١١ ديسمبر ٢٠٢٣
على أثر الإشتباكات المسلحة التي إندلعت ما بين القوات المسلحة والدعم السريع والتي راح ضحيتها العديد من المواطنيين/ات بعد أن اجتاحت العاصمة السودانية (و لاحقاً ولايات عديدة) أحداث شغب من اطلاق للسجناء/السجينات والنهب وتكسير المحلات التجارية بالإضافة الى ارتفاع جنوني في أسعار السلع، لاذ المواطنيين بالفرار من العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث إما الى الولايات أو إلى دول الجوار، في رحلة للبحث عن ملاذ آمن علهم يستطيعون العيش في سلام. رحلة طويلة شاقة ومتعبة بالساعات الطوال تجاه المجهول يبحثون عن بصيص أمل للنجاة من ويلات ما تكون اشبه بالحرب.
خرجت مع عائلتي من منطقة أم درمان بعد أن تحملنا قوة الإشتباكات بالأسلحة الثقيلة على مدى أكثر من ثلاثة اسابيع، قررت أسرتي المغادرة إلى مصر والإستقرار هناك. خرجنا ونحن لا ندري ما هو مصيرنا في الطريق وكيف ستسير الأمور، خصوصاً أن جواز السفر الخاص بي منتهي الصلاحية وأخي يحتاج الى تأشيرة سفر من القنصلية المصرية. علمنا أن هذه الإجراءات يتم إجراؤها في حلفا، مدينة صغيرة تبعد ثلاث ساعات عن معبر أرقين الحدودي مع مصر.
بعد رحلة مرهقة طويلة وصلنا ليلاً الى مدينة حلفا، لم نعلم أين سنقضي الليلة، فالفنادق ممتلئة بالمسافرين/ات والأسعار مرتفعة جداً. اضطررنا أنا وأخي إلى إستئجار أسِرة والنوم في عراء الشارع مع جموع غفيرة من الناس. إقترحت علي متطوعة عبر الفيسبوك الذهاب الى مركز الإيواء للطوارئ. حيث رأيت أن سكان المدينة قد فتحوا بيوتهم والمدارس والمستشفيات للمسافرين العالقين. عندما ذهبت الى مركز الإيواء منهكة ومتعبة جداً أُستقبلت بحفاوة، حيث كان المكان مكتظاً بالمسافرين. كان هناك متطوعين/ات يقومون بخدمة الناس. استطعت بصعوبة الإستحمام بسبب صفوف الإنتظار الطويلة من النساء أمام الحمامات. أثناء تواجدي في المركز على مدى خمسة أيام متتالية كانت بعض النسوة يأتين ويسألن عن نساء لغسل قريباتهن المتوفيات اللاتي توفاهن الله بسبب الاوضاع الصعبة التي يعشنها خارج مركز الايواء للطوارئ.
الأمل في وجهة جديدة يبدأ من حلفا
لقد كان مركز الطوارئ هذا مركز حجر لمرضى جائحة كورونا والآن تم تحويله الى مركز طوارئ لإيواء المسافرين العالقين في معبر اشكيت خلال انتظارهم خروج تأشيرات القنصلية المصرية. حيث يقف الشباب والرجال في الصفوف بينما تنتظر أسرهم. مع تذبذب شبكة الإتصالات والإنترنت في حلفا يضطر الناس الصعود إلى الجبال للحصول على الإرسال للتواصل مع ذويهم.
يقوم فريق عمل من المتطوعين والمتطوعات بالتعاون مع بعض المنظمات الدولية والمحلية، على سبيل المثال ” الهلال الأحمر السوداني“. خلال إنتظارنا إلتقينا السيد حسني محمد، مدير مركز الإيواء للطوارئ والحالات الطبية الحرجة و سألناه: كيف بدأت فكرة مركز ايواء حلفا؟
أجاب: “المركز مؤسس لإستقبال الجماهير في حالات الطوارئ ومجهز بطريقة مريحة من أسِرة ومكيفات. بدأنا من أول يوم بدأت فيه الحرب، ويستقبل جميع الفئات من كبار السن، الأطفال، النساء، ذوي الإحتياجات الخاصة والحالات الطبية … الخ، إلا أننا نعاني من عدم إستيعاب المركز للعدد الكبير من المسافرين العالقين الذين يأتون إلى المركز، ونحاول بقدر الإمكان إستيعاب جميع الحالات نسبة للظروف الصعبة التي يمر بها الجميع، ولكن ينقصنا الدعم المادي والإمكانيات“.
ألف قصة و قصة تحكى
من داخل مركز الإيواء المكتظ من جميع الفئات العمرية بالإضافة إلى حالات من ذوي الإحتياجات الخاصة و حالات طبية بإمكانيات متواضعة، كنت أنام في سرير من حديد قمت بوضع قطعة من القماش عليه حتى لاتظهر علامات على جسدي. وكنت أعاني من صعوبة في النوم بسبب ألم في كامل جسدي، و لم أجد حتى أسبرين في صيدليات حلفا والتي لاتتجاوز الثلاث صيدليات. إلا أن التعب والإرهاق تغلب علي ونمت. استيقظت مفزوعة على صوت صراخ أحد الأطفال وهو يصرخ ” الدانة .. أبي … آآه” تم تهدئته بصعوبة وعلمت أنه طفل متوحد توفى والده في قصف على منزله في الخرطوم، جميع من في المركز إنتابه شعور الحزن حينها، و أخذ البعض يروي كيف وصل إلى حلفا. سألتُ امرأة يبكي أطفالها ويصرخون لكنها كانت هادئة وصبورة وهدأتهم برفق، كيف كانت رحلتك إلى حلفا؟ فوصفت (سيدة جمال) رحلتها من شمبات إلى حلفا والمعاناة التي مرت بها قائلة:
“أنا متزوجة ولدي ثلاتة أطفال. إنقطعت الكهرباء والمياه من شمبات في رمضان على أثر الإشتباكات المسلحة مابين القوات المسلحة والدعم السريع. تم قصف المبنى الذي يقابل منزلنا وتطايرت الشظايا في كل الإتجاهات وصولاً إلينا فأُصيب أطفالي بالرعب. إنتقلنا إلى منزل الأسرة في أمدرمان جوار صينية كبري الحلفايا وكان هناك أيضاً اشتباكات بالأسلحة الثقيلة بالإضافة إلى مظاهر النهب والسلب والقتل“.
كما أضافت “بعد مناقشات قررنا السفر إلى مصر، ولكن وزوجي موظف بسيط ولم يستلم راتبه بعد. لذلك قمت ببيع حليَ الذهبية بالإضافة إلى بعض المدخرات. أشعر أنني أصبحت متشردة ولاجئة، خرجت بسبب الخوف على أطفالي وإنعدام الأدوية والمواد الغذائية، لأننا وصلنا لمرحلة لم نجد حتى الخبز لأطفالي.”
أما (مروة جمال) أختها، وتسكن الثورة الحارة العشرين في أمدرمان حيث إجتمعت العائلة واتخذوا قرار السفر مع بعضهم، قالت : “بسبب قرب تمركز الدعم السريع من منزلنا، وإختفاء المواد الغذائية والخبز ولدي طفلين لا أجد لهما حتى الحليب، قررت السفر إلى مصر مع أختي وتركت منزلي ولم يكن يدور في خلدي شيء سوى النجاة بأطفالي“.
تجار الأزمات لا دين لهم
بحسب الإحصائيات أدى الصراع المسلح ما بين القوات المسلحة والدعم السريع في العاصمة الخرطوم وبعض الولايات من بينها دارفور إلى إضطرار المدنيين الخروج من منازلهم إما بالقوة الجبرية أو إختيارياً، والسفر أما داخلياً الى ولايات السودان أو خارجياً إلى دول الجوار. و أغلبهم يعانون من سوء التغذية وإنعدام الأمن الغذائي، وعدم الحصول على الرعاية الطبية أو الدعم الإجتماعي والنفسي اللازمين.
ومن اللافت للنظر جشع تجار الأزمات الذين يستغلون رغبة العديدين للسفر ويحتالون عليهم أو يضاعفون الأسعار لأكثر من 300%، حيث وصف علاء الدين محمد الطيب، أحد العالقين بالمعبر، رحلة وصوله الى حلفا قادماً من الخرطوم قائلاً :
“أنا من سكان الحي الراقي، حيث أنها أول منطقة وقعت فيها الإشتباكات. تفاجئنا بوجود جنود مصابين في الشارع الذي نسكن فيه بالإضافة الى إرتكازات للدعم السريع وأيضاً للقوات المسلحة. بعد خمسة أيام من الإشتباكات قررت أخذ أسرتي خارج الخرطوم، خصوصاً أن طفلتي ذات التسع شهور كانت تنزف دماً من أنفها من شدة أصوات الأسلحة. قمنا بإستئجار باص بقيمة 11 مليار لعدد 49 شخص، ورفض سائق الباص التحرك إلا بعد دفع المبلغ كاملاً. فجمعنا المبلغ بالعملة السودانية والدولار. في طريقنا رأينا أفراد تابعين لقوات الدعم السريع يقتلون شخصين سائقي تكتوك للحصول على وقود في بحري، وقابلتنا أيضاً إرتكازات تابعة للدعم السريع حيث كانوا يتعاملون مع الاُسر بلطف. عندما وصلنا إلى مروي صادفنا أحد السجناء الفارين وهو متهم في جريمة قتل حيث أصبح حراً طليقاً بعد فتح السجون وإطلاق جميع السجناء“.
أكمل لنا انه عند وصولهم، وقف الباص على مسافة تلاتة أمتار من معبر أرقين في ظل إنعدام تام للخدمات لايوجد ماء ولا دورات المياه. قامت مجموعة علاء الدين بإستئجار بص آخر بمبلغ اتنين مليار سوداني لمسافة 30 متر فقط حتى يستطيعوا دخول الأراضي المصرية. ووافقوا على دخول النساء فقط أما الرجال تم رفض دخولهم، لم يجدوا بص أو وسيلة نقل أخرى، أدى ذلك الى إيجار مركب للوصول لحلفا. لقد كان إحساسه تراكمي، مزيج من ذكريات الإشتباكات المسلحة في الخرطوم وتفكيره بأطفاله.
كما واصل علاء الدين: “في حلفا كان الصف لأخذ الصور الشخصية يحتاج الى 14 ساعة إنتظار حتى نحصل على الصور. قدمت أوراقنا إلى القنصلية المصرية من خلال اللجنة الأمنية، متوقعًا انتظارًا طويلاً. تعرضت لجنة الجوازات لفساد مستشري واحتالوا على رجل سوداني يحمل جواز سفر أوروبيًا، وجعلوه يدفع الكثير من المال. رأيي هو أن القنصلية المصرية تتعامل بشكل غير إنساني مع المسافرين السودانيين. تم تشكيل لجان الجوازات للتعامل مع القنصلية، وعندما انتشر الفساد والانتهاكات الإدارية، كان أول من قمع هو الحكومة السودانية. “
بعد أن قدم جواز سفره عبر اللجنة، وبعد أسبوعين تم إرجاع جواز السفر لعدم إفادة للرقم الوطني، مما تركه عالقاً في عملية لا نهاية لها.
ذوي الإحتياجات الخاصة والحالات الطبية الطارئة أكثر الفئات تضرراً
مشقة السفر منهكة للإنسان العادي فما بالك بكبار السن وذوي الإحتياجات الخاصة أو ممن يعانون من أمراض مزمنة، بعد أن فقدوا جميع ما يمتلكون وليس لديهم المال الكافي في وجهة السفر هذه نحو المجهول حيث يتعرض فيها البعض إلى الإنتهاكات أو الإستغلال. هناك عوائل إتخذوا الشارع مأوى لهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.
وصف محمد أحمد، متطوع في مركز طوارئ حلفا من ذوي الإحتياجات الخاصة من الخرطوم، معاناته مع عدم الحصول على تأشيرة دخول الى مصر بعد مُضي اكثر من شهر قائلاً: “كنت أسكن في ضاحية الديم في الخرطوم، وحضرت مع عائلتي هرباً من الإشتباكات المسلحة. حيث قمنا بإخلاء منازلنا بناءاً على طلب ونداءات متكررة من إمام مسجد الحي بإخلاء المنزل، و بعد خروجنا قام الدعم السريع بالإستيلاء على منزلنا. كانت رحلتنا طويلة جداً تخللها توقف في شندي مروراً بعطبرة ومنها إلى حلفا. تم تسجيل اسمي مع الحالات الخاصة في القنصلية ولم يتم إستخراج التأشيرة بعد. أجلس أمام القنصلية من الصباح وحتى العصر على أمل استلام جواز سفري بدون فطور أو غداء بالإضافة لإرتفاع درجة حرارة الجو.”
معابر قصيرة لكنها أبعد مما تبدو عليه
لا يفصل معبر اشكيت في الجانب السوداني عن معبر قسطل في الجانب المصري سوى عدد قليل من الأمتار، فقط حائط به سور يتوسطه باب حديدي وبهو ليصبح بوابة الدخول أو الخروج لجانبي المعبر. لكن بسبب إكتظاظ المسافرين والإجراءات الطويلة من تفتيش وتدقيق في الهويات تأخذ رحلة الوصول من الجانب السوداني الى الجانب المصري إذا كنت محظوظاً على الاقل 48 ساعة أي يومين، حيث بلغ عدد أيام ا لعبور إلى اكثر من أسبوع في بعض الأحيان، وهو شيء جنوني لايكاد يصدقه عقل. لا يتوفر على الجانب السوداني أي نوع من الخدمات. لاتوجد مطاعم أو فنادق فقط عدد من بائعات الشاي وعمال حمل الأمتعة وبائعين متجولين يبيعون الماء والمشروبات الغازية بضعف ثمنها. يوجد حمام واحد بتكلفة 200 جنيه للفرد وهي تكلفة عالية للدخول إلى الحمام، وتوجد أيضاَ حمامات المسجد لكنها قذرة للغاية مع عدم وجود الماء. لذلك قرر البعض عدم تناول الطعام أو شرب كميات كبيرة من الماء حتى لا يضطرون للذهاب الى الحمام، بالرغم من إرتفاع فظيع لدرجات الحرارة.
لقد تعرضت يدي للحرق في حلفا داخل مركز الإيواء للطوارئ ولم أحصل على الرعاية الطبية اللازمة، وعندما وجدت مرهم لعلاج الحريق اكتشفت أن ثمنه يبلغ 9 آلاف جنيه سوداني وهو مبلغ كبير. لقد عانيت كثيراً على الجانب السوداني في “معبر اشكيت“.
تغير كل ذلك لحظة وصولنا إلى الجانب المصري “قسطل” حيث استقبلتنا منظمة الغذاء الدولية بوجبة وعصائر وماء، وتم علاج الحرق في يدي في مستشفى الهلال الاحمر المصري، عندها فقط شعرت أنني بدأت أستعيد عافيتي.
عيادة الهلال الاحمر المصري في الجانب المصري “معبر قسطل“
استمرت الرحلة حتى وصلنا إلى “موقف كركر” وهي آخر محطة للباصات السودانية، منها ركبنا عبارة بحرية لمدة أقل من ربع ساعة. كان المنظر على ضفاف النيل جميل وخلاب في الصباح الباكر. لكننا اضطررنا للمبيت في الطريق قبل العبور بسبب مواعيد العمل حيث تبدأ الساعة السادسة صباحاً وتنتهي الساعة السادسة مساء، ولاتعمل العبارة اثناء الليل. كان الجو هناك شديد البرودة لا أدري لماذا لم يتم بناء فنادق ومطاعم وتوفير خدمات للمسافرين في هذه المنطقة؟
تعكس هذه القصص الوضع السييء والظروف المحيطة بالعالقين المسافرين/ات الذين يبحثون عن الأمان والعيش الكريم والرعاية الصحية. ما كتبته غيض من فيض، فهناك قصص ومآسي لا حصر لها، ممن يبحثون عن الحياة ويريدون العيش في سلام باحثين في مصر الدولة الشقيقة عن الملاذ الآمن لجميع الفئات. ليس من المستغرب أن يتدفق السودانيون إلى مصر أولاً ثم وجهات أخرى بأعداد أقل، والعديد من السودانيين لديهم تاريخ طويل من السياحة والتجارة والرعاية الصحية وأكثر من ذلك بكثير مع جارنا الشمالي، بصرف النظر عن ألفة الشعب المصري، اللغة والمناظر الطبيعية المألوفة. على الرغم من التحديات العديدة التي يواجهها الناس حتى اليوم للوصول إلى مصر، فمن الأهمية بمكان أن تنظم البلاد دخول السودانيين الفارين من الحرب المدمرة عبر المعابر الحدودية دون إعاقة ذلك.
شارك: