دراسات ما بعد الكولونيالية والممارسات النسوية عبر القومية
اندريال جریوال وکاربن کاپلان*
1 . إننا باعتبارها نسويتين تشارك فيما يمكن تسميته بالدراسات ما بعد الكولونيالية منذ أيام التحاقنا بالدراسات العليا، فإننا لم نشك يوما في أن تاريخ الإمبريالية الحديثة ينعكس مباشرة على وضع النساء وعلاقات الجندر في العصر الحديث. وعلى مدار السنين عملنا مع غيرنا من أجل تصور كيفية ربط الدراسة البينية للجندر بالأفكار المحورية التي تتعامل معها، أي الاستعمار والحداثة والعولمة، وقد تزايدت قناعتنا بأن أشكالا جديدة من الاستعمار تتغلغل في العالم المعاصر وأن أشكالا جديدة من النظرية النسوية مطلوبة لمواجهة تلك الأوضاع المتغيرة.
٢. لقد بدأنا في الثمانينيات من القرن العشرين حياتنا في البحث والتدريس، وانصب عملنا على ما أطلق عليه تحليل الخطاب الكولونيالي. وباعتبارنا نسويتين فإننا نختار التركيز على قضايا الجندر والرحلات في سبيل دراسة العلاقات بين النساء من مختلف الثقافات والأمم بدلا من التركيز فقط على العلاقات بين النساء والرجال، وباعتبارنا متخصصتين في الدراسات الثقافية فإننا كلانا رأينا في الرحلات موقعا مثاليا لتناول تواريخ تلك اللقاءات، كما أن تأمل الرحلات بوصفها نشاطا يتم في وقت الفراغ أدى بنا إلى دراسة كافة الأشكال الأخرى من الحركة وتغيير المكان والتهجير في العالم الحديث. مثل الهجرة والتهجير بالقوة، والشتات، واللجوء السياسي، وكذلك الرحلات طلبا للتعليم أو النشاط التجاري. وقد قمنا بتحليل كيف توجد عدم المساواة على مستوى الطبقة والجنس والجنسية والحياة الجنسية والعرق. وكيفية صياغتها من خلال الحركة عبر الزمان والمكان بطرق معينة. وعن طريق هذا النوع من التحليل أردنا تفكيك الفواصل المعرفية بين الدراسات الأمريكية والدراسات الإقليمية، وبين الدراسات النسائية والدراسات العرقية، وكذلك بين دراسات الثقافة العليا والدنيا فعلى سبيل المثال أردنا أن نشارك في دراسة قضية العنصر واللون لا من منطلق ممارسات الحقوق المدنية وسياسات الهوية ولكن أيضا باعتبارها شكلا من أشكال الخطابات ذات التأثيرات المحددة داخل تاريخ الإمبريالية.
3. ومن خلال عملنا معا قررنا أننا في حاجة إلى مجموعة من الممارسات النقدية التي تعيننا على إعادة صياغة والتفكير من خلال ذلك التراث من الإمبريالية والمستمر في مشاريع التنمية والتحديث داخل وخارج المجال الأكاديمي، وداخل وخارج الولايات المتحدة الأمريكية، ومع تعاوننا في عملنا المشترك قررنا استخدام مصطلح “عبر القومية” (transnational) بدلا من “الدولية” (international) کی نعكس حاجتنا إلى تحريك حدود الأمة والعنصر والجندر، بدلا من الحفاظ عليها، إن مصطلح ” عبر القومية” يلفت الانتباه إلى الدوائر غير المستوية وغير المنشابهة للثقافة ورأس المال، ومن خلال مثل هذا الاعتراف النقدي تصبح الروابط بين الأنظمة الأبوية والأنظمة الاستعمارية والأنظمة العنصرية وغيرها من أشكال السيطرة والسيادة أكثر وضوحا ومتاحة للنقد أو الاستحواذ (appropriation) أما تاريخ مصطلح “الدولية” فهو تاريخ مختلف، ففكرة النظام الدولي (internationalism) تعتمد على الأشكال القلمة للدول القومية باعتبارها كيانات خفية وحاكمة. وبينما أتى النموذج الاشتراكي لـ” الأممية” بتحالف العمال عبر حدود الأمم والقوميات والدول في وجه الرأسمالية، إلا أن الصيغ الليبرالية والمحافظة لـ” الأممية” ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، في محاولة ساعية إلى الفصل وفي النزاعات بين الأمم وحلها.
٤. وهكذا، فإذا تحدثنا عن الدوائر عبر القومية من المعلومات ورأس المال والعمل، فإننا بذلك تلتقد نظاما قائما على عدم المساواة وعلى الاستغلال. وإنه لمن المستحيل بالنسبة لنا أن تدعو إلى تسوية عبر قومية، باعتبارها نوعا محسنا أو أفضل أو أكثر نقاء ينتمي إلى النسوية الدولية أو العالمية فالنسوية عبر القومية لا يمكن على سبيل المثال الاحتفاء بها بوصفها خالية من تلك الأوضاع القاهرة ففي الواقع لا يوجد شيء اسمه نسوية خالية من علاقات القوى غير متناظرة، بل إن ما نطلق عليها مسعى الممارسات النسوية عبر القومية تتضمن أشكالا من التحالف، والتقويض والتآمر التي يمكن منها نقد أشكال عدم التناظر وعدم المساواة.
5. وبالنسبة لنا، فإن العلاقة بين دراسات ما بعد الكولونيالية وبين الدراسات عبر القومية هي علاقة ذات منحى نسوي له خصوصيته وكان تركيزها دوما منصبا على أوجه عدم المساواة التي تسببها النظم الأبوية الرأسمالية في مختلف عهود العولمة، إن النظريات والمنهجيات الخاصة بما يطلق عليهم نقاد “ما بعد الكولونيالية” مكنتنا من دراسة حالة عبر القومية (tansnationality)، فعلى سبيل المثال نجد أن مفاهيم “الاستشراق” و“التبعية” و“التهجين” و“الشتات” و“نظرية الترحال” و“نظرية الحدود” توفر للنسويات أدوات فكرية لدراسة مجال رحب من سياسات التمثيل (representational politics). إن التركيز على تاريخ الإمبريالية الحديثة ساعد النسويات على تأمل قضايا العنصر والحياة الجنسية والطبقة، لا باعتبارها فئات محددة بأطر معينة فحسب بل باعتبارها مفاهيم تقوم بـ“الترحال“، أي أنها تنتقل وتكون فاعلة بطرق مختلفة ومتصلة في مختلف الأمكنة والأزمنة. وبالرغم من مدى قابلية توظيف الأفكار والمفاهيم الناتجة عن دراسات ما بعد الكولونيالية، إلا أن ترسيخها ومأسستها (institutionalization) في الولايات والمتحدة وأوروبا ظل قاصرا على بعض المجالات ومنظور شيق، وعلى مدار السنوات العشرة الماضية على الأقل، تناولت الباحثات والباحثون المتخصصون في دراسات ما بعد الكولونيالية تلك المشكلة الخاصة بالممارسة المؤسسية. ويعمل الكثير من النقاد والناقدات، كما هو حالنا، خارج إطار ما يعتبر عامة ضمن دراسات ما بعد الكولونيالية. وذلك دون إنكار فائدتها في التفسير والتحليل.
6. إن النقلة التي طرأت على عملنا بالتحول من دراسات ما بعد الكولونيالية إلى الدراسات عبر القومية ما كان لها أن تحدث دون تفاعلنا المتواصل مع النظرسات ما بعد الكولونيالية عن الأمة والقومية. ففي المناقشات التي تتناول العولمة في السياق عبر القومي نجد أن يزوع القوميات المتنوعة (سواء المتمركزة حول الدولة أو الثقافة) يظل واضحا، فبينما تستخدم الحركات المناهضة للاستعمار النزعة القومية لتحقيق الاستقلال من السيادة الأوروبية، إلا أن تاريخ القومية الحالي قد آثار كثيرا من المسائل المهمة بشأن أبعادها التقدمية والرجعية، وباعتبارنا باحثتين نسويتين فإننا نرى القومية كعملية تشهد حصول نخب أبوية جديدة السلطة لإنتاج ضمير “نحن” المعمم على الأمة. إن المشروع القومي القائم على إضفاء التجانس ونفي الاختلاف ينعكس على جسد المرأة كرمز للأمة وذلك من أجل توليد خطابات عن الاغتصاب والأمومة والطهر الجنسي والإيعاز بأن الهوية الجنسية الغيرية في الهوية الاعتيادية (heteronormativity).
7. ولكن النظم القومية ليست أبوية فحسب، ففي الدراسات المعاصرة للنساء الرحالة الأوروبيات تكشفت لنا الطرق التي شاعت بها الخطابات ذات المركزية الأوروبية عن المرأة الخاضعة للاستعمار باعتبارها ضحية ثقافتها، كما تشير تلك الدراسات إلى أن هؤلات النساء الرحالات کی عبرن عن أفكار قومية فيما يتعلق بتفوق بلادهن وما بها من قدرات مقابل دولية “الآخر” الجامع للاستعمار وهو الأمر الذي يفسر على سبيل المثال السبب الذي جعل النساء البريطانيات في أواخر القرن الناس عشر مستمرات في الإيمان بأن بلادهن كانت جلة الحرية في حين كن من أنفسهن محرومات من حي التصويت وكن يناضلن من أجل حقوقهن، وهو المر الذي قد يفسر أيضا لماذا خلت الكثيرات من نساء الطبقة العاملة في بريطانيا مساندات لمشروع الاستعمار البريطاني، مع انخراطين في النضال العمالي، إن النزعة القومية تخلق ذلك التغييب، أي النسيان الأيديولوجي والمقصود، وهي ممارسات مستمرة حتى اليوم. فعلى سبيل المثال حصلت نساء من بلدان إسلامية على حق اللجوء في الولايات المتحدة لزعمين أن ثقافاتهن الأبوية تضطهدهن، وذلك على الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال من البلاد التي ترتفع فيها معدلات العنف المنزلي ارتفاعا بالغا.
8. من خلال الانتباه إلى التفاعلات القائمة بين النساء من أمم مختلفة يمكننا أن نفهم طبيعة ما يطلق عليه مسمى العلاقات “عير القومية“، أي العلاقات عبر الحدود القومية، وبالاستعانة بمثل هذا التحليل عبر القومي يمكننا أن نحصل على صورة مختلفة للغاية عن علاقة النسوية بالقومية إن هذا النوع من التحليل يتناقض مع القناعة الشائعة القائلة بأن النسوية موجودة في علاقة عدائية مع القومية إن التعقيد القائم في القومية يتمثل في أنه على الرغم من أن القومية والنسوية كثيرا ما تردان متعارضتين، إلا أن ذلك التعارض لا يمكن أن يعتبر مجرد مقاومة للقومية، لأنه كثيرا ما لا يمكن لأحديهما الوجود دون الأخرى، وكثيرا ما تتم صباغة وبناء أحدهما فقط من خلال الأخرى.
9. وفي سبيل الانتقال إلى هذا النوع من المقاربة النقدية فإننا في حاجة إلى مفهوم الحالة عبر القومية لتساعدنا في التفرقة بين ممارساتنا وبين ممارسات النسوية العالمية (global feminism) إن الممارسات النسوية عبر القومية ترجعنا إلى الدراسة البيلية للعلاقات بين النساء في أجزاء متنوعة من العالم وهي علاقات غير مستوية، وكثيرا ما تكون غير متساوية، ومعقدة، فهي تتبع من الحاجات والبرامج المتنوعة للنساء في عديد من الثقافات والمجتمعات، وإذا أخذنا في الاعتبار هذا العالم بالغ التعدد والتنوع ومتعدد الأوجه، فكيف نقوم بفهم أوضاع النساء وتدريسها؟ وعندما نطرح هذا السؤال فإن العلاقات بين النساء تصبح على نفس درجة التعقيد القائمة بين المجتمعات أو بين الأمم ولكن بدلا من مجرد استخدام نموذج استرجاع المعلومات عن تعددية النساء حول العالم، وهو مشروع لا نهائي وعشوائي، فإن علينا تعليم طالباتنا وطلابنا كيفية التفكير في قضايا الجندر في عالم شهدت حدوده تغيرات. ونظرا لأن البحوث والدراسات التي تمت مؤخرا بينت لنا أن الجندر والطبقة والدين والحياة الجنسية تنتج أنواعا مختلفة من النساء في علاقتين بأنواع مختلفة من النظم الأبوية، فبالتالي يجب علينا تصميم مقررات دراسية تقدم رؤية أكثر تعقيدا فيما يتعلق بكيفية تحول النساء إلى “نساء” (أو أنواع أخرى من الذوات الخاضعة لعلاقات الجندر) حول العالم. إضافة إلى ذلك، فإننا في حاجة إلى تدريس موضوعات عن أثر القوى العالمية، مثل الاستعمار والتحديث والتنمية، على ممارسات تفرض علاقات قوى جنس على الآخر (gendering practices)، المحددة والموضوعة في سياقها التاريخي، وهي ممارسات تخلق عدم مساواة وعدم تناظر.
۱۰. فبدون جهود دراسات ما بعد الكولونيالية، كيف كان لنا حتى أن نبدأ في فهم مدى التعقيد القائم في العلاقة بين القومية والنسوية؟ وبالتالي، فكيف كان لنا أن نفهم الطرق التي تم بها إنتاج أشكال العنصرية والقومية والقهر على أساس الجندر، مجتمعة غير منفصلة؟ وبالنسبة لنا، وعلى مدى حوالي عشرين عاما، مكنتنا دراسات ما بعد الكولونيالية من فهم التواريخ المنشورة عالميا عن الجندر والسلطة. فعلى سبيل المثال، وباعتبارنا عضوتي هيئة التدريس في الدراسات النسائية، فإننا نتعامل من ناحية مع العاملة الصناعية في خطوط الإنتاج متعددة القومية، أو مع الأعداد المتزايدة من النساء السجينات في سجون تقع في المدن الكبرى. إن التحدي الذي يواجهنا هو توفير إطار عام يمكن فيه دراسة كافة تلك الأوضاع معا، بدلا من تجاهل واحدة على حساب الأخرى. إن دراسة الحركات عبر القومية في علاقتها بتاريخ الحركات الاستعمارية والحالة ما بعد الكولونيالية سوف تنتج نظريات نسوية جديدة.
إندريال جريوال، أستاذة الدراسات النسائية والجندرية والجنسانية في جامعة يال بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي مهتمة بالنظرية النسوية عبر القومية، وعلاقة الجندر بالعولمة ويحقوق الإنسان، والدراسات الثقافية في جنوب آسيا، والنسوية ما بعد الكولونيالية وكان كتابها الأول الصادر عام ١٩٩٦ عن الوطن والحريم الدولة والجندر والإمبراطورية وثقافات الترحال، كما أصدرت عام ٢٠٠٥ كتابا عن النسويات الأمريكية عبر القومية والشتات والليبراليات الجديدة، وتعمل حالي على مشروع كتاب عن الممارسات النسوية الخطابات الأمنية.
كارين كابلان، أستاذة الدراسات الأمريكية والدراسات الثقافية في جامعة كاليفورنيا ديفيز بالولايات المتحدة الأمريكية. واهتمت بأدب الرحلات وخطابات ما بعد الحداثة عن التنقل والتهجير في كتابها الصادر عام 1996، وقد ركزت في دراساتها على علاقات الهيمنة وما بعد الحداثة والممارسات النسوية عبر القومية والدولة، كما تجمع بين اهتمامها بالدراسات الأدبية والثقافة البصرية والثقافات الرقمية في عصرنا الحالي.
* Inderpal Grewal and Caren Kaplan, “Postcolonial Studies and Transnational Feminist Practices. Jouvert Online Jounal, 5: 1 (2000): https://social.chass.ncsu.edu/jouvert/v5i1/grewal.htm