خلق المرأة المصرية الجديدة
يقع كتاب خلق المرأة المصرية الجديدة: الأنماط الاستهلاكية، التعليم والهوية القومية 1863- 1922 (*) لكاتبته منى ل. رسل في 237 صفحة من القطع المتوسط بخلاف المقدمة والخاتمة، ينقسم الكتاب الى جزءين؛ الأول بعنوان: المنزل، الأنماط الاستهلاكية والمرأة الجديدة، وتندرج تحته أربعة فصول: المنزل والمدينة والدولة التي بناها إسماعيل؛ أنماط من الاستهلاك والتطوير الحضري (1879 -1922)؛ الإعلانات والثقافة الاستهلاكية في مصر: خلق نمودج السيدة الاستهلاكية؛ السيدة الاستهلاكية و “المرأة الجديدة“. أما الجزء الثاني من الكتاب فهو بعنوان: تعليم المرأة الجديدة ويحتوى على ثلاثة فصول: التعليم: خلق الأمهات، الزوجات، العاملات، المؤمنات والمواطنات؛ الخطاب حول تعليم الإناث؛ الكتب الدراسية: رسم الأدوار والحدود. ويتناول الكتاب ارتباط بداية تعليم الإناث بظهور بعض الأنماط الاستهلاكية الغربية في المجتمع المصرى، وارتباطه فيما بعد ببعض السياسات الاقتصادية.
يبدأ الجزء الأول من الكتاب والمعنون “المنزل، الأنماط الاستهلاكية والمرأة الجديدة” بفصل يتناول المنزل والمدينة والأمة التي بناها إسماعيل مستعرضًا البذخ في الصرف على بناء القصور الملكية منذ أيام محمد على وحفيده إسماعيل الذي سار على دربه. كما يقدم هذا الفصل نبذة عن الاهتمام بتعليم أبناء وبنات البيت الملكي حيث كانت تتم الاستعانة بالمربيات الأوروبيات لهذه المهمة. والجدير بالذكر أن الاهتمام بتعليم الإناث لم يكن جديداً على البلاط أو على الطبقة العليا، ولكن الاختلاف في عصر إسماعيل كان في المناهج وطرق التدريس، فقد أضيف تعليم الكتابة عام 1870 بجانب قراءة العربية والتركية والفارسية. وتشير الكاتبة إلى أن التعليم في “الحرملك” لم يقتصر على الأميرات ولكن شمل أيضا الجواري اللاتي كان يتم تعليمهن لعدة أسباب، منها العمل كعازفات، وراقصات، وكوميديانات أو ممثلات صامتات بغرض الترفيه عن نساء الحرملك، أو لإثارة حمية الأحرار للدراسة من خلال المنافسة مع صغار العبيد من الإناث والذكور الذين كانوا يتعلمون إلى جانبهم، و كان العبيد المتفوقون يحصلون على تعليم عال لكي يلتحقوا بأعمال السكرتارية، وأخيراً كان تعليم الجواري يتم لاحتيال زواجهن برجال الطبقة العليا المتعلمين. فقد كان الزواج من جواري العائلة المالكة شرفاً عظيمًا. وكانت الجارية تمنح عند زواجها مجوهرات ومفروشات لمنزلها وأحياناً كانت تمنح منزلاً كجزء من مهرها، وكانت الحماية الملكية تشملها حتى بعد الزواج.
وكما اتبع إسماعيل البذخ في الصرف على بناء قصوره وملئها بكل المستحدثات الأوروبية فقد نحا المنحي نفسه فيما يختص بالبلد ككل. وبالفعل بدأ نهضة شاملة في مصر مع التركيز على القاهرة والإسكندرية وكبرى مدن الدلتا، حيث قام بتمهيد الطرق، وشق القنوات، وبناء الجسور، ومد خطوط السكك الحديدية وخطوط التلغراف والتليفون، كما قام باستحداث وحدة مطافئ ووحدة شرطة خاصة للإشراف على المرور، وذلك بالإضافة إلى بناء أحياء جديدة في القاهرة على الطراز الأوروبي مثل حي الإسماعيلية والأزبكية والتي أمد شوارعها بلمبات الغاز وبيوتها بالمياه الجارية. كما اهتم بإنشاء الحدائق العامة خاصة حديقة الأزبكية التي ضمت مطاعم ومقاهي وأكشاكًا للموسيقى ومسرحًا الخ. واهتم إسماعيل كذلك بإنشاء المتاحف والمكتبات والمعاهد التعليمية، فعهد إلى عالم المصريات الفرنسي مارييت Mariette ببناء المتحف المصرى. وفي عام 1870 تم افتتاح المكتبة الخديوية (دار الكتب الآن) ومرصد للأجرام السماوية بالعباسية، كما كثرت في عهده الجمعيات العلمية والثقافية. ومن أهم الأحداث في عهد إسماعيل افتتاح قناة السويس عام 1869 والتي كان قد بدأ الحفر فيها قبل عشر سنوات (في عهد سعيد). وقد دعا إلى تلك المناسبة الملوك والأمراء والرؤساء من جميع أنحاء المعمورة كذلك الشخصيات العالمية في جميع المجالات. وقد تبع ذلك في عام 1871 الافتتاح الرسمي لدار الأوبرا المصرية بأوبرا “عايدة” (للموسيقار الإيطالي فردى Verdi) والتي كتبت ولحنت خصيصًا لتلك المناسبة. كذلك ازدهرت الصحافة في عهد إسماعيل حيث كانت تكتب عن السياسة والمظاهر الأوروبية في المجتمع المصري، كما شغلت بمسألة استقلال مصر. ولكن للأسف فإن خطط إسماعيل لتحديث مصر أدت إلى إغراق البلاد في سلسلة من الديون أدت إلى وقوع مصر تحت سيطرة الدائنين الإنجليز والفرنسيين، حيث قام الإنجليز فيما بعد بإجبار إسماعيل على التنازل عن الحكم لابنه توفيق.
ينتقل الفصل الثاني من الجزء الأول من الكتاب للحديث عن “أنماط الإستهلاك والتطوير الحضرى فيما بين عامي 1879 و 1922″، حيث بدأت الطبقة العليا في مصر في محاكاة نمط إسماعيل الغربي في الإستهلاك. زادت الجالية الأجنبية في عهده وتركزت في القاهرة والإسكندرية والمدن الكبرى بالدلتا. وصارت الفنادق في عهد إسماعيل ملتقى للأجانب والطبقة العليا ومركزًا للموضة. كذلك انتشرت المحلات الراقية والنوادي الرياضية والمسارح والمقاهي والمطاعم والبارات. وكانت دار الأوبرا تستقدم الفرق الفرنسية والإيطالية الشهيرة خلال موسم الشتاء. وانتشرت الحدائق العامة وامتدت إلى أحياء الطبقة المتوسطة، وكانت تقام بها معارض للزهور والصور ومعارض ثقافية. كما افتتحت حديقة الحيوان عام 1891 (كان قد تم التخطيط لها في عهد إسماعيل)، وبدخول الكهرباء زادت أوجه الترفيه في مصر فافتتحت أول دار سينما عام 1906، ولكنها لم تنتشر بدرجة كبيرة حتى عشرينيات القرن. أما صناعة السينما المصرية فبدأت في الثلاثينيات. وقد اهتم إسماعيل بالبنية التحتية خاصة في القاهرة والإسكندرية وبدرجة أقل في كبرى مدن الدلتا (وذلك لتسهيل حركة البضائع من مواقع الإنتاج في الريف إلى مواقع الاستهلاك في المدن الكبرى) فظهر نظام جديد لترقيم الشوارع والبيوت، كما ظهر الترام لأول مرة في القاهرة عام 1896 وتلاه خط في الإسكندرية في العام التالي. وقد سهل كل ذلك عملية التوسع في بناء الضواحي فظهرت ضاحية مصر الجديدة التي بناها البارون إمبان Baron Empain (صاحب حق امتياز بناء أول خط ترام في مصر)، كما ازدهرت ضاحية العباسية والظاهر والفجالة حيث اجتذبت هذه الضواحي الطبقة البرجوازية الصاعدة. وقد تغير أسلوب بناء المنازل فاستغنى عن النظام المملوكي ذي المشربيات الخشبية واستبدل بالأسلوب الأوروبي في البناء مع استخدام الأسوار العالية والبوابات للحفاظ على خصوصية السكان. كذلك تأثر التقسيم الداخلى للمنازل وأسلوب الفرش بالنمط الأوروبي وأصبح للمرأة دور أكبر في اختبار المنازل ومفروشاتها. ولم يسلم النمط الغربي الذي استحدثه إسماعيل وتبعته فيه الطبقة العليا من النقد في الصحف المصرية على يد كتاب مثل محمد المويلحي وعبد الله النديم بسبب خوفهم من التأثير السلبي للتقليد الأعمى لأسلوب الغرب وعاداته وعدم ملاءمته لعاداتنا وتقاليدنا الشرقية خاصة بالنسبة لملابس النساء، كذلك كان هناك هجوم على استخدام الأدوية الغربية والصيدليات والأطباء ومنتجات الصحة والجمال وعادات الغرب الاستهلاكية في الطعام والشراب والتدخين وأسلوب حياتهم عامة، بالإضافة إلى تعرض المواصلات العامة وأماكن الترفيه الجديدة للنقد لما تؤدى إليه من تداخل بين الجنسين. وبصورة عامة فقد انتقدت سياسة إسماعيل التوسعية ونشره للنمط الاستهلاكي الغربي بسبب تأثير ذلك على مالية الدولة.
أما الفصل الثالث من الجزء الأول فيتناول “الإعلانات والثقافة الاستهلاكية في مصر: خلق نموذج السيدة الاستهلاكية“، حيث تعرض الكاتبة أولاً لنمو الثقافة الاستهلاكية والإعلانات في الغرب ثم تتطرق لنموها في مصر خاصة بين الطبقة المتوسطة وما تلى ذلك من ظهور مناطق جديدة للتسوق. كذلك تعرض لدور الإعلانات في تعريف المواطنين بالخدمات والبضائع الجديدة في الأسواق، وما أدى إليه من ظهور ما يسمى بـ السيدة الاستهلاكية. وتوضح الكاتبة أن هذه الثقافة لم تظهر فجأة كرد فعل للغرب بل كانت موجودة طوال القرن الثامن عشر من خلال وجود “الدلالة” والأسواق التقليدية والوكالات. لكن مع التوسع في البنية التحتية خلال القرن التاسع عشر، من إنشاء طرق وكباري وموانئ وسكك حديدية، تغير النمط الاستهلاكي للمصريين. كذلك فقد أدى تطوير حي الأزبكية وازدحامه بالقنصليات الأجنبية والفنادق الفاخرة والمطاعم والمقاهي والمحلات إلى أن أصبح نواة لمنطقة تسوق حديثة في قلب القاهرة. أما بالنسبة لاستخدام الإعلانات في الجرائد والمجلات، فتشير الكاتبة إلى اختلاف طبيعته عن مثيله في الغرب لكونه موجهاً بالأساس نحو الطبقة العليا والمتوسطة العليا من قاطني الحضر في الدلتا. كما تلاحظ الكاتبة أن الغالبية من قراء الإعلانات كانوا من الرجال خاصة المسيحيين والأجانب، لكن ذلك لم يمنع النساء من الإطلاع على تلك الإعلانات من خلال أزواجهن أو أولادهن أو عن طريق اشتراكات المجلات في مدارس البنات. ثم تعرض الكاتبة لتطور الإعلانات في الجرائد والمجلات المصرية بداية من النصف الثاني من القرن التاسع عشر وصولاً إلى ظهور المرأة المصرية في الإعلانات في أعقاب الحرب العالمية الأولى كطريقة لجذب انتباه المستهلكات وما أدى إليه ذلك من ظهور السيدة الاستهلاكية.
أما الفصل الرابع والأخير من الجزء الأول من الكتاب فيتناول “السيدة الاستهلاكية والمرأة الجديدة“، وفيه توضح الكاتبة اختلاف طبيعة جمهور قراء الصحافة النسائية في مصر مقارنة بنظيره في الدول الغربية نتيجة لصغر حجم، هذا الجمهور الذي يتكون معظمه من أبناء الطبقة العليا. وكان ظهور السيدة الاستهلاكية هو أحد أوجه “المرأة الجديدة” مع مطلع القرن العشرين بعد إصدار قاسم أمين لكتابيه تحرير المرأة (1899) والمرأة الجديدة (1900). وعلى الرغم من أن البعض اعتبر قاسم أمين أبا للحركة النسائية في مصر فإن هناك آخرين رأوا أنه لم يأت بجديد وأن كتاباته كانت استمراراً لما كتبه رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده من قبله (صـ 80). وفي هذا الشأن استعرضت الكاتبة عناوين العديد من الكتب التي تناولت موضوع المرأة الجديدة والتي نشرت في الفترة ما بين 1894 -1918، كما أشارت إلى احتمال أن يكون الجدل الواسع الذي أثاره كتابا قاسم أمين في الأوساط العامة وتبجيل مناصرات حقوق المرأة له لفترات طويلة بعد موته هو ما ساعد على شهرته. وعموماً فإن نموذج المرأة الجديدة كما ظهر في الصحافة كان يعرض لأهم أدوارها في المجتمع كزوجة وأم ومديرة لمنزلها، كما أبرزت الكتابات الصحفية دورها كشريكة لزوجها ومكملة لدوره داخل المنزل. وقد امتلأت الصحافة بمقالات تدعو إلى أهمية تعليم المرأة لما في ذلك من فائدة لها ولبيتها ولأولادها وللوطن بصفة عامة، حيث احتوت الصحف على أبواب ثابتة للمرأة مثل “باب تدبير المنزل” في صحيفة “المقتطف” التي كانت تحوي العديد من المقالات عن دور المرأة بجانب عرض نصائح عملية تفيد المرأة في شئون بيتها من طهي وحياكة وعمل ميزانية للمنزل والإشراف على الخدم وكيفية العناية بالمنزل عموماً. وعلى الرغم من التأكيد على أن نموذج المرأة الجديدة كان يحافظ على الحدود بين الرجل والمرأة وبين الخاص والعام، فإن انتشار التعليم والثقافة الاستهلاكية وما استتبعها من خروج المرأة من البيت قد أدى إلى تذويب تلك الحدود خاصة بالنسبة للطبقتين المتوسطة والعليا. وتعرض الكاتبة بعد ذلك لدور المرأة المصرية الجديدة في ثورة 1919 واشتراكها في المظاهرات وإقدامها على مقاطعة البضائع والخدمات الإنجليزية عام 1922 بتحريض من اللجنة المركزية للسيدات الوفديات بزعامة هدى شعراوي، وذلك على عكس ما كان عليه الوضع خلال الثورة العرابية (1882 – 1881) حيث كانت تلك الثورة مقتصرة على رجال الجيش المصري المطالبين بمساواتهم بزملائهم من العثمانيين وبالقيام بدور أكبر في الحكومة بالإضافة إلى تحجيم دور الخديو خصوصاً بعد إسراف إسماعيل الذي أدى إلى دخول الدائنين إلى مصر وتدخلهم في الحكم.
ويبدأ الجزء الثاني من الكتاب المعنون “تعليم المرأة الجديدة” بأبيات مختارة من قصيدة حافظ إبراهيم والتي استهلها بالبيت الشهير:
“الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق“
بما يعتبر دالاً على محتوى هذا الجزء. فالفصل الأول، بعنوان “التعليم: خلق الأمهات، الزوجات، العاملات، المؤمنات والمواطنات“، يبدأ بعرض ما كان عليه تعليم الإناث قبل القرن التاسع عشر، فيوضح أن المجال الوحيد المتاح للإناث من الطبقة الدنيا كان هو “الكتاب” حيث كن يدرسن جنباً إلى جنب مع إخوانهن من الذكور. وكان المنهج يشتمل عامة على تعليم القرآن والحديث وفي بعض الأحيان الشعر والحساب واللغة العربية. لكن من الواضح أن تعليم هذه المواد كان شفهياً فقط وليس كتابةً سواء بالنسبة للإناث أو للذكور (ص 100). أما بالنسبة للبنات الأقباط فقد كن يذهبن إلى مدارس قبطية موازية للكتاب وذلك في صعيد مصر حيث لم يكن يسمح لهن بالذهاب إلى تلك المدارس في القاهرة. وفى المقابل كان التعليم بالمنزل أحد الاختيارات المتاحة للفتيات الأقباط. أما بالنسبة لبنات الطبقة العليا فقد كن يتعلمن في بيوتهن على يد المربيات قراءة العربية والتركية والفارسية والشعر والقرآن والحديث.
ففي بداية القرن التاسع عشر بدأ اهتمام أكبر بتعليم البنات ليواكب حاجة الدولة لدخول النساء مجال العمل العام، حيث عمل محمد علي في عهده على إنشاء نظام تعلیمی مواز لما كان موجوداً، فأنشأ مدارس متخصصة للعلوم العسكرية والهندسة والطب تحت إشراف كامل للدولة، كما عمل على إيفاد بعثات للخارج. وبناء على نصيحة من مستشارة الطبي، الدكتور الفرنسي أنطوان كلوت Antoine B. Clot، أنشأ مدرسة الحكيمات عام 1832 والتحقت بها عشر طالبات من الجواري السودانيات والحبشيات لأن المصريين امتنعوا عن إلحاق بناتهن بتلك المدرسة نظراً لأن هيئة التدريس كانت تتكون من الرجال الأوروبيين في وقت كان فيه الاختلاط بين الجنسين شبه منعدم. وقد انضم إليهن في السنوات التالية بعض المصريات اليتيمات نظراً لتكفل المدرسة بكامل المصاريف من سكن ومأكل وملبس وخلافه. ولكن على الرغم من ذلك فلم يزد عدد الطالبات في عام 1840 علي إحدى عشرة طالبة، فلم تكن لمهنة الطب في ذلك الوقت هيبة أو احترام حتى بالنسبة للرجال. وكذلك فقد ابتليت الطالبات والأساتذة بتلك المدرسة بالأمراض المميتة. وقد اشتمل المنهج في مدرسة الحكيمات على تعليم اللغة العربية، والتطعيم، وطب الأطفال حديثي الولادة، والصيدلة، والجراحة وعلم الصحة العام إلى جانب أمراض النساء والتوليد. وكانت الخريجات تحصلن على الدرجة العلمية نفسها للرجال في مدرسة الطب. وقد حاولت الدولة تزويج خريجي المدرستين لبعضهم حتى يكونوا فريق يمكنه العمل في الأقاليم. أما في القصر الملكي، فقد استقدم محمد على وابنه إبراهيم من بعده المربيات الأوروبيات لتعليم أولادهم وتوسع هذا التقليد أكثر في عهد الخديو إسماعيل.
وفى عهد عباس وسعيد – ولأسباب اقتصادية – لم يكن هناك الحماس نفسه لإكمال ما بدأه محمد على من التكفل الكامل بالتعليم. أما إسماعيل فقد عمل على إعادة الحياة لنظام التعليم المنشأ في عهد جده محمد على بمساعدة رجال مثل رفاعة الطهطاوي وعلى مبارك وإبراهيم أدهم وغيرهم، حيث أعاد إنشاء ديوان المدارس (الذي ألغاه سعيد) وضمه إلى وزارة الأشغال العامة والوقف بغرض الإشراف الحكومي عليها. وقد أعاد كذلك فتح المدارس المتخصصة وقام بإنشاء مدارس ابتدائية في جميع الأقاليم وسعى نحو وضع نظام “الكتاتيب” تحت الإشراف الحكومي. كما بدأ في عهده فرض رسوم دراسية على القادرين فقط (الذين لم تزد نسبتهم علي 30% حتى قدوم البريطانيين). وفي عام 1867 كون إسماعيل لجنة لدراسة إمكانية إنشاء مدرسة ابتدائية للبنات. وبالفعل ظهرت في عام 1873 أول مدرسة ابتدائية للبنات أنشأها الخديو وتكفلت الحكومة بجميع مصاريفها. وقد أقيمت المدرسة الجديدة في منطقة السيوفية في قصر قديم أعيد تجديده لاستيعاب 200 فتاة مقيمة (داخلي) و 100 فتاة للحضور اليومي، حيث قامت المدرسة بدعوة الآباء من كل الطبقات لإرسال بناتهم للتعلم والإقامة الكاملة على حساب الحكومة ونشر إعلان في الجريدة الرسمية عن استعداد المدرسة لقبول البنات اليتيمات والفقيرات بجانب بنات الأغنياء. في البداية كان الإقبال من بنات الطبقة الدنيا ولكن مع الوقت بدأ الإقبال يزداد من جميع الطبقات حتى أنه في عام 1878 لم تكن توجد أماكن تكفى لاستيعاب كل المتقدمات. واشتمل منهج المدرسة على: القراءة، والكتابة، والدين، واللغة العربية، واللغة التركية، والحساب، وعلم الهندسة، ورعاية الأطفال ومبادئ الصحة، والطهي، والاقتصاد المنزلي وشغل الإبرة، وكذلك اشتمل المنهج الممتد لخمس سنوات على تدريس اللغة الفرنسية، وتاريخ وجغرافية مصر، والأوزان والقياسات، والتاريخ الطبيعي، والفيزياء، والخط العربي والأوروبي، والموسيقى لمن أردن. وكان تدريس اللغة التركية والفرنسية والموسيقى والفنون يستهوي بنات الطبقة العليا حيث يؤهلهن ليكن زوجات وأمهات على مستوى عال. أما شغل الإبرة والاقتصاد المنزلي فقد كان على هوى بنات الطبقة الدنيا والمتوسطة لأنه يسلحهن بمهارات تساعدهن على الكسب حيث كان يمكن لهؤلاء البنات فور تخرجهن الالتحاق بالعمل في مصانع ملابس المدارس الحكومية أو استكمال التعليم في مدرسة الحكيمات أو البحث عن عمل بالقطاع الخاص. وقد اشتملت هيئة التدريس بتلك المدرسة على النساء والرجال المصريين والأوروبيين.
ونظراً لنجاح المدرسة قرر إسماعيل إنشاء مدرسة ثانية “القرابية” على نهج “السيوفية” نفسه ولكن بتركيز أكبر على الأعمال المنزلية بطاقة استيعابية 152 طالبة. وفي عام 1878 فكر إسماعيل في إنشاء مدرسة ثالثة خاصة لبنات النبلاء في القاهرة ومدارس أخرى في الأقاليم ولكن ذلك لم يتم. وبعد إرغام إسماعيل على التنازل عن العرش عام 1879 تم ضم المدرستين حيث وضعا تحت إدارة الوقف. وتوضح الكاتبة أن تعليم البنات في مدرسة “السيوفية” تعرض لفترات من الازدهار والتراجع مما عكس التخبط بشأن تعليم البنات في مصر. ومن العوامل التي ساهمت في هذا التخبط إلغاء تجارة الرقيق عام 1877 مما أثر على المعروض من الجواري المستخدمات في الخدمة المنزلية وما أدى إليه ذلك من انخفاض الأعداد المتوقعة لدخول مدرسة “السيوفية” من الجواري البيض. لذلك فكر إسماعيل في استبدال الجواري ببنات الريف المصريات المتعلمات للخدمة. هذا بدوره أدى إلى تحول هدف مدرسة “السيوفية” إلى إعداد البنات من أصول متواضعة للخدمة في البيوت وبالتالي إلى “تحويل المدرسة إلى ما يشبه الملجأ” (صـ 107). كذلك أدى ضعف ميزانية المدرسة إلى الاستغناء عن الناظرة الكفء، وهكذا وصولاً إلى عام 1889 حيث كانت الطالبات “لا يجدن ما يكتسين به” (ص 107). ولكن وعلى الرغم من كل تلك الظروف، فقد ظلت “السيوفية” هي مدرسة البنات الوحيدة في مصر، و كان الإقبال عليها يزيد علي قدرتها الإستيعابية.
وعلى جانب آخر، تشير الكاتبة إلى أنه بجانب تعليم البنات في “الكتاب” أو في المنزل (بالنسبة لبنات الطبقة العليا) وقبل بداية التعليم الحكومي بالنسبة للبنات، كانت هناك مدارس الأجانب/ الأقليات (التي كانت تهدف إلى الحفاظ على اللغة والثقافة والتراث الخاص بها) ومدارس الإرساليات (التي كان هدفها نشر المسيحية والثقافة الغربية). انتشرت هذه المدارس منذ عهد محمد على حيث أدرك أنه لن يستطيع أن يتحمل عبء التعليم وحده لذلك منح تسهيلات للإرساليات في صورة أراض ومبان بالمجان، فانتشرت مدارس الإرساليات في جميع أنحاء مصر سواء الفرنسية، أو الإنجليزية، أو الأسكتلندية، أو الأمريكية، بجانب مدارس الإرساليات اليونانية، والإيطالية، والألمانية، والأرمينية، واليهودية والقبطية. وقد أقبل المصريون المسلمون على تلك المدارس، وكانت نسبة البنات في تلك المدارس أكبر من نسبة البنين لأن البنين كان عندهم فرص أكبر في المدارس الحكومية التي كانت تعتبر جواز مرور لهم للوظائف الحكومية. وكان من أسباب تركيز مدارس الإرساليات على تعليم البنات ثقتهم في أن تعليم البنات يؤدى إلى التأثير على العائلة بأكملها وعلى الأجيال القادمة. وبينها كان هدف الإرساليات في بداية عهدها في مصر جذب البنات من الطبقات الدنيا بالتركيز على تعليم شغل الإبرة والتطريز، فإنها مع بداية القرن الجديد بدأت تجتذب بنات الطبقة العليا عن طريق تدريس مناهج تهدف إلى خلق أمهات/ مربيات رفيعات المستوى.
وقد تغير شكل التعليم خلال فترة الاحتلال البريطاني ففي مرحلة لاحقة للمجانية الكاملة التي أرساها إسماعيل لتشجيع الأهالي على إلحاق أبنائهم وبناتهم بالمدارس، جاء الاحتلال البريطاني بأفكار مخالفة، حيث كان الهدف الأول للإدارة البريطانية هو ضبط الاقتصاد المصرى وتسديد ديونه بالكامل. لذلك كان أول ما فعله الاحتلال هو إلغاء مجانية التعليم وتطبيق منهج الإدارة البريطانية تحت إمرة كروم ر Cromer المندوب السامي البريطاني في تعليم المصريين على مستويين: الأول نشر مبادئ التعليم (القراءة والكتابة) للجميع، والثاني تعليم مجموعة محدودة من المصريين التعليم الذي يؤهلهم لتولى الوظائف الحكومية الدنيا. أما الوظائف العليا فقد اقتصرت على البريطانيين والجنسيات الأجنبية الأخرى. وفي المقابل عملت الإدارة البريطانية على تشجيع الجمعيات الأهلية على إنشاء الكتاتيب والمدارس الابتدائية من خلال إعطاء منح مالية للكتاتيب والمدارس التي تعلم القراءة والكتابة باللغة العربية والحساب والعلوم الدينية. أما المدارس التي كانت تعلم لغة أجنبية فكانت تحرم من تلك المنح، لأن الإدارة البريطانية كانت لا ترغب في زيادة الوعي بين المواطنين المصريين. فقد كان كرومر “خائفاً من خلق طبقة من الصفوة ذات التعليم الغربي التي من الممكن أن تنتقد الاحتلال البريطاني” (صـ 117).
أما بالنسبة لتعليم الإناث، فعلى الرغم من اعتراف الإدارة البريطانية بأهميته فإنها لم تتوسع في إنشاء المدارس الحكومية للبنات ولذلك فاق عدد طلبات الالتحاق بالمدارس الموجودة عدد الأماكن المتاحة (رغم كونها بمصاريف). وقد فضلت الإدارة البريطانية في هذا الشأن الاعتماد على الإرساليات والجمعيات الأهلية لإنشاء مدارس للبنات. واكتفت الإدارة البريطانية بنشر التعليم الأولي من خلال الكتاتيب في جميع الأقاليم، أما التعليم العالى للبنات فقد اقتصر التوسع فيه على مدارس التمريض والحكيمات والمعلمات. أما المدرسة “السيوفية” والتي كانت قد تحولت في نهاية عهد إسماعيل إلى ما يشبه مدرسة للخدمة المنزلية، فقد أراد على مبارك، وزير ديوان المدارس في ذلك الوقت، أن يرفع من مستواها ثانية لكونها المدرسة الإبتدائية الحكومية الوحيدة للبنات حيث قام عام 1889 بوضعها مرة ثانية تحت إشراف ديوان المدارس وتغيير اسمها إلى مدرسة “السنية” مع فرض رسوم دراسية على الدارسات بها وإضافة قسم لتعليم الفتيات الكفيفات وفاقدي السمع؛ وقسم آخر يؤهل خريجاته للالتحاق بمدرسة الحكيمات. وفي عام 1895 افتتحت مدرسة ثانية للبنات “مدرسة عباس” وكانت مخصصة لبنات الطبقة الدنيا بينما التحقت بنات الطبقة المتوسطة والعليا بمدرسة “السنية“. وكان انتشار تعليم الإناث في تلك الفترة يتم ببطء فمثلاً لم تفتتح مدارس ابتدائية للبنات في عواصم الأقاليم إلا عام 1909، كذلك لم يتم افتتاح أول مدرسة ثانوية للبنات في القاهرة إلا في عام 1920. وحتى ذلك الوقت كانت الأسر المصرية من الطبقة المتوسطة والعليا ضد أن تصبح بناتهن معلمات، بينما زاد إقبال بنات الطبقة المتوسطة الدنيا على دخول مجال التدريس مع افتتاح معهدين في القاهرة لتدريب وتخريج المعلمات. عند افتتاح الجامعة المصرية عام 1908 التحقت بها 31 سيدة منهن ثلاث مصريات. وفي بداية عام 1909 ساعدت هدى شعراوي في الإعداد لسلسلة من المحاضرات الخاصة للنساء بالجامعة وكانت تقام يوم الجمعة. وفي خريف العام نفسه تم إعداد برنامج نظامي للدراسة للنساء تحت إدارة سيدة فرنسية. وكانت المحاضرات تتم باللغة الفرنسية في علم النفس والفلسفة والتعليم ومبادئ مساواة المرأة بالرجل، حيث أضيف إلى ذلك في السنوات التالية تدريس التاريخ والاقتصاد المنزلي باللغة العربية. ولكن رغم دعم الأمير فؤاد، مدير الجامعة، ومجلس إدارتها لتلك المحاضرات فإنها أوقفت تحت ضغط المعارضة الشعبية ولم يصبح التحاق النساء بالجامعة رسمياً سوى في عام 1928.
أما الفصل الثاني من الجزء الثاني فيتناول “الخطاب حول تعليم الإناث“. فتذكر الكاتبة أن بداية الكتابة عن أهمية تعليم البنات كانت منذ أيام رفاعة الطهطاوي أحد علماء التنوير والذي أوفد من قبل محمد علي للتعليم بفرنسا في الفترة من 1826-1831. ويفند الطهطاوي في كتابه المرشد الأمين للبنات والبنين (1872) المقولات التقليدية ضد تعليم البنات حيث يؤكد أن الإسلام يحض على التعليم للجميع، ويسوق أمثلة لنساء متعلمات ويبين أهمية التعليم في خلق زيجات متجانسة. وقد استمر المناصرون لتعليم النساء في طرح القضية نفسها مع التركيز أحياناً على محتوى المناهج حيث ظهرت مقالات عدة في ثمانينيات القرن التاسع عشر حول هذا الموضوع في جريدتي المقتطف والهلال. ومع وجود المحتل البريطاني اتجهت الكتابة نحو المطالبة بضرورة وضع مناهج دراسية وطنية تعنى بتدريس اللغة العربية والدين والتاريخ الوطني. ومع بداية القرن العشرين وتولي سعد زغلول وزارة ديوان المدارس فقد بدأت المطالبة بتعريب التعليم، كما استمرت المطالبة بتخفيض المصاريف الدراسية وتوسيع الإنفاق على المدارس حتى قيام ثورة 1919. وقد اهتمت كثير من الجرائد بمناقشة قضية تعليم البنات، وبما أن معظم البنات كن يدرسن في مدارس الإرساليات أو مدارس الجاليات الأجنبية فقد عبرت ألكسندرا دو أفيرينو Alexandra de Avierino (سورية الأصل ومديرة تحرير مجلة “أنيس الجليس“) عن خوفها من تأثير المعايير الأخلاقية الغربية على البنات وأشارت إلى تراجع مستوى اللغة العربية لدى البنات مقارنة بنظرائهن من البنين في المدارس الحكومية. هذا وقد زادت الكتابة في العقدين الأولين من القرن العشرين في مسألة تعليم البنات في صحف مثل المؤيد واللواء والجريدة، حيث يتضح من تلك الكتابات تأييد الجميع من رجال ونساء مسلمين ومسيحيين ويهود لتعليم بناتهم. لكن هذا لا يعني أنه لم يكن هناك معارضون لتعليم البنات، إنما يعني أن هؤلاء المعارضين لم تتح لهم الفرصة لكي يشاركوا في المناقشات والجدل الدائر على صفحات الجرائد. وعلى الرغم من اتفاق الأغلبية على أهمية تعليم البنات فقد حدث اختلاف حول التفاصيل، فالبعض كان يرى قصر التعليم على الطبقتين المتوسطة والعليا، بينا يرى البعض الآخر أن يكون التعليم للجميع مع تخصيص بعض المدارس لتعليم بنات الطبقة العامة من الشعب ومدارس أخرى لتعليم بنات الطبقة المتوسطة والعليا. وقد اختلفت كذلك الآراء حول المناهج المناسبة لتعليم البنات، فكانت القلة ترى أن تتساوى مع مناهج تعليم البنين بينما ترى الأغلبية أن يكون تركيز مناهج تعليم البنات على الاقتصاد المنزلي بغرض تأهيلهن للحياة الزوجية. وقد نما تخوف لدى بعض الرجال من اتجاه تفكير البنات إلى البحث عن وظائف بعد تخرجهن وبالتالي تقل فرص الرجال في الحصول على وظيفة. وعلى الجانب الآخر فإن كثيرًا من نساء الطبقة المتوسطة والعليا كن ضد التركيز على تعليم الاقتصاد المنزلي في مدارس البنات لأنه “أدنى من مستواهن وغير ضروري” (صـ 136 -137). وقد كان لهذا الجدل الدائر في الصحف أثره في الواقع حيث تم إدخال تدريس الاقتصاد المنزلي في مدارس البنات عام 1915، کما تم تقسيم الدراسة في آخر عامين بقسم المعلمات بمدرسة “السنية” إلى قسم للتعليم العام وآخر للاقتصاد المنزلي. ولكن من الواضح أن الإقبال على قسم الاقتصاد المنزلي كان في تراجع حتى أنه في عام 1921 أصبح موجوداً بالاسم فقط بسبب إقبال البنات على قسم التعليم العام.
أما الفصل الثالث من الجزء الثاني فقد تناول موضوع “الكتب الدراسية: رسم الأدوار والحدود“، حيث تقوم الكاتبة في هذا الفصل بدراسة متأنية لبعض الكتب الدراسية الموجهة للفتيات كنماذج تعكس الاتجاهات الثقافية والقيم التي أراد مؤلفو هذه الكتب والطبقة الحاكمة بثها في المجتمع. وقد اتفقت رغبة الإدارة البريطانية والطبقة الحاكمة في التوجه عموماً نحو تحجيم التعليم العالي. وبناء على ذلك فقد انقسم التعليم إلى نوعين؛ الأول: تعليم أولي يشمل الكتاتيب والمدارس الإلزامية والمدارس الفنية والمهنية؛ والثاني: تعليم متقدم يشمل المدارس الإبتدائية والثانوية والمدارس العليا للتربية. وقد كان التعليم المتقدم موجهاً إلى بنات الطبقة المتوسطة العليا والطبقة العليا بغرض إعدادهن ليصبحن زوجات وأمهات ومواطنات مدربات وصالحات، بينما يستهدف التعليم الأولي أبناء الطبقة المتوسطة الدنيا والطبقة الدنيا من البنات والبنين بغرض تعليمهم مبادئ القراءة والكتابة والحساب لكي يحافظوا على مواقعهم في السلم الاجتماعي. وبينما كان هناك تركيز على التعليم الديني بالكتاتيب، فقد كان تلاميذ وتلميذات المدارس الإلزامية يدرسون مبادئ الصحة والنظافة الشخصية. وكانت البنات في المدارس الإلزامية والابتدائية يدرسن كذلك كيفية العناية بالطفل والمريض في دور النقاهة. وتسوق الكاتبة نماذج لكتب مبادئ الصحة المستخدمة في المدارس الإلزامية وتلك المستخدمة في المدارس الابتدائية وذلك لتوضيح الفرق بين ما كان يوجه لتعليم الطبقة الدنيا مقارنة بما كان يوجه لتعليم الطبقة الوسطى العليا والطبقة العليا؛ ففي كتاب علم الصحة للمكاتب (للمدارس الإلزامية) كانت توجد نسخة للبنين وأخرى للبنات أطول بخمسين صفحة بعنوان علم الصحة للمكاتب للبنات (1918)، حيث كانت النسختان تحتويان على ثلاثة فصول عن مبادئ الصحة الشخصية ثم جزء عن مبادئ التشريح وعلم وظائف الأعضاء وعلاقتها بالتغذية والهضم، كما كانت تحتوي على مناقشة لأضرار الكحوليات وفصول عن الملابس والنوم وتنظيم المنزل والعناية بالأطفال والإسعافات الأولية والتمريض المنزلي. وفي المقابل كان يوجد كتاب التدبير العام في الصحة والمرض (1919) الموجه إلى بنات الطبقة المتوسطة العليا والطبقة العليا بغرض خلق أمهات قادرات على التمريض ومستهلكات حاذقات (صـ 144). وعلى عكس كتاب “علم الصحة للمكاتب للبنات” فإن هذا الكتاب الأخير لا يعطى تفاصيل كثيرة بخصوص علم الصحة والنظافة ولكن يناقش علم التشريح ووظائف الأعضاء بتوسع أكبر شارحًا الجهاز الهضمي والأعصاب بالجسم البشري ويحتوي كذلك على جزء عن أضرار الكحوليات. ومن الطريف أن الكتاب كان يأخذ – إلى حد ما – شكل المجلة حيث كان يحوي بين صفحاته إعلانات عن بضائع مختلفة كالمياه المعدنية والمبيدات الحشرية والسرنجات ولبن الأطفال، كما يلحق المؤلف في نهاية الكتاب قائمة بالمنتجات الطبية اللازمة لكل بيت.
وتفرد الكاتبة الجزء الأكبر من هذا الفصل لعقد مقارنة بين كتابين في الاقتصاد المنزلي: الأول بعنوان “الفتاة والبيت” من تأليف أنطون الجميل، والآخر بعنوان “التدبير المنزلي الحديث “(جزءين) من تأليف فرنسيس ميخائيل، حيث يخاطب كتاب “الفتاة والبيت“، فتيات الطبقة العليا المعتادين على وجود الخدم في منازلهم، لذلك نجد أن النصائح الموجهة للفتيات تأخذ طابعًا عامًا بدون تفاصيل كثيرة مع التأكيد على وجوب تعلم الفتاة كل ما يتعلق بإدارة المنزل (حتى مع وجود الخدم) لأنها في النهاية هي المسئولة عن بيتها، وعليها – وإن كانت لا تعمل بيديها – أن توجه الخدم لما تراه صحيحاً. أما كتاب “التدبير المنزلي الحديث” فهو موجه إلى دائرة قراء أوسع ممن لا يستعينون بالخدم أو بعدد قليل منهم، لذلك فهو يعني – من خلال العديد من الرسوم والصور التوضيحية – بتقديم نصائح عملية تفيد فتيات الطبقة الوسطى حديثة العهد بمجال التدبير والنظام المنزلي وذلك فيما يخص نظافة المنزل ونظافة الأطفال الشخصية والمحافظة على صحتهم؛ وأيضًا بالنسبة لاختيار المنزل وشروطه الصحية.
ويتضح من التفاصيل التي يذكرها ميخائيل في كتابه ميله للنموذج الأوروبي فيما يخص أثاث المنزل ومفروشاته، فهو يوصي مثلاً بوجود غرفة مكتب ومكتبة في المنزل على النموذج الأوروبي، بل إنه يفصل كيف يجب على المرأة فهرسة الكتب في المكتبة، وكذلك عمل سجلات للعائلة. وعلى النقيض من ذلك، فإن كتاب الجميل لا يقدم الكثير من التفاصيل عن أثاث المنزل ومفروشاته. ويوصي كل من الجميل وميخائيل بأن تقوم المرأة بعمل دفاتر لتقييد الحسابات المنزلية: الدخل والمصروفات اليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية، وكذلك دفتر للعناوين والأسعار والتجار الموثوق بهم. وقد عني الكتابان بتعليم الفتاة كيفية الاقتصاد في مصروفات شراء احتياجات المنزل: ماذا تشتري من البضائع ومتى تشتريها وكم تدفع في المقابل، حيث يقدم ميخائيل أمثلة تفصيلية للاقتصاد في عملية الشراء: ومنها كيفية شراء الطعام الجيد وكيفية حفظ الطعام، كما يقدم نموذجًا لجدولة وقت ربة المنزل يتضمن تخصيص وقت للخياطة والقراءة المفيدة والإشراف على مذاكرة الأبناء وتدبير شئون العائلة المالية بالإضافة إلى الطهي والأعمال المنزلية. وعلى الرغم من أن كتاب الجميل موجه بالأساس إلى بنات الطبقة العليا، فإنه لا يغفل ذكر محاسن تعلم الفتاة شغل الإبرة والخياطة “الإبرة خير صديق للمرأة” (ص 151) سواء من الناحية العملية أو الأخلاقية حيث تشغل وقت الفراغ من خلال نشاط مفيد، كما ينصح الجميل بالتبرع بالملابس القديمة للفقراء. ومن ناحية أخرى، يبرز ميخائيل الفائدة الاقتصادية لقيام المرأة بخياطة ملابسها وملابس أطفالها، ويشير كذلك إلى إمكانية تدوير الملابس القديمة وتحويلها إلى ملابس للأعمال المنزلية أو للنوم، كما يذكر إمكانية صبغ الملابس لإعطائها رونقاً جديداً. وتشير الكاتبة إلى اتفاق الكاتبين في الرسالة المزدوجة التي يوجهانها إلى الفتيات من الطبقة المتوسطة والعليا: فعلى الرغم من أنهما يقومان بحث الفتاة على الاستهلاك خاصة على الطريقة الغربية الحديثة، فإنهما يؤكدان في الوقت نفسه على أهمية التوفير والتدبير. كا يتفق الكاتبان على كون الزوج والزوجة شريكين في الحياة لها حقوق وواجبات، وأن عمل الزوجة داخل المنزل وفي تربية وتوجيه الأطفال لا يقل أهمية عن عمل الزوج في الخارج، ولكن على الرغم من توجيههما بأخذ رأي الزوجة في كل ما يختص بأمور المنزل والعائلة فإنهما – تمشياً مع العرف العام السائد وقتها – يؤكدان أهمية أن تكون الكلمة العليا للزوج.
وتنهى الكاتبة هذا الفصل بجزئية عن ماهية المرأة الجديدة، فتوضح أن صورة “المرأة الجديدة” الموجودة في الكتب الدراسية هي إلى حد كبير صورة “المرأة الجديدة” نفسها كما تظهر في صحافة النساء: الأم – المربية، التي تدير شئون البيت وتشتري مستلزماته، ولكن تتساءل الكاتبة هل كانت هذه الصورة تنطبق على المدرسات أنفسهن ؟ والإجابة تجدها عملياً في رفض عدد كبير من الفتيات المقبلات على امتهان التدريس والالتحاق بقسم العلوم المنزلية في كلية السنية للمدرسات وتفضيلهن الالتحاق بقسم التعليم العام. كما تستخلص الكاتبة أن الكتب المدرسية الموجهة للبنات كانت ذات رسالة مزدوجة فكما في كتابي ميخائيل والجميل، قدم كتاب الأخلاق للبنات (1918) لكاتبيه محمد أحمد رخا ومحمد حمدي (وكان هذا الكتاب يدرس في المدارس الإلزامية والابتدائية ومعاهد المعلمين) نموذجين مختلفين للمرأة؛ النموذج الأول: نموذج المرأة المقدم في الصحافة وكتب الاقتصاد المنزلي، والذي تناولته الأقسام الأربعة الأولى من الكتاب من خلال استعراض الأخلاق الحميدة التي يجب أن تتحلى بها البنات في المنزل والمدرسة والشارع، ومن خلال تقديم أنماط من هذه الأخلاق في صورة قصص وأناشيد تعضد نموذج المرأة التقليدي في دور: الأم، الابنة، الأخت، الزوجة، العمة، الفلاحة. أما النموذج الثاني، والذي يتناوله القسم الخامس من الكتاب، فيقدم صورة مختلفة للمرأة، وذلك من خلال عرض أنماط لنساء شهيرات غير تقليديات على مدار التاريخ العربي والغربي؛ فيتناول قصصاً من حياة بلقيس ملكة سبأ، آسيا زوجة فرعون، ومن التاريخ الإسلامي: السيدة خديجة والسيدة عائشة والسيدة فاطمة والسيدة سكينة والسيدة نفيسة من آل بيت الرسول (ص)، والست ملك (ابنة العزيز بالله الفاطمي) وشجرة الدر. ومن التاريخ الغربي يعرض الكتاب لحياة اليزابيث الأولى وفكتوريا ملكتي إنجلترا، وفلورنس نايتنجال Florence Nightingale التي أنشأت الصليب الأحمر. كما يعرض لثلاثة أنماط من نساء غربيات غير شهيرات إلا في بلادهن مثل جريس دارلنج Grace Darling فتاة انجليزية عاملة فنار استطاعت مع والدها إنقاذ ركاب سفينة غارقة، ولورا سيکورد Laura Secourd من كندا وهي بطلة حرب 1812 ولينا من ايطاليا لجهودها البارزة في بلدها. وتشير الكاتبة إلى اشتراك هذه الأنماط جميعاً في خاصيتي الذكاء والفضيلة، كما أنهن يمتزن بدرجات متفاوتة من الإدارة والسخاء والتدين والعطف على الغير والإحساس الوطني والخطابة والقدرة على إلقاء الشعر وتميزهن بالجمال، غير أنه لا ينطبق على أي منهن نموذج المرأة التقليدية الموجود في الأجزاء الأربعة السابقة من الكتاب بما يؤكد إمكانية وجود دور للمرأة غير التقليدية تجاه الوطن. وتجدر الإشارة إلى دخول المرأة في مجال العمل بأعداد كبيرة خلال العقود التالية لنشر هذه الكتب الدراسية وبخاصة في مجال التدريس والتمريض وطب النساء والتوليد والأطفال والعمل الاجتماعي وكلها مجالات تؤكد دور المرأة كأم – مربية.
في ضوء ما سبق عرضه من فصول الكتاب يتضح بصورة عامة الاهتمام برصد حال المرأة المصرية خلال الفترة من منتصف القرن التاسع عشر وحتى العقد الثاني من القرن العشرين والتي تميزت بكونها من أغنى فترات تاريخ مصر الحديث. وقد شهد المجتمع المصري خلال هذه الفترة تغيرات كثيرة على المستويين السياسي والاجتماعي مما ساهم في تغيير وضع المرأة المصرية وظهورها في شكلها الجديد. وكان من أهم العوامل التي ساعدت على هذا التغيير: الأنماط الاستهلاكية الجديدة والتعليم. فقد كان لتوسع الخديو إسماعيل وبذخه في محاكاة نمط الحياة الأوروبي الاستهلاكي ورغبته في “جعل مصر قطعة من أوروبا” أثره على الدولة ككل، فبينما ظل ريف مصر موقعاً للإنتاج، صارت القاهرة والإسكندرية ومدن الدلتا الكبرى أسواقاً كبيرة للاستهلاك. وقد ساعد على انتشار هذه الثقافة الاستهلاكية نمو وتطور الإعلانات في الصحف والمجلات المصرية والتي كانت تستهدف نساء الطبقة العليا والمتوسطة بوصفهن المنوطات بعملية اختيار وشراء كل ما يلزم البيت. أما تعليم المرأة فكان ثاني أهم أسباب ظهور مفهوم “المرأة المصرية الجديدة“، فقد اهتم الخديو إسماعيل بتعليم المرأة حيث تم في عهده افتتاح أول مدرسة إبتدائية حكومية للبنات. ومن ناحية أخرى، فقد امتلأت الصحف – سواء الرسمية أو النسائية – بمقالات تطالب بضرورة تعليم البنات، کما كثر الجدل حول محتوى المناهج التي يجب أن تدرس لهن، حيث كانت الأغلبية تدعو إلى الاهتمام بتعليمهن “الاقتصاد المنزلي” حتى يتأهلن لحياتهن الزوجية. لكن الملاحظ أنه على الرغم من تغير صورة المرأة بخروجها لتلقي العلم، ونزولها إلى الأسواق واشتراكها في الأعمال الخيرية، وظهورها كشريك للزوج – رغم كل ذلك – فكان هناك تركيز على دورها الأساسي كأم – مربية منوط بها تنظيم البيت والاهتمام برعاية وتعليم النشء.
إن كتاب “خلق المرأة المصرية الجديدة” لكاتبته منى ل. رسل يعتبر إضافة مهمة لتأريخ تطور صورة المرأة المصرية في بداية العصر الحديث. ويحسب للكاتبة دقتها المتناهية في توثيق مصادر معلوماتها وكتابتها بلغة سهلة بسيطة، مما يجعل قراءة الكتاب متعة للقارىء العادي ومرجعًا لا يستغنى عنه بالنسبة للدارس المتخصص.
نهال الجنزوري: مدرسة بقسم اللغة الإنجليزية، جامعة بني سويف.
(*) Mona L. Russell, Creating the New Egyptian Woman: Consumerism, Education, and National Identity, 1863-1922, NY: Palgrave Macmillan, 2004.