“دراسات المرأة شرق الأوسطية” في الولايات المتحدة وفى الشرق الأوسط نقاط اتفاق واختلاف 1
بقلم:
“دراسات المرأة شرق الأوسطية”
في الولايات المتحدة وفى الشرق الأوسط
نقاط اتفاق واختلاف 1
كان من شأن الانتشار التاريخي للإسلام السياسي أن يساهم في تنامي الخطابات الاستشراقية الجديدة2 في الدوائر الثقافية والسياسية في الشرق الأوسط وفي الولايات المتحدة، والتي كانت تهدف إلى شرح هذه الظاهرة للجمهور. تستمر هذه الخطابات الجديدة في استخدام عنصر “النوع” لتجريم الإسلام والحركات السياسية التي تستلهم الإسلام. إن ما أنتجته هذه الخطابات في واقع الأمر هو تحليلات جدلية وليست تحليلات واعية للأزمات المركبة / المتشابكة على المستويات السياسية/ الاقتصادية والثقافية والتي ساهمت في ظهور هذه الحركات.
تعتبر أطروحة صامويل هانتجتون عن “تصادم الحضارات” مثلاً جيداً لهذا الاتجاه الجديد. ويتبنى هانتجتون فكرة وجود “خطوط تصدع” ثقافية بين غرب حداثي علماني عقلاني وديمقراطي وبين شرق يتسم بالتقليدية والسلطوية واللاعقلانية، وطبقًا لهذه الرؤية فإن إحدى العلامات الفارقة بين هاتين الحضارتين تتمثل في طريقة تعريف وتحديد العلاقات بين الرجال والنساء، بين الأزواج والزوجات، وبين الآباء والأبناء3. وعلى نفس المنوال تقدم جوديث ميلر من جريدة نيويورك تايمز توصيفًا لطبيعة الاتجاهات الإسلامية في الشرق الأوسط،4 حيث تشير إلى أن الإسلام والاتجاهات الإسلامية لا يمثلان فقط تهديدًا جوهريا للمصالح الأمريكية في المنطقة، بل يمثلان كذلك تهديدا للحقوق الإنسانية والمدنية الخاصة بالنساء والأقليات في المجتمعات الإسلامية. إن مثل هذه الأطروحات التي تندرج في الخطاب الاستشراقي الجديد تكشف عن غياب أي فهم أو وعي تاريخي بقضية “النوع” في الإسلام وبالاتجاهات الإسلامية كحركات معارضة. إذ أن “علاقات النوع” في الإسلام تمثل بالنسبة لهم “دلالة” محملة بمعان تشير إلى التهديدات السياسية للغرب من الخارج والتهديد على الصعيد الداخلي لشرائح هامة في مجتمعات الشرق الأوسط والتي يطالب الغرب بحمايتها.
أما في الشرق الأوسط فإن الدول العلمانية استخدم نفس الخطاب في معرض دفاعها عن انتمائها للتقدمية الغربية وللسمة التقليدية والمحافظة للتيار الإسلامي. ويساهم “المسلمون العلمانيون” والنسويات المدافعات عن قضية المرأة في استيعاب هذه الرؤية للإسلام والتيارات الإسلامية على مستوى الخطاب بتركيزهم على تصور للنساء والأقليات كفئات تابعة في المجتمعات الإسلامية المستقبلية. فكثيرًا ما اختص هؤلاء الزي الإسلامي بالإشارة بوصفه آداة لقهر المرأة أو كمؤشر إلى الطابع المحافظ للمنظومة السياسية والاجتماعية الإسلامية وإلى الخطر الذي تمثله تلك السياسة على المساواة بين الجنسين.5
تثير هذه الرؤية الحتمية للحركات الإسلامية والدور الذي تلعبه النساء المسلمات في إطارها بعض الإشكاليات. أود أن أسوق كمثال على ذلك التنبؤات القائمة التي قدمت منذ عشرين عامًا حول النساء في جمهورية إيران الإسلامية والتي يعاد النظر بشأنها حاليًا. فهذه التنبؤات لم تأخذ في الحسبان المقاومة الناجحة التي أبدتها النساء المحافظات في مواجهة محاولات النظام للتراجع عن بعض الحقوق الهامة للنساء في مجال قوانين الأحوال الشخصية. إذ أن النساء المحافظات،بمعزل عن النسويات ظهرن كقوة سياسية مارست بسرعة شديدة ضغوطًا كافية على آيه الله الخميني ليتراجع عن القانون الذي كان يعطي حق حضانة أطفال شهداء حرب إيران والعراق إلى عائلة الأب، فأصدر الخميني قرارًا جديدًا يمنح هذا الحق لزوجات الشهداء حتى في حالة قيامهن بالزواج مرة أخرى، وهو حق لم يكن للنساء في عهد الشاه. نفس هذه الفئة من النساء / الناخبات كانت وراء إصدار عقد زواج موحد يتضمن بنودًا مثل اقتسام ممتلكات الزوجين بالتساوي وحق النساء المطلقات في طلب أجر عن قيامهن بإعمال المنزل خلال فترة الزواج 6. حدث كل ذلك قبل انتخاب الرئيس محمد خاتمي والذي اعطى منصب نائب الرئيس لامرأة كاعتراف منه بدور النساء الليبراليات في مؤازرته انتخابيا.
نعود إلى الخطابات الاستشراقية الجديدة لنشير إلى عجزها عن تفسير الدور النشط للنساء المسلمات على المستوى السياسي. تقدم هذه الخطابات النساء المسلمات في صورة العاجزات عن السعي وراء مصالحهن وعن التفاوض من أجل وضع أفضل في سياق نظم حكم مختلفة. أما في واقع الأمر فإن الدور الذي لعبته نساء إيران المحافظات والليبراليات في سياق الجمهورية الإسلامية يعلمنا درسًا مغايرًا.
مازال الباحثون والباحثات في مجال دراسات المرأة في مجتمعات الشرق الأوسط يبذلون الجهد لقلقلة هذا النوع من التصورات للعلاقة بين علاقات النوع من ناحية وبين الإسلام والتاريخ الإسلامي والحركات المعارضة من ناحية أخرى. فعلي سبيل المثال، تقوم دنيس سبلبرج في كتابها عن “عائشة بنت أبي بكر“7 بتفكيك مفهوم أو فكرة وجود ماض إسلامي موحد غير متمایز داخليًا،أي التمييز بين تعاليم العقيدة الإسلامية والتشكيلات المجتمعية التاريخية اللاحقة، وتقدم بدلاً من ذلك رؤية للكيفية التي قام بها كل من أهل السنة والشيعة بتصوير حياة عائشة في ضوء تصور كل منهما للدور الذي يجب أن تلعبه المرأة في الدين وفي المجتمع الإسلامي. وعلى المستوى المنهجي فإن ما تقترحه سبليرج في إطار دراسات السير هو ضرورة التمييز بين الأحداث في سيرة حياة أي شخصية تاريخية،والتراث التحليلي والنقدي لهذه الحياة، على أساس أن دراسة هذا التراث تسمح لنا بمعرفة من الذي يقدم تصويره للتاريخ وبأي هدف.
يلتقي عمل سبلبرج مع أعمال الجيل الثاني في الشرق الأوسط من الباحثين في مجال الدراسات الدينية، والذين يقدمون قراءات جديدة لقضية “النوع” في الإسلام تمثل تحديًا لوجهات النظر التقليدية والمحافظة. وعلى خلاف الجيل الأول الذي يضم نساء مثل عائشة عبد الرحمن من مصر والتي تقبلت المعرفة الدينية المتلقاة وطريقة تصويرها لعلاقة النساء بالإسلام بدون أن تضعها موضع المسائلة، فإن الجيل الجديد يستخدم معرفته الدينية والقانونية لينازع هذه الرؤى المحافظة.
فمثلاً تقوم فريدة بناني وهي أستاذة قانون مغربية،يتفنيد الزعم القائل بأن النساء قد أمرن بالبقاء في بيوتهن مشيرة إلى أحد الفروض الدينية التي تطالب النساء بغض الطرف حين يلتقين بالرجال، مما يعني بوضوح أنهن لسن مطالبات بلزم البيوت وإلا ما كانت قد صدرت لهن تعاليم خاصة بكيفية التعامل مع رجال غرباء. وتدعم فريدة بناني حجتها بالإشارة أيضًا إلى أن حق النساء في ذمة مالية مستقلة يفترض إمكانية تواجدهن خارج المنزل للإشراف على شئونهن ومصالحهن المالية.8 أما زينب رضوان أستاذة الفلسفة الإسلامية في مصر فتقدم براهين على أن شهادة رجل لا تعادل شهادة امرأتين في جميع المجالات والأحوال وإنما فقط في المجال الاقتصادي حيث كانت النساء تفتقر خبرة مماثلة للرجال في المجال التجاري.
وتؤكد زينب رضوان أن القرآن واضح تمامًا في مساواة شهادة المرأة بشهادة الرجل في المجالات المدنية والجنائية الأخرى.9 وأخيرًا، فإن دراسة أميمة أبو بكر الأخيرة (تحت الطبع) توضح كيف تمكن المفسرون في العصور الوسطى من إعطاء مكانة الصدارة للقلة من الآيات التي تتضمن تفرقة على أساس النوع وذلك على حساب الأغلبية العظمى من الآيات القرآنية التي تدعم المساواة والإنسانية المشتركة.
وإذا تركنا التيارات السنية جانبًا، فإننا نجد التغييرات القانونية الحديثة في قانون الأحوال الشخصية التي أجرتها جمهورية إيران الإسلامية تستمد جذورها من المبادئ الشيعية. فالنساء المسلمات قد استخدمن فكرة وصف الجمهورية الجديدة بـ “جمهورية المستضعفين” واستخدمن مفهوم “العدالة الإسلامية” للمطالبة بمزيد من الحقوق للنساء وليس العكس. وكذلك فإن مبدأ الإسلام الشيعي الذي لا يفرض على المرأة القيام بأعمال المنزل في بيت الزوج هو الأساس الذي اشتقت منه النساء مطلبهن الراديكالي بأجر عن أعمال المنزل في حالة قيام الزوج بإيقاع الطلاق. نحن إذن أمام حالة أدى فيها وعي النساء وحسن استخدامهن المبادئ الإسلامية إلى الحصول على حقوق جديدة من داخل مؤسسة دينية محافظة نوعاً.
ان التركيز على الإسلام قد أدى للأسف إلى النكوص عن القيام بجهد مواز في إعادة النظر في الحداثة كحل لقضايا النساء في العالم الإسلامي، وكان من شأنه أن يساهم في فرض حصار الصمت على دور الدول الحديثة في الغرب كما في الشرق الأوسط (وكذلك صفوتها العلمانية) في إنتاج وإعادة إنتاج القيم الأبوية. يبقى أن بعض الباحثين والذين يعملون في الولايات المتحدة والذين لهم دراية بكلا المجتمعين، قد شرعوا بالفعل في القيام بهذا المشروع المقارن. ولقد قمت في دراستي الأخيرة بتوضيح كيف أن ليبرالية الغرب لم تقض على عدم المساواة بين الجنسين، وإنما قامت بإعادة صياغتها. ومن ذلك يمكننا أن نفهم – بطريق غير مباشر – لماذا لم تؤد محاولات التحرر السياسي في الشرق الأوسط إلى حقوق جديدة للنساء، وإنما بالأحرى إلى تناقض جديد في موقف الدولة تجاه حقوق النساء السياسية. في الواقع فإن تسييس قضية “النوع” أعطى لكل من الدولة وخصومها الإسلاميين فرصة لتسوية الحسابات بينهما بدون استثمار ثقلها السياسي والاقتصادي لحل الأزمة.10
وفي دارسة أخرى عن الخطاب الرسمي للدولة أو الخطاب العلماني في مقابل الخطاب الإسلامي في مصر أوضحت كيف اشترك الاثنان في التأكيد على الأدوار المنزلية للنساء وكيف قاما بتوظيفها كأساس لمشاركة النساء السياسية. وهكذا تتحدى هذه الدراسة التصورات المبالغ فيها للفروق الشاسعة بين خطابات الطرفين أو برامجها السياسية. واستخلصت من خلالها أن الحركات الإسلامية وخطاباتها تمثل شكلاً محافظًا من أشكال الحداثة وأن ارتباطها بالتراث غير حقيقي. وأخيرًا، فإن الكتاب الذي حررته زهرة آرات بغرض تفكيك صورة المرأة التركية، يشير إلى أن العلمانية والقومية لم تقوما في واقع الأمر بالقضاء على الأبوية وإنما بإعادة صياغتها واستبدال شكلها الإسلامي بمشروع أبوي حداثي12. كما قامت زهرة آرات في دراسة أخرى بإماطة اللثام عن القانون المدني فهذا القانون بالرغم من قيامه بالغاء تعدد الزوجات، ومنع زواج الأطفال والاعتراف بالمرأة كند للرجل على المستوى القانوني ومنح النساء حق اختيار أزواجهن وحق المبادرة بالطلاق،على الرغم من ذلك فإنه أعاد تأسيس سلطة الزوج داخل الأسرة، فالزوج هو الذي يحدد مكان الإقامة وهو الذي يعول الأسرة وهو من له حق الوصاية على الأطفال في حالة النزاع بين الزوجين وبيده أن يطالب زوجته بالمساهمة في دخل الأسرة، وأخيرًا فإن على الزوجة أن تأخذ لقبه العائلي.13 هذا العرض يتناقض مع تصور أو رؤية عملية التحديث في تركيا وكأنها تسير في خط مستقيم، فهو يوضح رغم أن الإسلام لم يعد الأساس المستخدم في تبرير عدم المساواة، ففي نفس الوقت لم تستطع الدولة العلمانية بقانونها المدني إيجاد حلول نهائية للمشكلة.
1- هذا المقال صيغة مختصرة من ورقة بحث قدمتها د. ميرفت حاتم أستاذة العلوم السياسية بجامعة هاورد الأمريكية في المؤتمر السنوي لـ“رابطة دراسات المرأة بالشرق الأوسط” المنعقد في شيكاجو ۱۹۹۸.
2- یحیی سادوسكي، “الاستشراق الجديد والنقاش حول الديمقراطية“، تقرير الشرق الأوسط، Middle East Report 23/4.1999 ص 14- 26.
3- صدام الحضارات والنظام العالمي الجديد،The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order نيويورك ١٩٩٦.
4- لله تسعة وتسعون اسمًا: تقارير من الشرق الأوسط، Reporting from a Militant Middle East،God Has 99 Names نيويورك ١٩٩٦.
5- عالية بافون،“النسوية والأصولية الإسلامية في تونس والجزائر“، الهوية والسياسة والنساء، dentity،Politics،and Women تحرير فالنتاين موغادم، بولنر ١٩٩٤، ص167 – 182
6- “النساء وقانون الأحوال الشخصية في إيران“، تقرير الشرق الأوسط، 26/1/1996، Middle East Report ص 36- 39
7- السياسة والنوع والماضي الإسلامي،Politics،Gender،and the Islamic paste نيويورك ١٩٩٤.
8- “النسوية صوت مسموع في النقاش الديني“، زمن النساء والذاكرة البديلة،تحرير هدى الصدة وأخريات، القاهرة ١٩٩٨، ص ١٦٣ – ١٩٤
9- الإسلام وقضايا المرأة، القاهرة ١٩٩٣.
10- ” الليبرالية السياسية والنوع والدولة“،الليبرالية السياسية والديمقراطية في العالم العربي،Political Liberalization and Democratization in the Arab World ج ۱ تحرير ركس برائن برانن،بولدر ۱۹۹5، ص ۱۸۷ – ۲۱۱.
11- “الخطابات في مصر حول النوع والليبرالية السياسية، تقرير الشرق الأوسط، 1992 Middle East Report
12- تفكيك صورة المرأة التركية، Deconstructing Images of the Turkish Women نيويورك ۱۹۹۸.
١٣– “الدولة والمؤسسات وحقوق النساء في تركيا” The State،other Institutions and Women’s Rights in Turkey بحث مقدم إلى المؤتمر السنوي لرابط العلوم السياسية الأمريكية في واشنطن.۱۹۹۷