأجنبية
Abdel Jawad Saleh.”Zionist Massacres:The Creation of the Palestinian Refugee Problem in the 1948War.” Israel and the Palestinian Refugees. Eds. Chaim Gans,Eyal Benvenisti,and Sari Hanafi.Berlin:Springer Verlag,2007,59-129.
Abu El-Haj,Nadia.Facts on the Ground:Archaeological Practice and Territorial Self-Fashioningin Israeli Society.Chicago:Univ.of Chicago Press,2001.
Abu-Lughod,Lila.”About Politics, Palestine,and Friendship. A Letter to Edward from Egypt.”Edward Said: Continuing the Conversation.Eds.Homi Bhabha and W.J.T.Mitchell.Chicago:Univ.of Chicago Press,2005,17-25.
Ahmed-Fararjeh.Hisham,Ibrahim Abu-Lughod:Resistance,Exile and Return.Conversation withHisham Ahmed-Fararjeh. Birzeit:Ibrahim Abu-Lughod Institute for International Studies,BirzeitUniversity,2003.
Allan,Diana K.”The Politics of Witness: Remembering and Forgetting 1948 in Shatila Camp.”Nakba Palestine,1948, and the Claims of Memory. Eds.Ahmad II. Sa’di and Lila Abu-Lughod.NY:Columbia Univ.Press,2007,253-82.
Bardenstein,Carel B.”Trees,Forests,and the Shaping of Palestinian and Israeli Collective Memory.”Acts of Memory:Cultural Recall in the Present.Eds.Micke L..Bal.Jonathan Crewe,and LeoSpitzer.Hanover:Univ.Press of New England,1997,170-81.
Benvenisti,Meron.Sacred Landscape:The Buried History of the Holy Land Since 1948.Berkeley:Univ. of Califomia Press,2000.
Bishara,Amahl.”Examining Sentiments about and Claims to Jerusalem and its Houses.”Social Text75,21(Summer 2003):141-62.
Bresheeth,Haim.”The Continuity of Trauma and Struggle:Recent Cinematic Representations of theNakba.”Nakba:Palestine,1948,and the Claims of Memory, Eds. Ahmad H. Sa’di and Lila Abu-Lughod,NY:Columbia Univ.Press,2007,161-87.
Bruce,Charles.In Search of Palestine.London:British Broadcasting Company,1998.
Busailah,Reja-e.”The Fall of Lydda:1948:Impressions and Reminiscenes.”Arab Studies Quarterly.3.2(Spring 1981):132-51.
Childers,Erskine.”The Wordless Wish: From Citizens to Refugees.”The Transformation ofPalestine.Ed.Ihrahim Abu-Lughod.Evanston,II:Northwestem Univ.Press,1971,165-202.
Davis.Rochelle,”Mapping the Past.Re-creating the Homeland: Memories of Village Places in pre-1948 Palestine.”Nakba:Palestine,1948,and the Claims of Memory. Eds.Ahmad H. Sa’di and LilaAbu-Lughod.NY:Columbia Univ.Press,2007,53-75.
Halbwachs,Maurice.On Collective Memory.Trans.and ed.Lewis A Coser.Chicago:Univ.ofChicago Press,1992.
Hirsch,Marianne.Family Frames:Photography,Narrative,and Postmemory.Cambridge:HarvardUniv.Press,1997.
Hovsepian,Nubar.”Palestinian State Formation,Political Rent,and Education Policy:
Development and the Construction of Identity.” Ph.D.Diss.City University of New York,2004.Humphries,Isabelle and Laleh Khalili.”Gender of Nakba Memory.”Nakba:Palestine,1948,and the
Claims of Memory. Eds. Ahmed H. Sa’di and Lila Abu-Lughod.NY:Columbia Univ.Press,2007,207-228
Karmi,Ghada.In Search of Fatima:A Palestinian Story. London,NY:Verso Press,2002.
Lessing,Doris.African Stories.NY:Simon and Schuster,1981.
MeGowan,Daniel and Marc H.Ellis,ed.Remembering Deir Yassin.The Future of Israel andPalestine.NY:Olive Branch Press,1998.
Morris,Benny.The Birth of the Palestinian Refugee Problem Revisited.Cambridge:CambridgeUniv.Press,2004.
Nazzal,Nafez.The Palestinian Exodus from Galilee,1948.Beirut:The Institute for Palestine Studies,1978.
Nora,Pierre.”Between Memory and History:Les lieux de mémoire.” Trans. Marc Roudebush.Representations 26(Spring 1989):7-24.
Proust,Marcel.Swann’s Way.Trans.C.K.Scott Monteriff.NY:Dover Publications,1981.Al-Qattan,Omar.Al-‘Awda[Going Home].Sindibad Films and Cafe Productions 1995.
…………”The Secret Visitations of Memory.” Nakba:Palestine,1948. and the Claims of Memory. Eds. Ahmad H. Sa’di and Lila Abu-Lughod.NY:Columbia Univ.Press,2007,191-206.Sa’di,Ahmad II.”Catastrophe,Memory and Identity: Al-Nakbah as a Component of PalestinianIdentity.” Israel Studies 7.2(2002):175-98.
………….and Lila Abu-Lughod, eds.Nakba Palestine,1948,and the Claims of Memory. NY:Columbia Univ.Press,2007.
Said,Edward.The Ouestions of Palestine.NY:Vintage Books,1979.
………… “My Guru.”London Review of Books,23-24(December 2001),19-20.
Sayigh,Rosemary.”Women’s Nakba Stories:Between Being and Knowing.”Nakba:Palestine,1948,and the Claims of Memory.Eds.Ahmad H. Sa’di and Lila Abu-Lughod. NY:Columbia Univ.Press,2007,135-58.
Slyomovics,Susan.”The Rape of Qula,a Destroyed Palestinian Village.” Nakba:Palestine,1948,and the Claims of Memory. Eds. Ahmad H. Sa’di and Lila abu-Lughod,NY:Columbia Univ.Press,2007:27-51.
Smith,Charles.Palestine and the Arab-Israeli Conflict.Boston:Bedford St.Martin’s,2004.
Tamari,Salim and Rema Hammami. “Virtual Return to Jaffa.” Journal of Palestine Studies.27.4(Summer 1998):65-79.
من وحي الذاكرة
لقاء مع ليلي دوس
لقاء مع ليلي دوس1
ملك رشدي
مقدمة
سمعت عنها كثيرًا ولكنني لم أتصور أننا سوف نلتقي ونقترب في هذه الظروف.2 التقيت بليلي دوس لأول مرة في حي جاردن سيتي في القاهرة،3 بإحدى العمارات الحديثة، حيث تسكن منذ عدة سنوات، كان لقاؤنا في إطار غير مألوف. كانت صالة منزلها تملؤها قواقع البحر المرصوصة فوق صخور ورمال، منسقة على الأرض وسط قطع آثار قديم ويحيط بها الزائرون من كل جانب. كان مشهدًا مثيرًا للدهشة، فسيدة مجتمع معروف عنها العمل الخيري قد حولت منزلها إلى قاع بحر لافتتاح معرض القواقع السنوي الذي تقيمه في منزلها. تجولت في المكان مع باقي الزائرين وشرحت لنا ليلى قصة كل قوقعة جمعتها خلال رحلاتها المتعددة إلى شواطئ العالم. وحددنا أول لقاء لنا للتعارف وحتى أعرض عليها فكرة الدراسة التي أقوم بها.
كان – وما زال – أحد أهداف هذه الدراسة هو جمع روايات شفاهية لسير سيدات مصريات معاصرات عشن حقبًا تاريخية متعددة ومختلفة، كون من خلال تجربتهن نظرة ورؤية خاصة عن تطور المجتمع المصري. فاهتمامي بروايات الحياة الشفاهية نبع من إدراكي لمدى الصعوبة التي تواجهها في فهم متغيرات المجتمع الذي نعيش فيه. فلا يمكننا فهم الحاضر دون ربطه بالماضي، ولكن السؤال هو: أي نوع من الماضي يتم ربطه بالحاضر من أجل فهم أعمق لتلك المتغيرات؟
بالفعل هناك العديد من المصادر التي تساعدنا في ذلك؛ ولكن تحكمها، في كثير من الأحيان، نظرة السلطة الرسمية التي تعبر عن موقف سياسي واجتماعي وثقافي محدد، والتي تظهر بوضوح في العديد من الكتابات والأدبيات والمناهج التعليمية، وبالتالي تقوم تلك السلطة بتهميش واستبعاد الأصوات المختلفة والمخالفة التي تلعب دورًا رئيسيًا في حركة المجتمع. فالواقع ذو جوانب متعددة لا يمكن حصرها إلا من خلال تعدد الرؤى والتحليلات. ومن هنا يلعب التاريخ الشفاهي دورًا أساسيًا في جعل التأريخ أكثر ديموقراطية مما هو عليه، لأنه يستند إلى تجارب الحياة الشخصية لأفراد المجتمع أيًا كانت انتماءاتهم أو توجهاتهم الفكرية.4 وإن كانت هذه التجارب تعكس تصورًا شخصيًا وذاتياً، إلا أنها أحد مصادر التاريخ الذي تعبر من خلاله فئات المجتمع عن نفسها ومعاناتها. فلم يعط لتلك الفئات الفرصة أو المنبر للإعراب عن مواقفها والإفصاح عن صوتها الذي تم استبعاده طويلاً. ومن هذا المنطلق بدأت رحلة اللقاءات والذكريات مع ليلى دوس.
إن الذكريات وروايات الحياة لا يمكن أن تكون موضوعية، ولا هي صورة مطابقة للواقع المعاش، ولكنها في معظم الأحيان تعبير ذاتي لتجربة ماء تدور حول: الكيف والأبن واللماذا للأشياء التي حدثت، فهي محاولة من قبل الراوي (الكاتب) للتعرف على الحياة والتعامل معها، مع حياته تحديداً.5 وتأخذ هذه الأشكال من التعبير طابع من الوجود l’art de lexistence أو بمعنى آخر ، كما شرحه ميشيل فوكو أن علينا أن نفهم من الممارسات العقلانية والإرادية التي يتبناها الناس تحديدهم لقواعد سلوكهم، فهم يحاولون تغيير أنفسهم، وأن يجعلوا حياتهم في حد ذاتها إبداعاً.6
وهذا الإبداع هو نتاج علاقة الإنسان بتجاريه وبتاريخه الفردي، الذي يغوص بدوره في تاريخه الأسرى، والذي يرتبط بدوره بالتاريخ الاجتماعي. الفرد هنا محرك acteur ومنتج للتاريخ في آن واحد. فمن خلال آليات واعية وغير واعية يدمج الفرد أحلامه ومشاعره في إعادة بناء ماضيه ليسرد لنا روايته.7 وتختلف الروايات في أشكالها ومضامينها؛ فتكون أحيانًا مكتوبة من قبل صاحبها كما تظهر لنا في التراجم والسير الذاتية، أو تكون شفاهية – كما هو الحال هنا – يملى صاحبها إلى طرف آخر تفاصيل قصته. ويمثل هذا الشكل الأخير أحد الأدوات المنهجية التي يستخدمها الباحثون في العلوم الاجتماعية، خاصة في مجال الأنثروبولوجيا والذي تبناه لاحقًا بعض الباحثين في علم الاجتماع،8 حتى أصبح يمثل تيارًا منهجيًا في البحث الاجتماعي.9 فإذا استندنا إلى شرح ميلز في أن العلوم الاجتماعية تتعامل مع السير الذاتية والتاريخ وتشابكاتهما في إطار البنية الاجتماعية، فإن هذا يدعونا إلى تبني منظور إثني – تاريخي – سوسيولوجي، ethno-historico social للظواهر الاجتماعية التي تتم دراستها.10 ويعتمد هذا التيار على الأبحاث الميدانية التي ترصد وتجمع بشكل دقيق العلاقات السائدة بين أفراد المجتمع وأشكال تغيرها من خلال رؤية هؤلاء لأنفسهم ولغيرهم.
تعكس روايات الحياة رؤية تفصيلية لواقع معاش أثناء فترات تاريخية مختلفة ومن خلال سرد لغوى يحتمل التفسير والتأويل والتحليل، والرؤية، في تعبيرها الشفاهي، تخضع لظروف غير موضوعية، فهي مبنية على التجرية الذاتية التي تدخل فيها عناصر مختلفة ومتشابكة، كالأبعاد الفردية والجماعية التي تحتوي على الأسطورة والحلم والتبرير، فتصبح أساليب التعبير اللغوية والحركية جزءًا لا يتجزأ من المضمون. كما أنها قد تعبر عن الإحساس بالحنين nostalgie أو بالكره العميق، وقد تجسد المشاعر بشكل مبالغ فيه بحيث يختلط الواقع بالخيال ويقف المستمع أمام تضارب الواقع مع الأسطورة.11
فإذا كان هذا السرد بطبيعته ذاتيًا فكيف لنا أن نستخدمه في فهم آليات المجتمع وعلاقة الفرد به؟ بمعنى آخر كيف نستطيع استغلال هذا السرد من أجل فهم تاريخي سوسيولوجي؟ إن إعادة تشكيل أو بناء هذه الرواية، وربطها بالمتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يمر بها المجتمع، هي الوسيلة التي تساعدنا على استخدام تلك المرويات في التحليل الاجتماعي التاريخي. وكما يشرح إليوت براين فإن هذه العملية هي المجهود الذي يرمي إلى إعادة بناء أطوار من حياة الأفراد كما عاشها هؤلاء ومحاولة إظهار العلاقات القائمة بين مستوى حياة الفرد والمستوى الأوسع الخاص بالبنية القومية وآلياتها. ويضيف الكاتب، أنه لو استمر المؤرخون الاجتماعيون في إعادة بناء روايات الحياة فقط، بدون مقابلتها مع روايات حياة أخرى وربطها بالمستويات الجماعية، فسوف ينتجون سيرًا مبهرة، لكن مفككة، ومجزأة، ومن ثم يصبح من الصعب مقارنتها أو التأكد من العلاقات التي تربكها بالأطر الأوسع. 12
وإذا تبنينا هذا الإطار المنهجي تصبح الخطوة الأولى في هذا المشروع هي اختيار الشخصيات التي تسرد رواية حياتها، وهذه المهمة ليست يسيرة أو هينة، فاختيار الشخصية مرتبط بشكل أساسي بالموضوع، كما أنه متربط باستعداد هذا الشخص للجلوس لمدة ساعات أمام شخص آخر ليتحدث عن نفسه وحياته، وأخيرًا فهو مرتبط بقدرة الراوي على السرد، فكانت ليلى دوس إحدى الشخصيات التي سمعت عنها، وأحسست أنها فعلت الكثير في حياتها، وتحدث العديد من الصعاب على المستوى الشخصي وساهمت كامراة وكمواطنة في العمل العام ولكنها لم تدون كل ذلك ليصل إلى القارئ، فمشروع جمع روايات الحياة هدفه تقديم رؤی متعددة عن تاريخ المجتمع المصري من خلال روايات حياة شخصيات نسائية نابعة من طبقات اجتماعية مختلفة، من تلك التجربة بكل التناقضات الإنسانية التي تحملها. 13 وتمثل مروية ليلى إحدى روايات الحياة التي أتناولها في هذا المشروع.
بدأت اللقاءات مع ليلي دوس بعد أن اقتنعت بفكرة هذا المشروع في صيف ١٩٩٧، واستمرت لمدة عام بشكل غير منتظم. كنا نلتقي خلاله في منزلها لنتبادل أطراف الحديث في موضوعات شتى. فهي شخصية جذابة، مستقلة، ولديها مواقف واضحة من أمور الحياة والمجتمع. لم يكن حوارها مبنيًا على تساؤلات مسبقة ومحددة، بل كان الحوار يجرى من موضوع إلى موضوع ومن نقاش إلى آخر، فلم أكن بالمحاورة الغائبة، بل تفاعلنا، وكان دوري هو توجيه الحديث نحو بعض النقاط، أو استرجاع البعض الآخر، من أجل التأكيد على الفكرة التي تتحدث عنها. تعرفت على ليلي من خلال رواياتها ومن خلال بعض المداخلات التي قامت بها في مناسبات عدة ومن خلال زيارة قمنا بها معًا إلى مقر الجمعية النسائية لتحسين الصحة التي ساهمت في تأسيسها وكرست فترات طويلة من حياتها في العمل من أجل تطويرها. تعرفت على أولادها – كما تسميهم – أي أبناء من الجمعية تولت رعايتهم بصفة خاصة، والذين أصبحوا رجالاً ونساءً تجمعهم بليلى صداقة حميمة. وكذلك تعرفت على بخيتة، ابنة حارس العمارة التي تسكن فيها، التي لازمتها فترة طويلة وتعلمت على يديها القراءة والكتابة، وأخيراً، تعرفت على أصدقائها وأقاربها.
تجولنا معًا خلال تلك اللقاءات بين الحاضر والماضي، بين أسيوط والقاهرة، بين الزمالك وبولاق أبو العلا وحارة دولت فضل، انتهاءً بالهرم حيث المقر الأخير للجمعية. تحدث عن طفولتها ودراساتها، تعرضت لعلاقتها بوالدها وعائلتها، وعبرت بكل وضوح عن شخصيتها المتمردة، الطموحة وشرحت رؤيتها الاجتماعية والسياسية من خلال سردها للفترات التاريخية التي عاصرتها. لذلك تمثل مقتطفات تلك المروية التي أقدمها شهادة على فترة زمنية من تاريخ مصر كما عاشتها سيدة مصرية من الطبقة العليا.14 لم يكن من السهل اختيار المقتطفات التي سوف أدونها في هذا المقال نظرًا لضيق المساحة المتاحة للنشر. فقمت باختيارها من النص الشفاهي بناءً على أهمية المواضيع التي طرحتها ليلي والتي أكدت عليها أكثر من مرة في الحديث، وتم تنسيقها وإعادة بنائها في سياق تسلسل زمني متتابع يعكس أهم مراحل حياتها وأهم المواقف التي مرت بها. 15 هذه المروية لها قيمتها حيث تمثل تجربة حياة فردية، عليها في مرحلة لاحقة أن نقابلها بتجارب أخرى ونربطها بمصادر أخرى، لنتعرف من خلالها على جوانب من تاريخ المجتمع المصري. 16
…
لقاء
ملك رشدي: احكى لي كيف كانت حياتك؟
لیلی دوس: للأسف. .. لقد تأخرت بعض الشيء لأن عمري ٨١ سنة، ولكن لا تقلقي، إن حياتي مليئة بالأحداث والحكايات والحواديت ومازلت أتذكر العديد منها. من أين تريدين أن أبدأ؟
ملك رشدي: حدثيني عن عائلتك؟
لیلی دوس: ولدت في أسيوط عام 1961 لعائلة كبيرة. كان جدي من والدي مزارعًا من عائلة متوسطة يمتلك قطعة أرض صغيرة في أسيوط. وكان لديه عدد من الأبناء هم: عزيز وجورج وحبيب ووهيب وتوفيق – والدي – وآخر لا أتذكر اسمه، بالإضافة إلى ثلاث بنات لم يكملوا تعليمهم، حين حصل والدي على الشهادة المدرسية العليا قرر والده أن يستكمل تعليمه وأن يلتحق بكلية الحقوق في القاهرة. أما بقية الأبناء فعملوا رأسًا بعد إتمام دراستهم المدرسية العليا، أحدهم تم تعيينه في مكتب بريد الإسكندرية والأخرون عملوا مع والدهم. وبالفعل، أرسل والدي إلى القاهرة ولكن كانت مصاريف التعليم والمعيشة باهظة، فكان يعطى دروس لغة عربية للاساتذة الأجانب الذين يعملون بالكلية. وبعد فترة، تحسنت أحواله المادية وأسرع بإحضار أخوته، وهيب وحبيب، لاستكمال دراستهما في القاهرة. وعندما أنهى دراسة الحقوق طلب مدير الكلية، وكان رجلاً أجنبياً، من والدي أن يلتحق بالتعليم في كلية الحقوق ولكنه رفض وفضل العمل الحر في المحاماة.
عند رجوعه إلى أسيوط، بعد إتمام دراسته في القاهرة، التحق بمكتب سينوت حنا، وهو أحد المحامين المرموقين في أسيوط، وعمل معه لمدة عام ونصف ولكنه اختلف معه وترك وظيفته. وحدث ذلك قبل مولدي بعدة سنوات. كان يحكي لي أنه لم يكن لديه رأس مال لإقامة مكتب محاماة فكان يجلس على قهوة المحطة ليتابع القضايا، وفي يوم، نزل راكب من قطار قنا يسأل عن محام اسمه توفيق دوس. فلما أشاروا إليه في القهوة اتجه إليه وطلب منه أن يترافع في قضية في مدينة قنا. فقال والدي أنه ليس لديه مكتب أو عنوان فأجاب الراكب لا يهمني، على شرط أن تكون على مستوى قضية جريمة قتل. ومن هنا بدأ يعمل تدريجيًا لحسابه ويسافر مرتين في الأسبوع إلى قنا حيث كان يمضي الليل في القطار. كان مكافحاً، بدأ حياته من الصفر حتى وصل إلى أرفع المناصب في الدولة. كان في شبابه ناجحًا لدرجة أن عمدة أسيوط زوجه من ابنته.
كان رجلاً مثقفًا ومهتمًا بالقضايا العامة وبالسياسة. كان وطنيًا واعيًا لاحتياجات بلده وعمل عن قرب مع طلعت حرب في مشروع الاقتصاد الوطني وخاصة في مسألة تسويق القطن، كما شارك في إقامة مشروع بنك صر، فلقد أمن بأهمية الاقتصاد الوطني المستقل. وكان أيضًا يحب الشعر، يضع دواوين شوقى بجانب فراشه، وفي مرضه الأخير طلب منى قراءة أبيات من شعر لشوقي ولكن قبل أن أنتهى من قراءة البيت الأول قاطعني بسرعة قائلاً إن سيبويه يتعذب في قبره من سوء قراءتي!
أما والدتي فكانت من عائلة أسيوطية معروفة، والدها كان العمدة. تزوجت والدي وأنجبت منه ستة أطفال فكان دورها الأساسي هو إدارة شئون المنزل والاهتمام بنا.
ملك رشدي: كيف كانت طفولتك في أسيوط؟
لیلی دوس: عشت في أسيوط حتى السادسة من عمري. لم تكن أسيوط العشرينيات مدينة منغلقة كما يتصور البعض، بل كانت مدينة واسعة بها كل الإمكانيات للحياة الاجتماعية. كان يعيش فيها كثير من العائلات الكبيرة وكان بها مدارس اجنبية عديدة وناد ریاضی اجتماعی Sporting Club حيث كنا نذهب بصفة مستمرة، يعني كان بها نوع من الحياة الأرستقراطية القبطية والمسلمة. وكانت الحياة في هذا المجتمع تأخذ الطابع الأوروبي، فكانت تقام “العزايم” والحفلات الليلية، وكنا نستمع كثيرًا إلى الموسيقى الأوروبية في الغراموفون. كانت معظم هذه العائلات تسافر سنويًا إلى أوروبا لقضاء أشهر الصيف الثلاثة. في رأيي، أن هذا الانفتاح على الثقافة الأوروبية هو الذي ساعدهم على إدراك أهمية تعليم أبنائهم وبناتهم لمواكبة العصر. أليس هذا ما طالب به رفاعة الطهطاوي وطه حسين ويحيى حقى وغيرهم بعد زيارتهم إلى فرنسا وأوروبا؟ لقد نادوا بأهمية التعليم المناسب و“المضبوط” على أن يعمم على الشعب.
والشيء الغريب، أن كثيرًا من الذين دخلوا المدارس الفرنسية كانوا من العائلات الأرستقراطية المسلمة أمثال صدیقتی زينب خشبة التي كانت مربيتها أيضًا فرنسية، في حين أن معظم العائلات القبطية كانوا يدخلون أبناءهم مدارس إنجليزية. فكانت مربياتنا في المنزل إنجليزيات وتعلمت والدتي في مدرسة “الأمريكان“. كان التعليم في تلك المدرسة يأخذ الطابع المتشدد، المهتم بمظهر الفتيات وسلوكياتهن في المجتمع، فكانت البنات تتعلم العزف على البيانو والآداب العامة واختيار الملابس والأزياء، وأسلوب استقبال الضيوف وكيفية تقديم الطعام، وكذلك كيفية الاهتمام بالأزواج والعناية بالأطفال. كانت معظم الفتيات الملتحقات بتلك المدرسة من بنات الأعيان وكن يتحدثن الإنجليزية بطلاقة وفي بعض الأحيان كان الناس يسخرون من البنت التي تتحدث الإنجليزية باللكنة الصعيدية قائلين: الدجرين دجراس” أي “the green grass”.
كان لي أربعة أخوة وأخت واحدة، بيللا التي تكبرني بثمان سنوات، وكنت أصغرهم في العمر. لم أكن أبداً مدللة كما يتوقع البعض، بل بالعكس كان من الأشياء التي أفادتني في حياتي أن كل اهتمام والدي كان منصبًا على أخوتي الكبار. كانت أمي دائمًا مشغولة بشؤون المنزل والعائلة والحياة الاجتماعية في أسيوط. أما والدي فكان كثير السفر ودائمًا منهمكًا في عمله.
كان علي، طوال حياتي، أن أسعى لأن أكون مثل الأولاد لكي أحصل على نفس حقوقهم وهو ما جعلني أرفض القيود التقليدية التي تفرض على سائر البنات. وأنا طفلة، كنت أتضايق جدًا عندما كنت أمنع من تسلق الشجر في حديقتنا مثل أخوتي، كما كانت المربية الإنجليزية التي تعتني بي تحاول منعي من اللعب مثل الأولاد وتقول لي إن الفتاة عليها أن تكون مطيعة وهادئة. كانت شخصية متشددة ومتسلطة. ولكنني رفضت ذلك، كنت استمر في اللعب الدرجة أنها كانت تقوم بتغيير ملابسي عدة مرات في اليوم من كثرة لعبي في الحديقة والرمال. وفي يوم من الأيام قبل دخولي المدرسة، كان عمري خمس سنوات، كان أخوتي الصبيان قد ذهبوا إلى المدرسة وأنا ماكثة وحدي في المنزل، فتسللت إلى حجرة أخي في هدوء وارتديت ملابسه وخرجت إلى الشارع لأذهب إلى المدرسة، وظلت أمي والعربية تبحثان على حتى سألوا البواب الذي قال لهم: “البيه الصغير خرج إلى الشارع“.
ومنذ صغري وأنا متمردة على الأوضاع وعلى القيود التي تمنعني من عمل ما أحبه، فمثلاً كانت أختي لديها مربية خاصة لازمتها حتى تزوجت، أما أنا فلقد رفضت مبدأ العربية منذ كنت في الحادية عشر من عمري وتمردت عليها وبدأت اتجه نحو حياة مستقلة.
“Ma liberté c’est la chose la plus importante pour moi. Pas mon indépendence, mais ma liberté. Indépendence. C’est ne pas dépendre de quelqu’un. Liberté, c’est freedom. Freedom of everything. what can I say? Freedom of thought, freedom of action; not to feel chained by the past, by traditions.”
(الحرية هي أهم شيء بالنسبة لي. ليس استقلالي ولكن حريتي. الاستقلال هو عدم الاعتماد على شخص ولكن الحرية في الحرية، الحرية في كل شيء، ماذا أقول؟ حرية الفكر، حرية الحركة، ألا نشعر أننا مكبلون بالماضي والعادات).
ملك رشدي: كيف كان تعليمك المدرسي؟
لیلی دوس: بدأت تعليمي المدرسي حينما انتقلنا إلى القاهرة بعد ثورة 1919 بحوالي أربع سنوات. بدأ والدي وقتها يشعر أنه أصبح محاميًا معروفًا في أسيوط وأنه قد آن الأوان لينتقل إلى القاهرة ليتوسع في عمله ونشاطه. وبالفعل، انتقلنا جميعًا إلى القاهرة حيث استأجر شقة في حي جاردن سيتي، ثم اشترى قطعة أرض على النيل في حي الزمالك وبني منزلنا الذي انتقلنا إليه بعد خمس سنوات، أي سنة ۱۹٢٩. فالذي أتدكره أنني بدأت تعليمي في القاهرة، وكان عمري سبع سنوات، حين دخلت مدرسة القلب المقدس، إحدى مدارس الراهبات في ذلك الوقت. فكان معروفًا أن مدارس الراهبات الكاثوليك تربي البنات أحسن تربية حتى يصلحن للزواج المناسب ودخول المجتمع الراقي. كان التعليم في تلك المدرسة باللغة الفرنسية، كنا ندرس تاريخ وجغرافية وفنون فرنسا، وكانت هناك بعض الإشارات إلى التاريخ الفرعوني وحملة نابليون على مصر ولكنها لم تكن كافية للإلمام بحضارتنا. وبعد فترة من التعليم اعترض والدي على دخولي هذه المدرسة خوفًا من أن أصبح “بنت فرنسوية مش مصرية“، وكان يعتقد أن الذين يدرسون في تلك المدارس يشعرون بانتماء أكبر إلى فرنسا وإلى التربية الكاثوليكية.
وفي نفس الوقت، شعرت الحكومة أنه من الضروري إنشاء مدارس مصرية على مستوى “عالي” لتعليم البنات، فأنشأت كلية البنات في الجيزة17، التي كان مقرها في منزل كبير يسمى منزل “أبو صبع“. وعُرفت البنات اللواتي يدخلن هذه المدرسة بـ “بنات الذوات“، وكن حوالي خمسين أو ستين بنتا. كانت المدرسة ممتازة، لأنهم أحضروا مدرسات من السويد وفرنسا وإنجلترا لتعليمنا أحسن تعليم. فمثلاً مدرسة اللغة الفرنسية، مدام شلانبرجيه، كان والدها كاتبًا فرنسيًا وكانت على مستوى ثقافي “عالي جداً“. وكان الهدف هو إعداد فتيات صالحات للزواج. ولكن بالإضافة إلى كل ذلك، تعلمنا اللغة العربية وتاريخ وجغرافية مصر. كنا مجموعة لطيفة جدًا من الأصدقاء من ضمنهم بنات علوبة باشا وشريفة محرز ومدام زينب سرهنك، كما لحقت بنا لیلی إبراهيم، ابنة على باشا إبراهيم، التي رفض والدها إلحاقها بالمدرسة في البداية. فكانت تتعلم في المنزل، إلى أن أقنعه والدي بضرورة إدخالها المدرسة، واستمرت علاقتا طويلاً بعد تخرجنا من المدرسة. كانت الكثيرات منا متحررات تخرج وترقص ونحضر الحفلات التي تقام في منازلنا.
وبعد انتهائي من شهادة البكالوريا، في أوائل الثلاثينيات، قلت لوالد إنني أريد استعمال دراستي الجامعية فرفض رفضًا قطعيًا وقال إنه يكفي التعليم المدرسي للبنات وان مصيرهن هو الزواج من رجل محترم. فشعرت بالحزن لقرار والدي بعدم استكمال تعليمي الجامعي وكان على أن أفكر فيما سافعله بحياتي وما هي البدائل المتاحة لي.
ملك رشدي: وماذا كانت البدائل؟
ليلي دوس: بعد تخرجنا من المدرسة كنا نلتقي، صديقاتي وأنا في العديد من المناسبات منها الحفلات التي كان يقيمها والدي وحفلات أعياد ميلادي وميلاد أخوتي، واستمرت علاقتنا الاجتماعية، وبعد فترة بدأنا نتساءل ماذا نفعل بحياتنا؟ هل ننتظر فارس الأحلام للزواج والمكوث في المنزل “للطبيخ والكنس” واستقبال الضيوف كما تعلمنا في المدرسة؟
كنت أشعر أن حياتي لها معنى أكبر بكثير من ذلك، وأنا على أن ألعب دورًا ما في المجتمع، فلقد نشأت في وسط عائلي وطني واعتبر نفسي من جيل ثورة ١٩١٩. وعلى الرغم من أن عمري كان ثلاث سنوات عندما قامت الثورة، إلا أن والدي كان يحدثنا كثيرًا عن هذه الأحداث وكيف أن الإنجليز كانوا يضربون المصريين في منازلهم. فمازلت أذكر دولابًا للملابس، في إحدى حجرات منزلنا، اخترقه رصاض الإنجليز وكانت والدتى تحكى لى كيف كانوا يخبئونني في أحد الأدراج حتى لا أصاب بالرصاص وكيف أن والدي احتجز في القاهرة مدة طويلة، أثناء قيامه بالدفاع عن المصريين الذين اعتقلوا أثناء الثورة، نتيجة لانقطاع خطوط السكة الحديد. كانوا دائمًا يذكروننا بأن الاستعمار الإنجليزي يستغل البلد لحسابه، فكان الجو العام مشحونا بالمشاعر الوطنية والسياسية.
لم تكن الأحداث السياسية هي العامل الوحيد الذي شكل وعيى الاجتماعي بل كانت هناك أشياء عديدة لعبت دورًا مهمًا في حياتي. فمنذ صغرى وأنا في مدرسة الراهبات، كنت أسمع الكثير من الكلام عن الفقراء، فكانوا يطلبون منا أن نضحي بأحد الأشياء التي نعتز بها لتقديمها لهم. وكان هذا يعني لنا أنهم سوف يأخذون قطعة الشوكولاته التي يقدمونها لنا مرة في الأسبوع كنوع من sacrifice – التضحية – من أجل الفقراء الذين لم تكن أعيننا وقعت عليهم في حياتنا. وظل مفهوم الفقر فكرة مجردة في ذهني إلى أن كبرت وأدركت من خلال الظروف التي تحيط بي أن هناك عالمًا آخر غير الذي نعيش فيه.
كنت أعيش في منزل كبير جدأ في أحد الأحياء الجديدة بالقاهرة – الزمالك. كان منزلنا مبنيًا على قطعة أرض ساحتها حوالي نصف فدان تطل مباشرة على النيل، وتواجه حي بولاق أبو العلا على الضفة الشرقية من النيل. لم يكن حولنا أي مبان أو مساكن، وكان أقرب مبنى لمنزلنا هو السفارة الهندية ومنزل إلياس عوض، كان المنزل محاطًا من كل جانب بالأراضي الزراعية وبعض منازل الفلاحين الذين كنا نشترى منهم الخضار واللبن. كان الأصدقاء يتعجبون كيف تستطيع أن نسكن بعيدًا عن المدينة بهذا الشكل، وكان المنزل عبارة عن عدة طوابق و “بدروم” وحديقة كبيرة. كانت حجراتنا في الطابق الأول والصالونات في الطابق الأرضي والبدروم يقطنه الخدم فقد كان لدينا حوالي أربعة عشر خادمًا يعملون لخدمة ثمانية أشخاص؛ سفرجي واثنان مساعدان، وأربعة أشخاص لتنظيم الدور الأول وغسالة و “مكوجي” و“مرمطون” وطباخ وسواق و “سايس“18 و “جنايني“، أي حوالي خادمين للفرد الواحد من أفراد العائلة. وكان يقدم كل يوم الإفطار والغداء والشاي والعشاء في حجرة الطعام في مواعيد محددة، وكان المصروف اليومي للمنزل حوالي ٢.٥٠ جنيه، وبالطبع لم أدرك أن مثل هذا المبلغ كان كافيًا ليعول أسرة على مدار الشهر. كان أسلوب حياتنا طبيعيًا جدًا، بالنسبة لنا جميعاً، ولكن كان حي بولاق أبو العلا المقابل لمنزلنا في الزمالك يلفت نظري دائمًا. كان حي بولاق يسكنه كثير من التجار الصغار والبائعون المتجولون وكانت مظاهر الفقر واضحة على معالم المنازل وملابس الناس في الشوارع، فكل هذه المظاهر والأجواء السائدة دفعتني أنا وصديقاتي إلى التساؤل: ماذا نفعل بأنفسنا في هذا المجتمع؟
وفي زيارة من الزيارات التي كنا نتبادلها، حضرت معنا مدرسة من المدرسة التي كنا بها، وبعد أن استمعت إلى مناقشتنا حول هذا الموضوع، قالت إنها تعرف طبيبًا رجع من إنجلترا اسمه الدكتور محمود أباظة يعمل رئيسًا لقسم الأمراض الصدرية في وزارة الصحة، وان هذا الطبيب قال لها إن مرض السل منتشر بشكل مخيف في مصر، وانه لا سبيل لمكافحته إلا إذا أقيمت جمعية متخصصة، تعمل مع وزارة الصحة والجهات الطبية، لمساعدة المرضى وعائلاتهم. ولم تدرك هذه المدرِّسة أنها وضعت أقدامنا على أول الطريق. وفعلاً اتصلنا بهذا الطبيب الذي شرح لنا أن هناك حاجة ماسة لمساعدة أسر مرضى السل لأن المصاب، الذي هو في أغلب الأحيان عائل الأسرة، يرفض العلاج في المستشفى خوفًا من أن يضطر إلى ترك أسرته بدون إعانة، وبالتالي يمتنع عن اللجوء إلى الطبيب وبذلك ينتشر المرض في الأسرة ويموت المرضى وأقاربهم.
وفي وسط حماسنا المتزايد، أردنا زيارة أسر أحد مرضى السل لنتعرف على طبيعة المشكلة. فذهبنا إلى حي بولاق أبو العلا، ولن أنسى طوال حياتي المشهد الذي رأيته منذ حوالي ستين عاماً. كانت الأسرة المكونة من ستة أفراد تعيش في غرفة صغيرة خالية من الأثاث، ومظلمة ولا يوجد بها منفذ للشمس أو الهواء. ورأينا أربعة شبان، في منتصف العشرينيات، مطروحين أرضًا ويتألمون من شدة السعال والمرض وأمهم جالسة وسطهم قليلة الحيلة. فسألناها: “هل لديكم أي مصدر رزق؟” فردت قائلة إنهم يعيشون على صدقة الجيران. وتكررت هذه المشاهد في المنازل التي زرناها وأدركنا مدى الاحتياج الشديد لمساعدة هؤلاء الناس.
وكانت هذه القضية هي البديل الذي أعطى لحياتي معنى.
ملك رشدي: كيف بدأتم هذا المشروع؟
لیلی دوس: بدأت الفكرة بإقامة جمعية متخصصة لرعاية مرضى السل وأسرهم، وقررنا تسميتها “الجمعية النسائية لتحسين الصحة“. وسبب اختيارنا لهذا الاسم هو أننا تصورنا أننا سوف نغير أوضاع العالم في يوم وليلة، واعتقدنا أننا سوف نقضي على مرض السل في خلال ثلاث أو أربع سنوات لننتقل بعد ذلك إلى أوبئة أخرى. كما قررنا أن تكون الجمعية نسائية كنوع من التحدي ولإثبات ذواتنا وقدراتنا، وبالمناسبة، فهذه الجمعية نسائية بالاسم فقط فلقد ساعدنا الكثير من الرجال في تحقيق هذا النجاح. وكان من أوائل السيدات التي فكرت وانضمت إلى هذا المشروع على الفور: مدام محمود وهي إنجليزية متزوجة من مصري – وكانت رئيسة الجمعية – ونعمت برزی ودرية علوبة وعايدة علوبة وأنا، ثم شريفة محرز التي مكثت معنا سنة وتركتنا بعد زواجها لتعود مرة أخرى بعد أكثر من عشرين عامًا. وانضمت إلينا، فيما بعد، درية قباني ومدام منصور ومفيدة جرانة وغيرهن، وعلى فكرة كانت لتعود كانت “تحسين الصحة” أول جمعية متخصصة في ذاك الوقت، فكانت معظم الجمعيات تتعامل حينذاك مع قضايا المرأة أو الفقراء بشكل عام، مثل جمعية هدى شعراوي والمرأة الجديدة وغيرها.
وفي البداية، لم يأخذنا الناس مأخذ الجد، حتى والدي الذي أعجب بالفكرة ظن أننا مجموعة بنات تعاني من وقت فراغ وأن كل ما في الأمر أننا نتسلى وأننا سوف نمل بسرعة من هذا المشروع وتتزوج.
وبالرغم من ذلك، بدأنا في العمل واستأجرنا سنة ١٩٣٦ حجرتين في حارة تعرف باسم دولت فضل. وبدأنا في تأسيس الجمعية، التي أنشئت قبل إقامة وزارة الشئون الاجتماعية، فكان علينا التوجه لوزارة الداخلية للحصول على الموافقات اللازمة. وفي الوقت نفسه كنا نقوم بزيارة الأسر المريضة لتوزيع قماش الدمور وبعض المواد الغذائية، وكانت وسيلة تنقلاتنا هي الحنطور. وتصورنا أن مقر حارة دولت فضل كبير لدرجة أننا لن نستطيع استغلاله، غير أن سرعان ما بدأ الناس يتدفقون على المقر وشعرنا أن علينا أن نبحث عن مكان أوسع من هذا.
ملك رشدي: كيف جمعتم الأموال وكيف توسعتم في المشروع؟
ليلي دوس: بدأنا في عمل حملات تبرعات من خلال حفلات الشاي والعدس19 التي كنا نقيمها في منازلنا، واعتمدنا كثيرًا على الإمكانيات المالية لأصدقائنا الذين يعرفوننا شخصيًا ووثقوا بمشروعنا. وفي عام ١٩٣٨ كان رصيدنا في البنك ألف جنيه، ويمكنك أن تتخيلي ماذا كان يمثل هذا المبلغ بالنسبة لمجموعة بنات في العشرين من العمر وخبرتهن في العمل لا تتجاوز سنتين؛ إنه إنجاز خرافي. غير أننا لم نكن مؤهلات لإدارة تلك المبالغ الكبيرة فطلبنا مساعدة جمعية الرواد20 وكان على رأس الذين ساعدوني في الحسابات، حيث كنت المسئولة عنها، عابد عابد الذي صدم عندما رأى الدفاتر وقال لي “ده ولا دفتر حسابات بقال!”.
كانت أول حفلة تبرعات أقمناها في فندق مينا هاوس في الهرم، وكانت حفلة راقصة وكبيرة جداً حضرها كبار شخصيات المجتمع. “Cétait un diner très chic” (كانت حفلة عشاء راقية جدًا). وحينما انتهت وبدأنا في رصد ما جمعناه من تبرعات، ذهلنا من الرصيد الذي تبقى والذي كان ٢٠٠ جنيه فقط لأن الفندق استقطع الجزء الأكبر من التبرعات لتسديد مصاريف الحفل. وأدركت ساعتها مدى جهلنا بالشؤون المالية والإدارية. ومع ذلك أقمنا، فيما بعد، حفل تبرعات أحيته أم كلثوم في دار الأوبرا وافتتحته الملكة فريدة وطلب مني أن ألقى خطبة باللغة العربية وأن أرتدى اليشمك لأنه كان الزي الرسمي لسرايات القصر، وكانت مهمة صعبة لأنها كانت أول مرة أواجه فيها جمهورًا بهذا الشكل وأول مرة أرتدى هذا الزي.
وفي عام ١٩٤٢، بدأنا التفكير في التوسع بعد أن زاد حجم العمل، فلم يكن لطموحاتنا أي حدود. في ذلك الوقت، كنا نستضيف أبناء مرضى السل في مقر صغير في شارع محمد على، كان قد منحه لنا محافظ القاهرة فأردنا إنشاء مكان يتسع لـ 500 طفل. وكان الجيش الإنجليزي يبيع فائض مخلفاته بأسعار رخيصة حينذاك، ففكرنا في شراء أثاث وتخزينه إلى أن نستطيع تدبير مقر كبير للجمعية، وساعدنا في ذلك بعض الضباط المصريين والذين اتضح فيما بعد أنهم كانوا في تنظيم الضباط الأحرار.
وفي عام 1945 أقمنا حملة تبرعات لمدة أسبوع قمنا بتجنيد ألف طالب وطالبة من المدارس والجامعات يحملون صناديق تبرعات ويطوفون بها الشوارع. واستأجرنا سيارات بميكروفونات تنادي لحملة التبرعات وأتذكر الآن ذلك الموقف الذي كان مع طفل صغير في الشارع فقد أعطاني خمسة قروش وقال لي: “أرجو أنها تشفى بابا“. وساعدنا الكثيرون في تلك الحملة منهم تحية كاريوكا. وبعد أن جمعنا الصناديق وأفرغناها، وجدنا أن حصيلة التبرعات قد وصلت إلى 30,000 جنيه وهذا في حد ذاته أسعدنا، وكانت سعادتنا أكبر عندما وجدنا ضمن التبرعات 3.000 مليم مما يدل على أن الفقراء أيضًا تبرعوا حتى ولو بالمليم.
وبدأ مشوارنا في البحث عن مقر كبير، فاقترح علينا البعض أن نأخذ منزلاً في حي البساتين أو غيرها من المناطق النائية، واقترحت علينا صديقة أن نبحث حول معسكر الإنجليز في الهرم، فقمنا بزيارة المنطقة المحيطة بمعسكر الإنجليز، التي تقع على طريق القاهرة/ الفيوم اليوم، ووجدنا صحراء جرداء وعرة ولكن بها سبع هياكل لمبانی مهجورة. وبالطبع لم تكن هناك طرق ولا كهرباء ولا ماء، فكان المكان أشبه بمأوى للعفاريت ولكنه كان مناسبًا جدًا لاحتياجاتنا. فاشترينا المباني من الجيش بحوالي 900 جنيه، وأردنا شراء الأرض المحيطة بها، وهي عبارة عن 30 فدان، ولكن رفضت الحكومة تماما تمليكنا هذا المكان. وبالرغم من ذلك استأنفنا العمل، ولكن كان خوفي الأول أن تقوم الحكومة بطردنا من المكان والاستيلاء عليه، وحاولت كثيرًا الحصول على موافقات ولكني كنت أفشل في كل مرة. ومن شدة يأسي حكيت لوالدي القصة أملاً في أن يفعل أي شيء إلا أنه لم يعلق على الموضوع. غير أن عمى وهيب، الذي كان عضوًا في البرلمان، كان حاضرًا معنا واستمع إلى قصتى دون إبداء أي رأي. ولكني فوجئت به، فيما بعد، يعقب في جلسة برلمان على الواقعة قائلاً: “طبعًا بيوت الأعيان والوزراء مصانة في هذا البلد ولكنكم لا تمانعون في هدم منازل الفقراء لمصالحكم. ثم عرض مشكلتنا على بعض أعضاء البرلمان الذين ضغطوا على المسئولين وبعدها بفترة فوجئنا بصدور قرار تأجير الأرض مقابل جنيه واحد للفدان سنوياً. وما زال الإيجار ساريًا وما زالت المنازعات مستمرة.
كنا مجانين، كانت أفكارنا خيالية، هكذا كان يرانا الناس. “blessing Sometimes ignorance is a” (في بعض الأحيان يكون الجهل نعمة). لم نكن نقدر حجم ما نحن مقدمات عليه، ففي كثير من الأحيان يكون الجبل نعمة من أين سنبدأ وكيف سنبدأ؟ لم تكن تعرف أي شيء عن البناء أو الكهرباء أو الطرق. كانت مغامرة صعبة جداً ولكنها كانت تستحق المجهود الذي قمنا به. كانت أول مشكلة تواجهنا هي بناء الطرق والمرافق، ولكن من أين لنا باليد العاملة الرخيصة؟
وفي يوم جاءتني فكرة مجنونة وهي الاستعانة بالمساجين للبدء في الأعمال، وطرحت فكرتي على مجلس الإدارة الذي شجعني، وفعلاً قابلنا مامور السجن الذي استغرب جدًا من تفكيرنا، ولكن رحب بالفكرة ووافق على إعارتنا المساجين. وكنا قد اشترينا لورى كبيرا من مخلفات الجيش، فكان اللوري ينقل المساجين من السجن ويمر على في الساعة السادسة صباحًا لنتوجه إلى الأرض ونعمل طوال النهار، وفي المساء يوصلني اللوري مع ترحيب المساجين حتى بوابة المنزل ويعيدهم إلى السجن مرة أخرى، وهكذا استمر الوضع حوالي شهر : يمر على المساجين يوميًا في المنزل، وفي أحد الأيام، عند رجوعي إلى المنزل مساءً منهكة من يوم شاق، استقبلتني الخادمة بدون ترحيب فسألتها ماذا بك؟ فردت على قائلة إن الجيران يتكلمون عنى ويقولون إنه تم القبض على في جريمة ولكني لأنني ابنة الباشا فالبوليس يسمح لي بالمبيت في المنزل، وكانت مستاءة للغاية مما يقال عنى وغير قادرة على فهم ما تقوم به ابنة الباشا. وبعد معاناة شديدة ومغامرات كثيرة استمرت حوالي عامين افتتحنا الجمعية سنة 1947.
ملك رشدي: كيف كانت علاقاتك بالشخصيات التي كانت تهتم بتلك الأنشطة؟
ليلى دوس: كانت أيامنا ممتعة جدًا وكان هناك كثير من الأحداث والشخصيات التي أقابلها وأتأثر بها أو لا أتفق معها أو لا تترك أى أثر في. ولكن من أهم الشخصيات التي كانت على الساحة في ذلك الوقت كانت هدى شعراوي. وهي شخصية جبارة، تعرفت عليها من خلال نشاطها وجمعيتها، ولكنني لم أحتك بها كثيراً. كنت معجبة بعملها وبمجهودها، ولكن الشيء العجيب أن هناك نمطًا من التعامل مازال مستمرًا في مصر، فكلما حاول أحد أن يعمل ويظهر من خلال إنجازاته تكون هناك محاولات لهدمه بطريقة ما، فكانت تحاول أن تضمني لجمعيتها لكي أعمل معها تحت مظلتها بدلاً من العمل في تحسين الصحة، وكذلك فعلت معى أيضًا الأميرة شويكار من خلال جمعية مبرة محمد علي، وفي مرة طلبت منى زوجة أحد رؤساء الوزراء، في ذلك الوقت، إنشاء جمعية كبيرة لمكافحة السل. فسعدت بالفكرة وناقشتها مع والدي الذي سرعان ما نبهني من تلك الخطوة وقال لي: “لماذا تريدون العمل من خلال مؤسسة كبيرة وأنتم قد قطعتم شوطًا طويلاً في العمل. فعندما تنشأ هذه الجمعية سوف تكون تحسين الصحة مجرد لجنة فرعية فيها، لن تستطيع اتخاذ أي قرار بحرية، وسوف تموت تدريجيًا وتستفيد الجمعية الكبيرة من كل هذا العمل“. فأدركت على الفور أنها تريد تضم جمعيتنا تحت مظلة جمعية تقيمها ليظهر اسمها على الساحة بمجهود الآخرين؛ لقد كانت تعمل لاسمها فقط، وبالطبع رفضت تماماً. فللأسف كان هناك نوع من التنافس والغيرة بين الجمعيات الموجودة، وبين تحسين الصحة والمهنيين المعنيين بهذا المجال. فلقد ساندنا الأطباء في البداية ولكن سرعان ما انقلبوا ضدنا وبدءوا في محاربتنا عندما أنجزنا شوطًا في العمل. قمع الأسف، لم يكن هناك روح التعاون والمشاركة بالقدر الكافي العمل الأهلي، وكثير من الناس كانوا يعملون من أجل الظهور تحت الأضواء.
وعلى الرغم من تلك التجارب إلا أن عملنا في الجمعية فرض نفسه على الناس وتعاونت مع الكثير من الشخصيات التي كنت أحترمها وأقدرها. فعلت مع بعض الجمعيات في الأزمات الكثيرة التي تعرضت لها البلد.
فأتذكر مثلاً الحملة الجماعية التي قمت بها مع أعضاء من جمعية مبرة محمد علي، من أمثال أمينة صدقي، ابنة إسماعيل صدقي – رئيس الوزراء السابق – التي كانت شخصية رائعة والتي لا يتحدث عنها أحد، وصوفى غالي، والدة بطرس غالى سكرتير عام الأمم المتحدة السابق، وغيرهن من السيدات اللاتي سافرن إلى أسوان لمكافحة هذا المرض في وقت رفضت فيه الدولة الاعتراف بوجوده، وتحت ضغط هؤلاء السيدات ومجهوداتهن في العمل، اضطرت الدولة للاعتراف بوجود الوباء وعمل حملات لمكافحة الكوليرا. وساعدنا أيضًا كثير من الصحفيين بنشر مقالات حول الأنشطة التي نقوم بها أمثال مصطفى أمين وعلى امين في جريدة الأخبار.
ملك رشدي: ألم تهتمى بالأفكار التي كانت تنادي بتحرير المرأة؟
ليلي دوس:
Cetait le début du mouvement de liberation de la femme et nous étions juste la deuxième génération après elle”
(كان ذلك بداية حركة تحرير المرأة وكنت أمثل الجيل الثاني بعدها). فكنت أشعر بفارق سن كبير بيني وبين هدى شعراوي التي كانت تقود حركة تحرير المرأة. كنت أحترمها كثيرًا لأنها كافحت بالرغم من عزلتها أثناء زواجها، وعلمت نفسها وسافرت إلى أوروبا وتعرفت على ما يحدث هناك والى آخره من إنجازاتها. كنت أتابع نشاطها وأحضر مؤتمراتها وأعمل لها حساباً. ولكن، كما قلت لك من قبل، لم أعرفها عن قرب ولم أفكر أبدًا في الانضمام إلى جمعيتها أو حتى أن أكون جزءًا من مجموعتها. ربما لأن رأيها كان يسود دائمًا في النهاية، وربما لأننى أفضل أن استقل بذاتي، فمن الأسهل أن أتبع شخصًا ما على أن أشق طريقي بمفردي وهذا ما أرفضه في حياتي. كما كان توجهى يختلف كثيرًا عنها لأنها كانت تعمل من أجل تحرير المرأة وتعليمها وتحسين أوضاعها الاجتماعية، وكنت أعمل من أجل مساعدة الفقراء. والأهم من ذلك هو أنني لم أشعر أنني محتاجة لأتحرر. نعم، حتى بالرغم من أن والدي رفض أن أستكمل التعليم الجامعي، إلا أننى لم أخضع للقيود الاجتماعية. فعلت بحياتي كل ما شئت أن أفعله واستكملت تعليمي الجامعي وأنا في أواخر الستينيات من عمري. لم أشعر أن هذه التيارات النسائية تمثلني. Jamais je n’ai senti le besoin d’étre feministe (ولا أحسست في يوم بالحاجة إلى الانتماء إليها). طوال حياتي أحسست أننى إنسانة حرة، ركبت “التروماي” منذ صغرى و“حوشت من فلوسي” واشتريت سيارة بدون علم والدي، وصدم عندما عرف الخبر ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئا أمام الأمر الواقع. بالطبع كانت هناك بعض القيود ولكنني تغلبت عليها، وفى رأيى أنه لكي ينتمي شخص إلى تيارات تدعو إلى تحرير المرأة عليه أن يشعر بنفسه وفي ظل ظروفه بهذه الحاجة وأنا لم أشعر بها.
ملك رشدي : كيف كان موقف عائلتك من وضعك كامرأة في المجتمع؟
ليلي دوس: طبعًا كان موضوع الزواج من أشد المواضيع إلحاحًا على أهلى ولكنهم لم يقوموا بالضغط على من أجل الزواج. في العشرينيات من عمري تقدم لي العديد من العرسان للزواج ولكنني كنت أرفضهم وآخرهم شخص ثرى وهو طبيب معروف تقدم لوالدي ليتزوجني. فكان يزور منزلنا يومي الخميس والجمعة من كل أسبوع وكان يحضر بانتظام الحفلات التي تقيمها لتحسين الصحة، وفي كل حفل كان يطلبني للرقص معه ولكنني كنت أتعمد الرفض والرقص مع غيره، وبالرغم من ذلك لم ييأس. كان من الصعب رفضه لأنه لم يكن به أي عيب واضح وكان رابع عريس يتقدم. وفي يوم سالني والدي صراحة إن كنت أريد هذا الرجل أم لا. فبكيت، وأصر أن يعرف أسباب اعتراضي، فأجبت قائلة إنه “طيب زيادة عن اللزوم“. وكان من تعليقات عمى وهيب على ذلك أنني أحتاج إلى رجل شديد يعرف كيف يتحكم في. ومنذ ذلك الحين رفض والدي أن يتدخل في مسائل الزواج الخاصة بي وقال لي اختاري بمعرفتك من تشاءين. وبعد هذه الواقعة تقدم لي ابن إمبراطور الحبشة هيلاسلامي، أسفه واصف، الذي كان على علاقة قوية بوالدي أثناء منفاه، وعند عودته إلى البلاد واستعادته الحكم أراد مجاملة والدي بأن بروجني ابنه الذي كان قبيح الوجه. فرفض والدي بدون أن يسألني خوفًا من رد فعلي.
فأنا لم أتزوج لأنني لم أجد الوقت الكافي للتعرف على الشخص المناسب الذي يشاركني أفكاري واهتماماتي إن الحب والزواج يحتاجان للوقت لإقامة علاقة مع شخص وانا كان بالي مشغولاً بأشياء أخرى، يعني أنا لا أعتبر الزوجة الجذابة، الفاتنة بالطريقة المتعارف عليها. فالرجال يريدون زوجة جميلة، مطيعة، تمكث في المنزل، تنجب لهم الأطفال وتغسل وتكوى وتطبخ وتباشر أعمال المنزل. وكما أن العديد منهم اهتم بوضعي الاجتماعي تقدمي أكثر من اهتمامهم بشخصى وبذاتي. فلم أكن أنفع أبدأ كزوجة، ووالدي أدرك ذلك بعد رابع عريس وفهم أنه من الصعب أن يفرض على نمط حياة غير الذي اخترته لنفسي.
يمكنني القول إن الذي ساعدني في كل هذه الاختيارات وخاصة في العمل التطوعي هو وضعي الاجتماعي والمالي. فلم أكن أحتاج في يوم من الأيام أن أعمل من أجل كسب العيش، وكان لي العديد من الاتصالات التي ساعدتني في تحقيق الأهداف التي كنت أسعى إليها أو في الطلبات التي كنت أقدمها للمسؤولين. كانت حولي مجموعة أشخاص متحمسين ومهمومين بالأوضاع في البلد فعلى عكس جيلكم، سهلت علينا الأوضاع الاجتماعية كل ما حققناه.
ملك رشدي: كيف استمرت حياتك بعد ذلك، خاصة بعد الثورة؟
لیلی دوس: جاءت الثورة وكنت في البداية مؤيدة لها ومؤمنة بأن الوقت حان للتغيير. كنا كلنا مع محمد نجيب الذي تعرفت عليه أثناء عملي في الجمعية، وأتذكر أنه في إحدى المناقشات معه قال لنا إن على الجيش أن يرجع إلى المعسكرات وإن الحكم يجب أن يكون بيد المدنيين، وهذا بالطبع لم يحدث. وفي نفس الوقت كان نشاط الجمعية قد توسع وكان والدي قد توفي، كنت أسافر إلى إنجلترا وأمريكا لأتعرف على آخر ما يحدث في العمل الاجتماعي. يمكن أن أقول إنه في البداية كانت الأمور على ما يرام ولم يتصور أحد أن النظام سوف يتغير. لكن ما غير مجرى الأمور بالنسبة لعائلتي هو بالتأكيد قوانين التأميمات. في هذه الفترة أحسست أنني مهددة شخصيًا وماليًا وبالتأكيد كنت متخوفة على مستقبل الجمعية، وبالفعل منعت من السفر عام 1960 وحتى وفاة عبد الناصر عام 1970 ووضعت على القائمة السوداء. ويقال إن أحد أسباب منعي من السفر هو أنني كنت أهرب الأموال لأخوتي في الخارج، فقد كان لي ثلاثة أخوة يعيشون ما بين أوروبا وأمريكا، وفي الحقيقة لم يستطيعوا إثبات أي شيء ضدى وكانت التهم كاذبة.
وبالرغم من ذلك، استمريت في العمل العام من خلال الجمعية وكنت وقتها عضوة في مجلس الإدارة. وكان همي ألا يتعرض عملى لأي مشاكل بسبب علاقتي بالسلطة إلا أنني لم أنجح تماماً. ففي يوم قيل لنا إن الأمريكان سوف يساعدوننا من خلال برنامج مساعدات يسمى Point Four، ففكرنا في إقامة مدرسة لتعليم البنات على الآلة الكاتب والسكرتارية في الجمعية، وكان لدينا المكان ولكن كنا نحتاج إلى الأدوات والمدرسين. كان الهدف من المدرسة هو تأمين مستقبل أفضل للبنات بعد خروجهن من الجمعية. فتقدمنا بطلب في إطار هذا البرنامج ولكن الموظف المسؤول في وزارة التربية والتعليم في ذلك الوقت فال لي إن مشروع الأمريكان لن يفيدنا كما نتصور ولكني لم أنصت إليه. وفعلاً حصلنا على مبلغ 53 ألف دولار. وفرحت جدًا في بادئ الأمر من حجم المبلغ وتصورت أننا سنقيم مدرسة نموذجية، ولكن فرحتى تلاشت عندما قرأت بنود تلك المنحة. فوجئت أنهم سيرسلون لنا المدير، وهو أمريكي متخصص في السكرتارية يأخذ حوالي ٢٩ ألف دولار أتعاباً، وأننا سنشتري مكاتب وكراسي “أمريكاني” بمبلغ 15 ألف دولار ويتبقى لنا 9 آلاف دولار نتصرف بها لاستكمال المدرسة. يعني الأمريكان يعطونا منحة بيد و “يأخذوها” باليد الأخرى، وغضبت جدًا من هذه السياسة. وفي سهرة من السهرات التي دعيت إليها كانت هناك شخصيات أمريكية من السفارة وحكيت لهم القصة وسألتهم ماذا تعنى تلك المنحة وهذا البرنامج؟ وهل تظنون إنه ليس لدينا أي مدرسين أكفاء الإدارة مدرسة سكرتارية أو نجارين لصنع المكاتب والكراسي في مصر؟ المهم تنازلت عن تلك المنحة ولجأت إلى صديق لي في وزارة التربية والتعليم لكي يساعدني في إقامة تلك المدرسة. ولكن هذا الكلام لم يعجب الكثير من الأشخاص.
ومرة أخرى جاءت معونة أمريكية إلى مصر وكانت عبارة عن جبن ولبن وسمن يوزع على الفقراء من خلال الجمعيات الخيرية. واستلمنا نصيب الجمعية منها وتم توزيعه على مرضى السل يومياً. وعملنا نظام توزيع محكمًا من خلال بطاقات تعطى لكل مريض، ولكن اتضح لنا أن المرضي كانوا يبيعون هذه الأغذية للبقالين لأنها لم تتفق مع ذوقهم في الأكل. وفي يوم جاءتنا سيدة أمريكية تعمل لدى إحدى المؤسسات التي لا أتذكر اسمها لمعاينة العمل في الجمعية وقالت إنه لشيء جميل أن أرى المصريين وهم يستمتعون بالمواد الأمريكية. فقلت لها: لا أظن. .. فهم يبيعون تلك الأغذية لأنهم لا يحبونها. كان من الأجدر بكم أن تساعدونا على إقامة مصانع وورش تساعد الناس في أرزاقهم بدلاً من إرسال أغذية. وانتهى الموقف على ذلك، وبعد أيام جاءني إخطار على المنزل من المخابرات العامة تستدعيني للحضور في الساعة السابعة مساء في حي المبتديان، على ما أذكر. وفعلاً توجهت إلى هناك في الميعاد وأدخلوني في مكتب وجيه للغاية. كان الضابط يجلس أمام مكتبه ويتحدث في التليفون وأنا منتظرة… ظل يضحك وينكت لمدة ساعة وأنا ماكثة أمامه وأعصابي منهارة من الفلق. وبعد انتهاء المكالمة نظر إلى وقال لي: كيف تنتقدين برنامج المساعدة الأمريكية؟ فهذه أمور تخص السياسة العليا وليس لك ذلك الحل بها“. فقلت له إننى عبرت عما أشعر به ولا أرى أى إجرام في ذلك، فأنا مصرية وهذا حقي. وطلب منى ألا أعاود القيام بمثل هذه الأفعال وأن أوجه أي شكوى إلى وزارة الشؤون الاجتماعية. وطبعًا كانت نتيجة ذلك أنهم منعوا عنا المواد الغذائية وتم إخراجي من مجلس إدارة الجمعية.
كانت صدمة لي أن يتم إقالتي من مجلس إدارة الجمعية، وقيل لي إننى أخرجت لأنني أمتلك أكثر من 30 ألف جنيه، ولكني لا أظن أن ذلك كان السبب لأن الكثير من أعضاء الجمعيات الخيرية كانوا يمتلكون مبالغ أكبر من ذلك. وطلب مجلس الإدارة الاستقالة احتجاجًا على ما حدث لي ولكنني رفضت وطلبت منهم إعطائي حق التوقيع على المستندات لكي استمر في عملي كل يوم كما كان الحال. فأنا لا يهمني أن أكون في منصب سلطة طالما أنني أستطيع تحقيق ما أريد. وكان مجلس الإدارة متضامنًا معى وهم كلهم أصدقاء فلم أشعر بالفارق. وبعد أربع سنوات أعادوني إلى المجلس، وحتى يومنا هذا لم أفهم لماذا حدث كل ذلك.
ومع كل اعتراضاتي على النظام قررت في سنة من السنين دخول انتخابات الاتحاد القومي كمرشحة حرة.21 وكنت أعيش في حي الزمالك حيث كان مرشح الحكومة شخصية لم تعجبني على الإطلاق. وكنت أعرف صحفيًا معروفًا في ذلك الوقت كان ينوى دخول الانتخابات أمام مرشح الحكومة، فوعدته بالمساعدة في الحملة الانتخابية. وفعلاً، عملت بجهد والتف العديد من الناس حولي ولاحظت أن الناس تساندني وتتصور أنني المرشحة ففكرت أن أرشح نفسي. وسجلت اسمي وجمعت الكثير من الأصوات، عمالاً ومهنيين، وشعرت أنني يمكن أن أنجح، ولكنني تذكرت أنني وعدت صديقي بتأييده وتنازلت له. ولا أدرى لماذا فعلت ذلك ولكنني ندمت ندمًا شديدًا على هذا التنازل. لقد كنت أريد أن أشارك سياسيًا في بناء الدولة وبالأخص في حماية الجمعية.
استمريت في العمل بتحسين الصحة حتى تركت منصبي، وذلك لأسباب عديدة لا مجال للحديث عنها هنا، ولكنني قررت الحصول على معادلة شهادة الثانوية العامة واستكمال تعليمي الجامعي وأنا في نهاية الستينيات من عمري، وفعلاً دخلت الجامعة الأمريكية وحصلت على الليسانس وواصلت تعليمي حتى حصلت على الماجستير في الأدب. فكان هذا حلمي، كنت أريد أن أتعلم أشياء كثيرة وكان على أن ألحق بكل ما فاتني من معرفة. كان أسلوب عملى يعتمد على الإحساس والخبرة المتراكمة وليس على العلم. فلقد تغيرت المفاهيم وكان لابد لي أن أواكب هذا التغيير. كان مفهوم التنمية لدينا يعنى مساعدة الفقراء في الحصول على المأكل والمسكن ولكن اليوم اختلفت الاحتياجات وبالتالي يجب أن تختلف مفاهيمنا لمواكبة الواقع، فلا يمكن أن نتعامل مع مشاكل اليوم بفكر الأربعينيات أو الخمسينيات. أدركت من خلال تجاريي أن مفتاح التنمية هو التعليم وقررت أن أكرس وقتي لذلك. وبدأت بتعليم بخيتة، ابنة حارس المنزل، القراءة والكتابة وأشياء كثيرة أخرى ثم قمت بمساعدة أخواتها في التعليم المدرسي. شعرت بالسعادة أنني استطعت أن أحقق شيئًا إيجابيًا لهم.22
ولا أشك لحظة أنني ما دمت على قيد الحياة فليس من حقى أن أكف عن المشاركة، ولن أقضي ما تبقى من عمري على ذكريات الماضي بل ساستمر في الاستمتاع بحياتي وبحريتي وبالعمل مع الآخرين.
الهوامش
1. ملك رشدي، “من وحي الذاكرة: لقاء مع ليلى دوس“. عدد خاص عن لغة الذات: السيرة الذاتية والشهادات. ألف: مجلة البلاغة المقارنة، ۲۲ (۲۰۰۲) ص١٤٠–١٥٧.
2. أود أن أشكر كلاً من مديحة دوس وإيمان حمدى لتعليقهما على هذا النص.
3. تم هذا اللقاء في يونيو ۱۹۹۷.
4. راجع/ راجعي:
Paul Thompson, The Voice of the Past, Oxford: Oxford U P. 1988, pp. 6. 8.
5. راجع/ راجعي:
Malak Rouchdy, “Récits de vie et histories de femmes dans l’égypte contemporaine,” Histoire de vie et dynamique langagière, Christian Leray et Claude Bouchard, eds., Rennes: Presses Universitaires de Rennes, 2000, 107.
6. راجع/ راجعي :
Michel Foucault, “L’usage des plaisirs.” Histoire de la sexualité II, Paris: Gallimard, 1984, 12.
7. راجع/ راجعي:
Vargas-Thils Mairchela, “Une approche biographique de la construction de l’identité culturelle d’un groupe de femmes péruviennes ayant migré de la campagne vers la ville” and M. Mélyani, “Cette différence créatrice qui contient ‘L’autre ou encore ‘personne, Histoire de vie et dynamique langagière. Christian Leray et Claude Bouchard, eds., Rennes Presses Universitaires de Rennes, 2000, 119-26, 53-61.
8. أمثال مدرسة شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية – التي ظهرت بين الحربين العالميتين – والتي طورت منهج البحث السوسيولوجي ليستخدم المنهج النوعي qualitative method المبني على دراسات الحالة case studies. وكان هذا التيار يحاول إدماج واستيعاب الأقليات العرقية والثقافية في المجتمع الأمريكي.
9. هناك العديد من الأدبيات في هذا المجال منها على سبيل المثال:
Oscar Lewis, The Children of Sanchez: Autobiography of a Mexican Family, New York: Vintage, 1963; Daniel Bertaux. Les récits de vie, Paris: Nathan Université, 1997; Pierre Bourdieu, La misère du monde, Paris: Seuil, 1993
10. راجع/ راجعي:
Daniel Bertaux, Les récits de vie, 11-12.
11. يشير الكاتبان بول تومبسون ورافييل صامويل إلى أن الأسطورة الفردية أو الجماعية جزء لا يتجزأ من الذاكرة، فتظهر الأسطورة من خلال آليات الحجب، وإعادة ترتيب وتفسير الأحداث والعلاقات وغيرها. غير أننا لا يجب أن تنظر إليها على أنها تجارب معتمة أو مجزأة، ولكن يجب النظر إليها على أنها شواهد يتم إعادة صياغتها، فيأخذ بعض الأحداث منها الشكل الدرامي، والبعض الآخر يتم وضعه في سياق ما، وجزء منها يتم حجبه والباقي يتم تطويعه لأساليب السرد التي تحتوي على الوعي واللا وعي، أي الواقع والأسطورة معاً.
Raphael Samuel and Paul Thompson, “Introduction,” The Myths We Live by. R. Samuel and Paul Thomson, eds., London: Routledge, 1990. 5.
12. راجع/ راجعي:
Brian Elliot, “Biography, Family and the Analysis of Social Change,” Time, Family and Community: Perspectives on Family and Community History, Michael Drake, ed., Oxford: The Open University in Association with Blackwell,1995 44- 45
13. راجع/ راجعي
Malak Rouchdy, “Récits de vie et histories de femmes dans l’égypte contemporaine,” 106-08.
14. كانت لغة الحوار تتفاوت بين اللغة العربية العامة والإنجليزية والفرنسية، وحتى لا نبتعد عن طبيعة لغة الحوار الشفاهي نضطر للتخلف من بعض قواعد اللغة المكتوبة عند التدوين. والكلمات التي بين مزدوجين هي من طبيعة الحوار الشفاهي الذي لا يلتزم بالقواعد النحوية.
15. عرضت هذا المقال على ليلى دوس قبل نشره وأبدت موافقتها على الشكل والمضمون.
16. سوف يتعرض الجزء اللاحق إلى مقتطفات من السرد الذي قامت به لیلی دوس خلال لقاءاتنا، ولن اتطرق لربط تلك الرواية مستويات التحليلية الأوسع أطرأ نظرًا لضيق المساحة المتاحة. وكلما سنحت الفرصة سوف أقوم بعمل إشارات توضيحية.
17. حسب قول ليلي أنشأ على باشا ماهر هذه المدرسة بين عامي ۱۹۲۷–۱۹۲۸.
18. السايس هو العامل الذي يقول بتنظيف السيارات أو العناية بالخيل والحنطور.
19. كانت ليلى تقيم حفلات كبيرة في منزلها حول أكلات العدس التي كان يقبل عليها الكثير من المدعوين ويتبرعون لصالح الجمعية. وبالطبع كان سبب اختيار العدس هو أنه طعام الفقراء.
20. تقول ليلي إن جمعية الرواد كانت تهتم باختيار أفضل عناصر الشباب من رجال العائلات الكبيرة لتدريبهم ليصبحوا من قيادات البلد.
21. تأسيس الاتحاد القومي في سنة 1956 واستمر حتى سنة ١٩٦٢. كانت من أهم مهام الاتحاد الموافقة على ترشيح أعضاء مجلس الشعب، ويرجح أن تكون ليلى رشحت نفسها ما بين سنة 1960 وسنة 1961.
22. تقوم ليلى الآن بتدريس اللغة العربية والإنجليزية لتلاميذ المرحلة الابتدائية في مدرسة الجمعية.
القوة في القصة
القوة في القصة
القوة في القصة 1
ميشيل – رولف ترویو
ترجمة شريف يونس
هذه قصة داخل قصة – مراوغة للغاية عند حوافها، بحيث يعجب المره أين ومتى تبدأ وهل ستنتهي يومًا. في منتصف فبراير 1836 وصل جيش الجنرال أنطونيو لوبيز دو سانتا آنا Antonio Lopez de Santa Anna إلى الحوائط المتهدمة لإرسالية سان أنطونيو دو فاليرو San Antonio de Valero في مقاطعة تيجاس Tejas، لم يكن هناك سوى بقايا قليلة من القساوسة الفرنسيسكان، الذين بنوا الإرسالية قبل أكثر من قرن، صمدت أمام الهجمات المشتركة للزمن وتوالى سكان أقل تديناً. فقد حول واضعو يد بشكل مؤقت، من جنود أسبان ومكسيكيين، المكان إلى نوع من قلعة ولقبوها “الآلامو” The Alamo، على اسم وحدة خيالة أسبانية كانت قد أجرت أحد التحولات العديدة في هذا المجمع العشوائي من المباني. والآن بعد ثلاث سنوات من حصول سانتا أنا على السلطة في المكسيك المستقلة، احتل المكان بعض واضعي اليد الذين كانوا يتحدثون بالإنجليزية، ورفضوا الاستسلام لقوانه المتفوقة. من حسن حظ سانتا آنا، كان هؤلاء أقل عدداً، يبلغون في أقصى تقدير ۱۸۹ محاريًا محتلاً، والبناء نفسه كان ضعيفاً. سيكون الفتح سهلاً، أو هكذا ظن سانتا آنا.
لكن الغزو لم يكن سهلاً: استمر الحصار إثنا عشر يوما من القصف المدفعي. وفي 6 مارس، أطلق سانتا آنا النفير الذي يستعمله المكسيكيون تقليديًا لإعلان هجوم حتى الموت. ولاحقًا في نفس هذا اليوم اخترقت قواته الحصن وقتلت معظم المدافعين. لكن بعد أسابيع قليلة، في ٢١ أبريل، وقع سانتا آنا أسيرا في سان جاسينتو San Jacinto في يد سام هوستون Sam Houston، القائد المصدق حديثًا على تعيينه قائدًا لجمهورية تكساس الانفصالية تجاوز سانتا آنا هذه الكبوة وتولى أربع مرات قيادة المكسيك التي تقلصت مساحتها كثيراً. لكنه من نواحٍ متعددة ۲۱ ومهمة يُعتبر أنه هُزم بشكل مضاعف في سان جاسينتو. فقد خسر المعركة يومها، ولكنه أيضًا خسر المعركة التي كسبها في الآلامو. فقد كان رجال هوستون يطلقون أثناء هجومهم المنتصر على الجيش المكسيكي هتافات متكررة تقول تذكروا الآلامو! تذكروا الآلامو!”. وبإشارتهم هذه إلى الإرسالية القديمة، صنعوا التاريخ بشكل مضاعف. فبوصفهم فاعلين، أسروا سانتا أنا وأخرجوا قواته من المعركة، وبوصفهم رواة منحوا قصة الألامو معنى جديداً. لم تكن الخسارة العسكرية في مارس نقطة النهاية في الحكاية، بل أصبحت تحولاً ضروريًا في الحبكة.
محاكمة الأبطال، التي جعلت بدورها الانتصار النهائي حتميًا وكذلك فخماً. فبصيحة الحرب في سان جاسینتو، كل رجال هوستون لأكثر من قرن فكرة انتصار سانتا آنا الذي حصل عليه في سان أنطونيو.
يشارك البشر في التاريخ كفاعلين وكرواة. ويوحي ازدواج (معنى) كلمة تاريخ history في كثير من اللغات الحديثة، بما فيها الإنجليزية، بهذه القسمة الثنائية. (وفي العربية أيضًا – م). تعنى كلمة التاريخ في الاستعمال العامي كلا من وقائع الأمر وحكى هذه الوقائع، أي تعلى ماذا حدث” وأيضًا تعنى “ما قبل إنه حدث“، يركز المعنى الأول على العملية الاجتماعية التاريخية والثاني على معرفتنا بهذه العملية أو على رواية قصة عنها.
إذا كتبت أن “قصة الولايات المتحدة تبدأ بمايفلاور” (السفينة التي نقلت أول مجموعة استوطنت نيو إنجلاند بأمريكا الشمالية عام ١٦٢٠ – م)، وهي عبارة قد يجدها كثير من القراء تبسيطية ومثيرة للجدل، لن يكون ثمة شك يُذكر في أنني أرى أن أول حدث مهم في العملية التي انتهت إلى وجود ما نسميه الآن الولايات المتحدة هي رسو سفينة مايفلاور. لننظر الآن في جملة مماثلة في بنائها للجملة السابقة وربما لا تقل عنها إثارة للجدل: “يبدأ تاريخ فرنسا مع ميشليه“. لقد تغير معنى كلمة “تاريخ” بما لا يحتمل اللبس من العملية الاجتماعية التاريخية إلى معرفتنا بهذه العملية. فالجملة تؤكد أن أول حكاية مهمة عن فرنسا هي تلك التي كتبها جول ميشيليه. Jules Michelet
ومع ذلك ليس التمييز واضحًا دائمًا بين ما حدث وما قيل إنه قد حدث، لننظر في جملة ثالثة: “تاريخ الولايات المتحدة هو تاريخ الهجرة“. ربما يختار القارئ أن يفهم أن كلمتي تاريخ في هذه الجملة تركزان على العملية الاجتماعية التاريخية، وبالتالي يبدو أن الجملة توحي بأن واقعة الهجرة هي العنصر الأساسي في نشوء الولايات المتحدة. لكن هناك تفسير لا يقل صلاحية لهذه الجملة، وهو أن أفضل حكاية عن تاريخ الولايات المتحدة هي التي تحكي عن الهجرات. وسوف يصبح هذا التفسير أرجح إذا أضفت توصيفات قليلة: “التاريخ الحقيقي للولايات المتحدة هو تاريخ الهجرة، وهو تاريخ لم يكتب بعد“.
ومع ذلك ريما يركز تفسير ثالث على العملية الاجتماعية التاريخية بالنسبة للاستعمال الأول لكلمة “تاريخ” وعلى المعرفة والحكاية بالنسبة لاستعمالها الثاني في نفس الجملة، وبالتالي يرى أن أفضل حكاية عن الولايات هي التي تكون الهجرة التيمة المركزية فيها. هذا التفسير الثالث ممكن فقط لأننا نقر ضمنيًا بوجود بين المتحدة العملية الاجتماعية التاريخية ومعرفتنا بها، وهو تداخل مهم بما يكفي ليسمح لنا بأن نقترح بدرجات متفاوتة مجازية المعنى، أن تاريخ الولايات المتحدة هو قصة عن الهجرات. وبناء عليه ليس الأمر فقط أن التاريخ يعنى إما العملية الاجتماعية التاريخية أو معرفتنا بهذه العملية، ولكن أيضًا أن الحد بين المعنيين مائع تمامًا. على ذلك، يعطينا الاستعمال العامي لكلمة تاريخ غموضًا دلاليًا semantic ambiguity: تمييز غیر قابل للاختزال بين ما حدث وما يقال إنه قد حدث ولكن بنفس القدر تداخل غير قابل للاختزال بينهما، ومع ذلك يوحي هذا الاستعمال أيضًا بأهمية السياق: التداخل والمسافة بين جانبي التاريخانية historicity ربما لا يخضعان لصبغة عامة. فمسألة التماثل والاختلاف بين الطرق التي يكون بها ما حدث وما يقال إنه قد حدث، ربما تكون هي نفسها مسألة تاريخية.
الكلمات ليست مفاهيم والمفاهيم ليست كلمات: على الفارق بينهما تغذت طبقات من النظريات تراكمت عبر العصور، لكن النظريات تُبني على الكلمات وبواسطتها. بالتالي لا يُدهشنا أن الغموض الذي قدمه الاستعمال العامي لكلمة تاريخ قد جذب انتباه كثير من المفكرين منذ العصور (اليونانية) القديمة على الأقل. ما يثير الدهشة هو نفور نظريات التاريخ من التعامل مع هذا الغموض الأساسي. بالفعل، بقدر ما أصبح التاريخ مهنة مميزة اتبع المنظرون ميلين متضاربين. فقد شدد البعض، وهم المتأثرون بالوضعية، على التمييز بين العالم التاريخي وما نقوله أو نكتبه عنه. وشدد آخرون، وهم الذين تبنوا وجهة نظر “بنائية“، على التداخل بين العملية التاريخية والحكايات عن هذه العملية. وقد عالج معظمهم هذا الجمع ذاته، أي قلب الغموض، وكأنه مجرد صدقة عارضة في الحديث العامي يجب أن تصححه النظرية. أمل هنا أن أبين أن هناك مجالاً كبيرًا للنظر في إنتاج التاريخ خارج الثنائية التي تقترحها هذه المواقف وتعيد إنتاجها.
تاريخانية أحادية الجانب
دائمًا ما تضلل العروض المختصرة للاتجاهات الفكرية وفروع التخصصات الأكاديمية القارئ يتجميع مؤلفين مختلفين في مجموعات. لا أحاول أن أفعل ذلك هنا. وآمل أن يكون المخطط التالي كافيًا لبيان القصـور الذي أضعه محل تساؤل.2
أصبحت الوضعية سيئة السمعة اليوم. وهي تستحق بعض هذا الازدراء. حين تبلور التاريخ كمهنة في القرن التاسع عشر حاول الباحثون المتأثرون بشكل كبير بالرؤى الوضعية أن يُنظروا للتمييز بين العملية التاريخية والمعرفة التاريخية. وبالفعل قامت احترافية هذا التخصص الأكاديمي جزئيًا على افتراض هذا التمييز المنطقي:
فبقدر ما تطول المسافة بين العملية الاجتماعية التاريخية والمعرفة بها بقدر ما يسهل ادعاه احترافية “علمية“، من هنا كان المؤرخون، وبشكل أخص فلاسفة التاريخ، فخورين باكتشاف أو ترديد الأمثلة التي يفترض أن التمييز فيها لا يقبل الجدل لأنه لا يكون موسومًا بالسياق الدلالي فحسب، ولكن وأيضًا بتصريف الكلمة أو المعجم ذاته فالتمييز اللاتینی بین res gestu و historia) rerum gestarum)، أو التمييز الألماني بين التاريخ Geschichte وكتابة التاريخ Geschichtschreibung، ساعدا في نقش اختلاف أساسي، يكون أحيانًا وجوديًا وأحيانًا معرفيًا، بين ما حدث وما قيل إنه قد حدث. وقد عززت هذه الحدود الفلسفية بدورها الحد الزمني chronological بين الماضي والحاضر، الموروث من العصور (اليونانية) القديمة.
لقد هيمن الموقف الوضعي على البحث الأكاديمي الغربي وقتًا طويلاً، بحيث أثر على رؤية التاريخ حتى عند المؤرخين والفلاسفة الذين لم يعتبروا أنفسهم بالضرورة وضعيين. وما زالت معتقدات هذه الرؤية تحدد الشعور العام بالتاريخ في معظم أوروبا وأمريكا الشمالية: دور المؤرخ هو الكشف عن الماضي، اكتشافه، أو الاقتراب من الحقيقة على الأقل. داخل وجهة النظر هذه ليست القوة power إشكالية ولا مرتبطة ببناء الحكاية في حد ذاتها، في أفضل الأحوال التاريخ هو قصة عن القوة، عن هؤلاء الذين فازوا.
العبارة القائلة إن التاريخ شكل آخر من أشكال الأدب التخيلي fiction قديمة قدم التاريخ نفسه، وقد اختلفت الحُجج التي استعملت للدفاع عنها اختلافًا عظيماً. فكما يرى تزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov، ليس هناك جديد حتى في ادعاء أن كل شيء عبارة عن تفسير، باستثناء النشوة التي تحيط الآن بهذا الادعاء.3 ما أسميه الرؤية البنائية للتاريخ هو طبعة مخصوصة من هاتين الجملتين اللتين حازتا شهرة في العالم الأكاديمي منذ سبعينيات القرن العشرين. وهي مبنية على تقدم حدث في النظرية النقدية وفي نظرية الحكاية narrative والفلسفة التحليلية. وتؤكد طبعتها السائدة أن الحكاية التاريخية تتخطى قضية الحقيقة بفضل شكلها نفسه. فالحكايات محبوكة بطريقة تختلف عن الحياة، وبالتالي فإنها تشوهها بالضرورة، بصرف النظر عما إذا كان يمكن إثبات صحة الأدلة التي أقيمت عليها من عدمه. داخل وجهة النظر هذه يصبح التاريخ نوعًا واحدًا بين أنواع حكى عديدة، لا يميزه شيء سوى ادعاء الحقيقة.4 وبينما تُخفي الرؤية الوضعية مجازات القوة خلف إبستمولوجيا ساذجة، تنكر الرؤية البنائية استقلال العملية الاجتماعية الاقتصادية. إذا مُدت الرؤى البنائية على استقامتها إلى نهايتها المنطقية تكون الحكاية التاريخية أدبًا تخيليًا من بين آداب تخيلية أخرى.
ولكن ما الذي يجعل بعض الحكايات أكثر قوة من غيرها بما يكفي لتمريرها كتاريخ مقبول إن لم يكن باعتبارها التاريخانية نفسها؟ إذا كان التاريخ مجرد قصة رواها من فازوا، فأولاً كيف فازوا؟ ولماذا لا يدلى كل الفائزين بنفس القصة؟
…
بين الحقيقة والأدب التخيلي
تُجدِّد كل حكاية تاريخية دعوى الحقيقة.5 إذا كنت أكتب قصة تصف كيف دخلت قوات الولايات المتحدة سجنا ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية وذبحت خمسمائة غجري؛ واذا ادعيت أن القصة مبنية على وثائق وُجدت حديثًا في الأرشيف السوفيتي وتعززها مصادر ألمانيا، وإذا كنت قد زيفت مثل هذه المصادر ونشرتُ قصتي بحالتها هذه، لن أكون قد كتبت أدبًا خياليًا، وانما أكون قد زيفت. لقد انتهكت القواعد التي تحكم الادعاء بالحقيقة التاريخية.6 وكون أن مثل هذه القواعد ليست ثابتة في كل زمان ومكان قد أدت بباحثين عديدين إلى اقتراح أن بعض المجتمعات (هي المجتمعات غير الغربية، بالطبع) لا تفرق بين الخيال والتاريخ. هذا القول يذكرنا بجدالات الماضـي بين بعض الملاحظين الغربيين عن لغات الشعوب التي استعمروها. فلأن هؤلاء الملاحظين لم يجدوا كتبًا في قواعد اللغة أو قواميس عند من أسموهم الهمج، ولأنهم لم يفهموا أو يطبقوا القواعد النحوية التي حكمت هذه اللغات، استنتجوا ببساطة أن هذه القواعد غير موجودة.
لم يكن (هذا) الحقل (المعرفي: اللغة)، مثل غيره من الحقول، قائمًا من البداية على المساواة بين الغرب والعديد من الآخرين التابعين الذين خلقهم بنفسه. فالموضوعات التي جرت المقابلة بينها غير قابلة للمقارنة بشكل استثنائي. لقد وضعت المقارنة بشكل غير عادل خطابًا عن اللغة والممارسة اللغوية: أثبتت لغة النحويين المشتقة وجود قواعد لغوية في اللغات الأوروبية؛ بينما أثبت الكلام التلقائي غيابها في أي مكان آخر. رأى بعض الأوروبيين وتلاميذهم المستعمرين في هذا الغياب المزعوم للقواعد حرية طفولية، أصبحوا يربطونها بالهمجية، بينما رأى آخرون فيها إثباتًا إضافيًا على انحطاط غير البيض، نحن نعرف الآن أن كلا الجانبين كانا على خطأ؛ فالقواعد تعمل في كل اللغات. هل يمكن قول نفس الأمر عن التاريخ؟ أو هل التاريخ مطواع بلا نهاية في بعض المجتمعات بحيث يفقد ادعاءه التفاضلي بالحقيقة؟
تصنيف جميع غير الغربيين كلاتاريخيين مرتبط أيضًا بادعاء أن التاريخ يتطلب إحساسًا خطيًا وتراكميًا بالزمن يسمح للملاحظ بعزل الماضي ككينونة واضحة المعالم. لكن ابن خلدون طبق بشكل مثمر رؤية دائرية للزمن على دراسة التاريخ. فوق ذلك يعود التزام المؤرخين الغربيين الحصرى بزمن خطي، وما ينشأ عن ذلك من رفض الشعوب التي تركت “بلا تاريخ“، إلى القرن التاسع عشر، فهل كان للغرب تاريخ قبل عام 1800؟
الاعتقاد الخبيث بأن صلاحية المعرفة لا تهم سوى السكان الذين تعلموا تعليمًا غربيًا، إما لأن الآخرين يفتقرون إلى الشعور السليم بالزمن أو بالدليل، ينكره استعمال الإثباتات evidentials في عدد من اللغات غير الأوروبية.7 قد يصبح تقدير تقريبي إنجليزي قاعدة تُجبر المؤرخين على التمييز من حيث القواعد النحوية بين “سمعت أن هذا قد حدث و “رأیت أنه حدث” أو “لقد أتبت بدليل على أنه حدث” في كل مرة يستعملون فيها فعل حدث، لكن بالطبع ليس في اللغة الإنجليزية قاعدة نحوية كهذه لتقييم الدليل. هل حقيقة أن التوكريا Tumuww لديها نظام متطور للإثباتات يجعل الأمازونيين المتحدثين بها أكثر استعدادًا من معظم الإنجليز لأن يكونوا مؤرخين أفضل؟
يقرر آرجون أبادورای Arjun Appadurai بشكل مقنع أن القواعد بشأن ما يسميه “إمكانية مساءلة debatability الماضي” تعمل في كل المجتمعات.8 برغم أن هذه القواعد تتعرض لتغيرات جوهرية في الزمن والمكان، فإنها تهدف جميعًا إلى ضمان حد أدنى من المصداقية للتاريخ. ويقترح عددًا من القيود الشكلية التي تفرض هذه المصداقية وتحدد طبيعة الجدل التاريخي: السلطة والاستمرارية والعمق والاعتماد المتبادل، ما من مكان يكون فيه التاريخ معرضًا للابتكار بشكل لا نهائي.
تنفصل الحكاية التاريخية عن الأدب التخيلي لأنها تحتاج إلى نوع مختلف من المصداقية، هذه الحاجة عرضية وضرورية معًا. فهي عرضية بقدر ما أن بعض الحكايات تتحرك على الخط الواصل بين الرواية التخيلية والتاريخ، بينما تشغل حكايات أخرى موقعًا غير محدد يبدو أنه ينكر ذات وجود هذا الخط، وهي حاجة ضرورية بقدر ما يكون على جماعات محددة تاريخيًا أن تقرر عند لحظة معينة هل هذه الحكاية أو تلك تنتمي إلى التاريخ أم إلى الأدب التخيلي؟ بكلمات أخرى، يتم التعبير عن القطيعة الإبستمولوجية بين التاريخ والأدب التخيلي دائمًا بشكل عيني من خلال تقييم متموضع تاريخيًا لحكايات بعينها.
هل أكل لحوم البشر في جزر الأنتيل Antilles واقعة أم خيال؟ لقد حاول الباحثون طويلاً أن يؤكدوا أو يكذبوا ادعاء بعض المستوطنين الأسبان المبكرين أن سكان الجزر الأصليين ارتكبوا أكل لحوم البشر.9 هل التداعي في المعنى بين (كلمات) الكاريبيين وآكلي لحوم البشر والبشر الحيوانيين Canbs، Cannibals and Caliban مبنی على ما يفوق مجرد خيالات أوروبية؟ يرى بعض الباحثين أن هذه الفانتازيا قد وصلت أهميتها في الغرب إلى درجة جعلت أنه لا يكاد يهم ما إذا كانت مبنية على وقائع أم لا. هل يعني هذا أن الخط الفاصل بين التاريخ والخيال بلا فائدة؟ بقدر ما يتناول الحوار كلامًا أوروبيا عن هنود (حُمر) موتى، يكون الكلام مجرد مناقشة أكاديمية.
لكن حتى الهنود (الحمر) الموتى يمكن أن يعودوا ليطاردوا المؤرخين المحترفين والهواة. يؤكد المجلس القبلي المشترك للهنود (الحمر) الأمريكيين أن رفات أكثر من ألف فرد، معظمهم من سكان أمريكا الأصليين الكاثوليك، قد دفنت في أراض مجاورة للآلامو ، في مقبرة قديمة كانت مرتبطة يومًا بالإرسالية الفرنسسكانية، لكن معظم بقاياها الظاهرة قد اختفت. لم تلق محاولات المجلس لجعل ولاية تكساس ومدينة سان أنطونيو يعترفان بقداسة هذه الأراضي إلا نجاحًا جزئيًا، لكنها ما زالت مؤثرة بما يكفي لتهديد سيطرة المنظمة التي تتولى الوصاية على الآلامو، وهي منظمة “بنات جمهورية تكساس“، التي تحتفظ بموضع تاریخی ائتمنتها عليه ولاية تكساس منذ عام 1905.
النقاش حول هذه الأراضي يندرج ضمن حرب أكبر أسماها بعض الملاحظين “معركة الآلامو الثانية“. يدور هذا الجدل الأوسع عن حصار قوات سانتا آنا عام 1836 لمجمع المباني. هل كانت تلك المعركة لحظة مجد اختار خلالها الأنجلو المحبون للحرية – الذين لم يفل من عزمهم قلة عددهم بالنسبة لمحاصريهم – بشكل تلقائي أن يقاتلوا حتى الموت بدلاً من الاستسلام لديكتاتور مكسيكى فاسد؟ أم هي مثل وحشي للنزعة التوسعية الأمريكية، قصة سيطرة قلة من المفترسين البيض على منطقة مقدسة وتقديمهم بموتهم، الذي لم يكن عن رغبة إلا جزئيًا، عذرًا لإلحاق (للمنطقة) تم التخطيط له جيداً؟ أثار النقاش المصاغ على هذا النحو قضايا انقسم حولها بضعة مؤرخين وسكان تكساس على مدى العشرين عامًا الأخيرة. لكن مع تشكيل الهسبان Hispanics (: الأمريكيون المتحدثون بالأسبانية أو من أصل أسبانی – م)، اسمًا 56% من سكان سان أنطونيو، يعترف كثيرون منهم بأسلاف أمريكيين أصليين، وصلت “معركة الآلامو الثانية إلى الشوارع حرفياً، تمثل المظاهرات والمواكب وافتتاحيات الصحف والطلبات المقدمة لمختلف النظم البلدية أو المحاكم – بما فيها مظاهرة تسد الآن الشوارع المؤدية إلى الألامو – علامات على الجدل بين أحزاب يزداد غضبها.
في السياق الملتهب لهذا الجدل، يشكك المدافعون عن الجانبين في البيانات الواقعية factual التي لم تكن دقتها تعنى سوى قلة قبل نصف قرن. كل معسكر يشكك في أو يهلل لـ “وقائع” تافهة أو بارزة، ويتناولها في حد ذاتها نسبياً.
لقد تساءل المؤرخون منذ زمن طويل عن دقة بعض الأحداث في حكايات آلامو، خصوصًا قصة الخط المرسوم على الأرض. وفقًا للقصة، حين اتضح للـ ١٨٩ المحتلين لآلامو أن الخيار المتاح بالنسبة لهم هو إما الهرب أو الموت المؤكد على أيدي المكسيكيين، رسم قائدهم وليام بارت ترافيز William Barret Travis خطا على الأرض، ثم طلب من الراغبين في القتال حتى الموت أن يعبروه. من المفترض أن الجميع عبروه – بالطبع عدا الرجل الذي هرب بشكل ملائم ليحكي القصة. منذ زمن طويل اتفق مؤرخو تاريخ تكساس، خصوصًا مؤلفو المراجع والتاريخ الشعبي المنتمين لتكساس، على أن هذه الحكاية بالذات ليست سوى “قصة جيدة” وأنه “لا يهم بالفعل ما إذا كانت حقيقية أم لا“.10 هذه الملاحظات التي سبقت صعود الموجة المنهجية البنائية الحالية، كتبها أناس اعتقدوا بخلاف هذه الموجة أن الحقائق حقائق وليست سوى حقائق. لكن في سياق أصبحت فيه شجاعة الرجال الذين بقوا في الآلامو محل تساؤل مفتوح أصبح الخط المرسوم على الأرض فجأة أحد “الوقائع” الكثيرة الخاضعة الآن لاختبار المصداقية.
قائمة الوقائع لا تنتهى.11 أين كانت المقبرة بالضبط، وهل ما زالت الرفات موجودة بها؟ هل السائحون الذين يزورون الآلامو ينتهكون الحقوق الدينية للموتى، وهل يجب على الولاية أن تتدخل؟ هل دفعت الولاية يوما للكنيسة الكاثوليكية الرومانية السعر المتفق عليه لكنيسة الآلامو؟ وإن لم تكن قد دفعت، ألا يكون القائمون بالوصاية مغتصبين لأحد المعالم التاريخية؟ هل دفن جيمس بوى James Bowie، أحد القادة الأمريكان البيض، كنزًا مسروقًا في المكان؟ إذا كان الأمر كذلك، هل هذا هو السبب الحقيقي لاختيار المحتلين لخيار القتال؟ أو بالعكس، هل من حياته وكنزه؟ باختصار إلى أي مدى كان الجشع، لا الوطنية، مركزيًا في معركة الآلامو ؟ هل اعتقد المحاصرون خطأ أن التعزيزات قادمة في الطريق، وإذا كان الأمر كذلك، بأي قدر تستطيع أن نؤمن بشجاعتهم؟ هل مات دافی کروکیت Davy Crockett خلال المعركة أم بعدها؟ هل حاول أن يستسلم؟ وهل كان يرتدي حقًا قبعة من جلد الراكون إحيوان ثديي أمريكي مفترس من فصيلة القطط – م) ؟
هذا السؤال الأخير قد يبدو الأكثر تفاهة في قائمة شديدة الغرابة؛ ولكنه سيبدو أقل عبثية وغرابة حين نلاحظ أن صريح آلامو هو المكان الأكثر جذبًا للسياحة في تكساس، حيث يبلغ. عدد الزائرين ثلاثة ملايين سنوياً، والآن حين أصبحت الأصوات المحلية عالية بما يكفي للتشكيك في براءة هذا الجرينجو (لفظ تحقير يطلقه سكان أمريكا اللاتينية على الأمريكان أو الإنجليز – م) الصغير الذي يرتدى قبعة دافي Davy (قبعة على غرارها تباع للسائحين – م)، ربما يفكر ماما وبابا مرتين قبل أن يشتروا واحدة، ويرتعش الأوصياء على التاريخ من لحاق التاريخ بالحاضر بأسرع مما ينبغي. في سياق هذا الجدل أصبحت مسألة “كيف كان دافي الحقيقي” مهمة فجأة.
الدرس المستخلص من هذا النقاش واضح. عند مرحلة معينة، ولأسباب هي ذاتها تاريخية، مدفوعة غالبًا بالخلافات، تشعر الكيانات الجمعية collectivities بالحاجة لفرض اختبار مصداقية على أحداث وحكايات معينة لأنه يعنيهم تحديد ما إذا كانت صحيحة أم زائفة، أو هل هذه القصص واقع أم خيال. كون أنها تعنيهم أمر لا يعني بالضرورة أنها تعنينا نحن. ولكن إلى أي حد نستطيع أن نمارس النزعة الانعزالية؟ هل حقا أنه لا يهم ما إذا كانت الحكاية السائدة عن المحرقة اليهودية (الهولوكوست) حقيقية أم زائفة؟ هل حقًا لا يكاد يوجد فرق بين أن يكون قادة المانيا النازية قد خططوا وأشرفوا بالفعل على موت 6 مليون يهودي من عدمه؟
ظل زملاء معهد المجلة التاريخية Institute for Historical Review يؤكدون أن حكاية الهولوكوست مهمة، ولكنهم يؤكدون أيضًا أنها زائفة. إنهم يتفقون بصفة عامة على أن اليهود تمت التضحية بهم خلال الحرب العالمية الثانية، وقد يقبل بعضهم أيضًا بأن الهولوكوست كان تراجيديًا. ولكن معظمهم يدافع عن تصحيح التدوين بشأن ثلاث قضايا رئيسية: العدد الشائع عن سنة ملايين يهودي قتلهم النازيون؛ الخطة النازية المنظمة لإبادة اليهودي وجود “غرف الغاز” للقتل الجماعي.12 يدعى المراجعون أنه لا توجد أدلة غير قابلة للتفنيد تدعم أيًا من هذه “الوقائع” المركزية التي تهيمن على حكاية الهولوكوست التي تفيد فقط في إدامة سياسات رسمية مختلفة في الولايات المتحدة وأوروبا، وإسرائيل.
وقد فند عدد من الكتاب أطروحات المراجعين عن الهولوكوست. استعمل المؤرخ بيير فيدال – ناکیه Pierre Vidal-Naquet الذي ماتت أمه في (معتقل) أوشفيتر Auschwitz (النازي) دفوعه المتكررة أمام القضاء بشأن الأطروحات المراجعة ليطرح أسئلة قوية عن العلاقة بين البحث الأكاديمي والمسئولية السياسية. ويوثِّق جان – بيير بريساك Jean-Pierre Pressac، الذي كان هو نفسه من المراجعين، آلة الموت الألمانية أفضل من أي مؤرخ آخر. وتختبر ديبورا ليبشتات Deborah Lipstudt في كتابها الأخير عن الموضوع الدوافع السياسية للمراجعين لتدشن نقدًا أيديولوجيًا لنزعة المراجعة، ردًا على هذا النوع الأخير من النقد يجيب المراجعون بأنهم مؤرخون: ماذا تهم دوافعهم إذا كانوا يتبعون “المناهج المعتادة للنقد التاريخي؟ لا نستطيع أن ننبذ نظرية مركزية الشمس لمجرد أنه يبدو أن كوبرنيكوس كان يكره الكنيسة الكاثوليكية. 13
…
يقدم ادعاء المراجعين أنهم يتقيدون بالإجراءات الإمبريقية حالة مثالية لاختيار حدود النزعة البنائية التاريخية.14 فالرهانات السياسية والأخلاقية المباشرة على حكايات الهولوكوست بالنسبة لعدد من الجماعات الانتخابية على مستوى العالم والقوة التنافسية لهذه الجماعات وعلو صوتها في الولايات المتحدة وأوروبا تغرى البنائيين سياسيًا ونظريًا معاً. فالموقف البنائي المنطقى الوحيد بشأن مناقشة الهولوكوست هو إنكار أن النقاش مهم. فالبنائيون يجب أن يدعوا أنه لا يهم حقًا ما إذا كانت هناك غرف غاز أم لا، ما إذا كان القتلى مليونًا واحدًا أم ستة ملايين. أو ما إذا كانت الإبادة العرقية مخططة أم لا، وبالفعل اقترب البنائی هایدن وایت Hayden White بشكل خطر من اقتراح أن الحكاية السائدة عن الهولوكوست تتعلق أساسًا بالمساعدة في إضفاء الشرعية على سياسات دولة إسرائيل،15 وقد حد وايت لاحقًا من موقفه البنائي المتطرف وأصبح يعتنق الآن نزعة نسبية أكثر تواضعًا بكثير.16
لكن إلى أي حد يمكن أن نختزل ما حدث إلى ما قيل إنه حدث؟ إذا لم يكن يهم فعلاً رقم الستة ملايين هل يكفي مليونان، أو هل يرضى بعضنا بالاكتفاء بثلاثمائة ألف؟ إذا فُصل المعنى تمامًا عن الدالّ “هناك في الخارج” ، إذا لم يكن هناك هدف معرفي، ولا شيء لإثباته أو نفيه، ما هو إذن موضوع القصة؟ إجابة وايت واضحة: إقامة السلطة الأخلاقية. ولكن لماذا نهتم بالهولوكوست أو عبودية العِزَب slavery plantation (في العالم الجديد) أو بول بوت (قائد الخمير الحمر في كمبوديا الذين ارتكبوا مذابح وحشية – م) أو بالثورة الفرنسية، حين يكون لدينا بالفعل فتاة المعطف الأحمر ذو القلنسوة؟ (حكاية شعبية أوروبية عن فتاة بهذا الاسم واللباس يأكلها الذئب هي وجدتها بالخديعة ثم ينقدهما صياد. والمقصود: ما دام لدينا بالفعل قصة خيالية تشير نفس المشاعر – م).
معضلة البنائيين أنهم بينما يستطيعون أن يشيروا إلى مئات القصص التي تلقي الضوء على ادعائهم العام بأن الحكاية يتم إنتاجها، فإنهم لا يستطيعون أن يقدموا رواية كاملة عن إنتاج أية حكاية بعينها، لأنه إما أننا جميعًا نشترك في نفس القصص التي تضفي الشرعية، وإما أن أسباب أهمية قصة معينة لسكان معينين هي نفسها تاريخية. القول بأن حكاية معينة تضفي الشرعية على سياسات بعينها يعني القول ضمنيًا بإمكانية وجود إفادة “حقيقية” عن هذه السياسات عبر الزمن، وهي إفادة يمكن أن تأخذ هي نفسها شكل حكاية أخرى. لكن التسليم بإمكانية هذه الحكاية الأخرى يعني بدوره القبول بأن العملية التاريخية تتمتع ببعض الاستقلال في مواجهة الحكاية. إنه يعني التسليم بأن الحد الفاصل بين ما حدث وما قيل إنه حدث، على غموضه وعرضيته، ضروري.
ليست المسألة أن بعض المجتمعات تميز بين الخيال والتاريخ على خلاف غيرها من المجتمعات، وانما يكمن الفارق في نطاق الحكايات التي يجب على كيانات جمعية معينة أن تُخضعها لاختباراتها الخاصة بالمصداقية التاريخية بسبب المصالح الداخلة في هذه الحكايات.
التاريخانية أحادية الموضع
ستكون على خطأ إذا ظننا أن مثل هذه الأوضاع تتطور بشكل طبيعي عن أهمية حادث أصلي. فالتصور الشائع عن التاريخ كتذكرة بخبرات الماضي المهمة مُضلل. النموذج نفسه معروف جيدًا: التاريخ للكائن الجماعي كالتذكر للفرد، إنه الاستعادة الواعية بدرجة أو بأخرى للخبرات الماضية المحفوظة في الذاكرة، فإذا وضعنا التنويعات الكثيرة جانبًا نستطيع أن نسمي هذا النموذج باختصار النموذج المخزني للذاكرة/ التاريخ.
المشكلة الأولى في نموذج المخزن هي عمره، العلم العقيق الذي يستند إليه. يفترض النموذج رؤية عن المعرفة كتذكر، وهي رؤية ترجع إلى أفلاطون، ويتحداها الآن الفلاسفة وعلماء المعرفة. فوق ذلك، فكرة ذاكرة الفرد التي استُقيت منها أصبحت محل تساؤل قوى من جانب باحثين من مختلف الأنواع منذ نهاية القرن التاسع عشر على الأقل. الذاكرة داخل هذه الرؤية تمثيلات مفردة محفوظة في حجرة خاصة، محتوياتها بصفة عامة دقيقة ويمكن الوصول إليها حسب المشيئة. جعلت البحوث الحديثة كل هذه الافتراضات محل تساؤل، ليس التذكر دائمًا عملية استدعاء لتمثيلات عما حدث. يتضمن ربط رباط الحذاء ذاكرة (خبرة سابقة عن كيفية ربطه – م)، لكن قليلون منا يدخلون في استدعاء صريح لصور في كل مرة نربط فيها أحذيتنا بشكل روتيني. سواء كان التمييز بين الذاكرة الصريحة والضمنية يتضمن نظم ذاكرة مختلفة أم لا فإن واقع أن مثل هذه الأنظمة مرتبطة ارتباطًا لا فكاك منه في الممارسة يمكن أن يكون سببًا إضافيًا يفسر لماذا تتغير الذاكرة الصريحة. أيًا كان الأمر هناك دليل على أن محتويات حجرتنا هذه لا هي ثابتة ولا متاحة حسب المشيئة.”17
فوق ذلك، إذا كانت هذه المحتويات كاملة فإنها لا تشكل تاريخاً. لنأخذ مونولوجًا يصف بالترتيب كل ذكريات فردٍ ما، سوف يبدو كنغمات متنافرة حتى بالنسبة لمن يحكي. وأكثر من ذلك هناك على الأقل إمكانية وجود أحداث لم يعرفها الفرد وقت حدوثها يمكن أن تكون قد لعبت دورًا مهمًا في مسار حياته، ولكن لا يمكن حكايتها كثيرات يتم تذكرها، الفرد يستطيع فقط أن يتذكر ما يتكشف له revelation، لا الحدث نفسه. فربما أتذكر أننى قد ذهبت إلى اليابان بغير أن أتذكر الشعور بالوجود في اليابان، ربما أتذكر أنه قيل لي إن والدي قد أخذوني إلى اليابان حين كان عمري ستة شهور، لكن في هذه الحالة، هل ما تكشف لي هو وحده الذي ينتمي إلى تاريخ حياتي؟ هل نستطيع بكل ثقة أن تستبعد من تاريخ المره كل الأحداث التي لم يمر بخبرتها أو لم تتكشف له بعده بما أنها مثلاً تبنيه عند ميلاده؟ ربما يوفر المبني منظورًا حاسمًا السلاسل أحداث وقعت قبل تكشفه، والتكلف نفسه قد يؤثر على ذاكرة الحكام الشخصية للحوادث التي وقعت قبله.
إذا كانت الذكريات كتاريخ للفرد مبنية (تمر بعملية بناء وليست بالتالي انعكاسًا مباشرًا اللواقع – م)، ولو بهذا المعنى المحدود، كيف يمكن تثبيت الماضي الذي يستعيده الأفراد؟ لا يملك نموذج التخزين إجابة على هذا السؤال فالطبعتين الشعبية والأكاديمية لهذا النموذج، كلاهما يفترض الوجود المستقل الماضي ثابت ويضمان الذاكرة كاستعادة لهذا المحتوى. لكن الماضي لا يوجد مستقلاً عن الحاضر، بالفعل، الماضي لا يكون ماضيًا إلا لأن هناك حاضر، تمامًا مثلما لا أستطيع أن أشير إلى شيء على أنه هناك إلا لأننى هذا، لكن ليس هناك شيء هو بطبيعته هناك أو هنا. بهذا المعنى ليس للماضي محتوى، الماضي – أو يشكل أدق الماضية pastness (ماضية حدث أو حقبة ما – م) – هي وضع، وبالتالي ليست هناك طريقة يمكن بها أن تحدد الماضي كماضٍ، دعنا الآن من واقعة أن معرفتی بأنني قد ذهبت ذات مرة إلى اليابان، أيا كان مصدر معرفتي، ربما لا تكون من نفس طبيعة تذكر الشعور بالوجود في اليابان، فالنموذج يدعى أن كلا النوعين من المعلومات يوجد كماضٍ سابق على استعادتي لأي منهما. لكن كيف أستعيدهما كماضٍ بغير معرفة أو ذاكرة سابقة بما يشكل الماضية؟
تتضاعف مشكلات تحديد ما ينتمي إلى الماضى عشرة أضعاف حين يقال عن هذا الماضي أنه جماعي. بالفعل، حين تُنقل معادلة الذاكرة – التاريخ إلى كيان جمعي، تضيف النزعة الفردية المنهجية ثقلها إلى الصعوبات المتأصلة في نموذج التخزين. ربما نحب أن نفترض لأغراض الوصف أن تاريخ حياة الفرد تبدأ بمولده، لكن متى تبدأ حياة الكيان الجمعي؟ في أية لحظة نضع بداية الماضي الذي يُراد استعادته؟ كيف تقرر – وكيف يقرر الكيان الجمعي – الأحداث التي يجب إدراجها والتي يجب استبعادها؟ فنموذج التخزين لا يفترض فقط الماضي الذي يجب تذكره، بل يفترض أيضًا الذات الجمعية التي تقوم بالتذكر. المشكلة في هذا الافتراض المزدوج هي أن الماضي المبنى نفسه داخل في تكوين الكيان الجمعي.
هل يتذكر الأوروبيون والأمريكيون البيض اكتشاف العالم الجديد؟ لا أوروبا كما نعرفها الآن ولا البياض whiteness كما نعرفه الآن قد وُجدا بحالتهما هذه عام ١٤٩٢. كلاهما داخلان في تكوين هذه الكينونة المستعادة التي نسميها الآن الغرب، والتي بغيرها يصبح “الاكتشاف” غير قابل للتفكير فيه بشكله الحالي. هل يستطيع مواطنو كييك Quebec الذين تقرر لوحات أرقام سياراتهم بفخر “إنني أتذكر“، أن يستعيدوا بالفعل ذكريات من دولة الاستيطان الفرنسية؟ هل يستطيع المقدونيون، أيًا كان هؤلاء، أن يستدعوا الصراعات والأمال المتصلة بالنزعة الهيلينية الجامعة panhellenism؟ هل يستطيع أي إنسان في أي مكان أن يتذكر التحولات الجماعية الأولى الصرب إلى المسيحية؟ في هذه الحالات، وغيرها كثير، لم تكن الذوات الجمعية التي يُفترض أن تتذكر موجودة بهذه الحالة في زمن الأحداث التي تدعي أنها تتذكرها. بالأحرى يكون تكونها كذوات مصاحبًا دائمًا لخلقها المستمر الماضي. وبوصفها كذلك فإنها لا تتجاوز مثل هذا الماضي: إنها معاصرة له.
وحتى حين تكون الاستمراريات التاريخية غير قابلة للمساءلة فإننا لا نستطيع بأية حال أن نفترض معامل ارتباط بسيط بين شدة الأحداث كما حدثت وقيمتها بالنسبة للأجيال التي ترثها من خلال التاريخ، توفر الدراسة المقارنة للعبودية في الأمريكتين مثالاً جذابًا على أن ما نسميه غالبًا “ميراث الماضي” قد لا يكون شيئًا ورثه هذا الماضي نفسه.
للوهلة الأولى يبدو واضحًا أن أهمية العبودية في الولايات المتحدة تأتي من فظائع الماضي فتجري إثارة للك الماضي باستمرار كنقطة انطلاق لجرح متنام وكتفسير ضروري لأشكال عدم المساواة الجارية التي يعاني منها السود. إنتى آخر من ينكر أن عبودية العرب كانت خبرة أحدثت جروحًا تركت ندوبًا قوية في كل أنحاء الأمريكتين لكن خبرة الأمريكيين الأفارقة خارج الولايات المتحدة تتحدى الربط المباشر بين جروح الماضي والأهمية التاريخية. في سياق نصف الكرة (الغربي – م) استوردت الولايات المتحدة “عددًا قليلاً نسبيًا من الأفارقة المستعبدين قبل وبعد الاستقلال“، خلال أربعة قرون جلبت تجارة العبيد ما لا يقل عن عشرة ملايين عبد إلى العالم الجديد. وقد عمل العبيد وماتوا في الكاريبي لمدة قرن قبل استيطان جيمستاون Jamestown وفرجينيا. وقد استقبلت البرازيل، وهي المنطقة التي استمرت فيها العبودية أطول وقت، نصيب الأسد من العبيد الأفارقة، حوالي أربعة ملايين. واستوردت منطقة الكاريبي ككل عبيدًا أكثر حتى من البرازيل، انتشروا بين مستعمرات مختلف القوى الأوروبية. ومع ذلك كانت واردات العبيد عالية في كل منطقة من الكاريبي، خصوصًا جُزُر (زراعة قصب) السكر، وبالتالي استوردت جزيرة المارتنيك Martinique الكاريبية الفرنسية، وهي أرض صغيرة المساحة أقل من ربع مساحة لونج ايلاند Long Island، عبيدًا أكثر من كل الولايات المكونة للولايات المتحدة مجتمعة.18 لا شك أن الولايات المتحدة في بدايات القرن التاسع عشر كان لديها عبيد كريوليين Creole (مخلطين من البيض والسود في الأمريكتين – م) أكثر من أي بلد أمريكي آخر، لكن هذا العدد كان بسبب التزايد الطبيعي. برغم هذا ما زلنا لا نستطيع أن نقول إن شدة العبودية في الولايات المتحدة من حيث المدة أو عدد الأفراد الذين شملتهم تفوق مثيلتها في البرازيل أو الكاريبي.
ثانياً، كانت العبودية لا تقل أهميتها في الحياة اليومية للمجتمع البرازيلي والمجتمعات الكاريبية وقد تريد بالمقارنة بمجتمع الولايات المتحدة ككل، بصفة خاصة لم تكن جُزُر السكر البريطانية والفرنسية، من باربادوس وجامايكا القرن السابع عشر إلى سان دومينج Saint-Domingue والمارتنيك في القرن الثامن عشر مجرد مجتمعات لديها عبيد، بل كانت مجتمعات عبيد. فالعبودية حددت تنظيمها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي: كانت العبودية منطلق وجودها، والناس الذين عاشوا هناك، سواء كانوا أو لم يكونوا عبيداً، عاشوا لأنه كان هناك عديد. قد يكون المعادل الشمالي في كل الولايات المتحدة القارية يشبه ولاية آلاباما وقت ذروة ازدهار (زراعة) القطن فيها.
ثالثًا، لا حاجة إلى القول بأن المعاناة البشرية قابلة للقياس لتؤكد أن ظروف العبيد المادية لم تكن أفضل خارج الولايات المتحدة عن ظروفهم داخل حدودها، وبرغم الادعاءات الأبوية فإننا نعرف أن سادة الولايات المتحدة لم يكونوا أكثر إنسانية من أمثالهم البرازيليين أو الكاريبين. لكننا نعرض أيضًا أن الضريبية الإنسانية للعبودية، الجسدية والثقافية، كانت مرتبطة بشدة بمقتضيات الإنتاج، خصوصًا نظام العمل. وقد فرضت ظروف العمل بصفة عامة توقعًا أقل للعمر المتوسط ومعدلات وفيات أعلى ومعدلات مواليد أقل كثيرًا بين العبيد الكاريبيين والبرازيليين بالمقارنة بزملائهم في الولايات المتحدة.19 من وجهة النظر هذه كان قصب السكر معذب العبيد الأكثر سادية.
…
باختصار هناك كتلة من الأدلة كبيرة بما يكفي لتدعيم ادعاء إمبريقي متواضع: لا يمكن أن يقال بأى حال أن أثر العبودية من حيث ما حدث بالفعل أقوى في الولايات المتحدة من أثرها في البرازيل والكاريبي. لماذا إذن كانت الأهمية الرمزية للعبودية كجرح وكذلك الأهمية التحليلية للعبودية كتفسير اجتماعی تاریخي أكثر انتشارًا بكثير جدًا اليوم في الولايات المتحدة مما هي في البرازيل أو الكاريبي؟
ربما يكمن جزء من الإجابة في الطريقة التي انتهت بها العبودية في الولايات المتحدة: حرب أهلية يبدو أن عدد البيض الذين لاموا العبيد عليها أكبر من عدد من لاموا أبراهام لنكولن Abraham Lincoln – الذي تظل دوافعه الخاصة في المشروع على العكس محل خلاف، وربما يكمن جزء آخر من الإجابة في مصير ذرية العبيد، ولكن هذا في حد ذاته ليس قضية من قضايا “الماضي“. فدوام العنصرية في الولايات المتحدة ليس ميراثًا للعبودية بقدر ما هو ظاهرة حديثة جددتها أجيال من المهاجرين البيض الذين كان أسلافهم على الأرجح يخضعون للعمل الإجباري في وقت أو آخر في أراضي القارة الأوروبية.
وبالفعل، لم يؤمن كل السود الذين شهدوا العبودية بأنها ميراث يجب عليهم وعلى أطفالهم أن يحملوا عباه إلى الأبد.20 كذلك لم تكن العبودية بعد التحرير بنصف قرن تيمة أساسية عند المؤرخين البيض، وإن كان ذلك لأسباب أخرى. فالكتابة التاريخية في الولايات المتحدة أنتجت لحظات صمتها الخاصة بشأن عبودية الأمريكان الأفارقة، لأسباب ربما لا تختلف كثيرًا عن أسباب زملائهم البرازيليين. في وقت أسبق من القرن الحالي (القرن العشرين) كان هناك سود وبيض في أمريكا الشمالية تناقشوا بشأن كل من الأهمية الرمزية والتحليلية للعبودية بالنسبة للحاضر الذي كانوا يعيشون فيه.21 توحي هذه المناقشات بأن الأهمية التاريخية لا تأتي مباشرة من الأثر الأصلي لحدث، أو من نمط نقشه inscription، أو حتى استمرارية هذا النقاش.
الجدل بشأن الآلامو أو الهولوكوست أو دلالة العبودية في الولايات المتحدة لا يشمل فقط المؤرخين المحترفين ولكن أيضًا قادة عرقيين ودينيين وساسة وصحفيين وجمعيات متنوعة في المجتمع المدني، بالإضافة إلى مواطنين مستقلين ليسوا جميعًا من النشطاء، هذا التنوع في الرواة هو أحد المؤشرات الكثيرة على أن نظريات التاريخ لديها رؤية محدودة للغاية لحقل الإنتاج التاريخي. فهي تستخف بشكل هائل بحجم وأهمية وتعقيد المواضع المتداخلة التي يتم إنتاج التاريخ فيها، خصوصًا خارج العالم الأكاديمي.22
تختلف قوة حرفة التاريخ من مجتمع لآخر. وحتى في المجتمعات عالية التعقيد حيث يكون ثقل الحرفة ملحوظًا لم يشكل إنتاج المؤرخين جسمًا مغلقاً. بالأحرى يتفاعل هذا الإنتاج مع أعمال الأكاديميين الآخرين، لكنه يتفاعل أيضًا تفاعلاً مهمًا مع التاريخ الذي يتم إنتاجه خارج الجامعات، وبالتالي لا يتم تنشيط الوعي الموضوعاتي thematic بالتاريخ فقط عن طريق الأكاديميين المعترف بهم، فنحن جميعًا مؤرخون هواة بدرجات مختلفة من الوعى بإنتاجنا. ونحن أيضًا نتعلم التاريخ من هواة مثلنا. فالجامعات والمطبوعات الجامعية ليست هي المركز الوحيد لإنتاج الحكاية التاريخية. فمبيعات الكتب في متجر الهدايا في الألامو تفوق حتى مبيعات قبعات جلد الراكون، منها نصف دستة عناوين بأقلام مؤرخين هواة تجلب أكثر من 400 ألف دولار سنوياً، فكما يرى مارك فيرو Mare Ferro التاريخ له بيوت كثيرة وليس الأكاديميون معلمي التاريخ الوحيدين في الأرض.23
يتعلم معظم الأوروبيين والأمريكيين الشماليين دروس التاريخ الأولى من وسائل الإعلام التي لا تخضع للمعايير التي وضعتها المجلات العلمية أو المنشورات الجامعية أو لجان مناقشة رسائل الدكتوراه. فقبل زمن طويل من قراءة المواطن المتوسط لأعمال المؤرخين الذين يضعون معايير اليوم للزملاء والطلبة، يتصلون بالتاريخ من خلال الاحتفالات وزيارة المعالم التاريخية والمتاحف والأفلام والأعياد الوطنية وكتب المدرسة الابتدائية. ولا شك أن ما يتعلمونه هناك يدعمه أو يحوره أو يتحداه الباحثون العاملون في البحوث الأولية. وكلما واصل التاريخ تماسكه مهنياً، وكلما زادت سرعة المؤرخين في تحوير أهدافهم وصقل أدوات تحقيقهم التاريخي كلما زاد تأثير التاريخ الأكاديمي، ولو بطريقة غير مباشرة.
لكن دعونا لا ننسى مدى هشاشة ومحدودية وحداثة هذه الهيمنة الظاهرة، دعونا لا ننسى أنه إلى وقت قريب تماماً، وفي أجزاء كثيرة من الولايات المتحدة، كان التاريخ الوطني وتاريخ العالم عبارة عن حكاية تدور حول العناية الإلهية لها ملمح دينى قوي. فكان تاريخ العالم يبدأ بالخلق، المفترض أن تاريخه معروف جيدًا، ويواصل عبر “القدر الواضح” Manifest Destiny (فكرة قدر الولايات المتحدة أن تتوسع لخير العالم، سواء في القارة نفسها أو في العالم ككل لاحقًا – م)، باعتباره متفقًا تمامًا مع بلد كان محط اهتمام العناية الإلهية، ولم ينبذ العلم الاجتماعي الأمريكي حتى الآن الإيمان باستثنائية الولايات المتحدة التي تخللت ميلادها وتطورها.24 بالمثل لم تُسكت الاحترافية الأكاديمية بُعد التاريخ القائم على فكرة الخلق، والذي ما زال حيًا في جُزُر داخل نظام المدارس.
ربما لا يكون لنظام المدرسة الكلمة الأخيرة في أية قضية، لكن محدودية كفاءتها سلاح ذو حدين، من منتصف الخمسينيات إلى منتصف الستينيات تعلم الأمريكيون من الأفلام والتليفزيون عن تاريخ أمريكا الاستعمارية والغرب الأمريكي أكثر مما تعلموه من الكتب المدرسية، هل تتذكر الآلامو؟ كان هذا درس في التاريخ قدمه جون وين John Wayne (بطل أفلام رعاة بقر أمريكية عديدة – م) على الشاشة. وكان دافي كروكيت Davy Crochett شخصية تليفزيونية أولاً، ثم أصبحت وجهًا تاريخيًا مهما، لا العكس.25 وقبل التزام هوليوود الطويل بتاريخ رعاة البقر والرواد، وبعده، تولت كتب الكومكس (الرسوم المتتالية – م) لا المراجع، والأغاني الريفية لا الجداول الزمنية، سد الفجوات التي تركتها أفلام رعاة البقر Westerns. وحينئذٍ، كما هو الحال الآن، تعلم الأطفال الأمريكيون وعدد قليل للغاية من الشباب في أماكن أخرى تلخيص أجزاء من ذلك التاريخ في تيمة، عن طريق لعبة الكاوبوي والهنود (الحُمر).
وأخيراً، من المفهوم أن الطائفة الحرفية (المؤرخين المحترفين) تعكس التقسيمات السياسية والاجتماعية في المجتمع الأمريكي. ومع ذلك لا تستطيع الطائفة الحرفية، بفعل ادعاءاتها الاحترافية، أن تعبر عن وجهات نظرها السياسية بصفتها هذه – على العكس تماما من النشطاء واللوبيهات. لذلك، ويا للعجب، كلما كانت قضية ما أكثر لسمية لقطاعات معينة من المجتمع المدني، كلما تم سحق تفسيرات الوقائع التي يقدمها معظم المؤرخين المحترفين. بالنسبة لمعظم الأفراد المشاركين في الجدالات حول الاحتفال بخمسمائة سنة على رحلة كولومبوس، أو معرض “الحقيقة الأخيرة” في (معهد) سميثونيان Smithsonian (معهد في واشنطن أقامه الكونجرس وتتبعه الآن المتاحف القومية – م) عن إينولا جاي Enola Gay (اسم الطائرة التي ألقت القنبلة الذرية – م) وهيروشيما، أو الكشف عن جبابات العبيد، أو بناء تُصب فيتنام التذكاري، تبدو العبارات التي ينتجها المؤرخون في الغالب ماسخة أو غير متصلة بالموضوع، في هذه الحالات وحالات أخرى كثيرة يبحث هؤلاء الذين يعنى لهم التاريخ الكثير عن تفسيرات تاريخية على حواف العالم الأكاديمي، إن لم تكن خارجة كلية.
برغم ذلك، تجاهلت نظريات التاريخ الحقيقة القائلة بأن التاريخ يتم إنتاجه أيضًا خارج العالم الأكاديمي، خلف اتفاق عريض – وحديث نسبيًا – على موضع المؤرخ المحترف، يندر الاستكشاف العيني لنشاطات تحدث في مكان آخر ولكنها تؤثر بشكل دال على موضوع الدراسة (التاريخية – م). لا شك أن مثل هذا التأثير لا يستجيب بسهولة للصيغ العامة، وهي مشكلة تنفر معظم المنظرين. لقد لاحظت أنه بينما يعترف معظم المنظرين في البداية بأن التاريخ يتضمن كلاً من العملية الاجتماعية وما يحكى عن هذه العملية، تفضل نظريات التاريخ واقعيًا جانبًا واحداً، كما لو كان الجانب الآخر غير مهم.
واحدية الجانب هذه ممكنة لأن نظريات التاريخ نادرًا ما تدرس بالتفصيل الإنتاج العيني لحكايات معينة. أحيانًا يجرى استحضار الحكايات كأمثلة توضيحية، أو في أفضل الأحوال كشف القناع عنها بتوضيح أنها نصوص، ولكن نادرًا ما تشكل عمليات إنتاجها موضوعًا للدراسة.26 بالمثل سيُسلم معظم الباحثين بأن الإنتاج التاريخي يحدث في مواضع كثيرة. لكن الوزن النسبي لهذه المواضع يتنوع وفقًا للسياق، وتفرض هذه التنوعات على المنظر عبء العيني. وهكذا يمكن أن تقدم دراسة القصور الفرنسية كأماكن للإنتاج التاريخي دروسًا توضيحية لفهم دور هوليوود في الوعي التاريخي في الولايات المتحدة، لكن لا توجد نظرية مجردة يمكنها أن تضع بشكل مسبق القواعد التي تحكم التأثير النسبي للقلاع الفرنسية والأفلام الأمريكية على التاريخ الأكاديمي الذي يتم إنتاجه في هذين البلدين.
كلما زاد عبء العيني ثقلاً، كلما زادت احتمالية أن تتجاهله النظرية. وبالتالي تتوالى أفضل معالجات التاريخ الأكاديمي كما لو أن ما حدث في مواضع أخرى كان إلى حد كبير بلا أهمية تُذكر. ومع ذلك هل حقًا يمكن اعتبار حقيقة أن تاريخ أمريكا يُكتب في نفس العالم الذي لا يريد فيه سوى قلة من الأولاد الصغار أن يكونوا هنوداً (حمرًا) غير مهمة؟
تنظير الغموض وتتبع القوة power
غالبًا ما يتم إنتاج التاريخ في سياق تاريخي محدد. والفاعلون التاريخيون هم أيضًا حكاءون، والعكس بالعكس، الجزم بأن الحكايات يتم إنتاجها دائمًا في التاريخ يقودني إلى اقتراح اختيارين. أولهما، أن أية نظرية عن الحكاية التاريخية يجب أن تعترف بكل من التمييز والتداخل بين العملية (التاريخية الاجتماعية – م) والحكاية. وبالتالي برغم أن هذا الكتاب (الذي نقرأ هنا ترجمة الفصل الأول منه – م) هو بالدرجة الأولى عن التاريخ كمعرفة وحكاية، 27 فإنه يتبنى بالكامل الغموض المتأصل في جانبي التاريخانية.
يشمل التاريخ كعملية اجتماعية أناسًا لهم ثلاث قدرات متمايزة: (1) كفاعلين أو شاغلين لمواقع في بنية؛ (۲) كفاعلين في حالة تدخل دائم في السياق؛ (3) كذوات، أي كأصوات واعية بصوتيتها. من الأمثلة الكلاسيكية لما أسميه فاعلين الشرائح والمجموعات التي ينتمي إليها الناس، مثل الطبقة والمكانة، أو الأدوار المرتبطة بها، فالعمال والعبيد والأمهات هم فاعلون.28 ويستطيع تحليل العبودية أن يستكشف البني الاجتماعية الثقافية والسياسية والاقتصادية والأيديولوجية التي تعرف مواقع مثل العبيد والسادة.
وأقصد بالفاعلين حزمة القدرات المحددة في الزمان والمكان بحيث يعتمد كل من وجودهم وفهمهم (كفاعلين – م) بشكل جوهري على الخصوصيات التاريخية، فأية مقارنة تاريخية بين عبودية الأفارقة الأمريكان في البرازيل وفي الولايات المتحدة، تتجاوز مجرد تقديم جدول إحصائي، يجب أن تتناول الخصوصيات التاريخية التي تحدد الأوضاع محل المقارنة وحكايات تاريخية تخاطب أوضاعًا خاصة. وبهذا المعنى لابد أن تتعامل مع الكائنات البشرية كفاعلية. 29
لكن الناس أيضًا ذوات للتاريخ بنفس الطريقة التي يكون بها العمال فاعلو إضراب: إنهم يحددون الشروط ذاتها التي يمكن في إطارها وصف بعض الأوضاع، لننظر في إضراب كحدث تاريخي من وجهة نظر حكائية بحتة، أي بغير التدخلات التي نضعها عادة تحت عناوين من قبيل تأويل أو تفسير. لا توجد طريقة لوصف إضراب بغير جعل القدرات الذاتية للعمال جزءًا مركزيًا من الوصف.30 من المؤكد أن مجرد تقرير غيابهم عن محل العمل لا يكفي. سنحتاج إلى تقرير أنهم وصلوا بشكل جماعي لقرار البقاء في المنزل في يوم يفترض أنه يوم عمل، ويجب أن نضيف أنهم عملوا بشكل جماعي للتوصل إلى هذا القرار، لكن حتى مثل هذا الوصف، الذي يأخذ في الاعتبار وضع العمال كفاعلين، ليس وصفًا وافيًا لإضراب. فهناك بالفعل سياقات قليلة أخرى يمكن فيها أن يقدم مثل هذا الوصف شيئًا آخر. فيمكن أن يكون العمال قد قرروا أنه إذا تجاوز سقوط الثلج عشرة بوصات الليلة لن يذهب أحد منا إلى العمل غداً. وإذا قبلنا سيناريوهات التلاعب أو أخطاء التفسير بين الفاعلين ستصبح الاحتمالات بلا حدود. وبالتالي تتطلب (كتابة – م) حكاية وافية عن إضراب تجاوز التعامل مع العمال كفاعلين لتدعى الوصول على العمال كذوات هادفة واعية بأصواتها الخاصة. إنها تحتاج إلى أصواتهم كمتكلمين، أو على الأقل تتجه إلى الاقتباس منهم. يجب على الحكاية أن تعطينا تلميحًا لكل من أسباب رفض العمل والهدف الذي يعتقدون أنهم يسعون إليه – حتى لو كان هذا الهدف مقتصرًا على إعلان الاحتجاج، لنضع ذلك على أبسط نحو: الإضراب لا يكون إضرابًا إلا إذا كان العمال يعتقدون أنهم يقومون بإضراب. فالذاتية جزء لا يتجزأ من الحدث ومن أي وصف مُرْضٍ لهذا الحدث. العمال يجب أن يعملوا أكثر مما يضربوا، لكن القدرة على الإضراب لا يمكن أبدًا فصلها بالكامل عن أوضاع العمال، بكلمات أخرى ليس الناس دائمًا ذوات يواجهون التاريخ بشكل مستمر كما قد يرغب بعض الأكاديمين، وإنما تكون القدرة التي بناء عليها يفعلون ليصبحوا ذواتًا هي دائمًا جزء من وضعهم. تؤكد هذه القدرة الذاتية الغموض، لأنها تجعل الكائنات البشرية تاريخية بشكل مضاعف، أو بالأصح تاريخية بالكامل، وهي تجعلهم يشتبكون في نفس الوقت في عملية اجتماعية تاريخية وفي أبنية حكائية عن هذه العملية. والاختيار الأول لينا الكتاب (كتاب ترويو – م) هو اعتناق هذا الغموض المتأصل فيما أسميه جانبي التاريخانية.
الاختيار الآخر هو التركيز العيني على عملية الإنتاج التاريخي لا الاهتمام المجرد بطبيعة التاريخ. لقد قادنا البحث عن طبيعة التاريخ إلى إنكار الغموض والى اختيار بين أن نضع بدقة وفي كل الحالات الخط الفاصل بين العملية التاريخية والمعرفة التاريخية وإما أن نمزج في كل الحالات بين العملية التاريخية والحكاية التاريخية، وبالتالي هناك بين قطبي “الواقعية” الميكانيكية و “البنيوية” الساذجة مهمة أكثر جدية، ليسن هي تحديد ما هو التاريخ – وهو هدف لا أمل فيه إذا صيغ بمصطلحات جوهرانية – ولكن كيف يعمل التاريخ، ذلك أن ما يكون عليه التاريخ يتغير مع الزمن والمكان، أو بعبارة أفضل، يكشف التاريخ نفسه من خلال إنتاج حكايات بعينها. أما الأمر المهم إلى أقصى حد فهو عملية وظروف إنتاج مثل هذه الحكايات. التركيز على تلك العملية هو وحده الذي يستطيع أن يكشف الطرق التي يتشابك بها جانبا التاريخانية في سياق معين، فقط من خلال هذا التطابق يمكن أن نكتشف الممارسة التفاضلية للقوة power التي تجعل بعض الحكايات ممكنة وتسكت حكايات أخرى.
…
يتطلب تتبع القوة رؤية للإنتاج التاريخي أغنى مما يعترف به معظم المنظرين. لا تستطيع أن نستبعد مقدمًا أيًا من الفاعلين الذين يشاركون في إنتاج التاريخ أو أيًا من المواضع التي قد يحدث فيها هذا الإنتاج. إلى جانب المؤرخين المحترفين نكتشف صناعًا من أنواع مختلفة، هم عاملون في الحقل (: حقل إنتاج الحكايات التاريخية – م) بلا أجر أو غير معترف بهم، من سياسيين ودارسين وكتاب قصص وصانعي أفلام وأعضاء مشاركين من الجمهور، يضخمون أو يحرفون أو يقرون عمل المحترفين. بذلك نكسب رؤية أكثر تعقيدًا للتاريخ الأكاديمي نفسه، نظرًا لأننا لا نرى أن المؤرخين ينفردون بإنتاجه.
توسع هذه الرؤية الأكثر شمولاً الحدود الزمنية لعملية الإنتاج. نستطيع أن نرى أن هذه العملية تبدأ مبكرًا وتستمر إلى زمن متأخر عما يسلم به معظم المنظرين. فالعملية لا تتوقف مع الجملة الأخيرة لمؤرخ محترف نظرًا لأنه من المرجح تمامًا أن يشارك الجمهور في التاريخ ولو بمجرد إضافة قراءته الخاصة للإنتاج البحثى وعنه. وربما كان الأهم أنه نظرًا لأن التداخل بين التاريخ كعملية اجتماعية والتاريخ كمعرفة تداخل سائل fluid: قد يدخل مشاركون في أي حدث في إنتاج حكاية عن ذلك الحدث قبل أن يصل المؤرخ بوصفه كذلك إلى المشهد. في الواقع قد تسبق الحكاية التاريخية التي يشغل فيها الحدث الواقعي مكانه وقوع الحدث نفسه، على الأقل نظرياً، ولكن ربما في الممارسة أيضًا. يرى مارشال صالينز Marshall Sahlins أن أهل هاواي يقرأون مواجهتهم مع كابتن كوك Captain Cook (مستكشف إنجليزي “اكتشف” استراليا، وقاد حملات لاكتشاف وضم مناطق في المحيط الهادي، آخرها إلى هاواي، حيث قتل هناك في اشتباك مع أهلها عام 1779 – م) كتاريخ لموت معروف مسبقًا.
ولكن مثل هذه الممارسات ليست محصورة في الشعوب التي بلا تاريخ. إلى أي حد تلائم حكايات نهاية الحرب الباردة التاريخ المعلب مسبقًا عن الرأسمالية في دروع الفرسان (المقاتلة – م)؟ يري وليام لويس William Lewis أن أحد نقاط قوة رونالد ريجان السياسية قدرته على حفر مدة رئاسته داخل حكاية معلبة مسبقًا عن الولايات المتحدة. وتوحى الخطوط العامة للإنتاج التاريخي العالمي عبر الزمن بأن المؤرخين المحترفين لا يضعون وحدهم إطار الحكاية التي تشغل فيها قصصهم موقعاً. في معظم الأحيان كان شخص آخر قد دخل المشهد بالفعل ووضع دائرة لحظات الصمت. 31
هل هذه الرؤية الموسعة ما زالت تسمح بتعميمات صالحة عن إنتاج الحكاية التاريخية؟ الإجابة عن هذا السؤال هي بالتأكيد نعم، إذا كنا نوافق على أن مثل هذه التعميمات تعزز فهمنا لممارسات معينة، ولكنها لا توفر مخططات يفترض أن الممارسة سوف تسير وفقاً لها أو تقدم أمثلة عليها.
تدخل لحظات الصمت عملية إنتاج التاريخعند أربعة نقط حاسمة: لحظة خلق الحقيقة الواقعة fact creation (صناعة المصادر)؛ لحظة تجميع الحقيقة الواقعة fact assembly (صنع الارشيفات)؛ لحظة استعادة الحقيقة الواقعة fact retrieval (صنع الحكايات)؛ ولحظة الدلالة المستعادةretrospective significance (صنع التاريخ في اللحظة النهائية).
هذه اللحظات أدوات مفهومية، تجريدات من المستوى الثاني (تجريد من تجريدات – م) للعمليات التي تتغذى على بعضها البعض. وهي بذلك لا يقصد بها توفير وصف واقعي لعمل أية حكاية مفردة، إنما هي تساعدنا على فهم لماذا لا تتساوى كل لحظات الصمت ولماذا لا يمكن تناولها – أو إعادة تناولها – بنفس الطريقة، بتعبير آخر، أية حكاية تاريخية هي حزمة خاصة من لحظات الصمت، نتيجة لعملية فريدة، وبالتالي ستختلف العملية المطلوبة لتفكيك لحظات الصمت هذه.
تعكس الإستراتيجيات الموظفة في هذا الكتاب هذه التنوعات. فكل حكاية من الحكايات التي عولجت في الفصول الثلاثة التالية (من كتاب المؤلف – م) تجمع أنواعًا متنوعة من لحظات الصمت. في كل حالة تقاطع لحظات الصمت هذه أو تتراكم عبر الزمن لتنتج مزيجًا فريدًا. وفي كل حالة استعمل مدخلاً مختلفًا للكشف عن المواضعات conventions والتوترات داخل هذا المزيج.
في الفصل الثاني ارسم الخطوط العامة لصورة عبد سابق أصبح كولونيلاً، هو الآن شخصية منسية في ثورة هايتي (سلسلة انتفاضات وحروب ضد العنصرية في هايتي بين 1791 و1804 – م). كانت الأدلة المطلوبة لرواية قصته متاحة في المجموعة التي درستها برغم فقر المصادر. اكتفيت بإعادة ترتيب الأدلة الخلق حكاية جديدة، تكشف حكايتي البديلة بالتدريج عن لحظات الصمت التي دفنت حتى الآن قصة الكولونيل.
موضوع الفصل الثالث هو إسكات الكتابة التاريخية الغربية بصفة عامة لثورة هايتي. يرجع الإسكات أيضًا لعدم تكافؤ قوة إنتاج المصادر والأرشيفات والحكايات، لكن إذا كنت على حق في أن هذه الثورة على نحو ما حدثت لم يكن تصورها ممكنًا، يكون عدم أهمية القصة منقوشاً بالفعل في المصادر، بصرف النظر عما يكشفه من أمور أخرى، ليس لدينا هنا وقائع جديدة؛ ولا حتى وقائع مُهملة. كان على هذا أن أجعل لحظات الصمت تتحدث عن نفسها. وقد قمت بذلك بالمقارنة بين روح العصر وكتابات المؤرخين عن الثورة نفسها وحكايات عن تاريخ العالم، حيث تصبح فاعلية الصمت الأصلية ظاهرة للعيان بالكامل.
تقدم لي تيمة الفصل الرابع، وهي اكتشاف أمريكا، تركيبًا آخر، وبالتالي تجبرني على تبنى إستراتيجية ثالثة كان لدى هنا وفرة في كل من المصادر والحكايات. حتى ١٩٩٢ كان هناك شعور – وإن كان زائفًا وحديثًا – بالاتفاق على أهمية رحلة كولومبس الأولى. والمعتقدات الأساسية للكتابة التاريخية قد حورت ودعمت من خلال الاحتفالات العامة التي بدا أنها تعزز دلالة هذه المعتقدات. داخل هذا الجسم المفتوح على مصراعيه لم تنتج لحظات الصمت حقًا عن غياب الوقائع أو التفسيرات بقدر ما نتجت عن الصراع على الاستحواز على شخصية كولومبوس. هذا لم أقترح قراءة جديدة لنفس القصة كما فعلت في الفصل الثاني، أو حتى تفسيرات بديلة كما في الفصل الثالث، وإنما بينت بالأحرى كيف أن الاتفاق المزعوم بشأن كولومبوس يخفى فعليًا تاريخ صراعات. وتتصاعد الممارسة المنهجية إلى الذروة في حكاية عن الاستحوازات المتنافسة على اكتشاف (الأمريكتين). وتظهر لحظات الصمت بين ثنايا الصراعات بين المفسرين المتنوعين.
إذن لا يمكن دراسة إنتاج الحكاية التاريخية من خلال التتابع الزمني المحض للحظات صمتها. فاللحظات التي أميز بينها هنا تتطابق في الزمن الواقعي. فهي تبلور فحسب، كأجهزة كشف، جوانب من الإنتاج التاريخي الذي يكشف على أفضل نحو متى وأين تدخل القوة إلى الرواية.
لكن حتى هذه الصياغة مضللة إذا كانت توحي بأن القوة توجد خارج القصة وبالتالي يمكن سد الطريق عليها أو استئصالها، تتبع القوة من خلال “اللحظات” المختلفة يساعدنا ببساطة على التشديد على الطبيعة العملياتية بشكل أساسي للإنتاج التاريخي، للإصرار على أن (سؤال) ما هو التاريخ أقل أهمية من (سؤال) كيف يعمل التاريخ؛ وأن القوة نفسها تعمل يدًا بيد مع التاريخ؛ وأن ما يقال عن تفضيلات المؤرخين السياسية ضئيلة التأثير على معظم ممارسات القوة الواقعية. ويفيدنا هنا تحذير من فوكو: “لا أؤمن بأن سؤال/ من يمارس القوة؟/ يمكن الإجابة عنه ما لم تتم الإجابة في نفس الوقت عن ذلك السؤال الآخر /كيف يحدث ذلك؟“32
القوة لا تدخل القصة مرة واحدة وإلى الأبد، بل في أوقات مختلفة ومن زوايا مختلفة. إنها تسبق الحكاية بالمعنى الدقيق وتشارك في خلقها وفي تفسيرها. وبالتالي تظل متصلة بالمسألة حتى إذا استطعنا أن نتخيل تاريخًا علميًا بالكامل، حتى إذا تخصلنا من تفضيلات المؤرخين وراهنًا على طور منفصل بعد – وصفى post-descriptive في التاريخ، القوة تبدأ عند المنبع.
تبدأ لعبة القوة في إنتاج حكايات بديلة مع الخلق المزدوج للوقائع والمصادر، لسببين على الأقل، الأول أن الوقائع لا تكون أبداً بلا معنى: فهي لا تصبح بالفعل وقائع إلا لأنها مهمة بمعنى ما، ولو في الحد الأدنى، والثاني أو الوقائع لا تخلق متساوية: فخلق الآثار هو دائمًا خلق للحظات صمت. بعض ما يحدث يلاحظ منذ البداية؛ وغيره لا. بعضه يترك علامات فيزيائية، وغيره لا يترك. ما حدث يترك آثاراً، بعضها عيني تمامًا – مباني، جثث، إحصاءات سكانية، نُصب تذكارية، يوميات، حدود سياسية – تحد من نطاق ودلالة أية حكاية تاريخية هذا هو أحد الأسباب الكثيرة التي تحول دون تمرير أية قصة خيالية كتاريخ: تقوم مادية العملية الاجتماعية التاريخية (التاريخانية 1) بإعداد المنصة للحكايات التاريخية التي ستأتي في المستقبل (التاريخانية ٢).
مادية هذه اللحظة الأولى واضحة للغاية بحيث يعتبرها البعض منا أمرًا مسلمًا به، إنها لا تتضمن أن الوقائع موضوعات بلا معنى تنتظر اكتشافها تحت خاتم لا زمني، ولكن، بشكل أكثر تواضعاً، أن التاريخ بيدأ بأجسام ومصنوعات: أفكار حية وحفريات ونصوص ومباني. 33
كلما كبرت الكتلة المادية كلما سهل وقوعنا في فخها: المقابر الجماعية والأهرامات تقرب التاريخ بينما تجعلنا تشعر بضآلتنا. فالقلعة والحصن وميدان المعركة والكنيسة، كل هذا الأشياء أكبر منا، تملؤنا بواقعية الحيوات الماضية، وتبدو لنا وكأنها تتحدث عن ضخامة نعرف عنها القليل باستثناء أننا جزء منها. إنها صلبة بحيث يستحيل إغفالها، ورائعة بحيث يستحيل أن تكون محايدة، إنها غموض التاريخ. إنها تعطينا القوة للمسها، ولكن ليس لإمساكها بثبات في أيدينا – ومن هنا سحر جدرانها المتآكلة. إننا نشك في أن عينيها تخفى أسرارًا من العمق بحيث أنه ما من وحي يمكن أن يبدد لحظات صمتها. إننا نتخيل الحيوات تحت مدافع الهاون، ولكن كيف ندرك نهاية صمت بلا قاع؟
الهوامش
1. میشیل رولف ترويو، القوة في القصة“. كيف نقرأ العالم العربي اليوم؟: رؤى بديلة في العلوم الاجتماعية، ترجمة شريف يونس تحرير: إيمان حمدي، حنان سبع، ريم سعد، ملك رشدي، دارالعين للنشر، ۲۰۱۲. ص 177- 208
2. كانت نظريات التاريخ التي ولدت عددًا هائلاً من المناقشات والنماذج والمدارس الفكرية منذ أوائل القرن التاسع عشر على الأقل موضوعًا لعدد من الدراسات والمختارات والملخصات. انظر /انظري:
Hari-lrenee Marrou, De la Connaissance historique (Paris: Seuil, 1975 (1954)); Patrick Gardiner, ed., The Philosophy of History (Oxford: Oxford University Press, 1974); William Dray. On History and Philosophers of History (Leiden, New York: Brill, 1989), Robert Novick, That Noble Dream: The “Objectivity Question” and the American Historic Profession (Cambridge: Cambridge University Press, 1988(
إننى واثق من أن كثيرًا من عمليات مفهمة التاريخ تميل إلى تفضيل جانب واحد من التاريخانية على الآخر؛ وأن معظم المناقشات عن طبيعة التاريخ تنبثق بدورها من طبعة أو أخرى من أحادية الجانب هذه؛ وأن أحادية الجانب هذه نفسها ممكنة إن معظم نظريات التاريخ قد بنيت بغير انتباه كبير لعملية إنتاج الحكايات التاريخية. وقد حاول كثير من الكتاب أن يشقوا طريقًا بين القطبين الموصوفين هنا. في هذا الكتاب، يتقاطع عدد من الأفكار الجزئية، وليس دائمًا عن طريق الاقتباس المباشر، مأخوذة من كلب الثامن عشر من برومبير لماركس Marx the Eighteenth Brunaire، وكتابات لجان شیستو Jean Chesnux ومارك فيرو Most Ferro وميشيل در سرتو Michel de Certeau ودافيد و. کوهن David W. Cohen وراناجيت جوها Ranajit Guha وكرزيستوف بومیان Krzysztof Ponian وأدام شاف Adam Schaff وتزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov. أنظر/ انظري:
Jean Chesneaux, Du Passe faisons table rase (Paris: F. Maspero, 1976); David W. Cohen, The Combing of History(Chicago: University of Chicago Press, 1994); Michel de Certcau, L’Ecriture de l’histoire (Paris: Gallimard, 1975) Marc Ferro, L’Histoire sous surveillance (Paris: Calmann-Levy, 1985); Ranajit Guha, “The Prose of Counter Insurgency,” Subaltern Studies, Vol. 2, 1983; Karl Marx, The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte (London: G Allen & Unwin, 1926); Krzysztof Pomian, L’Ordre du temps (Paris: Gallimard, 1984); Adam Schaff, History and Truth (Oxford: Pergamon Press, 1976); Tzvetan Todorov, Les Morales de l’histoire (Paris: Bernard Grasset, 1991).
3. Todorov, Its Morales, 129-130. “
4. Hayden White, Metahistory: The Historical Imagination in Nineteenth-Century Europe (Baltimore: The Johns Hopkins University Press, 1973); Tropics of Discourse: Essays in Cultural Criticism (Baltimore: The Johns Hopkins University Press, 1978); The Content of the Form: Narrative Discourse and Historic Representation (Baltimore: The Johns Hopkins University Press, 1987)
5. في الواقع، كل حكاية يجب أن تحدد هذا الادعاء مرتين. من وجهة نظر إجرائها أو إجراءاتها المباشرة، تطرح الحكاية ادعاء بالمعرفة: أن ما قيل إنه قد حدث يقال إنه معروف أنه حدث. وكل مؤرخ يأتي بحكاية معها شهادة تشهد بصحتها، مهما كانت محدوديتها، ومن وجهة نظر الجمهور، يجب أن تمر الحكاية التاريخية باختبار القبول، مما يزيد ادعاء المعرفة قوة: ما قيل إنه حدث، آمنوا بأنه حدث.
6. للاطلاع على مناقشة للاختلافات بين الرواية الخيالية والاختلاق والكتابة التاريخية وأنواع ادعاء الحقيقة المختلفة، انظر/ انظري: 130-169 ,Todorov, Les Morales، وانظر/ انظرى أيضًا الفصل الخامس (من الكتاب الذي ينتمي له هذا الفصل، وهو غير مترجم هنا – م) بشأن صحة الحكاية.
7. الإثباتات هي التي جرى تقعيدها لغويا، يعبر من خلالها المتحدثون عن التزامهم بموقف في ضوه الإثباتات المتاحة، انظر/ انظري مثلاً:
David Crystal, A Dictionary of Linguistics and Phonetics, 3rd ed. (Oxford: Basil Blackwell, 1991), 127.
يمكن أن يكون الاختلاف في التنميط المعرفي بين الشاهد وغير الشاهد مطلبًا يخص التعقيد اللغوي.
8. Arjun Appadurai, “The Past as a Scarce Resource,” Man 16 (1981): 201-219
9. للإطلاع على تطورات هذه المناقشة، انظر/ انظري:
Paula Brown and Donald E Tuzin, editors. The Ethnography of Cannibalism (Washington, D.C.: Society for Pychological Anthropology, 1983); Peter Hulme, Colonial Encounters (London and New York: Methuen, 1986), and Philip P. Boucher, Cannibal Encounters (Baltimore: The Johns Hopkins University Press, 1992).
10. Ralph W. Steen, Texas: A Story of Progress (Austin: Steck, 1942), 182; Adrian N. Anderson and Ralph Wooster, Texas and Texans (Austin: Steck-Vaughn, 1978), 171.
11. تعتمد هذه القائمة الجزئية للـ “حقائق” المتنازع عليها وفهمي للجدل عن الآلامو على مصادر شفوية ومكتوبة. فقد أجرت مساعدتي ربيكا بنيت Rebecca Bennette لقاءات تليفونية مع جايل لفنج باريز Gail Loving Bames من “أخوات جمهورية تكساس“، وجاري ج: (جاب) چابهارت Gury J. (Gabe) Gabchart من “مجلس العلاقات القبلية” ، شكرًا لهما وكذلك لكارلوس جويرا Carlos Guerra على تعاونهم. وتتضمن المصادر المكتوبة مقالات في الصحف المحلية، خصوصًا سان أنطونيو أكسبرس نيوز، التي تنشر عامود جويرا:
Carlos Guerra, “Is Booty Hidden Near the Alamo?”, San Antonio Light, 22 August 1992: Carlos Guerra, You’d Think All Alamo Saviors Look Alike.” San Antonio Express News, 14 February 1994, and Robert Rivard, “The Growing Debate Over the Shrine of Texas Liberty, San Antonio Express News, 17 March 1994
وتشمل أيضا نشرات أكاديمية:
Edward Tabor Linenthal “A Reservoir of Spiritual Power. Patriotic Faith at the Alamo in the Twentieth Century Southwestern Histotical Quartely 91 (4) (1988): 509-31; Stephen L. Hardin, “The Felix Nunez Account and the Siege of the Alamo: Acritical Appraisal,” Southwestern Historical Quarterly 94 (1990): 65-84
وكذلك كتاب محل جدل :
Jeff Long, Duel of Eagles: The Mexican and the U.S. Fight for Alamo (New York: William Morrow, 1990).
12. Arthur A. Butz. “The International ‘Holocaust Controversy.” The Journal of Historical Review (n.d.). 5-20, Robert Faurisson, “The Problem of the Gas Chambers,” Journal of Historical Review (1980(
13. Pierre Vidal-Naquet, Les Assassins de la mémoire: “Un Eichmann de papier” et Autres essais sur le révisionnisme (Paris: La Découverte, 1987); Jean-Claude Pressac, Les Crématoires d’Auschwitz La machinerie de maurtre de masse (Paris: CNRS, 1993); Deborah E. Lipstadt, Denying the Holocaust The Growing Assault on Truth and Memory (New York: The Free Press, 1993), Faurisson “The Problem of the Gas Chambers”: Mark Weber, “A Prominent Historian Wrestles with a Rising Revisionism,” Journal of Historical Review 11 (3), (1991): 353-359.
تقدم الفوارق بين هذه التقليدات دروسًا في الإستراتيجيات التاريخية، فكتاب برساك Pressue يواجه مباشرة تحدى المراجعين (الذين يعينون دراسة أو إثارة قضية بما يعرض الرؤية المستقرة أو السائدة للتشكيك – م) بمعاملة الهولوكوست کای خلاف تاریخی آخر والتعامل مع الحقائق، والحقائق فقط. إنها الطريقة الأكثر “أكاديمية” على الموضة القديمة، فهناك نحو 300 هامش للإحالات الأرشيفية وصور كثيرة ورسوم بيانية وجداول تواق لآلة الموت الهائلة التي أقامها النازيون، تتخذ ليبشتات Lipstadt موقفًا يقول إنه لا يحب الجدل بشأن “الحقائق“، لأن هذا الجدل يضفي الشرعية على ترعة المراجعة؛ وتفضل أن تشتبك مع المراجعين بشكل جدالي بشأن دوافعهم السياسية، وهو أمر يبدو لي أقل إضفاءً الشرعية ويتطلب تلميحات عديدة إلى جدالات عينية، يرفض فيدال – ناكيه Vidal-Naquet عن وعي القول بأن الجدل بشأن “الحقائق” والأيديولوجيا منفصلان عن بعضهما البعض، وبرغم أنه يتجنب ذكر أسماء، فإنه يعبر باستمرار عن غضبه الأخلاقي، ليس فقط اتجاه الرواية المراجعة، ولكن أيضًا اتجاه الهولوكوست. لن تكون سمة مراجعة إذا لم يكن هناك هولوكوست. تترك له هذه الإستراتيجية مساحة لنقد منهجي وسياسي معًا لنزعة المراجعة، وتحد إمبريقي بشأن الحقائق التي اختار أن يجادل بشأنها. يتجنب فيدال – ناكيه أيضًا فخ الاستثناء اليهودي، الذي يمكن أن يؤدى بسهولة إلى رؤية التاريخ كثار ويبرر استعمال رواية الهولوكوست وإساءة استعمالها: أوشفيتز لا تستطيع أن تفسر صبرًا وشاتيلا.
14. كما أشرتُ، هناك تنوع واسع في وجهات النظر التي عبر عنها المراجعون، لكن السنوات الخمس عشرة الأخيرة شهدت تحولاً إلى موقف أكثر أكاديمية، سأعود إليه لاحقاً.
15. White, The Content of Form
16. See Hayden White, “Historical Emplotment and the Problem of Truth,” in Probing the Limits of Representation, S : Friendlander, ed., (Berkeley: University of California Press, 1992), 37-53. 17. H. Ebbinghaus, Memory: A Contribution to Experimental Pychology (New York: Dover, 1964 (18851)); AJ Cascardi, “Remembering.” Review of Metaphysics 38 (1984): 275-302; Henry L Roediger, “Implicit Memory: Retention Without Remembering.” American Psychologist 45 (1990): 1043-1056, Robin Green and David Shanks, “On the Existence of Independent Explicit and Implicit Learning Systems: An Examination of Some Evidence.” Memory and Cognition 21 (1993): 304-317; D. Broadbent, “Implicit and Explicit Knowledge in the Control of Complex Neuroscience Approach, “American Psychologist 47 (1992): 559-569; Elizabeth Loftus, “The Reality of Repressed Systems,” British Journal of Psychology 77 (1986): 33-50, Daniel L. Schackter, “Understanding Memory: A Cognitive Memories, American Piychologia 48 (1993): 518-337.
18. لا تشمل أرقام الولايات المتحدة مستعمرة لوزيانا ousiana.. للاطلاع على رواية ومصادر بشأن هذه التقديرات، انظر:
Philip Curtin, The Atlantic Slave Trade: A Census (Madison: University of Wisconsin Press, 1969)
ولا تُلغى التحديثات التالية الأرقام كورتن Curtin عن صادرات العديد من أفريقيا مصداقية الصورة العامة التي يقدمها عن الواردات عبر الأمريكتين.
19. Robert William Fogel and Stanley L. Engerman, Time on the Cross: The Economics of American Negro Slavery (Boston: Little, Brown, 1974); B.W. Higman, Slave Populations of the British Caribbean, 1807-1834 (Baltimore: the Johns Hopkins University Press, 1984); Ira Berlin and Philip D. Morgan, eds., Cultivation and Culture: Labor and the Shaping of Life in the Americas (Charlottesville: The University Press of Virginia, 1993); Robert William Foge Without Consent or Contract: The Rise and Fall of American Slavery (New York: W.W. Norton, 1989)
20. W.E.B. Du Bois, Some Efforts of American Negroes for Their Own Social Betterment (Atlanta: The Atlanta: University Press, 1898), Black Reconstruction in America: An Essay Toward a History of the Part Which Black Folk Played in the Attempt to Reconstruct Democracy in America, 1860-1880 (New York: Russell and Russell, 1962); Eric Foner Reconstruction: America’s Unfinished Revolution, 1863-1877 (New York: Harper & Row, 1988)
21. Eg, Du Bois, Black Reconstruction; Edward Franklin Frazier, Black Bourgeoisie (Glencoe: Free Press, 1957) Melville J. Herskovits. The Myth of the Negro Past (Boston: Beacon Press, 1990 (19411); Gunnar Myrdal, An Americ Dilemma: The Negro Problem and Modern Democracy (New York, London: Harper & Bros. 1944)
22. يلاحظ بول ريكور Paul Ricoeur عن حق أن كلاً من الوضعيين المنطقيين (مدرسة بريطانية فلسفية – م) وخصومهم قد دشنوا وواصلوا حالهم الطويل عن طبيعة المعرفة التاريخية بغير اهتمام يذكر بالممارسة الفعلية للمؤرخين:
Paul Ricoeur, Time and Narrative, Vol. I, trans. Kathleen Mclaughlin and David Pellauer (Chicago: University of Chicago Press, 1984), 95.
ويستعمل ريكور نفسه أعمال المؤرخين الأكاديميين بوفرة، من أوربا والولايات المتحدة. وهناك كتاب جدد يستعملون الأعمال التاريخية السابقة والمعاصرة، بدرجات مختلفة من التركيز على مدارس (تاريخية) أو بلدان بعينها، واستطرادات متنوعة بشأن العلاقة بين تطور التاريخ وتطور الأشكال الأخرى المختلفة الشماسية للمعرفة، انظر:
De Certeau, L’Ecriture; François Furet. L’Atelier de l’histoire (Paris: Flammarion, 1982); Joyce Appleby, Lynn Hunt, and Margaret Jacob, Telling the Truth about History (New York: W.W. Norton, 1994)
مثل هذه الأعمال تقرب النظرية بشكل أكبر من الممارسة الواقعية، ولكن هل الإنتاج التاريخي محصور في ممارسة المؤرخين المحترفين؟ أولا، من وجهة نظر فينومينولوجية، يمكن القول بأن كل البشر لديهم وعي قبل – فكري بالتاريخ يعين كخفية لخبرتهم بالصيرورة الاجتماعية، انظر:
David Carr, Time, Narrative and History (Bloomington: Indiana University Press 1986)
وثانيًا، والأكثر أهمية لغرضنا هنا، أن التاريخ الروائي لا يقتصر إنتاجه على المؤرخين المحترفين. أنظر:
Cohen, The Combing of History, Ferro, L’Histoire sous surveillance, Paul Thompson, The Myths We Live By (London and New York: Routledge, 1990(
23. Ferro, L’Histoire sous surveillance,
24. Dorothy Ross, The Origins of American Social Science (Cambridge and New York: Cambridge University Press. 1994)
25. لقد ساهم کروکت Crockett نفسه في تصور الآخرين له كبطل، بدءًا بكتابة سيرته الشخصية. لكن أهميته التاريخية ظلت محدودة إلى أن أصبح شخصية قومية بعد ظهور المسلسل التليفزيوني وفيلم جون وين John Wayne “الآلامو” عام 1960.
26. هناك استثنائين بارزين، كل بطريقته، هما:
Cohen’s The Combing. Ferro’s L’Histoire sous surveillance, and de Certeau’s L’Ecriture de l’histoire.
27. بالفعل، من هنا فصاعدًا سأستعمل كلمة “تاريخ” في معظم المرات بالدرجة الأولى بهذا المعنى في الذهن. وسأحتفظ بتعبير “العملية الاجتماعية التاريخية” للجانب الآخر من التمييز.
28. أطلق على شاغلى مثل هذه المواضع البنيوية وغيرها كلمة “فاعلين” ، للإشارة من البداية إلى رفض ثنائية البنية/ الفاعلية، المواضع البنيوية هي في نفس الوقت تمكن وتحدد.
29 انظر/ انظري:
Alain Touraine, Le Retour de lacteur (Paris: Gallimard 1984) 14- 15
30 إننى أتوسع هنا معتمدًا – على:
W.G. Runciman, A Treatise on Social Theory, Vol. I: The Methodology of Social Theory (Cambridge: Cambridge University Press, 1983), 31-34.
العمال يجب أن يعملوا أكثر.
31. Ferro, L’Histoire sous surveillance; Marchall Sahlins, Historical Metaphors and Mythical Realities: Structure in Early ” History of the Sandwich Islands Kingdom (Ann Arbor University of Michigan Press, 1981); Hélène Carrére d’Encausse, La Gloire des nations, ou, la fin de l’empire soviétique (Paris: Fayard, 1990); Francis Fukuyama, The End of History and the Last Man (New York: Free Press, 1992): William F. Lewis, “Telling America’s Story: Narrative Form and the Reagan Presidency,” Quarterly Journal of Speech 73 (1987): 280-302.
32. Michel Foucault, “On Power” (original interview with Pierre Boncenne, 1978) in Michel Foucault, Politics, Phimaphy, Culture. Interviews and Other Writings, ed. Lawrence D. Kritzman (New York and London: Routledge, 1988), 103.
33. لا يفلت التاريخ الشفاهي من هذا القانون. ولكن استثناء، في حالة النقل الشفاهي تظل لحظة خلق الواقعة محمولة في أجساد الأفراد أنفسهم الذين يشاركون في النقل. انظر/انظري : The source is alive
التاريخ الشفاهي
التاريخ الشفاهي
التاريخ الشفاهي1
هدى الصدة
ترجمة هالة كمال
إن عملية إحياء التاريخ الشفاهي بدأت في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين بقيادة المؤرخات والمؤرخين الاشتراكيين ممن سعوا إلى التاريخ لحياة الطبقات العاملة وحياة البشر العاديين. ومع تأسيس “جماعة التاريخ الشفاهي البريطاني” في السبعينيات من القرن العشرين شهدت الحركة العالمية زخمًا كما تم البدء في عدد من المشروعات ذات البرامج السياسية الاجتماعية الراديكالية. وبشكل عام، ومع تحول الانتباه من تدوين حوليات الأغنياء والمشاهير، وهو موضوع التاريخ الرسمي، ومع منح الأولوية لحياة البشر العاديين، أصبح التاريخ الشفاهي بمثابة أداة قوية للتحول الاجتماعي الراديكالي وأداة لتحقيق الديمقراطية. واستجابة للسؤال الذي طرحته الحركة النسائية “أين توجد النساء في التاريخ؟“، شرعت المؤرخات النسويات والمؤرخون النسويون في عدل الموازين عن طريق البحث عن النساء اللاتي تم تهميشهن أو إسكاتهن في كتب التاريخ الرسمي. وقد تم توثيق التاريخ الشفاهي للنساء ضمن برنامج نسوى يسعى واعيًا إلى استعادة الأصوات التي تم إسكاتها، وإلى مواجهة المصادر التاريخية السائدة التي قامت بإقصاء تجارب وخبرات النساء، وبالتالي السعي إلى تفعيل التغير الاجتماعي، وكان شعار غالبية تلك المشروعات الرائدة هو: البحث بواسطة النساء، وعن النساء، ومن أجل النساء.
وكان مجال التاريخ الشفاهي منذ مولده يقع في قلب الجدل والنقاش الدائر. فبداية، كانت شرعية التاريخ الشفاهي، وما زالت، تواجه تحديات المؤرخات والمؤرخين التقليديين الذين يشككون في مدى إمكانية الوثوق في المصادر الشفاهية، كما يلقون بشكوكهم حول صدقها ومصداقيتها. فالموضوعية باعتبارها مبدأ من مبادئ البحث التاريخي تجد نفسها وجهًا لوجه أمام الذاتية المفترضة في الروايات الشفاهية. دخلت المؤرخات والمؤرخون للتاريخ الشفاهي في صراع مع المؤسسة التاريخية التقليدية لكسب الاعتراف بمصادرهم وزيادة مساحة البحث التاريخي، كما أشاروا إلى أنه رغم لجوء المؤرخات والمؤرخين دومًا إلى الروايات الشفاهية للتوثق من السجلات إلا أن البحث الأكاديمي المؤسسى لم يضع المصادر الأرشيفية في الصدارة على حساب السرديات الشفاهية سوى في القرن التاسع عشر. كما أشاروا على نظريات ما بعد الحداثة التي تكشف أسطورة “الموضوعية” في مختلف العلوم، وأوضحوا مدى تغلغل الفرضيات والمسلمات بشأن وجود شخصية عارفة تنتمي إلى سياق سياسی اجتماعی معین وكيفية تمكن تلك الفرضيات من مشروعات البحث العلمي، إضافة إلى ذلك، أكدوا على أن من الخصائص المميزة للتاريخ الشفاهي هو انه لا يتناول ما قد حدث، بقدر تركيزه على المعنى من وراء ما حدث، وكذلك في فهم ما يحمله ذلك المعنى من تعقيدات يتطلب منا الانتباه إلى عمليات بناء هذا المعنى والتعبير عنه.
أي أن الشفاهية وتفاعلات الذاكرة تصبح مبادي محورية في بحوث التاريخ الشفاهي، وقد نجحت المؤرخات والمؤرخون للتاريخ الشفاهي في مراجعة المفهومين المستخدمين في التقليل من شأن التاريخ الشفاهي، وهي مراجعة قامت بإضفاء الصدارة والقيمة على هذين المفهومين. فقد قاموا بمواجهة وتحدى الثنائيات المتقابلة ذات المحورية الأوروبية فيما يتعلق بإعلاء القراءة والكتابة فوق الشفاهية، كما كشفوا عما يتمتع به التراث والسرديات الشفاهية من إمكانيات دفينة لتشكيل الوعي الاجتماعي وتفعيل التحول الاجتماعي، فعلى سبيل المثال، أكد أليساندرو بورتيللي على تفاعلات الذاكرة مركزًا على أن اعتبار المصادر الشفاهية مصادر غير موثوق فيها هي عامل قوة أكثر منها ضعفًا لأن “الذاكرة ليست مجرد مستودع سلبي للوقائع، بل عملية نشطة في خلق المعاني… وتكشف التغيرات عن جهد الراوي في فهم الماضي وإضفاء شكل ما على حياته، وتضع المقابلة والسردية في سياقهما التاريخي” (56-53 ,1990 ,Alessandro Portelli). كما أوضح أهمية شفاهية السردية الشفاهية، لافتًا الانتباه إلى شؤون اللغة والنبرة والشكل السردي والذاتية. والمقاربة التي يستخدمها بورتيللي هي مقارية الدراسات البينية، مثله في ذلك مثل أفضل الدراسات التي تتناول التاريخ الشفاهي. وقد اعتمد المؤرخون والمؤرخات للتاريخ الشفاهي على الملاحظات ومناهج البحث التي تطورت داخل مجالات الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والنقد الأدبي وعلم اللغة والدراسات الثقافية وعلم النفس. وقد أدى ذلك إلى انتقال الجدل الدائر عن التاريخ الشفاهي من الإطار المحدود المعنى بتحديد ما هو صدق أم كذب، حقيقة أم خيال، إلى آفاق الوعي والإدراك، والعلاقة ما بين الذاكرة الاجتماعية من ناحية والذاتية من ناحية أخرى.
تأويل الذاكرة
إن تأويل السرديات الشفاهية يحتل موقع الصدارة في اهتمام المؤرخات والمؤرخين خلال العقد الأخير. ففي دراستها المؤثرة أشارت لويزا باسيريني إلى أن “المادة الخام للتاريخ الشفاهي لا تتكون من مجرد المقولات الحقيقية، وإنما هي أساسًا تعبير وتمثيل للثقافة، ومن هنا لا تتضمن السرديات الحرفية بل وكذلك بعد الذاكرة والأيديولوجيا والرغبات الدفينة” (1998,54 ,Luisa Passerini)، ومن ثم تم الاستغناء عن نماذج علم الاجتماع القديمة لتحليل وإنما هي الحكايات لصالح المفاهيم التي تطورت داخل مجال النقد الأدبي، مثل علم السرد وتحليل النص. وقد اقترب الباحثون والباحثات من المقابلات الشفاهية وتناولوها باعتبارها خطابًا ونصًا وسردًا. كما قام البعض باستكشاف لا اللغة اللفظية فحسب بل اللغة غير اللفظية للنص، مع تسليط الضوء على جوانب الأداء الخاصة بالموقف الحواري المتضمن في كافة المقابلات. وعلى سبيل المثال لا الحصر، قدمت كل من كاثرين أندرسون ودانا جاك ثلاث مقاربات إلى الاستماع إلى السردية الشفاهية، وتركز المقاربة الأولى على “اللغة الأخلاقية للراوية أو الراوي، حيث تم تقييم العلاقات بين مفهوم الذات وبين الأعراف الثقافية. وتلتفت المقارية الثانية إلى “المقولات العليا” للراوية أو الراوي. بما يكشف أوجه التفاوت بين المتوقع وبين ما يتم قوله بالفعل، أما المقاربة الثالثة فتتبع “منطق السردية” مع توجيه الانتباه إلى أوجه التكرار والتباين والاختبارات، وغيرها من الشؤون النصية (Anderson and Jack 1991 18-20).
كما اهتم الباحثون والباحثات أيضًا بالتداعيات الاجتماعية لتلك التأويلات الخاصة بصيغ الذاتية. بل إن الكثيرين أعربوا في الحقيقة عن قلقهم وخيبة أملهم فيما يرونه بمثابة ابتعاد عما هو اجتماعي واتجاه نحو ما هو ذاتي، وأصبح التحدي القائم هو كيفية استخدام تحليل التكنيك السردي لاستنباط مؤشرات عامة عن الذاكرة الاجتماعية والبنى الاجتماعية. ويطرح صمويل شراعر في دراسته “ما هو الاجتماعي في التاريخ الشفاهي؟” عددًا من الاستراتيجيات للربط بين ما هو فردى وما هو اجتماعي، فيقارن بين أوجه الشبه والاختلاف بين السرديات التي تروى نفس الحدث، ويتتبع وضع الراوي أو الراوية وعلاقة ذلك الوضع وتداعياته على الأحداث، وأخيرًا والأكثر أهمية هو أنه يتفحص أوجه الاشتباه والتعقيد في التحولات التي تطرأ على وجهات النظر والتي يتبناها الراوي في سبيل تقديم وجهة نظره تجاه الآخرين في مجتمعه. ومن خلال تحليل مفهوم أدبي في الأساس، وهو مفهوم وجهة النظر، يتمكن شراغر من تجاوز ذاتية المتحدث والقاء الضوء على تفاعلات القوى الاجتماعية (Samuel Schrager, What is Social in Oral History?, 1998, 76-77)
كما كشف الباحثون والباحثان عن اهتمامهم بأبعاد الجندر في السرديات الشفاهية، فعن طريق الاعتماد على علم اللغة وعلم النفس السردي قاموا بطرح أسئلة عن الاختلافات الكامنة والممكنة بين الرجال والنساء في صيغ الحديث والتواصل، وفي تقديم الذات، وفي تأويل الأسئلة، وهلم جرا وقد أكدت الباحثات النسويات والباحثون النسويون أنه لا يمكن فهم السرديات الشفاهية للنساء إلا من داخل السياق السياسي الاجتماعي الذي يقلل من قيمة اهتمامات النساء ومنظورهن. وبالتالي فإن النساء أكثر عرضة من الرجال للتقليل من التعبير عن اهتماماتهن والتقليل من قيمة إنجازاتهن أو أنشطتهن. ومرة أخرى، وبخلاف الرجال، نجد أن حكايات حياة النساء لا تتناول فقط علاقاتهن بالعالم بل عادة ما تأتي استجابة لصور تمثيل النساء في المجتمع ككل. إن الجندر باعتباره فئة من فئات تحليل وتأويل السرديات الشفاهية قد استفاد إلى حد كبير من الطفرة الملحوظة في نظرية السيرة الذاتية وكتابات النساء في العقد الأخير من القرن العشرين.
أوجه الجدل الأخلاقي والنظري
إن الحيوية المتزايدة التي تشهدها البحوث التي تتناول السرديات الشفاهية أدت إلى مراجعة العديد من المفاهيم والمقاربات المبدئية التي ألهمت مجال التاريخ الشفاهي في مراحله المبكرة. وكان الشعار النسوى المبدئي بشأن قيام البحوث بواسطة النساء وعن النساء ومن أجل النساء قد خضع للتدقيق على أساس أخلاقي ونظري. ويرتكز المأزق الأخلاقي الذي يواجه مؤرخي ومؤرخات التاريخ الشفاهي على علاقات القوى غير المتوازنة والكامنة في آليات المقابلة الشخصية. فمثلما قام المتخصصون والمتخصصات في الأنثروبولوجيا النسوية ممن بذلوا جهداً متسقًا لمواجهة العلاقة التراتبية بين طرفي المقابلة في الممارسات الأنثروبولوجية التقليدية – بالتأكيد على مناهج الملاحظة بالمشاركة، ومزيد من التفاعل بين الطرفين، وتقليل المسافة بينهما– قام مؤرخو ومؤرخات التاريخ الشفاهي بطرح بعض الأسئلة المعضلة بشأن أهدافهم النسوية. كيف تقوم المقابلة الشخصية حقًا بإفادة النساء صاحبات الشأن؟ وكيف تدعم أو تدفع برامجهن إلى الأمام؟ ماذا يحدث عند تضارب برامج وأجندات طرفي المقابلة الشخصية؟ وصوت من منهما يكون في النهاية هو الصوت المسموع عند نشر المقابلة أو إعلانها على الملأ من قبل الباحث أو الباحثة؟ ومن يتمتع بالتحكم النهائي في المخطوطة؟ وإلى أي مدى تتحكم المرأة التي تم عقد المقابلة معها في “كلماتها“؟ وأخيراً، ما هي النتائج السياسية المترتبة على القيام بالتاريخ الشفاهي؟ هل يمكن لتحليل النص الذي يفضح قهر خطابات الهيمنة أن ينجح في تغيير وضع النساء في عالم الواقع؟
وكمثال لمحاولة تمت في التعامل تحديدًا مع السؤال الأخير من القائمة السابقة، قدمت كلوديا سالازار (1991 ,Claudia Salazar) عددًا من استراتيجيات العمل والتي تتضمن قلب تراتبية الخطاب، وجعل المهمش مركزيًا، وتطوير أشكال من الكتابة القائمة على الجماعة. وكذلك أثارت سوندرا هيل (1991 ,Sandra Hale) عديدًا من المسائل المشار إليها مسبقًا وذلك في علاقتها بتجربتها في عقد مقابلة شخصية مع نسوية سودانية، ثم انتقلت بهذه التجربة خطوة إلى الأمام. فبعد تأملها الأسئلة الخاصة بوهم وجود أهداف مشتركة، وبمن هو الطرف الذي يحق له استخدام الطرف الآخر في موقف المقابلة الشخصية، توصلت سوندرا هيل إلى أن تجربتها قد منحتها بعض البصيرة من حيث “العيوب في بعض الأفكار النسوية الغربية عن المنهجية“. وأكدت أن الميل إلى تسييز العملية على حساب المنتج أدى إلى قدر وافر من التشخيص وإلى بعض الفرضيات الخاطئة بشأن التماهي، مما قلص القدرات التحليلية للباحثة. وقد رأى العديد من الباحثين والباحثات أن الوعي النقدى بالذات من حيث الخلل في ميزان علاقات القوى والمشاكل المنهجية يمكن أن يساهم في إصلاح التراتبية البحثية، في حين يتشكك الآخرون للغاية في مدى فعالية ذلك الأمر الذي يرونه عملية تطهير ذاتية لا تؤدى إلى أي تغيير في تراتبية القوى وينحصر دور ذلك الوعي في جعل الباحثات والباحثين يشعرون بالراحة والرضا عن الذات.
ويدور الجدل النظري الجاري أساسًا عن التحول ما بعد الحداثي في تحليل النصوص التاريخية، وعن إشكالية “التجربة“. وقد أدت نظريات ما بعد الحداثة إلى كثير من الملاحظات بشأن تأويل السرديات الشفاهية، مع وضع مسائل اللغة والذاتية موضع الصدارة. ومع ذلك فإن العديد من المؤرخين والمؤرخات أصبحوا أكثر نقدًا لما يرونه تأكيدًا مبالغًا فيه على النصية والطبيعة البنائية للنص الشفاهي، كما أنهم ينظرون بقلق إلى مسألة الفاعلية (agency) وإلى تلاشيها حتمًا داخل مفهوم عدم التيقن (indeterminacy) طبقًا لنظريات ما بعد الحداثة، وأنه سيتم طرح البحث عن السببية التاريخية جانباً. ويمكن إيجاز التحدي الذي يواجه الباحثين والباحثات في السؤال التالي:
كيف يمكن للملاحظات الدقيقة لما بعد الحداثة فيما يتعلق باللغة والذاتية أن تواكب التحليل المادي للتاريخ؟
إن مسألة تأويل “التجربة” تقدم نفس القدر من التحدي، فقد انطلق البحث النسوي في التاريخ من منطلق الاعتقاد في ضرورة منح النساء صوتًا كشرط لتمكينهن. وقد تساءلت غاياترى سبيفاك (1985,Gayatri Spivak) جنبًا إلى جنب العديد من المنظرين والمنظرات، عما إذا كان في إمكان الشخصية التابعة أن تتحدث وأن يمكن
سماعها بالرغم من التشكيلات الثقافية السائدة التي فرضت بالفعل قواعد الخطاب، والتي لا مفر من قيامها بتوجيه وتشكيل المعنى والوعي. وقد لفتت غاياترى سبيفاك الانتباه إلى أمرين وهما: أولاً، القدرة/ غياب القدرة المفترضة لدى المتحدثة في التعبير أو بناء ذاتيتها خارج/ الداخل مجال الممارسات الخطابية السائدة، وثانيًا، دور الوسيط/ الباحث/ مؤرخ التاريخ الشفاهي (رجلاً كان أم امرأة) في الوساطة ما بين الصوت والعالم، إضافة إلى ذلك فإن الأصوات لا توجد في فراغ: فهي تعمل – أي يتم بناؤها، والتعبير عنها، وفهمها – داخل خطابات بين خصوصية تاريخية وداخل الكلمة الحقيقة ذات موقع معين، وتؤكد جوان سکوت (1901 ,Joan Scott) على “التاريخ” اليقظ الدقيق للتجربة لتجنب الوقوع في شرك مساواة التجربة بالحقيقة.
وعلى مستوى آخر، فإن التجربة المشتركة أو الأخوة المفترضة بين النساء من مختلف الخلفيات هي أمر خضع لمراجعة جذرية من قبل الباحثات والباحثين، ومرة أخرى، نجد أن تأكيد ما بعد الحداثة على التنوع والخصوصية، وكذلك الانتقادات تجاه التصنيفات الجوهرية التي جمعت الناس معًا في مجموعات وتحالفات عن واقعية، قام بتسليط الضوء على أوجه الاختلاف على حساب أوجه الشبه. فقد انخرط الباحثون والباحثات في تقصى تداعيات الاختلافات في الطبقة والعرق والجنس والثقافة بالنسبة لمن يقوم بالوساطة وتأويل تجارب النساء. فإلى أي مدى يمكننا فهم أوجه التعقيد القائمة في التجارب المختلفة، إذا أخذنا في الاعتبار الحقيقة القائلة بأن الباحث/ الباحثة من ناحية والمبحوث/ المبحوثة من ناحية أخرى يتحدثان من مواقع تمت صياغتها وتعكس مجموعة من المتغيرات المختلفة؟ إن هذه الاتجاهات، وخاصة المرتكزة على مسائل تحويل الفرد إلى “آخر” والتمثيل في أمور أثارت التساؤلات عن الحدود المتحركة بين الباحثة/ الباحث والمبحوثة/المبحوث، وعن من منهما يحق له دراسة من، وعن من منهما يمكن اعتباره منتميًا إلى الداخل أو منتميًا إلى الخارج، وعن من منهما يتمتع بالحق المطلق في الحديث نيابة عن من؟
…
التاريخ الشفاهي للنساء في الثقافات الإسلامية
بالإضافة إلى الجدل الدائر بشأن التاريخ الشفاهي عمومًا، فإن توثيق ونشر والقيام بالبحث العملي والنظري عن السرديات الشفاهية للنساء في الثقافات الإسلامية يطرح مزيدًا من الأسئلة وثيقة الصلة بالتحديات التي تواجهها محررات هذه الموسوعة في عملية تحديد المفاهيم والتعرف على المتلقين والمتلقيات والتوصل إلى قرارات صعبة فيما يتعلق بعمليات التضمين والاستبعاد. فكيف يمكننا تمثيل سرديات النساء المسلمات إلى متلقين ومتلقيات من العالم (من الناطقين بالإنجليزية)، مع الأخذ في الاعتبار أن الصور التي تمثل الإسلام والثقافات الإسلامية والنساء في الثقافات الإسلامية هي صور تمثيلية تخضع لصراعات قوى دولية خطيرة للغاية، التي تزداد تعقيدًا بسبب التراث الاستعماري؟ إن مناقشة هذه القضية تتطلب تناول نقطتين: تأثير التاريخ الاستعماري على تمثيل النساء في الثقافات الإسلامية في الحاضر، والتداعيات السياسية الجغرافية لإنتاج ونشر المعرفة.
إن التمثيل السلبي لـ “المرأة المسلمة” هو السائد في الخطابات الاستعمارية الكولونيالية في الماضي والحاضر فهي تمثل صورة “الآخر” التقليدي بل و“المتخلف“، على النقيض التام من الذات الحديثة والأعلى مكانة للمرأة الغربية، إن ضعفها أو وضعها الأدنى داخل ثقافتها كما يراه الغرب يتم استخدامه لتدعيم الدعاوى الخاصة بالتخلف الجوهري والوضع “ضد الحديث” للثقافات الإسلامية، وكرد فعل أصبحت النساء في ثقافاتهن بمثابة المؤسسات حاملة التراث كما صرن تدريجيًا رموزًا لذلك السمات “غير المتغيرة” في الثقافات الإسلامية والتي تم الحفاظ عليها بنجاح في المجتمعات المسلمة رغم الهجوم الاستعماري الغربي، ومن هنا فإن الصور التمثيلية الحالية للنساء في الثقافات الإسلامية تقع بين الخطاب الكولونيالي والخطاب الإسلامي، كما يفرض على غالبية المناقشات عن تمثيلات النساء أن تحمل عبه هذا الموروث: وقد تأتي في صورة رد الفعل، أو التحدي والمواجهة، أو تفكيك فرضياته، ولكنها لا تستطيع تجاهله.
ويؤدي بنا ذلك إلى النقطة الثانية المتعلقة بأثر الجغرافيا على إنتاج المعرفة. وتحديدًا، ما هي حالة مشروعات التاريخ الشفاهي التي تقوم بتسجيل قصص حياة النساء في العالم العربي؟ حتى يومنا هذا لا توجد مؤسسات رسمية أقيمت لاستضافة أرشيفات النساء في البلدان العربية. هنالك عدد من المشروعات وبعض الإصدارات. ففي تونس تم القيام بسلسلة من المشروعات عن السرديات الشفاهية للنساء وذلك بالتعاون مع وحدة التاريخ الشفاهي في معهد تاريخ الحركة القومية في جامعة تونس رقم 1. وفي فلسطين تولت وزارة التخطيط والتعاون الدولي مشروعًا لتوثيق التاريخ الشفاهي السياسي للنساء الفلسطينيات. وفي مصر بادرت مؤسسة المرأة والذاكرة بمشروع لبناء أرشيف التاريخ الشفاهي لأصوات النساء المصريات اللاتي لعبن دورًا في الحياة العامة في النصف الأول من القرن التاريخ العشرين. إلا أن الجزء الأكبر من العمل على توثيق السرديات الشفاهية للنساء يتم بواسطة المتخصصين والمتخصصات في الأنثروبولوجيا بغرض إصدار مطبوعة بحثية، في حين لا يتم جمع مصادر المادة الشفاهية في أرشيف يمكن إتاحته للباحثات والباحثين الآخرين.
ذلك بالإضافة إلى أن غالبية البحوث التي تتناول النساء في الثقافات الإسلامية تتم بواسطة باحثات وباحثين غربيين، أو باحثات وباحثين موجودين في جامعات أو منظمات بحثية غربية. وبالتالي فإن كل المنظومات النظرية والفرضيات القائمة على خلفية الأعمال لم يتم إنتاجها داخل البلدان الخاضعة للبحث بل بواسطة البلدان القائمة بالبحث. وتزداد تلك النقطة تعقيدًا إذا أخذنا في الاعتبار متغيرات أخرى تنظم العلاقة البحثية بين الشرق والغرب، مثل المستويات الأكاديمية المتواضعة للمؤسسات البحثية المحلية، وندرة الموارد المتاحة للباحثات والباحثين المحليين، وكذلك الخلل في ميزان علاقات القوى بين العديد من البلدان المسلمة بالنسبة لـ “الغرب“.
وكل ذلك يطرح بعض التساؤلات المربكة بشأن إنتاج المعرفة واستهلاكها. فمن الذي ينتج المعرفة وما الغرض منها؟ من الذي يستهلك المعرفة، وكيف يتم استيعابها واستخدامها؟ إن مصير السرديات الشفاهية للنساء في الثقافات الإسلامية تتصل بعلاقة وثيقة بسياسات الإنتاج والاستقبال والاستهلاك في السياق العالمي، ومعنى سردية ما يختلف ويتنوع تبعًا للسياسة الجغرافية للاستقبال. إن المسائل الخاصة بالتأويل والمازق النظرية والأخلاقية التي تواجه المؤرخات والمؤرخين للتاريخ الشفاهي والتي تمت مناقشتها هنا هي أمور تزداد إلحاحًا في سياق المعاني موضع النقاش وصراعات القوى. ويظل التحدي الأخير هو: إلى أي مدى تستطيع “النساء في الثقافات الإسلامية” اكتساب سلطة التحكم في أصواتهن، أو في تمثيل أصواتهن؟
وختامًا، أود الإشارة إلى ما حدث مع نوال السعداوي، النسوية المصرية البارزة، كحالة دالة، في مقالة عن تشكيل واستقبال نوال السعداوي في الغرب، وجدت آمال عميرة أنه بالرغم من ظهورها وحضورها القوى في المؤسسات الأكاديمية الغربية إلا أنها لم تنجح في التحكم في كيفية تمثيلها، وتتبع أمال عميرة كيف أصبحت نوال السعداوي متورطة في “قصة مقاومة ومؤامرة” حيث اضطرت كثيرًا إلى مواجهة قوى خارج نطاق تحكمها ( Amal Amireh 2000 219)، إن هذه القصة تجعل من مسؤولية تمثيل النساء في الثقافات الإسلامية مهمة عسيرة ولكنها جديرة بالعناء.
الهوامش
1. هدى الصدة.” التاريخ الشفاهي“. ترجمة هالة كمال. موسوعة النساء والثقافات الإسلامية. تحریر : سعاد جوزیف، ليدن – بوسطن: دار بریل، ۲۰۰۳، ص ٥٢١–٥٢٥.
رابط الموسوعة على موقع مؤسسة المرأة والذاكرة:
Ing/www.wmf.org.eg/wp-content/uploads/2015/12/encyclopedia-1.pdf
المراجع
A. Amirch, “Framing Nawal El-Saadawi: Arab Feminism in a Transnational World”, in Signs: Journal of Women in Culture and Society, 26: 1 (2000), 215-49.
K. Anderson and D.C. Jack, “Learning to Listen: Interview Techniques and Analysis”, in Sherna Berger Gluck and Daphne Patai (eds), Women’s Words: The Feminist Practice of Oral History. London: Routledge, 1991, 11-26.
S.Hale, “Feminist Method, Process, and Self-Criticism: Interviewing Sudanese Women”, in Sherna Berger Gluck and Daphne Patai (eds.), Women’s Words: The Feminist Practice of Oral History, 121- 36.
L. Passerini “Work Ideology and Consensus Under Italian Fascism”, in R. Perks and A. Thomson (eds.). The Oral History Reader. London: Routledge, 1998, 53-62.
A. Portelli, The Death of Luigi Trastulli and Other Stories. Form and Meaning in Oral History, Albany, N. Y., 1990.
C. Salazar, “A Third World Woman’s Text: Between the Politics of Criticism and Cultural Politics” in S. Berger Gluck and D. Patai (eds.). Women’s Words: The Feminist Practice of Oral History, 93 -106.
S. Schrager, “What is Social in Oral History?” in R. Perks and A. Thomson (eds.). The Oral History Reader, 76-7.
G.C. Spivak, “Can the Subaltern Speak?”, in Wedge 7:8 (1985), 120-30 and C. Nelson and L.Grossberg. Marxism and the Interpretation of Culture, Urbana: University of Illinois, 1988, 261- 313.
J. Scott, “Experience”, in Critical Inquiry 17 (Summer, 1991), 773-97.
تشكيل تصورات عن الذات
قراءة أدبية في سيرة كوكب حفنى ناصف
قراءة أدبية في سيرة كوكب حفنى ناصف 1
هدى الصدة
تتناول هذه الورقة السيرة الشفاهية لكوكب حفنى ناصف، وهي امرأة مصرية درست الطب ومارسته في النصف الأول من القرن العشرين. وبعد هذا البحث جزءًا من مشروع أكبر تقوم به مجموعة من الباحثات المصريات في ملتقى المرأة والذاكرة لتوثيق سير حياة نساء مصريات ساهمن في الحياة العامة في مصر في النصف الأول من قرن العشرين، وذلك من أجل بناء مكتبة تاريخ شفاهي للنساء المصريات.
يستند مشروع أصوات النساء المصريات إلى افتراض أساسي عن أهمية التاريخ الشفاهي في الوقت الحالي لدعم المحاولات الجارية لتحسين وضع المرأة في المجتمع. التاريخ الشفاهي هو التاريخ الذي يعتمد على الروايات الشفافية للناس الذين لم تسلط عليهم الأضواء، وعن مظاهر الحياة في مجتمعاتهم، ولا يعتمد، كما هو الحال بالنسية للتاريخ الرسمي، على الوثائق الرسمية التي تعتبر المصادر الرئيسية للتأريخ بشكل عام. هؤلاء الناس هم الناس البعيدون عن السلطة، هم الناس الذين لا يرد ذكرهم في المصادر الرسمية التي تهتم في الأساس بمن هم قريبون من النخبة الحاكمة في فترة معينة، وفي الأغلب كانت النساء من المجموعات المهمشة في التاريخ الرسمي بشكل عام، ومن ثم أصبح التاريخ الشفاهي للنساء من أهم المصادر المتاحة للإنصات إلى أصوات النساء التي ظلت صامتة طويلاً، كما تحولت هذه المصادر التاريخية البديلة إلى وثائق هامة لإلقاء الضوء على بعض الجوانب المطموسة في تاريخنا الاجتماعي والسياسي بشكل عام.
في مصر والعالم العربي، لعبت النساء دورًا بالغ الأهمية في الجزء الأول من القرن العشرين لا تعرف عنه إلا القليل. تم التركيز على شخصيات معينة، وتجاهل شخصيات أخرى لأسباب سياسية واجتماعية. أما بالنسبة الشخصيات النسائية التي كان لها حضور واضح ومعروف، فنجد أنه في معظم الأحيان، يتم التركيز على جوانب معينة من الشخصية، وتجاهل جوانب أخرى قد تكون على درجة عالية من الأهمية. بالإضافة إلى ذلك، لا يلتفت التاريخ الرسمي إلى مساهمات النساء غير المشهورات، بالمعنى الإعلامي للكلمة، ومن ثم يتم استبعاد تجارب كثيرة غنية ودالة.
ولهذا، وباعتبارها من النشيطات في مجال حقوق النساء، نهتم بإحياء ذاكرة النساء، وتسليط الضوء على إنجازات النساء، وعلى أدوارهن المتعددة في المجتمع، وذلك من أجل مقاومة التصورات السائدة عن دور المرأة ومكانتها في المجتمع، وباعتبارنا باحثات، نهتم بقضايا الهوية، وتشكيل الذات وتحديد معالمها، كما نعي مخاطر صياغة تصورات جوهرية وجامدة عن “الآخر“، في سياق ثقافی وسیاسي مليء بعمليات إنتاج واستهلاك لذوات تمثيلية representative subjectivities بعبارة أخرى، نحن دائمًا معنيون بمساءلة الافتراضات النظرية والعملية لمشروعنا وإعادة النظر في منطلقاتنا.
ولقد نما الاهتمام بتاريخ النساء الشفاهي ضمن الاهتمام البحثى العام بكتابات المرأة، أو بكافة أشكال التعبير عن أصوات النساء استجابة للمطلب النسوى لاستعادة أصوات النساء في عالم المعرفة. وبعد أن بذلت مجموعات كبيرة من الباحثات النسويات مجهودًا كبيرًا في تقديم أو توصيل أصوات النساء إلى المجال العام، وذلك من خلال التركيز على تجارب النساء، ووجهات نظرهن في عرض رؤيتهن عن العالم، ظهرت أسئلة جديدة حول كيفية قراءة أو فهم أو تفسير التجارب المعبرة عنها، أي كيف نفهم أشكال التعبير المعقدة والمتداخلة عن الذات؟ إلى أي مدى يتسنى لنا أن ننتهي إلى استنتاجات عامة من واقع التجارب الفردية؟ ما هو السبيل إلى تفادي قولبة التجارب في أطر جوهرية؟ أو عندما نقول المرأة، أو المرأة المصرية، أو المرأة العربية، ما هي تلك المرأة؟ وهل يوجد بالفعل امرأة عربية واضحة المعالم، ومتميزة عن نساء أخريات في أماكن أخرى؟ في مقالة مهمة، تحذر المؤرخة جون سكوت Joan Scott من مخاطر تقديم “التجربة” باعتبارها حقيقة، أو معبرة عما هو حقيقي، وتطرح فكرة “التركيز على عمليات إنتاج الهوية، والتأكيد على التجربة باعتبارها خطاب، ومن ثم الالتفات إلى سياسات التشكيل في حد ذاتها“.2 تنبهنا سكوت إلى تاريخية التجربة، وإلى أهمية التركيز على تفاصيل السياق الدقيقة، وإلى المادة النصية التي تؤثر على عملية تعريف الذات والهوية.
وحول القضية ذاتها، تتساءل جاياترى سبيفاك Gayatri Spivak ما إذا كان في استطاعة الصوت المهمش الحديث أن يتم الاستماع إليه، على الرغم من الأنساق الثقافية السائدة التي قامت بتحديد قواعد الخطاب الذي يوجه المعنى والوعي، ويشكل معالمهما.3 شكل تساؤل سبيفاك تحديًا خاصًا لمؤرخي التاريخ الشفاهي، الذين يحاولون استعادة أصوات النساء من خلال تدوين سيرهن الشفاهية، والعمل على إتاحتها إلى جمهور كبير. لقد نبهت سبيفاك إلى قضيتين محورتين: الأولى تتعلق باحتمالات نجاح المتحدثة في التعبير عن نفسها وفي تشكيل ملامح ذاتها داخل إطار الخطابات السائدة. أما الثانية، فتتعلق بالأثر الناتج عن كون الباحثة، أو المناقشة، أو مؤرخة التاريخ الشفاهي، تقوم بدور وساطة بين الصوت والعالم. هناك العديد من السرديات الكبرى التي تتدخل في عملية إنتاج المعاني المرتبطة بسيرة حياة امرأة مصرية، كما تتدخل في عملية استقبال المعاني وفهمها، ما زلنا متأثرين بخطاب الحداثة العربي، الذي تحول إلى سردية كبرى يقبلها ويعيد إنتاجها المؤرخون الحداثيون. ومن ناحية أخرى، فلقد نجحت النظرية النسوية ونظرية ما بعد الاستعمار في تزكية سرديات كبرى أخرى عن أدوار النساء في تاريخ الشرق الأوسط، ويظل السؤال، كيف لنا أن نقرأ ونستنبط معاني من السير الشفاهية لكي نفهم
التغيرات الاجتماعية والثقافية في المجتمعات العربية، خاصة فيما يتعلق بوضع النساء؟
سيرة كوكب حفنی ناصف
ولدت كوكب حفنی ناصف سنة ١٩٠٥، وكانت الإبنة الصفري لعائلة مصرية من الطبقة المتوسطة مكونة من الأم والأب وثلاث بنات وأربعة أولاد. عاشت وسط عائلة تقدس التعليم، ونجحت في توفير بيئة دافئة ومشجعة لأفرادها. كان أبوها حفنی ناصف (١٩۱۹–١٨٥٥) من الشخصيات البارزة في المجتمع المصري، كان معلمًا وقاضيًا، ومفتش تعليم، كما كان ضمن مؤسسي الجامعة المصرية. كان أيضًا يكتب الشعر، ويعطى من وقته للإشراف على تعليم أولاده وبناته. كوكب هي أيضًا الأخت الصغرى لملك حفنى ناصف، وهي من رائدات الحركة النسائية في مصر. كان لملك مكانة خاصة في عائلتها، مما جعل موتها في سن مبكرة صدمة هائلة لعائلتها. خاصة أبيها الذي توفي بعدها ببضعة أشهر. أما أمها، فتتذكر كوكب قوتها وعزيمتها، حيث كانت تشجع أولادها على الاستمرار في طريقهم بالرغم من الصعاب التي تواجههم، كما نجحت الأم في الحفاظ على تماسك العائلة تحت وطأة ظروف سياسية ومعيشية قاسية. كانت العائلة بشكل عام مرتبطة ارتباطًا جذريًا بالحياة السياسية في ذلك الوقت، كما كانت تتميز بارتفاع مستوى التعليم لأفرادها. فعلى سبيل المثال، كانت ملك (١٩١٨–١٨٨٦) خطيبة ماهرة وكاتبة مقالات تتشر في الجرائد والمجلات في أوائل القرن العشرين، فأثرت على أجيال لاحقة من النساء العربيات، عمل جلال الدين (١٩٦٠–١٨٨٩)، وهو الأخ الأكبر محاميًا ثم قاضيًا. أما مجد الدين (۱۸۹۱ – ۱۹۷۸) فعمل أستاذًا في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)، وقام بتأليف كتب عديدة، كما قام بترجمة أعمال عالمية، عملت حنيفة (1973 -1898) مدرسة، وترقت إلى درجة مفتش في وزارة التربية والتعليم. درس عصام الدين (1970- 1900) الزراعة في ألمانيا، ثم عمل مدرسًا، وله مؤلفات كثيرة عن تاريخ الأديان. وكان صلاح الدین (1977- 1902) مستشارًا في وزارة الصحة. سنة ١٩٢٢، حصلت كوكب على منحة لدراسة الطب في إنجلترا، لتعود إلى مصر في 1930 وتصبح من أوائل النساء اللاتي مارسن مهنة الطب في العصر الحديث.
ومن ناحية أخرى، انخرط معظم أفراد هذه العائلة في العمل السياسي ضد الاحتلال الإنجليزي لمصر، وكان لهم مواجهات كثيرة مع ممثلي الاحتلال. عانى حفنى ناصف من النقل المتعسف إلى مناطق نائية في الدولة، لإبعاده أو إرهابه. تعرض كل الأولاد الذكور إلى الاعتقال السياسي، خاصة مجد الدين الذي مثل أمام محكمة عسكرية كادت أن تحكم عليه بالإعدام. دخلت ملك في معارك سياسية واجتماعية حول قضية وضع المرأة في المجتمع. كادت كوكب أن تفقد المنحة الدراسية التي رشحت لها بسبب ما عرف عنها وعن أسرتها من معاداة الوجود الإنجليزي في مصر. أما الأم، سنية، فاعتادت حملات التفتيش التي كان يقوم بها البوليس بصفة شبه دورية لبيتها بحثًا عن أدلة تدين أحد أفراد أسرتها، فابتدعت أسلوبًا للمقاومة يعتمد على السخرية من الموقف، والتظاهر بعدم المبالاة أو الانزعاج، فتروى كوكب كيف كانت أمها تدعو الجنود إلى تناول الطعام بصوت ساخر لاذع.
ذهبت كوكب إلى مدرسة السنية الشهيرة، وهي من أوائل المدارس الحكومية للبنات في مصر، تأسست سنة ۱۸۸۹، عندما اندلعت ثورة 1919، شاركت كوكب، وهي ما زالت تلميذة في المدرسة، في المظاهرات ضد الاحتلال، ولعبت دورًا فعالاً في تعبئة التلميذات الأخريات. ولهذا السبب، قررت ناظرة المدرسة، السيدة هاردينج، طرد کوكب وزميلتها منيرة روفائيل، ووصفتهما بأنهما “زعيمتا المشاغبات“. ۱۹۱۹، “كانت سنة سودا” كما تتذكرها كوكب، فلقد عانت الأسرة من الوفاة المفاجئة لفردين من أفرادها، وكان لها أخان في السجن، وكان على البقية تحمل تحرش البوليس، دخلت كوكب مدرسة الحلمية في نهاية العام، بمساعدة أصدقاء والدها في وزارة التربية والتعليم، ولكن، نقلت السيدة هاردينج إلى مدرسة الحلمية أيضًا، واستمرت في معارضتها لمنح كوكب بعثة دراسية إلى إنجلترا، قالوا لمس هاردينج، ما تخافيش على الحكومة البريطانية، مش حتقدر كوكب تقلبها“، تتذكر كوكب.
وعن ذكرياتها في مدرسة الحلمية، تقول كوكب: “كنا عفاريت“. ثم جاءت بعثة كيتشنر لدراسة الطب في إنجلترا. تتذكر كوكب أن ممارسة مهنة الطب كانت من أحلامها، لأنها عندما طلب منها كتابة موضوع عن أمنياتها في المستقبل، كانت دائمًا تتمنى أن تصبح طبيبة. مرة أخرى، وقفت مس هاردينج في طريقها، وعارضت منحها البعثة. نصحها موظفون في الوزارة بتحسين علاقتها مع مس هاردينج، أو “تمشى حالها معاها وتسايسها” إلى أن تحصل على الترشيح الرسمي للبعثة. نجحت في النهاية في الحصول على البعثة وسافرت إلى إنجلترا سنة ۱۹۲۲. تستمتع كوكب باستعادة ذكرياتها عن فترة البعثة، باعتبارها فترة سعيدة. أمضت في إنجلترا عشر سنوات، صعبة ولكن مجزية على أكثر من مستوى. تعقد كوكب مقارنات كثيرة بين الإنجليز في إنجلترا، والإنجليز في مصر، كانوا “حاجة تانية“. تشكر العائلة التي أقامت عندها خلال فترة دراستها، فكانوا يحترمونها ولم يحاولوا قط التأثير على أفكارها أو معتقداتها. قارنت هذا الموقف بموقف الإرساليات التبشيرية في المدارس الإنجليزية في مصر، حيث كانت المدرسات تحاول التأثير على التلميذات المصريات. عادت إلى مصر سنة ١٩٣٢، وعملت في مستشفى كيتشنر.
سنة ١٩٣٨، طلب الملك عبد العزيز آل سعود من على إبراهيم باشا ترشيح طبيبة لمعالجة النساء في عائلته. لم ترغب كوكب في الذهاب إلى السعودية، ولكنها وافقت بعد أن هددها إبراهيم باشا بمحاريتها في مصر إذا رفضت. أيامها في السعودية مليئة بالمغامرات والأحداث الشيقة، ولكنها عانت من الملل بسبب قلة مسئولياتها. بعد مرور سنة، عادت إلى مصر وإلى وظيفتها في مستشفى كيتشنر. سنة 1941، أعلنت بريطانيا دخولها الحرب، مما أدى إلى استقالة بعض العاملين في المستشفى. استمرت هي في وظيفتها، فكان حلمها أن تتحول هذه المستشفى إلى مستشفى مصري. وبالتدريج، نما المستشفى، وأصبح هناك ممرضات مصريات مدربات تدريبًا جيدًا، ثم تحول المستشفى إلى مستشفى جامعي وأصبحت هي الطبيبة الأولى. سنة 1964، أصبح المستشفى تحت إشراف وزارة الصحة. استمرت في وظيفتها حتى سنة 1965، ثم تقاعدت وكرست حياتها لتربية أحفادها.
…
قراءة الاستراتيجيات السردية
يتيح لنا النص السردي الشفاهي الكوكب حفني ناصف قراءته باعتباره قصة نجاح حديثة a modern success story)). فهذه امرأة، أتيحت لها فرصة الحصول على شهادة عليا، الأمر الذي أدى إلى نجاحها في ممارسة مهنة، واستطاعت أن تشارك في المجال العام بكفاءة وتأثير. ومن ثم، تبرهن قصة كوكب أن النساء قادرات على خوض جميع المجالات والتفوق فيها إذا ما أتيحت لهن الفرصة المناسبة. يمكن أيضًا، من زاوية التاريخ الوطني، قراءة سيرة كوكب، بوصفها حلقة في سلسلة المقاومة ضد الاحتلال الإنجليزي لمصر، لأنها في سيرتها، تعتبر أن الوجود الاستعماري كان يشكل أكبر عائق في طريقها نحو الاستقلال، على المستوى الشخصى والوطني، والنجاح. ومن ناحية أخرى، نستطيع أن نقرأ سيرتها قراءة مضادة للمنظور الحداثي الذي يكرس ثنائية “الحديث” في مواجهة “التقليدي” ويرى أن ما يسمى بالقيود التقليدية المفروضة على النساء والممثلة في التزاماتهن الأسرية وأدوارهن التقليدية داخل العائلة “العربية التقليدية” يشكل أكبر عائق لتقدم المرأة. فوفق هذا المنظور الحداثي، تعرف العائلة العربية تعريفًا جامدًا تسوده نزعة تنميطية، فتصبح “العائلة” هنا رمزًا للمجتمع التقليدي الذي يتمسك بقيم مناهضة للتطور والتغيير نحو الأفضل. أو، في قراءة أخرى من منظور نسوي، كان على النساء الرائدات قبول التعريفات والأطر الذكورية التي تقلل من شأن قيمة العمل داخل المحيط الخاص، وفي المقابل تعلى من قيمة العمل في المحيط العام، الأمر الذي يؤدي إلى تجاهل النساء لأدوارهن في العائلة والتركيز على إنجازاتهن العامة والمرئية.
من المحاذير التي وجب الانتباه لها في قراءة سير الحياة، الوقوع في فخ معادلة التجربة بالحقيقة، أي اعتبار الرواية التي تقدم تجربة ما رواية حقيقية. والمراد هنا ليس التشكيك في مصداقية الراوي أو الراوية، وإنما الهدف هو التذكير بالعوامل المختلفة التي تتدخل في إنتاج المعنى في سياق ثقافی وسیاسی محدد. تشمل هذه العوامل اعتبارات شخصية، اعتبارات خاصة بالمكان، بجمهور المستمعين المفترض، بهوية الباحث أو الباحثة، بمنظومة القيم والحقيقة regime of truth المتاحة للراوي/الراوية، والباحث/الباحثة. تتواجد هذه العوامل وتتفاعل في سياق ثقافي واجتماعي مليء بالمعاني، والمصالح المتضاربة، وعلاقات القوة المتفاوتة والتوقعات المتغيرة، وأيضًا في السرديات الكبرى التي توجه وتشكل القراءات بشكل عام. وفي محاولة لتقديم قراءة تسعى إلى الأخذ في الاعتبار ما سبق ذكره، بالإضافة إلى تجنب، بقدر الإمكان، سطوة السرديات الكبرى، سوف أحاول تقديم هنا قراءة لسيرة كوكب تسلط الضوء على ما تسميه جون سكوت، “العناصر الأدبية“4 للنص السردي، آخذين في الاعتبار المؤثرات الثقافية والاجتماعية التي تتحكم في عملية تشكيل الهوية، وللباحثتين موجه جوتشك Muge Gocek وشيفا بالاغي Shiva Balaghi مساهمة قيمة في هذا الموضوع، فتركزان على فكرة أننا في حاجة إلى وضع التجرية في سياقها الجغرافي (الشرق الأوسط في هذه الحالة)، والمعرفي اي في سياق قضايا الأصالة والهوية وعلاقات القوة.5 اما دوروثی سمیت Dorothy Smith فتؤكد على ضرورة الاهتمام بواقع الحياة اليومية للنساء المعنيات. 6
ومن ناحية أخرى، وفي إطار محاولة أدبية لقراءة النص في سياقه الثقافي والاجتماعي، تحدد کاثرین أندرسون Kathryn Anderson ودانا جاك Dana Jack ثلاثة سبل لسماع، أو للإنصات للنص السردي الشفاهي، الأولى تركز على “اللغة الأخلاقية” للنص، حيث يتم تقييم العلاقة أو التوتر بين مفهوم الذات وبين الأنساق الثقافية السائدة. الثانية تنتبه إلى المقولات الفوقية meta-statements التي تكشف المفارقات بين ما هو متوقع وبين ما يقال بالفعل، الثالثة تستكشف “منطق النص السردي“، فترصد مواطن التكرار، والتناقضات، وتداعيات الأفكار، والاختيارات بشكل عام.7
أي، عوضا عن الإنصات إلى ما يقوله النص السردي، سوف أحاول قراءة النص من خلال الإنصات إلى كيف يقال ما يقال ولماذا تستفيد هذه القراءة بصفة أساسية من المناهج النسوية المعنية بقضايا التعثيل representation التأويل، وتشكيل الهوية. ووفقًا لاعتبارات عملية وزمنية، سوف أركز على عنصرين من استراتيجيات النص السردي، وهما: آليات الحذف والتضمين من جهة، والتكرار (العبارات والموضوعات) وتوارد الخواطر من جهة أخرى.
آليات الحذف والتضمين
عندما وصلت كوكب حفنى ناصف إلى نهاية النص السردي، كان لدى مجموعة كبيرة جدًا من الأسئلة التي لم تتطرق لها. كان منهجي في إجراء المقابلة منهجًا مفتوحًا إلى حد كبير، حيث حرصت أن لا أتبع نظامًا صارمًا في طرح الأسئلة وفي توجيه مسار الحديث، بقدر الإمكان. طلبت منها أن تحكي لي عن نفسها واهتماماتها، ووضحت لها أنني معنية بتوثيق سير حياة النساء اللاتي ساهمن في الحياة العامة في أوائل القرن العشرين في مصر. كنت مدركة لمخاطر طرح أسئلة توجيهية أو إيحائية توجه السرد نحو المساحات التي أهتم بها كباحثة، أو نحو الاتجاه الذي أفضله. وددت أن أفهم رؤيتها لنفسها، والسبل التي تختارها لتمثل لنفسها وحياتها. كنت معنية أيضا بما تعتبره هي، من وجهة نظرها، مهما، وآليات الاختيار التي سوف تحدد ما يضمن وما يحذف من النص، والأسلوب الذي سوف تختاره للسرد، ركزت كوكب على مسار مهنتها في مجال الطب، فكانت تتذكر المواقف والناس المرتبطين بمهنتها. في البداية، أشارت إلى عائلتها، أختها ملك، أبيها، واستعادت بعض الذكريات عن الأزمات التي واجهت العائلة ككل، خاصة حين فقدوا فردين من أفرادها في غضون أشهر قليلة. أشارت أيضًا إلى الفترة التي عاشوا فيها في خوف دائم من سلطات الاحتلال. ولكن، ومع تطور السرد، لفت انتباهي أنها لم تشر إلى زوجها أو إلى عائلتها الصغيرة، بناتها. لم تتطرق مرة واحدة إلى المعوقات الأسرية أو الاجتماعية التي كان عليها مواجهتها كامرأة اختارت أن تتحمل أعباء مهنة صعبة إلى جانب أعبائها العائلية المتوقعة منها كامرأة. لم تستدع في سردها أسماء نساء معاصرات لها من الأسماء المعروفة في الحركة النسائية المصرية. وباستثناء الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى بعض التغييرات الإدارية في مستشفى كيتشنر الذي عملت فيه، لم تتطرق إلى أي أزمات أو تطورات على المستوى السياسي العام، وعلى الرغم من تعبيرها الدائم عن مشاعر وطنية عميقة، إلا أنها تجاهلت أغلب الوقت تفاصيل الصراع الوطني، والأحداث السياسية المهمة (ثورة ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢ على سبيل المثال).
ألحت على بعض الأسئلة المتشابكة. هل كانت قراراتها في الحذف والتضمين واعية أم غير واعية؟ هل تجاهات الحديث عن زوجها وبناتها لأنها قررت تبني المنهج الذكوري في رواية قصة النجاح، ومن ثم التركيز فقط على الإنجازات في المجال العام، لكي تشق طريقها في عالم يحكمه المنطق الذكوري؟ هل قبلت من داخلها وتواءمت مع النموذج الذكوري للنجاح، فاعتبرت حياتها الخاصة غير مهمة بالقياس إلى حياتها العامة. بالإضافة إلى ذلك، كان أسلوبها في رواية إنجازاتها الرائدة هادئا إلى درجة تبدو وكأنها غير ملتفتة بتاتا إلى الصعوبات التي لابد أن تكون واجهتها في مسار حياتها. هذا الأمر جعلني أسترجع بعض النتائج التي توصلت إليها بعض الباحثات النسويات المعنيات بالتاريخ الشفاهي للنساء، وهي ملاحظات حول اتجاه نساء كثيرات نحو التقليل من شأن أفعالهن، أو تكرار أنهن لم يفعلن شيئًا يستحق الاهتمام. فهل نحن هنا بصدد استراتيجية خاصة بالنساء اللاتي اعتدن الابتعاد عن بؤرة الضوء، في المنزل وراء أزواجهن، فيرهبن الظهور ويحولن التواري إلى فضيلة تبتغي؟ كل هذه الأسئلة وأسئلة كثيرة أخرى بادرت إلى ذهني من واقع إلمامي بالنظريات النسوية ونظريات ما بعد الاستعمار، خاصة فيما يتعلق بسير النساء باعتبارها سيرًا بديلة تعبر عن تصورات مختلفة للذات، إن حدود الاختلاف مازالت تعرف وفق معايير مرجعية تضع الرجل الغربي العالمي كنموذج أمثل. وكما ذكرت، يطرح البحث النسوي في مجال سير النساء فكرة أن النساء عادة ما يمان إلى التقليل من شأن إنجازاتهن، ويبدين تحفظًا في الاعتراف بقدراتهن أو بتميزهن. أيضًا، تفضل النساء تعريف أنفسهن من خلال علاقاتهن بالآخرين، بدلاً من التركيز على هويتهن المستقلة كأفراد.
قررت أن أطرح عليها بعض التساؤلات التي بادرت إلى ذهني. ما هي رؤيتها عن نفسها بوصفها امرأة اختارت مهنة يعتبرها بقية المجتمع في عصرها، مهنة غريبة أو غير ملائمة للنساء؟ كيف تعاملت مع الأنماط الثقافية السائدة عن النساء؟ إلى أي مدى كانت واعية أو غير واعية بمسألة المرأة التي كانت محل جدل واسع على الساحة الثقافية المصرية؟ هل كانت هويتها كامرأة عاملاً معوقًا في حياتها المهنية؟ كيف تختار أن تعرف نفسها؟ هل تعتقد أنه كان من الممكن أن تحقق أشياء مختلفة في حياتها العملية إذا كانت رجلاً؟ بعبارة أخرى، ما هو المسكوت عنه في حياتها الذي كتمته أو تجاهلته في النص السردي لحياتها؟ فإلى هذه اللحظة، كان انطباعي أنها تتردد في الحديث عن هويتها كامرأة، وتختار دائما تسليط الضوء على هويتها المهنية كطبيبة.
وجهت إليها سؤالاً عن المعوقات أو الصعاب التي كان عليها مواجهتها في حياتها. كان في ذهني الضغوط الاجتماعية والأسرية التي يفترض دائمًا أنها تشكل عائقًا هائلا في طريق عمل المرأة، كان جوابها بدون أدنى تردد: الرجال والنساء الإنجليز. اكتشفت أن هؤلاء يمثلون لها السلطة القامعة، أضافت أنه كان عليها طوال حياتها التحايل على غضب واستياء الإنجليز في مصر تجاهها وتجاه ما كانت تمثله لهم. تتذكر مواقف عديدة كان عليها التحكم بنفسها وعدم التعبير عن مشاعرها الغاضبة، حتى لا تسمح لممثلي الاستعمار أن يحرموها من فرصتها لدراسة الطب، في إنجلترا أثناء البعثة، كانت حريصة كل الحرص على اتباع التعاليم بحذافيرها، والابتعاد عن أي تصرف قد يجذب لها الأنظار، وذلك لكي لا تعطى أحدًا الفرصة لتوجيه اللوم إليها، ومحاربتها “لحسن يخطئوني“. باختصار، حين سؤالها عن المشاكل أو المعوقات التي كان عليها مواجهتها ، كانت دائمًا تشير إلى ممثلى السلطة الحاكمة التي هددت استمرارها في مهنتها، كان على رأس قائمة السلطة المناهضة لمسارها ممثلو الاحتلال في مصر، مجلس إدارة مستشفى كيتشنر، أو في فترة لاحقة، الموظفون المصريون في وزارة الصحة بعد انسحاب القوات الإنجليزية من مصر.
وبعد أن أجابت على سؤالي الخاص بالمعوقات التي واجهتها، سألتها عن المشاكل المتعلقة بوظائفها الأسرية. ماذا عن عائلتها، وعن مسؤولياتها المضاعفة بوصفها ربة أسرة؟ ماذا عن المعوقات الاجتماعية؟ تزوجت کوک في سن السابعة والثلاثين، وهي سن متأخرة حتى بالنسبة للنساء الآن. أردت أن أفهم مدى تقبل أفراد أسرتها (أخوتها وزوجها وبناتها وأقارب زوجها) لنمط حياتها. هل عانت من أي تعارض أو صراع بين حياتها الأسرية ومهنتها الطبية؟ كانت كوكب تتجاهل أسئلتي في هذا الصدد، أو كانت لا تسمعها. تجاوب على سؤالي الخاص بالمعوقات، وتروى حادثة موت امرأة أثناء الولادة، وكان عليها مواجهة غضب عائلتها. أعدت المحاولة، وسألتها إذا كانت أمها قد حاولت التدخل في زواجها، وترتيب خطبة مناسبة لها. أجابت أنها كانت تقضى معظم أيامها، وأحيانًا لياليها في المستشفى، ولكنها سمعت أمها مرة تناقش موضوع زواجها مع أخوتها، ولكن أحدًا منهم لم يفاتحها فيه. في النهاية، تزوجت من طبيب أسنان، وعاشت في نفس البيت مع عائلته (أمه وأخوته غير المتزوجات). كان الوضع مناسبًا لها جدًا، لأنه أعفاها من مسؤوليات الإشراف على المنزل، سألتها عن علاقتها أهل زوجها. أجابت أنها كانت علاقة ممتازة، كانوا فخورين بها، وعاملوها معاملة خاصة، باعتبارها امرأة استثنائية. تدخلت هنا ابنة كوكب ناصف لتقول: “كانت بالنسبة لهم الدكتورة. الدكتورة راحت، الدكتورة جت“. أيضا، كان الزوج رجلاً واسع الأفق لا يكترث كثيرًا لما يقوله الناس. تتذكر ليلى الابنة أنه لم يمانع قط في الجلوس إلى جوار زوجته أثناء قيادتها للسيارة، متجاهلاً نظرات الاستغراب التي كانت تلاحقه. “ما كانش يفرق معاه أن الأضواء مع كانت مسلطة عليها“.
…
هل كانت لها أي علاقة مع النساء المنخرطات في الحركة النسائية المصرية، وهل كانت تتابع كتابات النساء في ذلك الوقت؟ تتذكر كوكب مواقف قليلة ربطتها مع رموز الحركة النسائية. مثلاً، قابلت هدى شعراوي في حظة أقامتها زعيمة الحركة النسائية لتكريم الخريجات من النساء. فيما عدا ذلك، لم يكن لها أية أنشطة أو صلات مع الحركة النسائية. كان قرار الابتعاد عن أنشطة الحركة ورموزها قرارًا واعيًا. لقد ابتعدت عن قصد عن كل ما هو سياسي لكي لا تخاطر بمستقبلها المهني، في مستشفى كيتشنر، حيث كانت تقضي معظم وقتها، كانت تقرأ الجرائد الإنجليزية فقط. أما الجرائد العربية، فكانت تقراها في المنزل فقط، ذلك لأنها كانت حريصة كل الحرص على التظاهر بعدم المبالاة أو عدم الموالاة للحركة الوطنية الصاعدة ضد الاحتلال. كانت على يقين من أن ارتباطها بالحركة الوطنية كان من الممكن أن يضع طموحها المهني في خطر. “لم تكن لي علاقة مع هدى. كنت مندمجة في الطب. كانت روحي في المستشفى. كنت أتابع الأحداث الخاصة بالمرأة، لكن لم أتدخل أو أشارك، لأني كنت محاطة بالإنجليز، رئيسة المستشفى كانت إنجليزية، إذا غلطت غلطة صغيرة، كنت حاتقلب. وكان في بالي أن يومًا ما، سأكون مديرة المستشفى. كنت أحتاط في سلوكي.
سألتها، كيف تتمنى أن يتذكرها الناس، أو ما هو الشيء الذي تود أن يرتبط اسمها به؟ أجابت، “الطب هو اللي عملني ، أضافت، أنها كرست حياتها لمهنة الطب، وتتمنى أن يتذكرها الناس هكذا. كانت تشعر بفخر لأنها نجحت في تحقيق حلم صعب في وقت لم يكن من السهل للبنات إكمال تعليمهن والالتحاق بالجامعة، أضافت أيضا أنها مقتنعة بأن نجاحها من العوامل التي ساهمت في إقناع الدولة بشأن فتح أبواب الجامعات أمام البنات، كما ساعد على تشجيع بنات أخريات على المضي في هذا الطريق.
رؤى مزدوجة عن الذات: كنت سودة وزربونة، وكنت طيشة
يتخلل النص السردي لكوكب حفنى ناصف تعليقات متناثرة عن سرعة استعدادها للغضب يعقبها ملاحظة عن كيف أنها تعلمت أن تسيطر على غضبها ولا تظهره لكي لا يتسبب لها في متاعب، يتكرر هذا الموتيف motif الخاص بثنائية سرعة الغضب من ناحية، والدبلوماسية أو التحكم بمشاعر الغضب من ناحية أخرى، وتعبر عنه الراوية في سياق حديثها عن اللحظات المهمة في حياتها، لا سيما في سياق ذكرياتها عن علاقتها ببعض أفراد أسرتها. تستيل النص السردي بالإشارة إلى أختها ملك، فتتحدث عن أثر ملك في حياتها. “بدلتني. أنا كنت باغضب بسرعة. دايما مقموصة. كانت تعلمني الشعر. أنا أعرف شعر عربي كتبر قوي. هي علمتهولي. علمتني. كنت أصغر أخواتي. كانوا يقولوا لي يا سودة وزربونة“، تشير كوكب مرارًا في النص إلى هذه الخاصية في شخصيتها، أو بالأحرى إلى تلك الرؤية لشخصيتها من خلال أعين أخواتها. وفي كل مرة، تعتبر كوكب أن أختها ملك كانت صاحبة الفضل عليها لأنها علمتها كيف تتحكم بنفسها، أو كيف تصبح “دبلوماسية” وهو التعبير الذي تفضله كوكب، خلقتني قبل ما تموت، وعملت منى حاجة بعد ما ماتت. أنا كنت غضوبة، زربونة. السودة “الزربونة“.
يظهر هذا الموتيف بوضوح في إطار ذكرياتها عن مواجهاتها مع ممثلي السلطة في مصر، وجهودها الواعية لا تعطيهم الفرصة الومها أو تأنيبها، ولكي لا تمكنهم من إيجاد مبررات لحرمانها من لكبح جماح غضبها لكي مهنتها، أشرت فيما سبق إلى اصطدامها وهي ما زالت تلميذة بناظرة المدرسة الإنجليزية، مس هاردينج، ومحاولاتها اخفاء تمردها أو رفضها للوجود الإنجليزي. أما فيما يتعلق بتجربتها في إنجلترا كطالبة بعثة، فكانت حريصة على العنصرية التي ألا تعطى أحدًا الفرصة في نقدها بسبب تمردها أو تعبيرها عن مشاعر الاستياء من جراء بعض التصرفات كانت تشاهدها. ثم، عندما تتذكر كيف أنها أجبرت على السفر إلى السعودية سنة ١٩٣٨ من قبل على إبراهيم باشا تقول: “أنا كنت يقال لي سودا. اتغيرت. علمتني اختى أن لا أرد إلا عندما أعيد النظر مرة واثنين. اتعلمت سياسة من أختى“. مرة أخرى، عندما أصبح المستشفى تحت إشراف وزارة الصحة في الستينيات، حاول المسؤلون إبعادها. “كانوا مستغربين إن فيه دكتورة. كانوا عايزين يخلعوني، ما تخلعش، عملوا فصل، شريته“. كانت كوكب تعتبر دبلوماسيتها الواعية سببًا مباشرًا لنجاحها في تحقيق أهدافها.
نكتشف أنه كان لهذه الشائية لرؤيتها لذاتها، أي استعدادها للغضب السريع ودبلوماسيتها، أثر على مواقفها الأخلاقية والسياسية وتقييمها لها، على سبيل المثال، وبالنظر إلى علاقتها مع الوجود الإنجليزي في مصر وبالنظر إلى تقييمها لرؤية البعض لها باعتبارها إنجليزية في تصرفاتها، تورد الملاحظات التالية: نكتشف أن عندما تشير كوكب إلى جهودها الواعية لمجاراة ممثلى الاحتلال في مصر وإخفاء مشاعرها الوطنية المعادية للوجود الإنجليزي، كانت شتقل دائما لتعبر عن تعاطفها مع رجال مصريين في مواقع مسؤولة في الدولة اتهموا بموالاة الإنجليز ، ولكن، ومن وجهة نظر كوكب، كان معظم هؤلاء المسؤولين مضطرين إلى إبداء تعاونهم، وإخفاء وطنيتهم بسبب الظرف السياسي في ذلك. وبعد أن عبرت عن تعاطفها مع هذا، تنتقل للحديث عن نفسها، وتقول إنها كانت هي أيضا تعرف كيف تجاري من هم في السلطة لكي تحقق أهدافها. تتذكر في تلك اللحظة وصف مدرستها لها على أنها “shrewfd، أو ناصحة، لم تعرف وقتئذ معنى الكلمة، فرجعت إلى القاموس، ووجدت أنها تعنى clever ولكن لم يكن الأمر نكاء فقط، ولا ناصحة ولا حاجة كنت أصبر. وأفكر في جميع الوجوه، لو عملت كده حاروح في داهية. أنا مش حاروح في داهية. أنا عايزة أوصل لحاجة معينة. أجاريها. وأهى مشيت.
هناك ثنائية أخرى نستشفها في النص السردي لكوكب حين تؤكد في بعض المواقع على عدم أهميتها. كنت طيشة، وفي مواقع أخرى تفخر بريادتها وإنجازها في مجال الطب. أي كانت مهمة ومتميزة، وكانت أيضًا غير مهمة ومهملة في آن. هناك ارتباط بين هذه الثنائية وبين استراتيجياتها التوفيقية conformist. كانت الأخت الصغرى في عائلة مكونة من تسعة أفراد. عندما كبرت وأصبحت شابة، كانت تنام في نفس الحجرة مع أمها. كان تعليقها بخصوص عدم وجود حجرة خاصة بها أنها لم تكن مهمة “كنت طيشة“. كانت السنوات الأولى من عمرها مليئة بالأحداث والتقلبات العنيفة. مرت أمها بفترة صعبة كان عليها التكيف مع بعض المتغيرات القاسية، موت إبنة ثم الزوج، ثم اعتقال أبنائها، واضطرارها في وقت ما إلى ترك منزلها والاختفاء من البوليس، فلم يكن لديها الوقت الكافي للانتباه لاحتياجات ابنتها الصغرى. نتذكر هنا أيضًا، أن ملك كانت الإبنة المفضلة لأبيها، كانت شخصية مرموقة ومعروفة في المجتمع المصري. هل كان وجودها طاغيًا بالنسبة لأخوتها؟ تؤكد كوكب مرارًا أنها استمدت قوتها وحكمتها من أختها ملك، حتى بعد وفاتها. عندما سألتها سؤالاً مباشرًا عن وجود نموذج يحتذى به في حياتها، كانت ملك هي النموذج والقدوة التي اختارته. ولكن، إلى أي مدى وجهتها ملك في مشوار حياتها المهنية والأسرية؟ وكيف نفسر إصرارها على التأكيد على أهمية ملك مقارنة بعدم أهميتها هي؟ من الجدير بالذكر هنا أن كوكب على علم باهتماماتي البحثى بكتابات ملك، وكانت قد قرأت مقالة كنت قد كتبتها عن ملك. هل كان إصرارها على تفضيلها الكلام عن ملك في بداية لقائنا استجابة منها لما اعتقدته اهتمامي الرئيسي؟ كما سبق وذكرت، يتضح من حديث كوكب أن علاقتها تدور حول ارتباطها بصورتها عن أختها التي علمتها الحكمة والتحكم بالنفس. ولكن، من الواضح أيضا أن كوكب لم تحاول قط المضي في الطريق الذي خطته ملك كمناضلة في سبيل حقوق النساء. هل كان أحد أهدافها إثبات تفوقها في مجال لم تطرقه أختها؟ لم تهتم كوكب بالانخراط في الحركة النسائية المصرية، كما فعلت أختها، وركزت اهتمامها على مهنتها كطبيبة. عندما نتحدث عن السنوات التي قضتها مديرة لمستشفى كيتشنر، كانت عيناها تلمعان، وتقول بفخر واعتزاز وهي تتذكر كلمات الثناء التي كانت تسمعها من الأطباء والزائرين للمستشفى: “صحيح. كانت حلوة حلوة زى العروسة“. وإذا رجعنا إلى رؤيتها الثنائية، كانت كوكب “طيشة” من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت رائدة الطب في مصر في القرن العشرين. إذا أخذنا في الاعتبار التكنيك السردي في توارد الخواطر، نكتشف ترديدها لعبارة “كنت سودة وزربونة“، ثم يليها مباشرة التأكيد على دبلوماسيتها وكيف تعلمت التحكم بغضبها، يتكرر دائمًا في رواياتها عن مواجهات بينها وبين ممثلى مؤسسات السلطة القامعة. نكتشف أيضًا أنها ربطت، أو انتقلت من حديثها عن تعاملها مع ناظرة المدرسة بنصاحة، أو shrewdly لكي لا تعطيها المبرر لحرمانها من بعثتها، تنتقل بقفزة خيالية إلى إبداء تعاطفها مع المسؤولين المصريين الذين اتهموا بموالاة الإنجليز، وترى أنه فرض عليهم التظاهر بالموالاة لتسيير أمور الدولة. تضحك كثيرًا حين تتذكر رؤية الناس لها على أنها إنجليزية في أسلوبها وتصرفاتها. تكشف ضحكتها عن وعيها بالمفارقة بين كرهها للاحتلال الإنجليزي وبين رؤية الآخرين لها باعتبارها إنجليزية. كانت حريصة جدًا على إبداء الأسباب التي كانت بحكم مهنتها وبحكم انتمائها لعائلة لها تاريخ وطني مشهود محضنة ضد أي اتهامات مباشرة، أما بالنسبة لعبارة “طيشة” فهي تكشف عن صراع داخلي بين الرغبة في الانطواء والتقليل من أهمية الذات، وبين سعيها الدؤوب للتميز ولاختراق أماكن في المجال العام لم تكن متاحة لأغلبية النساء في العصر الحديث.
الخاتمة
إن عمليات الحذف والتضمين في النص السردي لكوكب حفنى ناصف جديرة بالتأمل والتمحيص خاصة فيما تطرحه من تساؤلات حول بعض الافتراضات والنظريات المتعلقة بعمليات التغيير الاجتماعي. أولاً، يمكننا أن نفسر قرارها بالابتعاد عن الساحة السياسية بوصفه شكلاً من أشكال الالتزام السياسي في تحقيق هدفها في اختراق مجال الطب والتميز فيه. لقد كان نجاحها في مهنة الطب تحديا عمليًا للتنميط السائد للنساء في الخطابات الاستعمارية والرجعية عن المرأة. ثانيًا، نجد أن ترددها، أو إغفالها الحديث عن أدوارها في داخل الأسرة وعن علاقتها مع عائلتها الصغيرة، لا يعني بالضرورة أنها تبنت، أو أنها استوعيت تعريفًا ذكوريًا عن النجاح، وهو التعريف الذي يقلل من شأن ما تقوم به النساء داخل الأسرة، ففي حديث مع ابنتها تتذكر د. لیلی مذکور الاهتمام الذي كانت تعطيه أمها لتفاصيل حياتهم، ولم يكن لديها أية ذكرى لمشاعر الاستياء بسبب غياب أمها من المنزل لفترات طويلة. وفي حديث آخر مع صديقة مقربة للعائلة، الدكتورة ملك هاشم، تشير إلى رؤيتها لكوكب باعتبارها رمزا للأمومة. تروى ملك هاشم ذكرياتها عن عطلات قضتها مع عائلة كوكب في مصيف رأس البر ، وكيف كانت كوكب تتولى الإشراف على أكل الأولاد، وتحضر لهم الساندويتشات والأطعمة اللذيذة. لم يحدث أن لامها أحد لأنها مشغولة، أو لأنها لا تقضى وقتا أطول في المنزل. أي لم تكن “أمومتها” أبدًا موضع شك أو تهدید.
أتوقف هنا لأدخل وجهة نظر مقارنة، وأطرح فكرة أن الكثيرات من النساء المهنيات في نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين مطالبات دومًا بالاعتذار عن، أو فلنقل بإيجاد مبررات قوية، لأنفسهم أو لجمهور متحيل أو حقيقي، لإثبات أن عملهن خارج المنزل لا يؤدي إلى إهمالهن لواجباتهن الأسرية. بعبارة أخرى عليهن بصفة دائمة استجداء صكوك الاعتراف من محيط الأصدقاء والمعارف والزملاء أنهن أمهات فاضلات يرعين أولادهن بالرغم من مسؤولياتهن المهنية، يحدث هذا في سياق ثقافي ومجتمعي بروج الفكرة أن العمل الأساسي والمقبول النساء هو عملهن داخل محيط الأسرة – رعاية البيت والزوج والأولاد – وأن أي عمل إضافي يقمن به خارج المنزل لا يجب أن يتم على حساب واجباتهن الأساسية، كان من الواضح في النص السردي لكوكب أنها كانت غير ملتفتة أو غير معنية بتاتًا بهذا الصراع الحداثي بين المحيط العام والخاص، ولم تشعر أنها في حاجة إلى التأكيد على عمق اهتمامها بأولادها. من الممكن أن تؤدي هذه الملاحظة إلى إعادة النظر في بعض الافتراضات البحثية عن وضع المرأة في العصر الحديث، وإلى إعادة صياغة بعض الأسئلة، على سبيل المثال، هل ساعد التحول من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النووية في تحسين وضع النساء في المجتمع، أو هل ساهم في تقوية موقفهن في الأسرة؟ فنحن نجد أن هناك افتراضًا عامًا أن “اختفاء الأسرة الممتدة” كان من المؤشرات المهمة لقياس تحسين وضع المرأة في الأسرة.8 في حالة كوكب، كانت الأسرة الممتدة مصدر مساعدة ودعم لها في حياتها المهنية. حيث أتاحت لها حرية الحركة التي عادة ما لا تتوفر للنساء المنتميات لأسرة نووية، بالإضافة إلى ذلك، قد نخلص إلى أن عدم إصرارها على أمومتها، أو عدم شعورها بضرورة تقديم أوراق اعتمادها كأم صالحة، قد يدل على أنها لم تتعرض لسطوة الخطابات الحداثية التي حولت الأسرة إلى مملكة المرأة، وجعلت المرأة ملكتها المتوجة، وأضفت على الأمومة قيمة عليا، وذلك بهدف التحكم بالأدوار الاجتماعية للنساء والرجال من خلال تعريفها تعريفات جوهرية صارمة. والخلاصة أنه إذا قمنا بدراسة مقارنة بين سير ذاتية لنساء في فترات تاريخية مختلفة، سوف نلقى بالضوء على تاريخية رؤى الذات وعملية تشكيل التصورات التمثيلية.
وعلى نفس المنوال، نتوقف عند وصفها لنفسها على أنها “غير مهمة“، أو “طيشة“، ثم ما يتبعها من استرجاع مواقفها وإنجازاتها في الطب باعتزاز وفخر. مرة أخرى، نجد ثنائية التمرد/ التبعية، توازيها ثنائية التميز/عدم التميز. نكتشف أنه من التحديات التي كان على كوكب مواجهتها، تحدٍ خاص بقضايا التمثيل، ورؤية الذات، والمواءمة بين رؤية الذات مع رؤية الآخر عن الذات. كيف يتأتى لنا أن نفهم ثنائية التصورات عن سرعة غضبها مع دبلوماسيتها، عن تمردها مع تبعيتها، عن تميزها مع عدم أهميتها؟
أحاول هنا أن أخلص إلى نتيجة محددة، في حين أنه لا يوجد شيء محدد في هذا الخصوص. لقد ركزت على العناصر الأدبية الخاصة بالأسلوب، وتوارد الخواطر، وعمليات الحذف والتضمين، في النص السردي الشفاهي، لكي أقترب بعض الشيء من فهم عمليات تشكيل الهوية، وآليات إنتاج التصورات التمثيلية، وتمثيل الذات. ليس الهدف من هذا الطرح تقديم القراءة الصحيحة، أو القراءة الأفضل، وإنما أردت أن أرصد بعض العناصر والاتجاهات التي قد تلقى ببعض الضوء على التعقيدات والتناقضات الكامنة في عمليات التمثيل وتمثيل الذات في فترة تاريخية معينة. أخيرًا أردت أيضًا أن أخرج قليلا من أسر بعض السرديات الكبرى التي تسيطر على رؤيتنا للواقع والتاريخ، بل وعلى رؤيتنا لهويتنا.
الهوامش
1. هدى الصدة. “تشكيل تصورات عن الذات: قراءة أدبية في سيرة كوكب حفنى ناصف“. النساء العربيات في العشرينات: حضورًا وهوية تجمع الباحثات اللبنانيات (۲۰۰۳)، بیروت، مركز دراسات الوحدة العربية: طبعة ثانية، ۲۰۱۰، ص 191- 209.
2. Joan Scott, “Experience” in Critical Inquiry 17 (Summer 1991), 773-797, p. 794
3. Gayatri Spivak, “Can the Subaltern Speak?” in Marxim and the Interpretation of Culture, ed. Cary Nelson and Lawrence Grossberg (Urbana and Chicago: University of Illinois Press, 1988), 271-313
4. انظر/ انظري جون سكوت، مصدر سابق.
5. Fatma Muge Gocek and Shiva Balaghi, eds, Reconstructing Gender in the Middle East: Tradition, Identity and Power (New York: Columbia University Press, 1994), p.4
6. Dorothy Smith, Texts, Facts, and Femininity: Exploring the Relations of Ruling. (London: Routledge, 1990), p. 5.
7. Kathryn Anderson and Dana C. Jack, “Learning to Listen: Interview Techniques and Analyses,” in Women’s Words: The Feminist Practice of Oral History, ed. Sherna Berger Gluck and Daphne Patai (London: Routledge, 1991), 18-23.
انظري:
Lila Abu-Lughod, “Feminist Longings and Postcolonial Conditions,” Remaking Women: Feminism and Modernity in the Middle East, ed., Abu-Lughod, Princeton: Princeton University Press, (1998), and Omnia Shakry -Schooled Mothers and Structured Play: Child Rearing in Turn-of-the-Century Egypt,” in Remaking Women, op. Cit
8. Laila Nawar, Cynthia B. Lloyd, Barbara Ibrahim, “Women’s Autonomy and Gender Roles in Egyptian Families,” in Family, Gender and Population in the Middle East, ed. Carla Makhlouf Obermeyer (Cairo: American University Press, 1995)
التاريخ الشفوي في القرن الحادي والعشرين
التاريخ الشفوي في القرن الحادي والعشرين
التاريخ الشفوي في القرن الحادي والعشرين9
هدى الصدة
ترجمة لميس النقاش
لا شك في أن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين شهد تطورات لافتة فيما يخص الاعتراف بالتاريخ الشفوي بوصفه جزءًا لا يتجزأ من البحث التاريخي. وهو الأمر الذي يختلف تمامًا عن الوضع في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، حيث ناضل دارسو التاريخ الشفوي من أجل الحصول على الاعتراف بقيمة عملهم ومحاولتهم بث روح الديموقراطية في البحث التاريخي عن طريق تقديم أصوات الصامتين والإسهام في تكوين أرشيف شفوي للمهمشين والتابعين. وتحتل مشروعات التاريخ الشفوي مركز الصدارة في حركات التحرر بشكل عام والحركة النسائية بشكل خاص. وقد قام رؤاد التاريخ الشفوي من أمثال آلساندرو بورتيلي ولويزا باسيريني بمراجعة المفاهيم المستخدمة للتقليل من شأن التاريخ الشفوي؛ فقاموا بإعادة طرحها وتعريفها لتصبح لها الصدارة في التراتبية القيمية. وكان تأكيدهم على الجانب الذاتي في المقابلة في التاريخ الشفوي تحولاً جذريًا من النموذج الوضعي الذي يعلي من قيمة حياد الباحث/المؤرخ وموضعيته. واعتبر بورتيلي أن ما يقال عن عدم دقة التاريخ الشفوي هو في الحقيقة مصدر قوته؛ لأن “الذاكرة ليست مخزنا للمعلومات ولكنها منتج فعال للمعنى” (بورتيلي، 53)، فالتاريخ الشفوي قادر على قلب ازدواجية الذاتي والموضوعي الكاذبة وطرح الذاتية بوصفها قيمة وكذلك العلاقة الدينامية بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية. وأوضح هؤلاء الباحثون ما قدمه التاريخ الشفوي من وجهات نظر متعددة أدت إلى تصور أكثر توازنا للتاريخ. كما اكتسبت مداخلاتهم في الجدل الفكري حول العلاقة بين الاجتماعي والفردي وبين عمل الذاكرة وبناء الذات والعلاقة بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية، اكتسبت كلها تدريجيًا مصداقية، وأكسبت هذا المجال من البحث مزيدًا من الشرعية. وقد لاحظت شيرنا برجر جلاك في ١٩٩٩ “تحولاً هائلاً في قبول التاريخ الشفوي لدى المؤرخين” (جلاك، 6).
ويتضح هذا التحول في مكانة التاريخ الشفوي لدى المؤرخين في مجال النشر بإطلاق سلسلة دراسات بلجريف في التاريخ الشفوي في ٢٠٠٣، وسلسلة أخرى هي سلسلة أكسفورد للتاريخ الشفوي في ٢٠٠٩. ويتوجه محررو سلسلة بالحريف إلى جمهور واسع من القراء، ويوجهون الانتباه إلى التوجه العام للسلسلة الذي “يستكشف الكثير من القضايا والموضوعات المتنوعة في مختلف مجالات التاريخ ويضع الشهادات المكتوبة بضمير المتكلم في السباق التاريخي الواسع ويشتبك مع قضايا الذاكرة التاريخية وتشكيل النص المحكي“، وبذلك خفت الجدل في الأوساط الأكاديمية وفي أوساط المؤرخين عامةً حول شرعية روايات التاريخ الشفوي باعتبارها مصدرًا للمادة التاريخية محل ثقة.
أما العامل الآخر الذي يشير إلى ارتفاع أسهم التاريخ الشفوي فهو ظهور علم جديد، هو دراسات الذاكرة. وقد ظهرت مجلة دراسات الذاكرة في ٢٠٠٨ لتبحث في “التحول الاجتماعي والثقافي والمعرفي والسياسي والتكنولوجي المؤثر في كيفية وماهية وأسباب تذكر الأفراد والمجموعات والمجتمعات أو نسيانهم” (موقع دراسات الذاكرة الإلكتروني)، ويدين هذا المجال الدراسي الجديد بالفضل لعمل بورتلي وياسيرني، فقد طرحت تحليلاتهما لعمل الذاكرة مسألة “الذاتية وما بين الذاتية” بوصفها مسألة أساسية أدت إلى توسيع مجال عمل التاريخ الشفهي ليشمل اكتشافات علوم الأنثروبولوجيا وعلم النفس والنقد الأدبي (بونومو، ١١).
ومع ذلك، فإن أهم تطور أثر في مجال التاريخ الشفوي كان الثورة التكنولوجية القائمة في وسائل الإعلام الرقمية والتواصل الاجتماعي والبرمجيات المتاحة مجانا. فقد أتاحت التكنولوجيا أدوات جديدة لجمع الوثائق التاريخية الشفوية وحفظها وعرضها، فوثائق التاريخ الشفوي التي كانت في السابق بعيدة عن أعين الجمهور أو متاحة لعدد محدود للتداول والاطلاع أصبحت الآن متوفرة على المواقع الاجتماعية التفاعلية التي تتسم بسهولة الاستخدام، ففي حين عانى العاملون في مجال التاريخ الشفوي في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين من صعوبات جنة في حفظ أرشيفات التاريخ الشفوي وإتاحتها للغير، الأمر الذي كان يتطلب خبرة عالية وأجهزة معقدة، أصبحوا الآن يعملون في بيئة تكنولوجية أيسر، لا تستعصي على غير المتخصصين.
لقد أتاحت التكنولوجيا الحديثة للأفراد العاديين والمجموعات المهمشة–عادةً– الفرصة لتسجيل قصصهم ومراجعتها ونشرها عبر منتديات الإنترنت الموجودة، فجعلت صوتهم يصل إلى جمهور جديد ويخلق شراكات جديدة. فالمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب وجوجل وياهو وفليكر، كلها أماكن تشجع الأفراد على مشاركة قصصهم مع الآخرين سواء في شكل نص أو تسجيل صوتي أو فيديو. وقد بدأ باحثو التاريخ الشفوي في رصد التزايد الملحوظ في استخدام الفيديو بوصفه وسيلة للتعبير والتواصل في الحكايات الشفوية. ويعتبر بيتر كوفمان في مقاله “التاريخ الشفوي في عصر الفيديو” أن هذا التطور فرصة للمؤرخين العاملين بالتاريخ الشفوي الذين عليهم العمل على تحقيق “أشكال جديدة من الاشتباك مع المجال الأكاديمي، ومع شركاء من غير الأكاديميين، وكذلك مع عموم الناس، أي المجموعات التي تشكل الجمهور الرقمي الحديث” (كوفمان، ۱).
أدت التكنولوجيا الحديثة إلى تحول في النموذج الفكري والعلمي فيما يتعلق بقضايا جدلية مثل الأمية والشفوية، كذلك في علاقتنا بعالمنا وعلاقتنا بذاتيتنا. فإذا كان الحد الأدنى للتعلم في الماضي هو القراءة والكتابة فإن هذا في الحد يتحول سريعًا مع جيل جديد يتقن أحدث تكنولوجيا الاتصال والتعبير عن النفس؛ لتصبح المعرفة الرقمية–لا القراءة والكتابة–هي مقياس الأمية. صحيح أن الكلمة المكتوبة لم تفقد أهميتها في دوائر المثقفين، ولكن الكلمة الشفاهية والمادة المرئية والمسموعة تكتسب جميعا أرضًا جديدة بشكل سريع، باعتبارها الطريق إلى التواصل بين البشر والتعبير، وهو ما يشمل كذلك الدوائر الأكاديمية ومراكز صناعة المعرفة. “القارئ المتعلم… أصبح الآن المتابع الجيد وكذلك المنتج المتمكن، فهو يقوم بنفسه بدور شاعر القبيلة ورجل الدين. إن كل إنسان الآن يؤرخ لنفسه… بل إنه يؤرخ لنفسه شفاهيًا” (كوفمان، ۲).
وقد انعكس الاعتراف بالتاريخ الشفوي باعتباره جزءًا لا يتجزأ من البحث التاريخي كما عرضنا فيما سبق على الزيادة الملحوظة في مشروعات التاريخ الشفوي في الشرق الأوسط. وقد رصدت في مقالتي عن “التاريخ الشفوي ” بوصفه مجالاً علميًا متخصصا في موسوعة المرأة في الثقافات الإسلامية التي صدرت 2003- رصدت ندرة أرشيفات التاريخ الشفوي للنساء في المجتمعات الإسلامية بعامة وفي العالم العربي بخاصة، وفيما يلي سألقي الضوء على بعض التطورات المهمة في مجال التاريخ الشفوي للنساء في المجتمعات العربية، وسوف أختم بإلقاء الضوء على التحديات السياسية والمادية التي تواجه بعض مشروعات التاريخ الشفوي المؤسسة حديثًا في القرن الحادي والعشرين.
التاريخ الشفوي للشرق الأوسط
شهد العقد الماضي زيادة ملحوظة في مشروعات التاريخ الشفوي وأرشيفاته في الشرق الأوسط وبخاصة في العالم العربي. فقد خلقت الأحداث الكبرى في المنطقة والصراعات السياسية المحتدمة بين لاعبين محليين وإقليميين ودوليين، العديد من الروايات المختلفة عن حقيقة ما حدث ومن الذي أسهم في إحداثه ومن المسؤول عن الفشل. الانتفاضة الثانية في ٢٠٠٠، والحرب على العراق في ٢٠٠٣، وغزو لبنان في ٢٠٠٦، وأخيرًا الثورات العربية في ٢٠١١ – كلها أدت إلى تحولات تاريخية جذرية لا زالت الأطراف المتسارعة تختلف وتتفاوض حول معانيها. لقد أصبحت روايات التاريخ الشفوي مصادر مهمة للمؤرخين والمحللين في محاولتهم فهم معنى الأحداث المتغيرة سريعا وتداعياتها. وروايات التاريخ الشفوي تستخدم من قبل كل الأطراف لدعم رواية معينة. ولكن يطل التاريخ الشفوي الأداة التي لا غنى عنها في النضال من أجل التمثيل وبخاصة في نظام عالمي يحتكر فيه 1٪ من سكان العالم أدوات السلطة والموارد على المستوى المادي وكذلك على مستوى الخطاب.
بالنسبة إلى الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، يمثل التاريخ الشفوي أداة أساسية في مقاومة ما يقوم به الصهاينة من “قتل الذاكرة” كما يقول نور مصالحة في كتابه النكبة الفلسطينية: تفكيك التاريخ الاستعماري: رواية التابع واستعادة الذاكرة. ويضع مصالحة في المقدمة “تدمير ومحو كل الأنساق الثقافية لجماعة ماء بما في ذلك اللغة والتقاليد المحلية والمزارات الدينية والآثار وأسماء الأماكن والطبيعة والوثائق التاريخية والأرشيفات والمكتبات والكنائس –أي باختصار روح الأمة (مصالحة، 11)، وهو مصير الفلسطينيين منذ النكبة وقيام دولة إسرائيل في 1948، ويواجه كتابه ذلك المحو للذاكرة الفلسطينية بالرجوع إلى تاريخ الفلسطينيين الشفوي وخلق رواية مقاومة فلسطينية تناقض اغتيال الذاكرة وتستعيد ذاكرة النكبة. ويرى مصالحة كذلك أن التاريخ الشفوي قادر على أن يكون أداة دعاية سياسية وعنصرًا أساسيًا في مقاومة استعمار فلسطين.
كان التاريخ الشفوي أداة دعاية سياسية لإنهاء استعمار فلسطين ومقاومة محو الذاكرة، فأصبح هو الهدف الأساسي من وراء كل ما قام به الفلسطينيون من شهادات تاريخ شفوية منذ النكبة. وفي السنوات العشر الماضية طالت قائمة مثل هذه الإصدارات والمشروعات حيث اكتسب التاريخ الشفوي مزيدًا من المصداقية والانتشار بين دوار الأكاديميين والعامة، واكتسب جيل جديد من المؤرخين الفلسطينيين مكانة دولية، وشكلت الذاكرة المعركة التي جمعت المقاومة الفلسطينية من الاحتلال، وتجدر الإشارة إلى العدد الكبير من المشروعات في السنوات العشر الماضية، التي تحض الرواية الصهيونية مستخدمة شهادات من التاريخ الفري، كما تمت دراسات أكاديمية وكتب عامة أوسع انتشاراء بالإضافة إلى اليوميات والمذكرات، وهنا بعض العنواين المختارة من هذه القائمة الكبيرة فاطمة لاسم: نساء فلسطين: التاريخ المحكي وذاكرة النوع الاجتماعي (۲۰۱۱) روداه آن کانانه وإزيس نصير (تحرير): الغربة في الوطن العرق والنوع الاجتماعي عند الفلسطينيين في إسرائيل (۲۰۱۰) روزماري إسبر وراء ستار الحرب: الطرد الصهيوني الفلسطينيين (۲۰۰۸) نور المصالحة (تحرير): تذكر النكبة: فلسطين وإسرائيل ولاجئو الداخل: مقالات في ذكري إدوارد سعيد (1939- 2003) (۲۰۰5)، دينا مطر: معنى أن تكون فلسطينيًا: حكايات شعب فلسطین (۲۰۱۱)، أحمد سعدي وليلي أبو الغد (تحرير): النكبة: فلسطين و1948 وفروض الذاكرة (۲۰۰۷)؛ فيحاء عبد الهادي: أدوار المرأة الفلسطينية في الأربعينيات (۲۰۰۷)؛ حين سعید مقدسي: تيته وأمي وأنا: مذكرات امرأة عربية (٢٠٠٥).
لقد لعب التاريخ الشعري دورًا محوريًا بوصفه مصدرًا لاستعادة أصوات النساء الفلسطينيات في صياغة التاريخ الفلسطيني، فقد سجلت فاطمة قاسم قصص عشرين امرأة فلسطينية من سكان المدن تبلغ أعمارهن أكثر من 65 عامًا يذكرن نكبة ١٩٤٨ وما زلن يعشن داخل دولة إسرائيل، ويمثل مشروعها محاولة واعية لإعطاء صوت للنساء اللاتي لم تكن أصواتهن مسموعة في ظل التاريخ الرسمي الذكوري، وترى أن حكايات النساء ليست “مكملة لحكايات الرجال بل. .. إنها قيمة في حد ذاتها وتستحق الظهور” (قاسم، ٣٩)، وتوضح فاطمة قاسم القيود المفروضة على النساء في ظل المجتمعات الأبوية التي تعيش تحت تهديد القهر. فكثير من النساء قمن بالمقابلات في ظل وجود أحد أفراد العائلة الذي كان يتدخل في الحكاية ويحجر الكلام في موضوعات معينة، وفي حالة إحدى السيدات منعتها ابنتها من إجراء المقابلة خوفًا على وظيفتها (الابنة) في أحد المعاهد الإسرائيلية. وتوضح فاطمة قاسم أن صمت النساء ليس بالضرورة علامة على انعدام الفاعلية بقدر ما هو أحد مظاهر الحياة الثقافية والسياسية في فلسطين.
أما فيحاء عبد الهادي فهي تستعيد حكايات النساء وتضع في المقدمة دور النساء الفلسطينيات في حركة المقاومة، وهي تخالف الرواية القومية التي تعطي للمرأة الدور المنزلي التقليدي الذي يوفر المساعدة والرعاية فتبين أن النساء كن في الخطوط الأمامية للمعارك وشاركن بوصفهن عضوات أساسيات في حركة المقاومة منذ النكبة، وتطرح إعادة قراءة نسوية للتاريخ الفلسطيني بهدف إعادة كتابة التاريخ الوطني من خلال منظور النوع.
تيتة وأمي وأنا لجين سعيد مقدسي، كتاب يدور حول ثلاثة أجيال من النساء الفلسطينيات: جدة جين مقدسي، وأمها، وهي نفسها، ويدور كذلك حول اللقاء بين الشرق والغرب في القرن التاسع عشر، وحول قدوم الإرساليات الدينية إلى العالم العربي، ومأساة الفلسطينيين المنفيين بعيدًا عن أرضهم بعد النكبة. وتستقي هذه الرواية التاريخية/ الشخصية من بعض المصادر التاريخية الرسمية، ولكنها تعتمد أساسًا على المقابلات الشفوية والذكريات الشخصية والمذكرات والرسائل العائلية، وتنجح في خلق رواية مضادة للرواية الرسمية حول النساء وأثر التحديث في حياتهن. وكانت الروايات عن الإرساليات الدينية إلى العالم العربي قد تم تقديمها من وجهة نظر المبعوثين في هذه الإرساليات ومنظماتهم على حساب غيرهم، فكان هناك القليل من وجهة نظر سكان المنطقة، كما أن التاريخ الوطني والقومي كان مشبعًا بالخطاب الاستعماري حول تخلف المرأة العربية التقليدية في مقابل المرأة العربية الحديثة التي تعلمت وتربت في مدارس على النمط الغربي وطرق الحياة الغربية (الصدة، ٢٠١١)، والحكايات التي جمعتها جين مقدسي في مذكراتها “تضيف بل تصحح الروايات السائدة على المستوى الدولي والوطني حول طبيعة اللقاء بين الشرق والغرب وأثره” (الصدة، ٢٠١١). وحكايات جين مقدسي تقلب الرواية الحداثية التي تضع المرأة التقليدية في مواجهة المرأة الحديثة حيث تكشف القيود التي وضعها التحديث على حياة النساء.
…
وقد زاد اعتماد الباحثين والباحثات في الشرق الأوسط على التاريخ الشفوي في محاولتهم لإعادة كتابة الروايات التاريخية السائدة، فكشفوا عن أن كل رواية تاريخية هي صياغة، وتنبهوا إلى ما تقوم به الذاكرة من عمل وما ينتج بالضرورة من تنوع في الروايات والخبرات. ومن الأمثلة المهمة كتاب نادية العلي نساء العراق: حكايات لم تخك من ١٩٤٨ إلى الحاضر (۲۰۰۷). تقول نادية العلي إن الكتاب يحتوي على “خبرات وقصص حياة وروايات شفوية لنساء عراقيات تداخلت مع روايات التاريخ التقليدي المنشورة إلى جانب حكاياتي الشخصية وخبراتي وملاحظاتي“(العلي، ٢). فهو تاريخ حديث للعراق من خلال عيون النساء وخبراتهن، تتداخل فيه أصوات النساء مع الروايات الرسمية فتغيرها. ويقلب الكتاب التعميمات والصور النمطية السائدة في روايات التاريخ الرسمي، ويركز بدلاً من ذلك على “روايات التاريخ الاجتماعي التي… تعطي أهمية للرواية الشخصية وأصوات المواطنين العاديين” (العلي، ٢٦٨).
أرشيفات التاريخ الشفوي الإلكترونية
ساعدت التكنولوجيا الإلكترونية في إنشاء الكثير من مشروعات التاريخ الشفوي في المنطقة العربية. في عام 2003 بدأ موقع فلسطين في الذاكرة مشروع التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية لحفظ حكايات الفلسطينيين الذين نزحوا وأبعدوا خارج أرضهم. ويهدف المشروع كما يشير على موقعه الإلكتروني إلى “حفظ ذاكرة الشعب الفلسطيني وخبراته من مختلف أنحاء العالم وبخاصة اللاجئين الذين بلغ عددهم ٧٢٦٠٠٠ فلسطينيًا والذين رحلوا عن بيوتهم ومزارعهم وتجارتهم عقب التطهير العرقي في حرب 1948″ (فلسطين في الذاكرة).
وقد تم تقسيم المقابلات على أساس المناطق والبلدات الفلسطينية، وهي متاحة على الموقع في شكل تسجيلات صوتية وتسجيلات فيديو. يشكل الرجال الغالبية العظمى من المقابلات. ويدعو الموقع الفلسطينيين إلى المشاركة بإسهاماتهم من شهادات التاريخ الشفوي وذكريات النكبة، ويقدم لهم إرشادات حول كيفية إنتاج تسجيلات لشهاداتهم. والمشروع لا ينم عن وعي أو حساسية تجاه قضايا النوع، ولا يقدم سوى مقابلات قليلة جدًا مع نساء. إن غياب منظور النوع يثير أسئلة حول غياب الرؤية في الروايات الوطنية تجاه قضايا النوع ويؤكد الحاجة إلى مجهود منسق من أجل إدراج النوع في الرواية التاريخية.
وتأتي أرشيفات التاريخ الشفوي الرقمية في الشرق الأوسط بوصفها استجابة لتحولات وتغيرات تاريخية كبرى تركت أثرها في مجتمعات وبلدان بعينها. أطلقت “مبادرة ليبيا” مشروع “الذاكرة والتاريخ الشفوي الجمعي” في ربيع ۲۰۱۳ لإعادة صياغة تاريخ ليبيا في عهد القذافي بهدف “بدء عملية مصالحة يمكنها أن تخلق مجالاً في المستقبل اسلام وعدل يشمل كل الليبيين“. وتقر رسالة المشروع أهمية “قوة الرواية” للتعبئة، وتلتزم بسياسة تتسامح ولا تميز على أساس “عرقي أو ديني أو نوعي” ، ولا زال المشروع في بداياته الأولى، ولا زال عليه هبه انجاز هذا العمل ولكن شهادات التاريخ الشفوي تقدم بوصفها أداة قوية للمصالحة المجتمعية لدى ضحايا الصدمة النفسية في مناطق الصراع، وهو اتجاه جديد في أبحاث التاريخ الشفوي، وأقصد هنا دراسات الصدمة، وبذلك يمكن المشروع أن يصل إلى استبصارات مهمة وبخاصة أن المشروع يضع ضمن قائمة شركائه البروفسور ألساندرو بوتيلي صاحب النظريات المهمة في التاريخ الشفاهي.
مشروع التاريخ الشفوي الإيراني مثل آخر لأرشيف شفوي الكتروني بدأ في عام ٢٠٠٢ تستضيفه جامعة هارفرد، ويتكون من شهادات شخصية لمائة وأربعة وللاثين شخصًا لعبوا أدوارًا أساسية أو كانوا شهودًا على أحداث سياسية مهمة في إيران منذ عشرينيات القرن العشرين وحتى ثمانينياته.
كما بدأت الجاليات الشرق أوسطية المهاجرة في عمل مشروعات للتاريخ الشفوي لحفظ الذاكرة وكتابة حكاياتها في تاريخ البلد الذي انتقلوا إليه. ذكريات المغاربة في بريطانيا بدأت في عام ٢٠٠٤ بواسطة المؤسسة المغربية لتوثيق تجارب ثلاثة أجيال من المغاربة المهاجرين إلى بريطانيا، كما يتضمن الموقع الإلكتروني موادًا تعليمية يمكن إدراجها في المناهج الدراسية في المملكة المتحدة بهدف تشجيع عملية دمج المواطنين البريطانيين المغاربة من خلال الاعتراف بالتنوع الثقافي الموجود في المجتمع البريطاني.
“كلمات نساء من الثورة المصرية” مشروع تاريخ شفوي يوثق حكايات النساء المصريات بعد ثورة ٢٥ يناير؛ حيث يتم التركيز على النساء، ويوصف المشروع على الموقع الإلكتروني باعتباره “سلسلة إلكترونية توثق مشاركة النساء في الثورة المصرية، مشروع “تاريخ(ها) بالصوت والصورة لتذكير التاريخ” وهو يؤكد على التوجه النسوي. والمشروع عبارة عن تسجيلات فيديو لنساء حول تأملاتهن في أثر التحول السياسي في مصر في حياتهن وعلاقتهن بالعالم، وفي أغسطس ٢٠١١ بدأ فريق المشروع حملة جمع تبرعات لتمويل استمرار المشروع، وقد أتاح المشروع 11 تسجيلاً على شبكة الإنترنت، ولكن كان هناك احتياج إلى مزيد من التمويل لإعداد 14 مقابلة أخرى للعرض وعمل مزيد من المقابلات، وقد استطاعت حملة جمع التبرعات من الجمهور على إنديجوجو جمع نصف المبلغ المطلوب تقريبًا.
يدير المشروع ليل زهرة مرتضى الذي يصف نفسه على موقع تويتر بأنه “نسوي عربي مثلي فوضوي، بالإضافة إلى أشياء أخرى أسوأ بكثير، مدمن ميؤوس منه للسينما والسياسة والأكل النباتي والعلاقات الحرة وممارسة الصخب“، وتظهر تسجيلات الفيديو نساءً يروين قصصهن للكاميرا يتخللها مشاهد واقعية للمعارك أو الاحتجاجات التي يتحدثن عنها.
ورغم رغم أن أسئلة المحاور لا تظهر في التسجيلات فمن الواضح أنها تشجع النساء على تأمل وضعهن بوصفهن نساءً والتعبير عن آرائهن الخاصة بأدوار النوع وحقوق النساء الاجتماعية. ندى زيتونة شابة نوبية تبلغ من العمر ٢٣ عامًا تم اعتقالها وضربها أثناء الاحتجاجات، تربط ما بين التمييز ضدها بوصفها نوبية وبين التمييز
ضد النساء في المجتمع عمومًا. وهي في الوقت نفسه ترفض فكرة إرجاء حقوق النساء وحقوق النوبيين في أوقات الأزمات الوطنية وترى في مثل هذا النوع من التفكير اضطهادًا. وتكشف قصتها عن العنف الذي لحق بها بسبب جنسها وبسبب عرقها، وفي الوقت نفسه إصرارها ورفضها للصمت. وتقر مريم كيرولس الفتاة القبطية ذات الـ 22 عامًا “أننا” نعيش في مجتمع أبوي وأن النساء يواجهن قيودًا ومحاذير تتعلق بالنوع. ومع ذلك، تصر على أن للنساء قوة تجعلهن قادرات على السيطرة على مقاديرهن، والصورة التي تصل إلى المشاهد لكل المتحدثات هي أنهن نساء على دراية بما يقمن به ويملكن الفاعلية ووضوح الاتجاه.
وفريق المشروع الشفوي واعٍ بقضايا التمثيل، فالمقابلات تشمل مجموعة متنوعة من النساء من مختلف الطبقات، والفئات العمرية، والأديان والأعراق. فهناك رشا عزب الناشطة الصلبة التي تم القبض عليها أثناء حكم مبارك وسجنت؛ وأم أحمد جابر التي لم يكن لها أي علاقة بالسياسة ولا النشاط العام ولكنها شاركت في الاحتجاجات بعد القبض على ابنها؛ مديحة أنور طالبة محجبة تبلغ من العمر عشرين عامًا وتصر على حقوقها بوصفها مواطنة، وتعتبر الحجاب خيارًا شخصيًا لا يحد من حريتها في شيء. ويُظهر أحدُ التسجيلات أما وابنتها شاركتا في الاحتجاجات يوم ٢٨ يناير معًا. وتتحدى هذه الحكايات التمثيل النمطي للنساء، كما تعارض التصنيف الإيديولوجي والافتراضات المبنية على أساس طريقة اللبس أو على أساس العمر أو الطبقة أو الدين.
هذه الحكايات التي ترويها هذه المجموعة من النساء لا تحكي فحسب خبراتهن الشخصية، بل تحكي الثورة. وهي تشكل مداخلات قيمة في القضايا السياسية الخلافية حول ما حدث وما الذي أدى إلى حدوثه ومن المسؤول عن التخيط وغيرها من الأسئلة المهمة. كما تلقي الحكايات الضوء على أحداث بعينها كن شهودًا عليها أو شاركن فيها، بالإضافة إلى آرائهن حول التحولات السياسية الأوسع.
…
الخلاصة
إن مناقشة مشروعات التاريخ الشفوي لا بد لها من الوضع في الحسبان المشهد المتغير في دنيا العولمة، وكذلك عوامل التطور في التقنيات الرقمية الجديدة التي أدت إلى خلق جمهور جديد وساحات جديدة وشركاء جدد. وهذه التقنيات نفسها بينما تفتح مساحات وفرضًا جديدة تطرح أيضًا تحديات وقيودًا جديدة على مفاهيم حفظ المواد واستمراريتها وأرشفتها. فسهولة تكوين أرشيف رقمي من التاريخ الشفوي يقوم به الأفراد أو المجموعات الصغيرة أدى إلى توثيق ما يسميه جيانيندرا باندي شذرات التاريخ؛ أي تلك الحكايات والروايات الفردية والشهادات الشفاهية والأغنيات وما إلى ذلك، التي تعبر عن صوت الأقليات أو المجموعات المهمشة في أي مجتمع والتي عادة ما من التاريخ الرسمي (باندي، ٢٨). وشذرات التاريخ الشفوي تكمل الرواية الرسمية وتصححها، بل ويمكنها حتى ان تخلق رواية مناقضة للرواية السائدة. ولا يوجد شك الآن أكثر من أي وقت مضى في أنه قد أصبح بإمكان المهمشين سواء كانوا جماعات أم مجتمعات أم أفرادًا أن يجدوا فرصًا للوصول إلى جمهور أكبر وخلق شراكة عبر وصياغة رواية مناقضة للسائد وجمهور بديل، وتأتي حكايات النساء وتجاربهن مثلاً على ذلك، حيث اتسع العالم محال تمثيلهن وارتفعت أصواتهن فسُمعت.
وبعد، فإن أرشيفات التاريخ الشفوي وغيرها من الأرشيفات يشار إليها باعتبارها “أداة من يملك السلطة“. الساعي إلى فرض النظام وتطبيع الأوضاع وأوليتها، وسيذكرنا دارسو الأرشيفات والمكتبات ومنسقو المعارض بأن “الأرشيفات تخلق الذاكرة ولا تحفظها فحسب“، وأن “السلطة في ممارسة يومية لصناعة الأرشيف” (هارفي براون وديفيز براون، ۲۱– ۲۲). فالأرشيفات جزء لا يتجزأ بالضرورة من عملية خلق رواية مهيمنة وكذلك خلق روايات مناقضة للرواية المهيمنة؛ فيمكنها صياغة مستقبل مجموعة أو بلد أو أمة. فالأرشيف يعني ترتيب الوثائق، والترتيب يتطلب تحديد الإطار، والإطار بشكل وجهة نظر. ويصبح السؤال هو: وجهة نظر من التي يمثلها الأرشيف؟ لمن الحكايات المسجلة والمحفوظة؟ ومن يحدد ما الذي يستحق أن يحفظ؟
فنتأمل ما يلي: لقد نتج عن الحرب الأمريكية العراقية أرشيف شفوي باسم “مشروع التاريخ الشفوي لعمليات الاستقرار“، بدأ في أكتوبر ٢٠٠٥، ويتكون من “مقابلات مع أشخاص على علاقة بعمليات الاستقرار للوقوف على الدروس المستفادة وسبل مواجهة التحديات في فترة ما بعد الصراع“، والمقابلات تشمل أشخاصًا عملوا في الجيش الأمريكي وفي سلطة الائتلاف المؤقتة في العراق. وقد باشر العمل في المشروع معهد الولايات المتحدة للسلام، وهو مركز لإدارة الصراعات في العالم مقره واشنطون العاصمة، والمشكلة هي: هل سيسجل التاريخ الشفوي الحرب الأمريكية العراقية من وجهة نظر الجانب الأمريكي؟ في هذه الحالة هناك احتياج ملح إلى بناء أرشيف تاريخ شفوي يديره عراقيون وعراقيات من أجل رواية قصة هذه الحرب من وجهة نظرهم. فإذا كان التاريخ دائمًا ما يكتبه المنتصر مالك السلطة، فإن التاريخ الشفوي يمكن أن يحفظ شذرات مما يشكل الحكاية المناقضة، ولكن ليس هذا هو الأمر بالضرورة.
وتعيدنا هذه النقطة إلى الجغرافيا السياسية لإنتاج المعرفة ونشرها (الصدة، ٢٠٠٣) ومدى امتلاك المسلمين ومواطني الجنوب في العالم لأصواتهم، ومدى سيطرتهم، وهو الأهم، على كيفية تمثيل صوتهم وصورتهم. لقد قلت إن المحصلة النهائية هي أن العصر الرقمي الجديد أعطى الجماعات التابعة القدرة على التحكم في صوتها وتمثيل أنفسها. ولكن الصور النمطية لا تختفي من تلقاء نفسها، إنما لا بد من معارضتها ومواجهتها بإصرار. وهناك أيضًا مسألة علاقات القوة غير المتكافئة والموارد المحدودة التي خلقت ما يسمى الفاصل الرقمي بين دول الشمال والجنوب. هذا الاختلال في الموازين له توابعه فيما يتعلق بالقدرة على التمثيل والسيطرة على الصوت.
بالإضافة إلى هذا، فالنساء لسن بالضرورة ممثلات تمثيلاً عادلاً في هذا الجيل الجديد من أرشيفات التاريخ الشفوي الرقمية. فالمشروعات لا تتضمن دائمًا منظور النوع؛ مما يؤدي إلى تهميش النساء وأصواتهن. فما نزال بحاجة إلى أرشيفات تراعي النوع وتنتبه إلى قضايا الإقصاء والتمييز. وقد بدأ أرشيف ملتقى المرأة والذاكرة في عام ١٩٩٩ ولا زال يوثق تجارب النساء، وبدأ مشروع تاريخ شفوي رقمي جديد لتوثيق تجارب النساء في ضوء التحولات السياسية والاجتماعية الراهنة. ويضع المشروع في المقدمة مفاهيم النوع والفاعلية، ومن ثم يشمل النساء والرجال. ولكنه يعطي الأولوية للنساء اللائي يشكلن غالبية المقابلات للتعويض عن غياب منظور النوع في كثير من المشروعات المماثلة. إن مشروع التاريخ الشفوي “كلمات النساء في الثورة المصرية” الذي ناقشناه سابقًا يضع في المقدمة النوع بوصفه فئة للتحليل، ويبرز الأدوار المتعددة التي لعبتها النساء في الثورة. ومع ذلك، فلا زلنا بحاجة إلى مزيد من مشروعات التاريخ الشفوي التي تجعل من عنصر النوع فئة تحليل.
وفي الوقت نفسه، هناك بعض المثالب في مسألة السهولة في تكوين أرشيف رقمي للتاريخ الشفوي؛ أولها أن المشروعات البحثية الصغيرة التي يقوم بها طلاب الجامعات أو المنظمات غير الحكومية تبني وجودًا رقميًا سرعان ما يختفي في كثير من الأحيان أو يظل غير مكتمل أو يتوقف أصحابه عن تحديثه. والحقيقة أن تلك الأرشيفات الرقمية السابحة في الفضاء الافتراضي لها جانب وقتي يجب الانتباه إليه ووضعه في الحسبان. وهذه الوقتية تتناقض مع مفهوم الأرشيفات باعتبارها أماكن لحفظ الذاكرة الجمعية للأجيال القادمة. ورغم أن أي أرشيف سواء كان واقعيًا أم افتراضيًا عرضة للزوال سواء عن قصد أو عن غير قصد، فإن الأرشيفات الرقمية تبدو أكثر عرضة للضياع والمحو. وبمجرد تصفح الإنترنت يمكن أن نرى بداية ونهاية الكثير من الأرشيفات التي توقف أصحابها عن تحديثها أو تم إزالتها من على شبكة الإنترنت ولم يعد بالإمكان الوصول إليها إلا ضمن مادة إخبارية حول تلك الأرشيفات، كيف يمكن الحفاظ على الأرشيفات الرقمية؟ إنه تحدٍ على المؤرخين والتقنيين مواجهته.
الهوامش
9. هدى الصدة. “التاريخ الشفوي في القرن الحادي والعشرون“. ترجمة لميس النقاش. موسوعة النساء والثقافات الإسلامية: نماذج ومقاربات في التخصصات البحثية ۲٠٠٣–۲۰۱۳. تحریر سعاد جوزيف. ليدن بوسطن: دار بریل، ۲۰۱۳، ص ٢٤٩–٢٦٠.
المراجع
فيحاء عبد الهادي. ٢٠٠٥. أدوار المرأة الفلسطينية في الثلاثينيات. مركز المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق واليونسكو.
فيحاء عبد الهادي. ٢٠٠٥، أدوار المرأة الفلسطينية في الأربعينيات. مركز المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق واليونسكو.
فيحاء عبد الهادي. ٢٠٠٩. أدوار المرأة الفلسطينية في الخمسينيات حتى أواسط الستينيات. مركز المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق واليونسكو.
Al-Ali,Nadje.2007.Iraqi Women: Untold Stories from 1948 to the Present.London and New York: Zed Books.
Bonomo, Bruno.2013.“Presa della parola: a review and discussion of oral history and the Italian1968.”In Memory Studies,6:7,pp.7-22.
Elsadda,Hoda. 2011. “A ‘Phantom freedom in a phantom modemity?’Protestant missionaries, domestic ideology and narratives of modernity in an Arab context.” In Rethinkaing History, 15:2(June), pp. 209-228.
Esber, Rosemarie M. 2008.Under the Cover of War: The Zionist Expulsion of the Palestinians.Alexandria,VA:Arabicus Books and Media.
Gluck, Sherna. 1999. “Reflections on Oral History in the New Millennium: Roundtable Comments. From First Generation Oral Historians to Fourth and Beyond,” Oral History Review 26:2(Summer/Fall):1-27.
Harvey, Brown,Richard and Beth Davis-Brown.1998.“The making of memory: the politics ofarchives, libraries and museums in the construction of national consciousness.” In History of theHuman Sclences 11:17,pp.17-32.
Iranian Oral History Project: http//ted.lib.harard.edu/ted/deliver/home/_collection-iohp
Kanaaneh.Rhoda Ann and Nusair, Isis, eds. 2010.Displaced at Home: Ethnicity and Gender AmongPalestinians in Israel.Albany, NY:SUNY Press.
Kassem,Fatma.2011.Palestinia Women:Narrative Histories and Gendered Memory. London: Zed Books.
Kaufman,Peter B.2013.“Oral History in the Video Age.”In Oral History Review.Advance Accesspublished March 22,2013,pp.1-7.
The Libya Initiative: https://www.thelibyainitiative.org/en/history-and-memory Makdisi,Jean Said.2005.Teta, Mother and Me: An Arab Women’s Memoir.London:Saqi.
Masalha,Nur,ed.2005.Catastrophe Remembered: Palestine, Israel,and the Internal Refugees, Essays in Memory of Edward W. Said (1939-2003).London: Zed Books.
Masalha,Nur.2012.The Palestine Nakba: Decolonising History, Narrating the Subaltern andReclaiming Memory(London and New York: Zed Books.
Matar.Dina.2011.What it Means to Be Palestinian:Stories of Palestinian Peoplehood.London:I.B.Tauris.
Memory Studies:https://mss.sagepub.com
Moroccan Memories in Britain:https://moroccanmemories.org.uk
Palestine Remembered:https://www.palestineremembered.com/MissionStatement.htm
Pandey,Gyanendra.1992.“In Defense of the Fragment: Writing about Hindu-Muslim Riots in IndiaToday.”In Representations,37,pp.27-55.
Portelli,Alessandro.1990.The Death of Luigi Trastulli and Other Stories: Form and Meaning inOral History.Albany: State University of New York.
Sa’di,Ahmad H.,and Abu-lughod,Lila,eds.2007.NakbaPalestine,1948,and the Claims ofMemory.New York: Columbia University Press.
The Women and Memory Forum: https://oralhistoryarchive.org.eg
مراجع مختارة
أمنية عامر. “التاريخ الشفهي: تاريخ يغفله التاريخ“. مجلة الروزنامة، العدد ٢ (٢٠٠٥).
باتريشا لينا ليفي. “الممارسة النسوية في تحليل المضمون“. في مدخل إلى البحث النسوى ممارسة وتطبيقًا. ترجمة وتقديم هالة كمال القاهرة: المركز القومي للترجمة، ٢٠١٥.
باتريشيا لينا ليفي. “ممارسات التاريخ الشفاهي النسوي ومقابلات مجموعة النقاش“، في مدخل إلى البحث النسوى ممارسة وتطبيقًا. ترجمة وتقديم: هالة كمال، القاهرة: المركز القومي للترجمة، ٢٠١٥.
جون سكوت. “التجربة“. النسوية والدراسات التاريخية. ترجمة: عبير عباس، تحرير وتقديم: هدى الصدة. القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، ۲٠۱٥، ص۱۳۰–١٥٣.
ديفيد هينج. “التأريخ الشفهي“. ترجمة: ميلاد المقرحي. طرابلس: مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، ١٩٩١. رانيا محمد عبد الرحمن. “علاقة المرأة بالنموذج الاجتماعي المهيمن: تحليل سيرتي سيدتين مصريتين تعلمتا وعلمنا بالتعليم في مصر في أوائل القرن. مائة عام على تحرير المرأة. الجزء الأول. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة. ١٩٩٩، ص 549- 561.
سوندرا هيل. “المنهج النسوى والسيرورة والنقد الذاتي: مقابلات مع نساء سودانيات“. النسوية والدراسات التاريخية. ترجمة: عبير عباس، تحرير وتقديم: هدى الصدة. القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، ٢٠١٥. ص۲۲۹–٢٥٠.
“شهادات ثلاث رائدات: وداد متري، زينب الإتربي، عايدة فهمي. تنسيق: سحر صبحي. من رائدات القرن العشرين: شخصيات وقضايا، تحرير وتقديم: هدى الصدة. ملتقى المرأة والذاكرة: القاهرة، ۲۰۰۱، ص۳۰۹– ۳۳۹.
عادل يحيي، محمود إبراهيم، توماس ريكس. من يصنع التاريخ؟ التأريخ الشفوي للانتفاضة: دليل للمعلمين والباحثين الطلبة. القدس: مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، ١٩٩٤.
عماد أبو غازي. “وثائق الحركة الشيوعية المصرية منذ نشأتها إلى عام 1965: تجرية في جمع الوثائق وترتيبها“. مجلة الروزنامة. العدد الأول (۲۰۰۳) ص ٢٣١–٢٦٥.
فيحاء عبد الهادي. المرأة الفلسطينية والذاكرة: أوراق ورشة عمل حول التأريخ الشفوى السياسي للمرأة الفلسطينية. غزة: وزارة التخطيط والتعاون الدولي، ١٩٩٨.
فيحاء عبد الهادي، بيبلوغرافيا التاريخ الشفوى الفلسطيني: مع تركيز خاص على قضايا المرأة الفلسطينية. القدس: وزارة التخطيط والتعاون الدولي، ۱۹۹۹.
فيحاء عبد الهادي. أدوار المرأة الفلسطينية في الثلاثينيات: المساهمة السياسية للمرأة الفلسطينية: روايات النساء، نصوص المقابلات الشفوية. القدس: مركز المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق، ٢٠٠٥.
فيحاء عبد الهادي. أدوار المرأة الفلسطينية في الأربعينيات: المساهمة السياسية للمرأة الفلسطينية، رام الله: مركز المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق، ٢٠٠٥.
فيحاء عبد الهادي. أدوار المرأة الفلسطينية في الخمسينيات حتى أواسط الستينيات المساهمة السياسية للمرأة الفلسطينية. رام الله: مركز المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق، ٢٠٠٥.
فيحاء عبد الهادي. لو أملك الخيار. .. قصص من الحياة اليومية للنساء الفلسطينيات خلال العامين ۲۰۰۲ – ۲۰۰۳ من الانتفاضة الثانية. القدس: مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي، ۲۰۰۷.
فيحاء عبد الهادي. أدوار المرأة الفلسطينية منذ منتصف الستينيات حتى عام ١٩٨٢: المساهمة السياسية للمرأة الفلسطينية، رام الله: مركز المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق، ٢٠١٥.
ليلى أبو لغد. “عودة إلى بقايا الأطلال: الذاكرة والذاكرة المولدة والتاريخ الحي في فلسطين“، ترجمة حسام نايل، عدد خاص عن الفجيعة والذاكرة. ألف: مجلة البلاغة المقارنة، 30 (۲۰۱۰) ص۲۱۷ –٢٤٩.
مرفت مقبل، وفاء يونس. شهادات من غزة: الحصار والحرب مقابلات مع النساء الفلسطينيات. غزة: مركز جسور لعلاج الصدمات النفسية: مركز شؤون المرأة.
ملك رشدي، “من وحي الذاكرة: لقاء مع ليلي دوس“. عدد خاص عن: لغة الذات: السيرة الذاتية والشهادات. ألف: مجلة البلاغة المقارنة، ۲۲ (۲۰۰۲) ص١٤٠–١٥٧.
ميشيل – رولف ترويو. “القوة في القصة“. تحرير : إيمان حمدي، حنان سبع، ريم سعد، ملك رشدي، ترجمة: شريف يونس.
كيف نقرأ العالم العربي اليوم؟: رؤى بديلة في العلوم الاجتماعية. دار العين للنشر، ۲۰۱۲، ص۱۷۷ -2۰۸.
هدى الصدة. التاريخ الشفاهي ، ترجمة هالة كمال. موسوعة النساء والثقافات الإسلامية. تحریر: سعاد جوزيف، لیدن بوسطن: دار بریل، ۲۰۰۳، ص ٥٢١–٥٢٥.
هدى الصدة. تشكيل تصورات عن الذات: قراءة أدبية في سيرة كوكب حفني ناصف“. النساء العربيات في العشرينات: حضورًا وهوية. تجمع الباحثات اللبنانيات (۲۰۰۳). بیروت، مركز دراسات الوحدة العربية: طبعة ثانية، ۲۰۱۰، ص۱۹۱–۲۰۸
هدى الصدة. “التاريخ الشفوي في القرن الحادي والعشرين“. ترجمة لميس النقاش. موسوعة النساء والثقافات الإسلامية: نماذج ومقاربات في التخصصات البحثية ۲۰۰۳–۲۰۱۳. تحریر سعاد جوزيف. لیدن–بوسطن: دار بریل، ۲۰۱۳،
ص٢٤٩–٢٦٠.
وجيه كوثراني، ومارلين نصر. مقاربات في المفاهيم والمنهج والخبرات، المجلد الأول، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٥.
وجيه كوثراني، ومارلين نصر. مقاربات في الحقل الاجتماعي الأنثروبولوجي، المجلد الثاني، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٥.
وجيه كوثراني، ومارلين نصر. مقاربات في الحقل السياسي العربي: فلسطين والحركات الاجتماعية. المجلد الثالث. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٥.
شكر و عرفـان
متقدم بالشكر إلى كل الكاتبات ممن استعنا بدراستهن في هذا الكتاب، وأصحاب حقوق النشر الذين تكرموا بمنح مؤسسة المرأة والذاكرة حقوق النشر والطبع عن المصادر التالية:
ليلى أبو لغد “العودة إلى بقايا الأطلال: الذاكرة والذاكرة المولدة والتاريخ الحي في فلسطين“. ترجمة حسام نايل. عدد خاص عن الفجيعة والذاكرة. ألف: مجلة البلاغة المقارنة، ۳۰ (۲۰۱۰) ص ٢۱۷–٢٤٩. منشور بإذن المحلة.
ملك رشدي، “من وحي الذاكرة: لقاء مع ليلي دوس“، عدد خاص عن: لغة الذات: السيرة الذاتية والشهادات. ألف: مجلة البلاغة المقارنة، ۲۲ (۲۰۰۲) ص 140-157. منشور بإذن المجلة.
ميشيل – رولف ترويو “القوة في القصة“. كيف نقرأ العالم العربي اليوم؟: رؤي بديلة في العلوم الاجتماعية. ترجمة شريف يونس. تحرير:إيمان حمدي، حنان سبع، ريم سعد، ملك رشدي. القاهرة دار العين للنشر ،۲۰۱۲، ص۱۷۷– ۲۰۸. منشور بإذن هيئة التحرير والمترجم.
هدى الصدة. ” التاريخ الشفاهي“. ترجمة هالة كمال. موسوعة النساء والثقافات الإسلامية. تحرير : سعاد جوزيف. لیدن – بوسطن: دار بریل، ۲۰۰۳، ص ٥٢١–٥٢٥. منشور بإذن دار بريل.
هدى الصدة، “تشكيل تصورات عن الذات: قراءة أدبية في سيرة كوكب حفنى ناصف“. النساء العربيات في العشرينات: حضورًا وهوية. تجمع الباحثات اللبنانيات (۲۰۰۳). بیروت، مركز دراسات الوحدة العربية: طبعة ثانية، ۲۰۱۰، ص 191- 209. منشور بإذن الباحثات والناشر.
هدى الصدة. “التاريخ الشفوي في القرن الحادي والعشرين“. ترجمة لميس النقاش. موسوعة النساء والثقافات الإسلامية: نماذج ومقاربات في التخصصات البحثية ۲۰۰3-۲۰۱۳. تحرير سعاد جوزيف. ليدن–بوسطن: دار بریل، ۲۰۱۳، ص٢٤٩– ٢٦٠. منشور بإذن دار بريل.