حارسات الهوية: القومية والنساء

تاريخ النشر:

2009

كتابة:

حارسات الهوية:

القومية والنساء

نحاول في هذا المقال تقديم صورة عامة عن قضية، قلما تم التعرض لهـا وهي موقع النساء في الفكـر القـومي. ويسعى المقـال إلى تناول هـذا الموضوع من خلال قراءة تحليلية للعناصر الرئيسة المؤسسة لهذا الفكـر وتحولاته والسياقات والعوامل المؤثرة فـي توجهاته. ولعل العلاقة بمفاهيم السلطة والهوية من أهم المداخل التي يعتمد عليها المقال، فـلا يمكن فهم موقع النساء في الفكر القومي مـن دون التطرق لـدور هـذا الفكر في بناء السلطة والهوية.

مدخل

في كتابه موسوعة الفكر القومي، يقول المؤلف، د. نبيل راغب، إن هذه الموسوعة “.. تجمع كل الاتجاهات الممثلة للفكر القومي على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية والروحية.. “(1). وتضم هذه الموسوعة 86 شخصية من المفكرين، ولكن اللافت للنظر أنه ليس بين هؤلاء سوى امرأتين وهما: نازك الملائكة ونجلاء عز الـذين، مـن العراق. والمسألة لا تتعلق بالعدد فقط بل بالمحتوى أيضًا، فقد غاب الحديث عن النساء ربما بشكل كامل ولا يجد القارئ إلا فقرة عن نازك الملائكة يستعرض فيهـا الكاتب مفهومها للتجزيئية حسب ما جاء في كتاب لها بعنوان التجزيئية في المجتمع العربي، فتصـفها بأنهـا” ….. ظاهرة إجتماعية عامة تسيطر على الفكر العربي والحياة العربية، حيث نجد الفرد بصفة عامة يفصل ما لا ينفصل فيقع نتيجة لذلك في تناقضات واضحة ومشكلات ما كان ليصاب بها لولا هذه التجزئة في ما لا ينبغي ان يتجزأ. فهناك مثلاً التجزيئية في فكرة الحرية، ذلك أن الناس يحسبون أن من الممكن أن يكون الرجل حرًا كل الحرية بينما المرأة أسيرة القيود لا تملك حرية إبداء الرأى ولا حق الحياة الكريمة، والواقع أن عبودية المرأة لابد أن تؤثر في حرية الرجل تأثيرًا واضحًا. فمن المستحيل أن يكون الرجل حرًا وهـو ممنـوع مـن إنشـاء صـلات أخوية ودية كريمة مع مجموعة من النساء المتصفات بالحرية المشروعة “(2).

على ما يبدو أن غياب قضايا النساء عن الفكر القومي يشكل سمة عامة ولا يتعلق بهذه الموسوعة فقط، فهي مجرد مثال. فمـن السـهـل عـلى البـحـث عنـدما يراجـع عناوين المنتج الفكرى القومي أن يلاحظ هذا الغياب، فقضايا الدولة والاستعمار والهوية والصراع العربي الإسرائيلي هي العناوين الرئيسية التي تشغل الحيز الأكبر من اهتمامات المفكر القومي. وهي قضايا ذات أهمية بلاشك، ولكن كثيرًا ما تم توظيفها من أجل تغييب قضايا أخـرى تتعلـق بالحريات وحقوق الإنسان.

وقد يشير غياب أو هامشية قضايا النساء إلى أمور ذات دلالة تتعلق ببنية الفكر العربي الحديث بشكل عام وليس فقط الفكر الديني أو القومي بل ما سمى بالفكر الليبرالي كذلك. فالأمر لا يتعلق بنسيان – أو حتى تجاهل – بل يتعلق ببنية فكرية يشكل حضور النساء فيهـا كما غيابهن علامة على هيمنة أبوية طالما تحدثت عنها الأصوات المساندة لحقوق النساء. وكما يمكن أن نتحدث عن الغياب ففي مقدورنا كذلك الحديث عن حضـور للنساء وخاصة في الفكر الديني وهو حضور من أجل التغييب والتهميش. وكلنـا يـعـلـم أن النساء حاضرات وبقوة في الخطاب الديني ولكن كموضوع للهيمنة والسيطرة وبالتالى التغييب ارتكازًا إلى مفهوم القوامة، والذي بموجبه يكون الرجل في مرتبة أعلى من المرأة. وهذا المبدأ الذي يظهر صريحًا في الفكر الديني قد انعكس كذلك على أيديولوجيات أخرى حتى وإن لم تصرح به. إن تجاهل قضايا النساء في الفكر القومي قد يكون مؤشرًا على استبطان مبدأ القوامة.

ولعل المبرر الصريح أو الضمني لتبرير تهميش قضايا المرأة يرتبط بمسألتين رئيسيتين، الأولى هي قضية الهوية، كما سنتحدث عنها لا حقًا، حيث إن حرية المرأة تعنى التغريـب أو انتصار الخطاب الاستعماري أو انتصار الخارج على الداخل . أما المسألة الأخرى وهي مرتبطة بالأولى فتتمثل في القسمة بين قضايا كبرى تستحق الاهتمام وهـي قضايا الأمة ومناهضة الاستعمار والحفاظ على الهوية، وقضايا صغرى يمكن تأجيلها أو حتى نسيانها ومنهـا قـضـايا الحريات وفي مقدمتها حقوق النساء والأقليات وغيرها من الفئات والكيانات التي غالبًا ما تم النظر إليها على أنها صغيرة.

كما أن التجاهل ينبع من اليقين، وهو اليقين الذي يتوهمه أنصار الأيديولوجيات الكبرى من أنهم أصحاب مشاريع كبرى للخلاص. والخلاص قد يكون بالمعنى الطبقي أو القومي أو حتى العرقي (3) . وغالبًا ما ارتبط هذا النمط من الخلاص بإقصاء واستبعاد او حتى معادة قضايا نوعية وفي مقدمتها حقوق النساء. إن فكرة الخلاص، بالمعنى الديني على الأقل، تقتضى الحفاظ على تقاليد الجماعة فيها يعتبر أن الحريات بشكل عام وحريات النساء بشكل خـاص تشكل تهديدًا لتماسك الجماعة. وكان الأمر يتطلب دائمًا وجود حركات نسائية قوية لإعـادة صياغة مفهوم الأيديولوجيات الكبرى للخلاص. ولا شك أن المجتمعات العربيـة شـهدت أصواتًا مطالبة بالحقوق والحريات ولكن مع الأسف لم تتحول إلى حركات اجتماعيـة ذات ثقل، وبالتالي لم يكن في مقدورها التأثير بشكل جذري في الأيديولوجيات الكبرى. وبالتالي فعلى الرغم من أن النساء حققن مكتسبات على مستوى الواقع، فإن مكانة النساء ثقافيًا لا تعکس وضعهن اجتماعيًا.

ومع ذلك لا يمكن القول بأن الفكر القومى لم يستجب لمتغيرات الواقع، فلاشك أن ثمة استجابة لهذه المتغيرات، فقد حظيت النساء ببعض الحقوق الأساسية في ظـل الناصريـة مثـل حق التعليم والعمل. ولكن هذا لا يمكن إرجاعه ببساطة إلى إرادة كامنة في الفكـر القـومي، بل إلى استجابة السلطات ذات التوجهات القومية لحركة الواقع ومقتضيات التحديث والتصنيع التي لا يمكن تجاهلها. كما لا يمكن إغفال أثر الأصوات المنادية بحقـوق النسـاء. فمكاسب النساء كانت ومازالت ضرورة تاريخية أكثر من كونها إرادة فكرية.

 

إن السياق الذي نشأت فيه الهوية القومية كان سياقًا يتسم باضطراب وعدم استقرار فكري، فهو تاريخ التحول نحو الدولة الوطنية الحديثة والذي تزامن مع الصدام بالآخر المستعمر. فالعروبة ارتبطت تاريخيًا بالانتقال من دولة التنظيمات العثمانية نحو الدول القطرية الحديثة. وهذا الانتقال السياسي التنظيمي لم يصاحبه تحول ثقافى أيديولوجي منسق. فقد كانت دولة التنظيمات العثمانية تعتمد الأيديولوجيا الدينية كركيزة أساسية لهوية الأمة تتبنى ثقافـة تعكـس بنيـة الـواقـع المتغير الإسلامية، ولكن الدولة الوطنية كان عليها أن انطلاقًا من طبيعة مؤسساتها الجديدة التربوية والسياسية والقضائية، وانطلاقـًا مـن العلاقة الجديدة التي تربط بين الدولة ومن يعيشون ضمن نطاق سيادتها والذي كان من المفترض أن يتحولوا من زمن الرعية إلى زمن المواطنة. وعلى أي حال فقـد حـدثت تحولات وإن كانـت جزئية وغير متسقة، كما أن الأيديولوجيا الكبرى للأمة شهدت تحولات أيضًـا عـلى مستوى العلاقة بين العروبة والإسلام. ويزغت العروبة في تجلياتها الحديثة كهوية أمة تنتظم بداخلها هويات نوعية قطرية أخذت في التشكل على المستويات القطـريـة بـفـعـل مؤسسات التعليم الحديثة، وأنماط جديدة من الانتماء للدولة الوطنية.

إن التفاعل والصراع الأيديولوجي الحديث بين الديني والعلماني (الذي فرضته تحولات التحديث) كان له بالغ الأثر على وضع النساء ثقافيًا ومن ثم اجتماعيًا وسياسيًا. فإلى أي هوية ننتمى؟ وما هو وضع النساء في استراتيجيات بناء الهوية في مجتمعات تدخل عصر التحديث وتقاومه؟.

وإذا كان بناء فكرة الأمة يرتكز على الدين، فإن بناء الفكرة القومية الحديثة كان يجب أن ينبني على أيديولوجية أخرى تستجيب لمنطـق ومقتضيات التحـديث. وهنـا كـان التفاعل التاريخي بين العروبة والإسلام والعلمانية. وفي هـذا السياق يقول د. جابر الأنصاري، إن العروبة كانت دائمًا مادة الإسلام، إلا أنه مع بداية القرن العشريـن شـهدت البنية الثقافية السائدة تحولات عاصفة حيث بـدأ الجدل حول القومية والإسلام والوطنية والعلمانية والدين، وأثيرت قضايا المرأة هنا وهناك. وتحت وطأة التحولات والرغبة في تماسـك الـذات جاءت محاولات التوفيق بين الأفكار المختلفة ومنها العلمانية والدين والعروبة والإسلام إلخ. ويشير الأنصاري إلى تحول جوهري كان قد حدث آنذاك فيها يتعلـق بـالفكرة القومية، فقـد بدأ التفكير القومي يكتسب لأول مرة مفهومًا علمانيًا على يد المفكر المسلم ساطع الحصري (1980 – 1968)، حيث حدث فصل بين العروبة والدين وأصبح بالإمكـان تأسيس أمـة عربية غير مرتبطة بدار الإسلام. وهكذا تم علمئة العروبة. ولكـن الأنصاري يشير إلى أن الثورة الفكرية التي بدأت سرعان ما تراجعت وتدهورت في الثلاثينيات وسرعان ما عادت وهيمنت الصيغة التوفيقية التي تعتمد على ثنائيات الحاضر والماضي والذات والآخر والتراث والمعاصرة إلخ. (4)

هذه الصيغة التوفيقية هي الموضوع الرئيسي الـذي أشار إليـه العديـد مـن المفكرين، فالتوفيق فكريًا كان ومازال يعكس هموم الهوية: من نحن؟ وإلى مـاذا ننتمى؟ وبـدأ القلـق التاريخي الثقافي والذي مازال قائمًا والمتمثل في الرغبة في الإنفلات مـن الخـارج والتبعيـة لـه وخاصة بعد أن أصبح الخارج داخلاً بفعل المؤسسات الحديثة والارتباط بالمجتمع الدولي. ولم تكن المسألة مجرد جدل نظرى فالدولة الوطنية الحديثة ذاتها عانت منذ نشأتها من مفارقتين بشأن الهوية والانتماء، فعلى مستوى الداخل لم يكن في مقدور الدولة الحديثة دمج كل الأفراد ضمن هوية سياسية كبرى ترتكز على المواطنة وتحتفظ بالتنوع الثقافي فقد ظل التنوع الثقافي قائمًا ولكن في صيغة مضطربة وغير متوازنة، وبدت وكأن الماضي حاضر أو بالأحرى وكـأن الحاضر غير قادر على تجاوز الماضي، ذلك الماضي الذي تم توظيفه ليكون جزءًا من بنية حاضر غير متجانس. وهكذا فقد تم الإبقاء على هويات نوعية عائلية وقبلية وعرقية عرقلت أو أريد لها أن تعرقل مبادئ الحداثة والمواطنة. وفي الوقت ذاته ظلت أيديولوجيا الدولة مشدودة إلى العروبة أو الإسلام كهويات سياسية عبر وطنية. وتشكلت علاقة أيديولوجية ثلاثية الأبعـاد بين أيديولوجيا قومية عبر وطنية (اسلامية أو عروبية) وأيديولوجية دولة وطنية وثقافـات محلية متناثرة.

إن التنوع الثقافي غير المعترف به، الذي تم تأطيره قمعيًا وتوظيفه سياسيًا، بدا دائمًا كقوة مدمرة كامنة أحيانًا ومنفلتة الزمام أحيانًا أخرى. وفي ظـل هـذا الوضع، سعت الثقافات الصغرى النوعية، تمامًا مثل الهويات الكبرى، إلى التقوقع ورسم حدود الجماعة، وبالطبع فإن النساء كن دائمًا حاضرات كحارسات للهوية.

وكان لهذه الوضعية بالغ الأثر على فكرة المواطنة والتي أعتقـد أنها كانت حاسمة في صياغة واقع المرأة في المجتمعات العربية الحديثة، فقد كانت المرأة هي النقطة التي تجمعت عندها كل الآثار السلبية المترتبة على التباس مبدأ المواطنة في مجتمعاتنـا والـذي بـات ضحية الثقافات المحليـة بـل وفي صراع مع الألعاب السلطوية التاريخية من أجل بناء هوية أممية متماسكة ولكنها متخيلة، فهي ليست على مقاس الدولة الوطنية ولا هي في وئام مع العديـد مـن التحولات الاجتماعية. وربما كانت التضحية بحقوق النساء هي ركيزة التواصل والتماسك السلبي الذي سعت الدولة الوطنية إلى تحقيقـه عـبر التوظيف السياسي للأيديولوجيات القائمة. فقد تمت التضحية بهذه الحقوق لصالح القبلية أو العائلة كما تمت التضحية بهـا مـن أجل التماسك الأيديولوجي الهوياتي لأمة مستعصية على التماسك.

وكما كانت الصيغة التوفيقية، وفي مقدمتها توفيقية الفكر القومي، تلعب دورًا في ضبط الواقع إلا أنها كانت تستجيب لتحولات الواقـع كـذلك. فقد استوعبت بالطبع بعـض المكاسب التي حققتها النساء في مجالات العمل والتعليم .. إلخ – كما سبق أن ذكرنا. ولكـن هذه التوفيقية ليست متسقة أو حيادية، فالواقع “… يدلنا على أن تحديثية النظـرة التوفيقيـة تقتصر على نيات أصحابها، وتبقى دومـًا أثـرًا فعليًا في بنيـة الخـطـاب التوفيقي، القـومي أو الليبرالي“(5). ولعل الخطورة في الكثير من الخطابات التوفيقية وفي مقدمتها الخطاب القومى أنها ظلت مرتهنة للخطاب الإسلامي والارتهان بالمواقف الإسلامية والتي نزعـت عـن الخطاب القومي أو حتى الليبرالي تاريخيته، كما أن الخطاب الإسلامي دخـل في تضاعيف الخطابات الأخرى وهو الأمـر الـذي يـسـمـح بـالتحول مـن المرجعية العروبية القومية إلى المرجعية الإسلامية بكل سهولة. ومما لا شك فيه أن الموقف من النساء شكل ومازال أحـد معابر التحرك بين المرجعيات التي تضمها الصيغة التوفيقية، وليس غريبًا أن تظـل قضـايا الحريات الشخصية للنساء ومسائل الأحوال الشخصية مـن المحرمات التي لا يمكن الاقتراب منها بسهولة (6).

إن عدم الحياة هنا, وخاصة في توفيقية الفكر القومي، ليس سببه جوهر ما كامن في هذا الفكر، ولكن لأنه مشروط دائها بالعمليات السياسية القائمة وآليات بناء السلطة، وهو ما سنحاول التطرق إليه في السطور التالية.

بالنسبة للايديولوجيا القومية فهناك شروط موضوعية صاغت اتجاهاتها وجعلت منها أداة أيديولوجية كثيرًا ما استخدمتها أنظمة مستندة في المنطقة العربية. لقد ارتبط الصعود القومي بشرط تاریخی موضوعي وهو معاداة الاستعمار. ولا شك أن هذا الشرط لعب دورًا رئيسًا في صباعة بنية وملامح الفكر القومي. وقد ارتبط التحرر من الاستعمار بتوجهات سياسية واجتماعية، أي التوجه نحو إرساء دعائم الدولة الوطنية ذات التوجهات القومية، وإجراء إصلاحات اجتماعية لصالح طبقات شعبية. وهكذا فقد تضمن الفكر القومي مجموعة من العناصر المتلازمة والتي شكلت بنية الخطاب القومي وهي، كما يقدمها المفكر المغربي محمد عابد الجابري، الموحدة، والاشتراكية أو التقدم ، وتحرير فلسطين. وقد لعب العامل الخارجي دورًا في نظم هذه المتلازمات، يقول الجابري: “إن العامل الخارجي.. وبعبارة أوضح : التهديد الأجنبي – هو الذي ربط، ويربط، في الوعي العربي منذ يقظته الحديثة إلى الآن بين الوحدة والتقدم، وهو نفسه الذي يعطيها مضمونها ويرسم طريق تحققهما، ومن هنا تلك البطانة الوجدانية التي شلف فكرة الوحدةفي الوعي العربي لتجعل منها، وعلى ساحته المضمون الشخص النهضة والثورة، والرديف الملازم لكل تقدم, والعصر الموجه لقراءة العرب ماضيهم وحاصرهم ومستقبلهم، والمحـور الأساسي الذي تنظم حوله عناصر إشكاليتهم الفكرية، بل وطموحهم الحضاری.(7)

وقد ارتبط هذا الوضع دائمًا بنوع من التعبئة الأيديولوجية السياسية، لقد تم توظيف فكرة الوحدة (وحدة الجمعة) على حساب فكرة التقدم، وبساطة يمكن القول بأن فكرة الوحدة يمكن فرضها كفكرة أيديولوجية حتى لو كانت وهمية، ولكن فكرة التقدم لا يمكن فرضها بنفس السهولة، وتأصلت مشروعية الثقافة التعبوية الموظفة من أجل إضفاء مشروعية على النظام السياسي القائم والحفاظ على التماسك الداخلياستنادًا إلى فكرة وحدة الجماعة, من خلال تأطير الداخل بدعوى الحفاظ عليه من الخارج. ومن هنـا ينبغـى النظر إلى الفكـر القومي بوصفه فكرًا متأسسًا على، ومؤسسًا للتناقض بين الداخل والخارج. وهـو التناقض الذي كان ومازال أداة هيمنة سياسية بامتياز. ومن أجل تحقيق هذا، تمت صياغة أطر سياسية وآليات إعلامية ذات طبيعة احتكارية، تخدمها بنية قانونية صلبة أطاحت بالكثير من الحقوق والحريات العامة والشخصية.

وإذا كان هذا الوضع مقبولاً في حينه وفي الظروف التاريخية السائدة آنذاك . التعبئة ضد الاستعمار ودعم مسيرة التحرر الوطني، فمن غير المقبول، نظريًا، أن يستمر هكذا إلى الأبد. ولكن عمليًا فقد ظلت كذلك في ظروف تاريخية مغايرة، ويصبح هذا مفهوماً إذا نظرنا إلى هذه الاستمرارية من منظور الوظيفة السياسية. فليس غريبًا أن تصر الحكومات على الاحتفاظ ببعض جوانب الفكر القومي على الرغم من أنها تخلت عمليًا عن مقومات هذا الفكر سواء فيما يتعلق بالوحدة العربية أو ما يسمى بالمبادئ الاشتراكية ومعـادة الإمبريالية والاستعمار أو غيرها.

إن الأيديولوجيا القومية، شأنها شأن الأيديولوجيا السياسية بشكل عام، قابلة للتوظيف في سياقات سياسية واجتماعية معينة. ففي أحد التحليلات القيمـة للأيديولوجيا السياسية الحديثة، نرى أنها تعمل على تجديد ما كانت تقوم به الأساطير والأيديولوجيات الدينية بشأن اثبات هوية الأفراد. فالأيديولوجيا السياسية عندما تدعو جماعة خاصة (حزبًا، طبقًة، أمـًة) لعمل خاص تعين حدود هذه الجماعة ويتوجب عليها خلق وسائل تمجيد الجماعة المعينة. وسيتوجب، ليكون العمل ممكنًا، أن تسهم اللغة في الإبقاء على الولاءات الفردية تجاه الجماعة وتحافظ لتحقيق ذلك، على قاعدة توحيد الأنا مع الجماعة. وسيكون في مقدور الأيديولوجيا في هذا المقام إذن أن تعيد إقامة عنف رمزي ليس أقـل جذريـة مـن عنـف بعـض الـديانات : بالنظر إلى أن العدو المعارض المصالح وقيم الجماعة المشروعة لا يدان إدانة أقل من إدانـة أنـه کافر” .(8) ويرى الكاتب أن الأيديولوجيا السياسية قد تكون أكثر قسوة من الأيديولوجيات الدينية.

إن العلاقة بين الأيديولوجيا القومية والدينية في السياق العربي ليست علاقة خارجية، أن الأولى تلعب دور الثانية، بل هي علاقة تواصل واستدعاء واستبطان. ولعل النقـد الذي يمكن أن نوجهه بقناعة كبيرة إلى الفكر القومي وخاصة في صيغته المتأسلمة أنـه رسـم حدود الجماعية بطريقة أبوية. لقد تم النظر للنساء، كما ورد في كتاب عزيز العظمة العلمانية بوصفهن حارسات الهوية الجماعيةوتم محاصرة النساء فكريًا واجتماعياً وجعلت من دونية المرأة علامة على السيادة القومية وتكامـل الشخصية الوطنية(9). ورغـم الأصوات التي ارتفعت من أجل تحرير النساء والتي لم يكن لها من سند إلا تحولات الواقع التي أجبرت الجميع على تعليم الفتيات وخروجهن للعمل، إلا أن قضية المرأة كانت ومازالت قضية هوية، ليس فقط فيما يتعلق بالحفاظ على تماسك الهويات الكبرى القومية أو الوطنية ولكن على مستوى الهويات الفرعية القبلية والعائلية والتي تلتقى مع الهويات الكبرى في الموقف من النساء.

وهكذا يمكن القول بأن فكرة الوحدة التي أشار إليها عابد الجابري قد ارتكزت على مفهوم الهوية؛ والذي ارتكز بدوره على عناصر ذكورية كانت لازمة لسلطات استبدادية تريد تأطير المجتمع ومحاصرته ضد أى أفكار تحررية. ومن ثم جاء توظيف النساء كقضية هوية.

لقد بدأت عملية توزيع الإرث القومي منذ السبعينيات بعدما كان ملكية خالصة للدولة الناصرية، وقد ذهبت الحصة الأكبر من هذا الفكر ليس للقوميين أنفسهم، بل للإسلاميين باعتبارهم الوريث الشرعي لفكرة الأمة، مع استمرار احتفاظ الدولة في خطاباتها الملتبسة ببعض عناصر الفكر القومي على الأقل في المناسبات. وأصبح القوميـون أمام خيارات الصراع من أجل البقاء أو التحول نحو المرجعية الإسلامية أو الليبرالية. وقـد كـانـت بـوادر التحول جلية عند مفكرين معروفين مثل طارق البشري وعادل حسين، أو سياسيين ممن التحقوا أيضًا بالسلطة السياسية.

وإذا كانت الاتجاهات الإسلامية قد أخذت الجانب الأكبر من الإرث القـومـي فـإن توظيفها له يختلف عن توظيف الحكومات. فهذه الاتجاهات تمتص الفكرة القومية وتعيد تدويرها ضمن آلتها السياسية الدينية من أجل تجاوز المشكلات التي خلفتها الصيغ التوفيقية. أما الحكومات فتحاول الاحتفاظ بنصيبها وتحديدًا تلك العناصر التي تسهم في تأبيد النزعـة المركزية في الحكم وإدارة المجتمع على مستوى الدولة القطرية، وتثبيت علاقة متوترة دائمًا بين الداخل والخارج، بمعنى تصوير الخارج على أنه مصدر شر دائم. وبالتالي فإن مهمـة السلطة المركزية أن تبقى مستنفرة أمنيًا وقانونيًا بزعم السهر على حماية الداخل ممن يتربصون به. تمامًا مثل الأغاني الوطنية التي مازالت تذاع في مناسبات باتت غريبة عن أجيال مطحونة، ومغيبة ومهمشة، لم يبق لها من حلم سوى الهجرة.

وكما أن هناك حركية نحو الاحتفاظ بالإرث القومى حتى في شكله الديني، فهناك أيضًا حركية للنزوح بعيدًا عنه ومن ذلك التحول نحو المجتمع المدنى منذ منتصف الثمانينيات وحتى الآن وهو أمر ينطبق كذلك على اتجاهات ماركسية. فعـلى الـرغـم مـن أن الخطـاب القومي كان هو الأكثر عداء لفكرة المجتمع المدني وما يثيره من قضايا وخاصـة تـلـك التـي تتعلق بحقوق النساء، فإن البعض من أنصـار هـذا الفكـر وخاصـة مـن جيـل السبعينيات والثمانينيات انخرط وبقوة في مؤسسات المجتمع المدني. والقضية هنا أن المرجعيات الدولية التي يستند إليها خطاب المجتمع المدني قد تطلبت انسلاخًا عن توجهات الفكرة القومية بـل والدخول في صراع معها. ولكن حتى الآن لم تتم دراسة طبيعة هذا التحـول بشكل علمي. ولكن ما يمكن قوله: إن الكثيرين من أنصار الفكر القومي ولحـد مـا الماركسـى قـد تجنبـوا الخوض وربما مازالوا في القضايا التي تثير حساسيات ثقافية، وفي مقدمتها قضايا الحقـوق والحريات الشخصية وحقوق النساء. لقد استعاد الخطـاب الحقـوفي في جـزء منـه الخـطـاب التوفيقي السائد وإن بشكل ضمنى من خلال السكوت عن قضايا بعينهـا. بل إن البعض منهم وفي عدد من المناسبات تبنى فكرة خصوصية الأمة وخطاب الهوية.

من الصعب القول بأن الفكر القومي قد مات أو اختفى لأن الإرث لا يزال موجودًا هنا وهناك، وستجده قابعًا خلف خطاب الهويـة أيـًا كـان شكله .. دينًا أو ماركسيًا أو حتى ليبراليًا. وفي هذا المناخ يصبح استمرار توظيف النساء كحارسات للهوية إحدى المشكلات الكبرى التي واجهت حقوق النساء في السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية القائمة، وقد أصبحت الأمور أكثر صعوبة بعد أن تضخم الخطاب الديني فحلت الأمة الإسلامية محل الأمة العروبية بما يعنيه ذلك من زيادة مخاطر خطاب الهوية الذكوري. وفي ظل العولمة والهجرة وتوزع المنتمين إلى الأمة العربية جغرافيًا وثقافيًا، فقد باتت الأمة بلا جغرافيا محددة وهو الأمر الذي يجعل أفرادها يتمسكون أكثر بمظاهر الثقافة والهوية. وهكذا مثلاً فقد تحول الحجاب إلى مسألة هوية جماعية سياسية على الرغم من كل ما يقـال عـن ارتباطـه بـالأخلاق والطهارة إلخ، إنه علامة الانتماء إلى جماعـة لم يعـد أمامها فرصة لتعريف ذاتها إلا بالزي وشرف أمة تخرج من التاريخ وهي تحافظ على شرف نسائها. وأخيرًا يمكن القول بأن فكـرة الهوية كانت ركيزة أساسية للأيديولوجيات الكبرى دينية كانت أو قومية، وكلما كان حضـور خطاب الهوية قويًا، تم استدعاء النساء ليكن حارسات لها.

يسري مصطفى: باحث في مجال حقوق الإنسان واستشاري مؤسسة المرأة والذاكرة.

(1) د. نبيل راغب: موسوعة الفكر القومي الهيئة المصرية العمة للكتاب، 1988

(2) المصدر السابق، الجزء الثاني، ص 224

(3) راجع في هذا الصدد ديفيد ماك كرون: علم اجتماع القومية، ترجمـة سـامى خشبة، المركز القومى للترجمة، القاهرة ص 50

(4) د. محمد جابر الأنصاري: تحولات الفكر والسياسة في المشرق العربي، سلسلة عالم المعرفة، نوفمبر 1980، الكويت ص 18

(5) عزيز العظمة: المصدر السابق ص 211

(6) المصدر السابق

(7) الدكتور محمد عابد الجابري: الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية، مركز دراسات الوحـدة العربية، الطبعة الرابعة بيروت 1992، ص 107-111.

(8) بيير انار: الأيديولوجيات، والمنازعات والسلطة، ترجمة إحسان الحصني، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1984، ص 45

(9) عزيز العظمة: العلمانية من منظور مختلف، مركز دراسات الوحـدة العربية، بيروت 1992ص 202- 203

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات