جيناتي التعيسة
“أنت سعيدة بحياتك؟” يسألني أحدهم، ربما بهدف إصدار حكمٍ عامٍ على أسلوب حياتي، أو ربما لأي سبب بريء آخر، لا أدري !
لم يكن صعبًا أن أدرك الوجه الأول لمرضي النفسي الحزن غير المسبب, وفقدان الاهتمام والرغبة في أي شيء, في الحياة نفسها، الأصوات المؤذية التي لا تتوقف. لا أتذكرُ متى بدأ الامر بالضبط، ولكنني أتذكر متى أدركتُ أن هناك مشكلةً ما، وأن تلك المشكلة جدية ولن تتوقف. أتذكر أنه لازمني فزعٌ بلا سبب لعدة أيام وكنت أفكر في الموت بلا توقف, كنت في الواقع أُخطط للموت، أقدمت على الانتحار ولكنني ترددتُ وخفتُ, ولم تكن المرة الأخيرة. الاكتئاب ينتهك رأسي وأفكاري, يفسد عليّ كل ما أحب, يفقدني فرصًا وقائمة طويلةً من الأصدقاء, يسحبني في هوة مظلمة لا أحبها ولا أريدها. حالة انعدام الحياة تلك ليس من الصعب الاعتراف بإشكاليتها، بأنها ليست جيدة وليست صحية. عندما كان يسألني أحدهم ما إذا كنت سعيدةً بحياتي, كنت أفكر في تلك اللحظة، وأفكر إنني لو أجبتُ بالإيجاب فسأكون كاذبة، وإن أجبت بالنفي فسأكون كاذبة أيضًا بطريقة ما, فأيًا كان ما سيعتقدهُ الشخص عن سبب عدم سعادتي لن يعرف أبدًا عن ذلك المشهد، ولن يقترب أبدًا من رؤية ذلك الجزء من حياتي. كنت أشعر بشيء من الخجل، أو بالذنب، كأنني أخطأت في شيء ما وتعاستي تلك هي العقاب.
لدى عائلتي تاريخٌ طويلٌ مع المرض النفسي، ولكننا لا نتحدث عن الأمر رغم ذلك، وإن حدث ومر ذكره على ألسنتنا تلاحقنا نظرة خزي من مكان ما، نظرة اعتذار أو خجل، يصبح الجو متوترًا وغير مُتَقَبَل حتى ينتهي الحديث في هذا الموضوع ويُغلق وتعود الأمور لمجراها الطبيعي. لازلت أجدُ صعوبة وعدم راحة في الحديث عن صحتي النفسية حتى مع المقربين مني, أشعر بعدم اطمئنان حتى عند كتابة تلك الكلمات، أشعر وكأنني أقوم بشيء خاطئ.
إدراكي للوجه الآخر من مشكلتي النفسية كان أصعب وأطول نسبيًا، فعندما لا أكون في فترة اكتئاب، أجد نفسي في سعادة بالغة وانتشاء بلا أي سبب محددٍ أيضًا، لا أُخطط للموت الآن، بل لغزو العالم، أو تعلم ١٧ لغة جديدة، أو قراءة ألف كتاب في ٢٤ ساعة, لا أنام ولا آكل، أتكلم وأكتب بلا توقف عن كل شيء وأي شيء بحماس وقطار أفكاري لا يتوقف. أفكاري سعيدة وفخورة وطموحة بصورة بالغة, والأصوات التي كانت تخبرني بأنني عديمة القيمة، تُخبرني الآن بأنني أملك العالم وأنني أنجح وأسعد إنسان على الأرض. كل تلك الخطط غير المنطقية تفشل ويخفت ذلك الحماس مع الوقت وتكتمل الدائرة بأن أعود مرة أخرى لنقطة الاكتئاب. كنت أعتقد أن الاكتئاب هو المشكلة, هو السبب في فشل تلك الخطط, ويصبح هدفي من الخروج من الاكتئاب هو العودة إلى السعادة والانتشاء مرة أخرى، لأنه لا يمكن أن يكون هناك مشكلة في السعادة أليس كذلك؟
السعادة ليست فقط الهدف الأسمى من كل شيء تفعله، إنها معيار نجاحك أو فشلك، معيار كونك على حق أو على خطأ. منذ وقت طويل توقفت أو حاولت التوقف عن الدخول في جدالات في دوائري الاجتماعية الصغيرة والكبيرة، لأنها تفضي في النهاية لسؤال خبيث يجعلني أُشكك في كل شيء، أنت سعيدة بحياتك؟, السؤال الذي يجعل كل شيء أؤمن به أو أفعله يبدو بلا أي قيمة، لأنه لا يجعلني في النهاية سعيدة، إن الاعتراف بأنك غير سعيد هو اعتراف بأنك مذنب وأنك فاشل وعلى خطأ. ربما يرجع ذلك لتحول السعادة لواحدة من السلع الأكثر رواجًا: أعمل جاهدً لتنجح، عندما تكون ناجحًا يصبح لديك أموال، بتلك الأموال يمكنك أن تستهلك سلعًا وتلك السلع تجعلك سعيدًا، إن لم تكن سعيدًا فهذا يعني تقوم بالأمر بصورة خاطئة، اعمل بجهد أكبر, إجمع أموالاً أكثر واستهلك أكثر. فالسعادة هنا ليست صورة لمشاعر كالحزن والخوف والغضب، ولكنها سلعة نهائية, مكافئة, قيمة لها عرض وطلب ولها سعر وذلك السعر هو إتباع النظام وبذل الجهد.
ككان إدراكي للوجه الآخر من مشكلتي النفسية سببًا أساسيًا لتساؤلي المستمر حول “السعادة” كهدف، وضع تساؤلي هذا عدة إشكاليات سببها هذا المبدأ لي بشكل شخصي, أولها كان تحديد حرية اختياراتي بما يراه المجتمع مقبولًا. فمثلاً كان رد الفعل الثاني لزميلتين بعدما عرفتا بميولي الجنسية المثلية, أن أخبرتاني بإشفاق أنني لست طبيعية وأنني لن أكون سعيدة أبدًا في حياتي لأنني سأظل داخل خزانة لبقية حياتي. فأصبحت مشكلة اضطهاد المثلية خطأي أنا وليست خطأ المُضطهد، ببساطة لأنني لست سعيدة، والحل هنا ليس أن أسعى لتقنين حقي في الاختيار وأن اتبع أسلوب الحياة الذي يناسبني، بل أن أسعى لما يجعلني سعيدة وهو في تلك الحالة أن أكون طبيعية غيرية.
وثانيها تقويض المشاعر الأخرى والتقليل من أهميتها باعتبارها أصل المشكلة وليس رد فعل لوجودها, فيما أن السعادة هي الحالة الأفضل التي يجب أن توجد وتستمر فإن أي مشاعرٍ أخرى لا تتوافق مع السعادة خاطئة، وعليها أن تنتهي بالضرورة، فمثلاً الحديث عن المرض النفسي مع أسرتي يسبب نوعًا من البؤس والقلق وبالتالي فالمشكلة تصبح في الكلام وحل المشكلة يقتصر في التوقف عن التكلم حول الأمر. بدلاً من أن يكون البؤس والقلق تعبير عن وجود مشكلة تستدعي حل، والحل هنا هو حل المشكلة نفسها “المرض النفسي” وليس التخلص من القلق.
جيناتي التعيسة ساعدتني في إيجاد بعض الإجابات, والكثير من الأسئلة التي لازالت تُشغلني, ولكني توقفت عن الشعور بالخجل لكوني غير سعيدة، وتوقفت عن “البحث عن السعادة“، أصبحت أسعى لإدراك مشاعري وتقبلها والتعبير عنها بصورة صحية. في حياتي السعادة، كالحزن والغضب، تمثل مشاعر وقتية مرتبطة بأسباب معينة، أو حتى بلا أي أسباب وليست أهدافًا في حد ذاتها. في الواقع أنا لست سعيدة بحياتي, ولست تعيسة كذلك، ليس لدي أي تصنيف نهائي بشأنها، إنني مشغولة بأن أعيشها الآن، أن أؤمن بما أؤمن به وأن أتبع أسلوب الحياة الذي أجدهُ مناسبًا.