ثقافة النساء والسياسات النسوية

التصنيفات: غير مصنف

بقلم:

ثقافة النساء

والسياسات النسوية

الاستقلال أم الاندماج ؟

إن التفكير في مسألة نزعة المؤسسات النسائية نحو الاستقلال أو الاندماج داخل المؤسسات السائدة يجعلني أميل إلى مساندة نشأة تلك المؤسسات بصورة مستقلة ومنفصلة، حيث تعكس النزعة إلى الاستقلال ممارسة النساء لحق الاختيار الواعي لإقامة مؤسسات خاصة بهن منفصلة عن المؤسسات السائدة. وإذا كانت المؤسسات النسائية توحي لأول وهلة بمدى ما يحكم المجتمع من قيم اجتماعية تفرض الفصل بين الجنسين وتشير إلى تحيز ضد النساء بإبعادهن من المؤسسات القائمة بالفعل، إلا أنني أرى وجود جانب آخر يتمثل في سعي النساء لمقاومة هذا التحيز عن طريق خلق مساحات خاصة بالنساء داخل الحيز العام بما يسمح بتطور ثقافة نسائية خاصة تعمل من داخل المجتمع الذكوري.

وأود بدايةً أن أشير إلى أنه بخلاف بعض الإشارات عن المؤسسات النسائية المصرية فإنه قلما يتم توجيه الاهتمام إلى تحليل تلك الظاهرة من حيث دلالات نشأة العديد من المؤسسات والمنظمات النسائية في مصر في أوائل القرن الماضي، وهو قصور يمكن ربطه إلى حد ما بوضع الدراسات النسائية التاريخية في الساحة المصرية واعتبارها مجالاً بحثيًا جديداً ما زال يحتل موقعًا خفيًا في مرحلة التكوين.

مؤسسات نسائية غربية

من الملاحظ أن العديد من الدراسات التاريخية النسائية تؤكد على دور النمو التجاري والتطور الصناعي في توسيع المسافة الفاصلة بين عالم الرجال (العام) وعالم النساء (الخاص). إلا أن القراءة المتأنية لتاريخ الحركة النسائية في مرحلتها الأولى في الولايات المتحدة على سبيل المثال تشير إلى محاولات نساء الطبقة الوسطى في عبور تلك المسافة الفاصلة عن طريق حرصهن على الإسهام في متابعة القضايا الاجتماعية والسياسية السائدة حينذاك. ويشير التاريخ إلى أن الحركات النسائية كثيراً ما تنبثق من مواقع لها خصوصيتها، ففي الولايات المتحدة مثلاً تطورت الحركة من داخل حركة تحرير العبيد والمطالبة بحصولهم على كافة حقوق المواطنة في أمريكا. وقد أدى اندماج النساء في حركة التحرير إلى إدراكهن أبعادًا أخرى من العمل السياسي وخاصة عند تعرضهن للتمييز على أساس النوع، وهو ما تمثل في استبعادهن من المشاركة في المؤتمر العالمي المناهض للعبودية، كما تم منح الرجال كافة الحقوق السياسية بصرف النظر عن أصولهم العرقية والطبقية بينما تم حرمان فئة النساء من تلك الحقوق، ويمثل ذلك نموذجًا للمواقف التي تتعرض لها النساء حين يتم استبعادهن من الحيز العام الخاضع للنظام الأبوي السائد، وهو موقف أدى إلى نشأة الجمعية الوطنية لحقوق المرأة الانتخابية في الولايات المتحدة، والتي حولتها النساء إلى منبر للدعوة إلى تطبيق الإصلاح الاجتماعي الشامل بما في ذلك حقوق النساء الاجتماعية والسياسية. كما يشير تاريخ الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر إلى دور النساء البارز في المطالبة بتحقيق شعارات الثورة الحرية والمساواة والمؤاخاةحيث انخرطن في العمل العام من أجل تحقيق مبادئ الجمهورية الفرنسية. ولكن تم إغفال النساء تماماً عند إصدار إعلان حقوق الإنسان (الرجل)” في عام ۱۷۸۹، مما دفع المناضلة النسوية أوليمب دي جوج إلى صياغة إعلان حقوق النساء والمواطناتفي عام ۱۷۹۱. وقد بدأت النساء في تنظيم أنفسهن في إطار نواد اجتماعية وسياسية كان من أكثرها نشاطاً صديقات الحقيقةثم جمعية المواطنات الجمهوريات الثورياتللمطالبة بتطبيق العدالة الاجتماعية ومبادئ الثورة. ولعل تركيز هؤلاء النساء على القضايا السياسية العامة أصبح يمثل تهديدًا للنظام مما أدى إلى حل كافة النوادي والجمعيات النسائية في فرنسا، بعد أن حققت النساء بعض المكاسب ومنها: حق طلب الطلاق والنفقة والملكية والميراث وغيرها من الحقوق.

مؤسسات نسائية في مصر الحديثة

إن الحركة النسائية المصرية وبوصفها حركة اجتماعية في بدايات القرن العشرين تتميز باشتمالها على العديد من الرائدات والثائرات، إلا أن من أهم ملامح تلك الفترة التاريخية (إضافة إلى عصر التنوير والمد الوطني ضد الاستعمار البريطاني) هو نشأة العديد من المؤسسات النسائية ذات الطابع السياسي والاجتماعي والتعليمي والأدبي. وكما تشير المصادر التاريخية لتلك الحقبة فإن مرحلة اليقظة النسائية تتمثل إلى حد كبير على سبيل المثال في نشأة وانتشار الصحافة النسائية بدءًا من عام ١٨٩٢ وإصدار مجلة الفتاةلصاحبتها هند نوفل. كما تلقى تعليم النساء دفعة قوية بما تم إنشاؤه من مدارس للبنات تقوم بإدارتها والتدريس فيها مدرسات مصريات من أمثال نبوية موسى، ممن لعين دور القدوة لأجيال جديدة من الفتيات المصريات.

ومن ناحية أخرى شهدت بدايات القرن إقامة العديد من المنظمات النسائية، منها على سبيل المثال جمعية ترقية المرأة (۱۹۰۸) مبرة محمد علي (۱۹۰۹)، الاتحاد النسائي التهذيبي (۱۹۱۰). اتحاد المرأة التعليمي (١٩١٤) لجنة سيدات حزب الوفد ( ۱۹۲۰)، ثم الاتحاد النسائي المصرى (۱۹۲۳)، وغيرها. ومن الجدير بالذكر أن الحركة النسائية المصرية ولدت من رحم المشروع التنويري الداعي إلى الإصلاح الاجتماعي والتعليمي الشامل. وكان على النساء النضال ضد محاولات استبعادهن وعزلهن عن خط سير المجتمع الذكوري بما يسوده من تيارات تقليدية، فسعت النساء إلى تجاوز حدود الحيز الخاص واقتحام الحيز العام بما فيه من حركة تغيير وإصلاح. ومما هو جدير بالاهتمام أن تخطي بعض النساء لأعتاب الحيز الخاص قد أدى إلى خلق حيز يعكس ثقافة خاصة تجمع بين عناصر الحيزين الخاص والعام، بين التجربة الذاتية والخبرة السياسية، ومن هنا كانت نشأة مؤسسات نسائية للعمل العام.

الاستقلال أساس الحركة النسوية

كان الجمع بين عناصر الحيزين العام والخاص من أهم خصائص المؤسسات النسائية التي نشأت في مصر الحديثة، فمبرة محمد علي التي أنشئت أساسًا بهدف تعريف النساء بمبادئ العناية بالأطفال ومكافحة انتشار الأوبئة ما لبثت أن تحولت إلى مؤسسة تمارس فيها النساء العمل الاجتماعي العام وصنع القرار. أما مدرسة السنية فقد لعبت أيضًا أدوارًا متعددة، فإلى جانب الدور التعليمي والتربوي المباشر بوصفها مؤسسة نسائية تعمل على إعداد النساء لأدوارهن التقليدية كأمهات وزوجات عصريات، كانت تمثل موقعًا أدى بصورة غير مباشرة إلى خلق جيل جديد من النساء اللاتي اكتسبن وعيًا ومعرفة ومهارات وطموحات تتعدى حدود أدوارهن الأسرية والمنزلية ومنهن من التحقن بالعمل التعليمي. أما تطور وانتشار الصحافة النسائية فقد صاحب مشروع التنوير والحركة الوطنية، وإضافة إلى تناول القضايا السياسية العامة تبنت تلك الصحافة قضايا المرأة بشقيها العام والخاص.

ويمكن اعتبار قيام النساء بالانضمام إلى المؤسسات النسائية بل وإنشائها بمثابة فعل مقاومة ضد التيارات التقليدية السائدة في المجتمع حينذاك دون التنازل عن عزمهن في القيام بأدوار فعالة ومؤثرة على المستوى العام. ومن هنا أرى أن قيام النساء بإنشاء مؤسسات نسائية هو في حد ذاته فعل استراتيجي واعٍ يشهد على فعالية النساء ونضالهن ضد الاستبعاد.

ويمكن استقراء العديد من الآثار الإيجابية للمؤسسات النسائية في حياة النساء المصريات. أولاً، منحت تلك المؤسسات النساء مساحة للعمل العام دون استثارة التيارات السلفية. ثانيًا، أتاحت تلك المؤسسات للنساء فرصة تأكيد الذات والاستقلال وممارسة صنع القرار، وهي من الدروس الأساسية في العمل السياسي. ثالثًا، أمكن للنساء من خلال تلك المؤسسات إقامة علاقات شخصية قوية بين بعضهن البعض مما شجعهن على تبادل خبراتهن وتجاربهن الإنسانية ونمو وعيهن النسائي. رابعًا، وجدت مجموعة من النساء النابهات أنفسهن في صحبة مثيلاتهن من النساء الطموحات والثائرات، فتآزرن للتعاون المتبادل والعمل النسائي المشترك. خامسًا، لعبت المؤسسات النسائية دورًا كبيرًا بوصفها مجالاً يسمح بالتعبير عن أصوات النساء والدعوة لحقوقهن السياسية والاجتماعية.

والآنالاستقلال أم الاندماج ؟

إن قراءة تاريخ النساء المصريات يشير إلى وجود علاقة بين تراجع الحركة النسائية وإلغاء المؤسسات النسائية بعد حصول المرأة المصرية على حقوقها السياسية. حيث يبدو أنه قد تم استغلال حصول النساء على حق الترشيح والانتخاب وتصاعد خطاب المساواة السياسية بين الجنسين إلى الاستهانة بأهمية استمرار النساء في دفع الحركة النسائية إلى الأمام. كما أن ظاهرة قبول النساء لدمجهن في مؤسسات المجتمع الذكوري قد جنت إلى حد ما على الدور العام للنساء بما يحمله من خصوصية نابعة من تجاربهن وموقعهن في المجتمع، مما انعكس بالسلب على المساحة التي تم خلقها في العقود السابقة لثقافة النساء في إطار العمل العام.

وإذا كان الفكر النسائي المتشدد يدعو إلى الاقتصار على إقامة مؤسسات نسائية مستقلة، فإن الفكر النسائي الاجتماعي يشجع تكوين جماعات ضغط ونشاط نسائي تعمل من داخل المؤسسات السائدة بغية تغييرها. وإذا تصورنا موقع المرأة في عالم مثالي، فإننا نراها قادرة على العمل من أجل التغيير من داخل مؤسسات المجتمع ومن خارجها على حد سواء. إلا أن القرار والاختيار هنا هو قرار سياسي في المقام الأول، ويخضع إلى طبيعة علاقات القوى السائدة في مجتمعات ما زالت بعيدة عن النموذج المثالي، ومن هنا تبدو النزعة نحو الاستقلال هي أكثر الأشكال فعالية لخلق العمل النسائي وبداياته تجنبًا لتشتت قضايا النساء في خضم قضايا تتبناها قوى أخرى ذات سيادة أكبر.

هالة كمال. مدرسة مساعدة بكلية الآداب جامعة القاهرة وباحثة بملتقى المرأة والذاكرة.

شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات