حول إعادة قراءة التراث الفكري الإسلامي
يسود في المجتمعات الإسلامية المعاصرة – سواء كانت تلك التي تمثل الأغلبية أو الأقلية في بلدانها – نوع من الفهم للنصوص يغلب عليه الاستسهال المخل والذي يتعارض مع التقاليد الفكرية العريقة للإسلام فلا يسعنا نحن المهتمين بدراسة الفكر الإسلامي، خصوصًا الفقه وأصول الفقه وعلم الكلام واللغة، إلا أن نشعر بالإحباط إذ نشهد هذا التدهور الحاد في تراث فكري كان يتسم فيما مضى بالحيوية والدينامية. فعلماء الدين حاليًا، يزداد اتجاههم إلى منهجيات وتيارات الإحيائية الجديدة، وذلك على حساب العناصر الإيجابية للتراث الفكري الإسلامي الذي يتسم بالثراء والعراقة.
تكمن المشكلة الأخرى في كون الباحثين المسلمين الجادين والمهتمين بإعادة صياغة الفكر الديني على النحو الذي دعا إليه المفكر الهندي محمد إقبال لم ينجحوا حتى الآن في التقدم بمنهجية وأساس نظري متماسك يصلح لتفسير التراث الإسلامي. وبالرغم من الارتباك الذي يعم اليوم المذاهب الإسلامية (التي تعود إلى العصر الوسيط) تحت تأثير الحداثة، فهي لا تزال متشبثة بمواقعها بالقدر الذي يمنع أية مداخل مجددة لفهم الإسلام من اكتساب الشرعية.
وإذا نظرنا إلى الاتجاهات التفسيرية الجديدة التي تسعى مثلاً لمنح النساء حقوقاً معينة مثل ارتياد المساجد أو تولي منصب رئاسة الدولة، فإننا نجدها تقلب في الملفات الفكرية للإسلام وتقوم بتجميع عشوائي للآراء الدينية المناسبة في سبيل إضفاء الشرعية على الاحتياجات المعاصرة، وخلال هذه العملية لا يتم الالتفات بقدر كاف للتاريخ نفسه وللتناقضات التي تنشأ عن جمع الآراء بدون الانتباه إلى الأسس التي تقوم عليها. وهكذا فإننا نجد مقالات تستند إلى آراء تجمع جنباً إلى جنب ابن حزم العالم الظاهري من الأندلس، وأبي الحسين البصري المعتزلي والشافعي، وأبي حنيفة،والسرخسي، جنبًا إلى جانب لإثبات نقطة ما. ولا يتم التوقف كثيرا عند الاختلاف الشاسع بين منهج ابن حزم ومنهج أبي حنيفة مثلاً، والذي لم يكن ليدع لهما مجالاً للاتفاق حول أي موضوع لو جلسا معًا للنقاش. إن مثل هذا الأسلوب الذي يقوم على ترقيع آراء بينة الاختلاف في سبيل التقدم بحجة تمكن النساء من تولي الرئاسة مثلاً، يمكن أن يعد خطوة تحررية ولكن بصورة مؤقتة جدًا. فالتناقضات الداخلية الحتمية في الأساس الفكري لمثل هذه الحجج لا تسمح بتقديم حلول طويلة الأجل، ولن يلبث أن يمر عامان أو عشرة أعوام ثم تظهر قضايا جديدة تستدعي جولة جديدة من استدعاء الآراء من الماضي. إن السبب الرئيسي – في رأيي – لهذا الوضع القائم هو أن المفكرين المسلمين المعاصرين لم يقوموا بتطوير منهج بحثي متكامل لتفسير النصوص والمصادر يجد أسسه في الحاضر. يعني ذلك أن التطور الذي نشأ على مدى ثمانمائة إسهام ملحوظ في نظريات التفسير، وأن تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية والذي كان للمسلمين دور هام في صياغتها وتبنيها وتطبيقها، ليس له أثر يذكر على فهمنا وتفسيرنا ولا على فهمنا للمجتمع وحركته. قد تكون مفاجأة لبعض الناس أن يعرفوا مثلاً أن العالم المصري الحنفي المذهب سعد الدين التفتزاني ( ٧٩١ هـ / ۱۳۸۸م) كان يرى أن الأحكام تُستمد من “الخطاب” أو السياق وليس من “النص” وحده منعزلاً عن سياقه، فلا يمكن أن نستنتج تلقائيًا مما ورد بشأن تعليق للرسول (صلى الله عليه وسلم) على حال النساء في إمبراطورية فارس،إن ذلك معناه أن النساء المسلمات لا يصلحن للقيادة السياسية، حيث أن الحكم يُشتق – كما أشار التفتزاني – من “الخطاب” الذي هو أكثر شمولاً وتعقيدًا من “النص“. كذلك من خلال دراستي لأعمال بعض المفسرين المسلمين من أمثال ابن جرير الطبري (۳۱۰ هـ / ۹۲۳۰ م) وفخر الدين الرازي ( ٦٠٦ هـ / ۱۲۹۰ م)، صادفت تعليقًا إيجابيًا بشأن التفسير المقصود بـ “السفهاء” الذين أشار إليهم النص القرآني. فبينما نجد المفسرين الأوائل، بما فيهم بعض الصحابة قد اجتمعوا على أن المقصود بالسفهاء هو النساء والأطفال (مما قد يوحي بكون ذلك الاعتقاد عنصرًا ثابتًا في بنية الثقافة العربية)، نجد مع ذلك الطبري بعد ثلاثمائة عام والرازي بعد ستمائة، قد ابتعدا عن هذا التفسير بالنقل بما له من سلطة وقالا أن السفاهة ليست صفة مرتبطة بالجنس وإنما صفة تنطبق على أي شخص يعاني من بعض خصائص العجز الذهني. هذه وغيرها من أمثلة توضح كيف تميز التاريخ الإسلامي بوجود عملية متواصلة من إعادة صياغة الفكر الاجتماعي وبوجود تنوع وتعدد حي في الأفكار. فالعالم الشهير أبو حامد الغزالي لجأ إلى استخدام أشكال من فكر أرسطو في مناقشاته لأصول الفقه والمنطق. كما أن هناك من اختلفوا معه وأصروا على اتباع منهج الإمام الشافعي بصفته يمثل الفكر العربي الصميم دون إضافات.
إن الباحثين الجادين في مجال تجديد وإعادة بناء الفكر الإسلامي العريق في حاجة إلى إعادة فهم أنماط ومناهج المفكرين الإسلاميين الأوائل وفحصها بصورة أكثر فاعلية بهدف تعريف الجيل المعاصر بخريطة الفكر للماضي الإسلامي. ونحن نأمل أن يضطر القائمون بالتفسير الحرفي والمتطرفون في عصرنا الحديث إلى مراجعة أنفسهم تحت تأثير عظمة هذا الفكر وطبيعته المبهرة قياساً إلى أوانه. إن مستقبل الفكر المُجدّد للتراث الإسلامي يتوقف على إمكانية تمهيد سبيل سهل ومفهوم أمام قراءة الماضي كنموذج لما كان يحدث وكمادة لتحليل دلالاتها المختلفة وخطاباتها المتغيرة.
هوامش
د. إبراهيم موسى أستاذ مساعد زائر في جامعة ستانفورد وله منصب دائم في الدراسات الدينية بجامعة كيب تاون في جنوب أفريقيا، كما أنه المؤسس والمدير لمركز الإسلام المعاصر في نفس الجامعة. وهو مهتم بدراسة الفكر الإسلامي الحديث والوسيط خصوصًا الفلسفة الأخلاقية والشريعة الإسلامية.