حول تعريف مفهوم الحركة
هناك صعوبة في محاولة تعريف مفهوم الحركة من خلال كلمات أو عبارات مختصرة؛ فالحركة – بالمعنى الجسدي– تعني التحرك من مكان إلى آخر، أو تحريك شيء من مكان إلى آخر، أو تحرك في وضع الجسد لا يعني بالضرورة الانتقال إلى موقع جغرافي مختلف، كأن نقول – مثلاً – إن رد الفعل الذي يتجلى في تعبيرات وجه شخص ما يشير إلى الدهشة أو الاستغراب.
أما بالمعنى الاجتماعي، فيمكن الإشارة إلى الحركة باعتبارها القيام بعدد من الأنشطة للدفاع عن مبدأ ما، أو للوصول إلى هدف ما؛ أي أن الحركات الاجتماعية مرتبطة بوجود أهداف يراد تحقيقها. فلا يمكن أن تولد الحركة الاجتماعية من فراغ، أو لمجرد التحرك، كما تعد الحركات الاجتماعية شكلاً أشكال التحرك، أو النشاط الاجتماعي الذي يضم في صفوفه مجموعات غير رسمية من الأفراد و/ أو المنظمات التي تستهدف إحداث التغيير الاجتماعي بالمعنى الواسع للكلمة؛ إنها تشمل مجموعات من البشر يحملون عقيدة أو أفكاراً مشتركة، ويحاولون تحقيق بعض الأهداف العامة.
ويتضمن مفهوم الحركة الاجتماعية وجود اتجاه عام للتغيير؛ فلا يمكن حسبان الأنشطة الصغيرة المعزولة هنا أو هناك في عداد الحركة الاجتماعية؛ وبالتالي، فإن تعبير الحركة يرتبط بالقدرة على التعبئة، وخلق الرأي العام، أي بالفور بقدر من الشعبية والقبول العام.
كما يشير البعض (1) إلى أن الحركة الاجتماعية هي محاولة قصدية للتدخل في عملية التغيير الاجتماعي، وهي تتكون من مجموعة من الناس يندرجون في أنشطة محددة، ويستعملون خطابا يستهدف تغيير المجتمع، وتحدي سلطة النظام السياسي القائم. كما يقترن مفهوم الحركة الاجتماعية بمفهوم القوة الاجتماعية، والقدرة على التأثير وإحداث التغيير، والقدرة على الاستمرارية، والتلاحم، والتشبيك، والتنسيق.
ومن المهم هنا، الإشارة إلى أن الحركات الاجتماعية تترعرع وتنمو بطريقة أفضل فی المناطق المواتية لحرية التعبير، أي التي يسود فيها قدر من الديمقراطية، وتسمح للقواعد الشعبية باجتياز المجال العام. وهو الأمر الذي يفسر انتشار حركات اجتماعية واسعة في مجتمعات ما دون غيرها. وعادة ما تنبع الحركات الاجتماعية نتيجة لحدث معين، أو لبروز شخصية كاريزماتية تمثل عامل استقطاب؛ وتليها سلسلة من الأعمال المتلاحقة يكتشف خلالها الناس أنهم يحملون قيمًا، وأفكارًا، وتطلعات مشتركة، وتشكل في مجملها الحركة الاجتماعية.
ويمكن الإشارة بإيجاز إلى أربع نظريات أساسية حول الحركات الاجتماعية(2)،هي:
* نظرية السلوك الجماعي (collective behavior theory) التي أطلقها بعض المفكرين حول الحركات الاجتماعية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. وقد ربطت هذه النظرية مفهوم الحركات الاجتماعية بحدوث أنشطة مثل: الهبات الجماهيرية، والمظاهرات، وأشكال من الهستريا الجماعية؛ أي بردود أفعال– ليست بالضرورة منطقية تمامًا– في مواجهة ظروف غير طبيعية من التوتر الهيكلي بين المؤسسات الاجتماعية الأساسية؛ ويرى أصحاب هذه المدرسة أن الحركات بهذا المعنى قد تصبح خطيرة (مثل الحركات الفاشية في ألمانيا، وإيطاليا، واليابان). كما تعتبر مقاربة السلوك الجماعي أن الحركات الاجتماعية انعكاس لمجتمع مريض؛ حيث لا تحتاج المجتمعات الصحية إلى حركات اجتماعية، بل تتضمن أشكالاً من المشاركة السياسية والاجتماعية.
* نظرية تعبئة الموارد (resource mobilization theory) التي تطورت منذ الستينيات؛ وتستند هذه المقاربة إلى تشكيل الحركات الاجتماعية وطرق عملها وفقًا لتوافر الموارد (خاصة الموارد الاقتصادية، والسياسية، والاتصالية) المتاحة للمجموعة، والقدرة على استعمال تلك الموارد. ويرى منظرو هذه المقاربة أن الحركات الاجتماعية عبارة عن استجابات منطقية لمواقف وإمكانيات طرأت حديثًا في المجتمع؛ وبالتالي، لا ينظر إليها على أنها مظاهر لخلل اجتماعي، بل جزء من العملية السياسية. وتهتم هذه المقاربة بالتأثير المباشر للحركات– القابل للقياس– على القضايا السياسية؛ بينما لا تعير اهتمامًا كبيرًا لأبعاد هذه الحركات على المستوى الفكري، ومستوى رفع الوعي، وبلورة الهوية.
* نظرية الحركة الاجتماعية الجديدة (new social movement theory) التي تطورت في أوروبا لتبرير مجموعة من الحركات الجديدة التي تمت خلال الستينيات والسبعينيات. وتنظر تفسيرات هذه النظرية إلى الحركات الاجتماعية باعتبارها انعكاسًا للتناقضات الكامنة في المجتمع الحديث نتيجة للبيروقراطية المفرطة، وكحل لها. كما يرى أصحاب هذه النظرية أن الحركات الاجتماعية الجديدة– اختلافًا مع الحركات الاجتماعية القديمة– ناتجة عن بروز تناقضات اجتماعية جديدة، متجسدة في التناقض بين الفرد والدولة؛ وهو ما يجعل هذه المقاربة تنتقل من المصالح الطبقية إلى المصالح غير الطبقية المتعلقة بالمصالح الإنسانية الكونية.
ويقال إن هذه الحركات الاجتماعية الجديدة تهتم أكثر بتطوير الهوية الجماعية عن اهتمامها بالأيديولوجيات القائمة؛ كما تميل إلى البروز من صفوف الطبقة المتوسطة بدلاً من الطبقة العاملة.
* نموذج الفعل– الهوية (action-identity paradigm)، وهي النظرية التي ترى أن الحركات الاجتماعية تحول دون الركود الاجتماعي، وهي تقوم ضد الأشكال المؤسسية القائمة والمعايير المعرفية المرتبطة بها؛ أي أنها تقوم ضد المجموعات المهيمنة على عمليات إعادة الإنتاج الاجتماعي والاقتصادي، وتشكيل المعايير الاجتماعية. ويرى بعض المروجين لهذه النظرية أن هناك إحلالاً تدريجيًا يتم فيه استبدال الشكل القديم للرأسمالية الصناعية بمجتمع مرحلة ما بعد التصنيع القائم على «البرمجة»، والذي يتميز بأنماط مختلفة تمامًا من العلاقات والصراعات الطبقية. ففي المجتمع «المبرمج» يشكل التكنوقراط الطبقة المهيمنة، بينما ينتهي دور الطبقة العاملة كمناضل أساسي ضد الأوضاع القائمة؛ وبالتالي يرون أن الصراع الطبقي أساسًا ذو طبيعة اجتماعية – ثقافية، وليس ذا طبيعة اجتماعية– اقتصادية.
وإلى جانب التصنيف السابق، يمكن النظر إلى الحركات الاجتماعية من حيث:
* الحركات ذات الطابع الإصلاحي التي تسعى إلى تغيير بعض القواعد التي غالبا ما تكون قانونية. من أمثلة ذلك، اتحادات النقابات التي تستهدف النهوض بحقوق العمال، أو حركات الخضر التي تناضل من أجل تبني عدد من القوانين المتعلقة بالبيئة، أو حركة تدعو إلى إدخال تشريع عقابي ذي طابع جوهري. كما قد تنادي بعض الحركات الإصلاحية بتغيير في العادات والتقاليد المعنوية، مثل إدانة الإباحة الجنسية.
* هناك أيضًا الحركات ذات الطابع الراديكالي الجذري التي تسعى إلى تغيير بعض النظم القيمية؛ وهي تتبنى آفاقًا أوسع من تلك التي تناضل من أجلها الحركات الإصلاحية. على سبيل المثال، تندرج في هذا الإطار حركة «تضامن» البولندية التي نادت باستبدال النظام السياسي والاقتصادي والشيوعي بالديمقراطية والرأسمالية. كما يمكن إدراج الحركة الأمريكية للمطالبة بالحقوق المدنية المتساوية للجميع بغض النظر عن العرق في السياق نفسه.
* تختلف أيضًا الحركات الاجتماعية من حيث أساليب العمل. فهناك الحركات السلمية المناهضة للجوء إلى العنف، ومن أمثلتها حركات العصيان المدني المرتبطة بالمهاتما غاندي. وإلى جانب تلك الحركات، توجد حركات اجتماعية عنيفة، منها حركات المقاومة المختلفة، وصولاً إلى الحركات الإرهابية.
* كما تتباين الحركات الاجتماعية من حيث نوعية التغيير المراد تحقيقه؛ فهناك الحركات الإبداعية التي تعمل من أجل إدخال مفاهيم وقيم جديدة، مثل الحركة المدافعة عن التفرد التكنولوجي؛ بينما توجد حركات محافظة تنشط من أجل الحفاظ على القواعد، والأسس الموجودة، ويدخل في إطارها الحركات المناهضة للتطور التكنولوجي، إلخ.
* كما تتباين الفئات المستهدفة من الحركات الاجتماعية؛ فهناك الحركات التي تتمحور على المجموعات، بينما توجد حركات تتمحور وتركز على الأفراد. تهتم الفئة الأولى بالتأثير على مجموعات اجتماعية، أو على المجتمع ككل، للمناداة بتغيير النظام السياسي على سبيل المثال. أما الفئة الثانية، فهي تسعى إلى التأثير على الأفراد؛ وتدخل أغلبية الحركات الدينية ضمن هذا التصنيف.
* هناك أيضا فروق تتعلق بعمر الحركة؛ فالحركات القديمة– مثل حركات القرن التاسع عشر التي توجهت لفئات اجتماعية محددة– سعت عامة إلى تحقيق بعض الأهداف المادية، كالنهوض بمستوى حياة طبقة اجتماعية معينة. أما الحركات الجديدة– التي برزت منذ النصف الثاني للقرن العشرين (الحركات النسائية، حركات السلام، حركات مناهضة العولمة، إلخ. )- فقد اهتمت أساسًا بتحقيق أهداف غير مادية.
ويجدر الإشارة إلى أن هناك عوامل محورية ساهمت في بروز الحركات الاجتماعية، منها عملية الانتقال إلى الحياة الحضرية التي ساعدت على خلق المدن الكبيرة، حيث يصبح التفاعل الاجتماعي بين البشر أسهل. ففي تلك المدن الكبرى، يستطيع الناس الذين لهم أهداف وتطلعات مماثلة العثور على بعض، والالتقاء ببعض، وتنظيم أنفسهم وأنشطتهم. كما ساعدت التطورات الصناعية– في أزمنة سابقة– على تجمع أعداد هائلة من العمال في مناطق مشتركة، مما أدى إلى البروز المبكر للحركات الاجتماعية التي تدافع عن مصالح هذه الطبقة. غير أن أنماط الصناعة الحديثة– المستندة بطريقة متنامية إلى البرمجة التي تؤدي إلى عمل الناس في جزر شبه منعزلة– قد تؤدي مستقبلاً إلى إضعاف القدرة على توليد ونمو حركات اجتماعية. نشير أيضًا إلى دور التعليم في نشأة الحركات الاجتماعية؛ حيث أتاحت المؤسسات التعليمية المختلفة فرصة تجمع أعداد كبيرة من الناس؛ وهو ما انعكس في الحركات الطلابية الكبيرة التي شهدتها بلدان متعددة منتصف القرن الماضي.
وحيث إن هناك جدلاً دائراً حول طبيعة الظواهر التي تجري حولنا (حركة أم منظمات محدودة؟)، ووفقًا للمقاربة التنموية الشاملة التي تشكل قضايا حقوق الإنسان محورًا أساسيًا داخلها، فإن مبدأ المشاركة يعد من المفاهيم الجوهرية– التي لا غني عن مراعاتها – لإنجاز التعبئة حول فكرة أو قضية معينة. ذلك أن حشد الناس حول فكرة يدخل في مجال التغيير الثقافي الذي ربما يكون من أصعب مجالات التدخل؛ وهو الأمر الذي يتطلب التشاور، والتحاور، والتفاوض، والتعليم، والتعلم، وقبول الاختلاف والتعدد.
نولة درويش: عضوة مؤسسة بمؤسسة المرأة الجديدة.
(1) https://www.killer-essays.com
(2) https://lucy.ukc.ac.uk/csacpub/russian/mamay.html