تراوحت أدبيات الفكر النسائي بين اتجاهين: اتجاهٌ يرى حركة النساء موجهةً أساسًا ضد القيم الذكورية والمجتمعات الأبوية التي سادت طوال العصور الماضية، وتدعو صاحبات هذا الاتجاه إلى محاربة العالم القديم، عالم الذكور، عالم الحروب والمجاعات، لتسود قيم المرأة واهبة الحياة والمدافعة عن السلام، وهنَّ يرين أن تلك الحرب خطوة أولى وضرورية لتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، وهناك اتجاهٌ آخر ترى صاحباتُه أنَّ مشكلة المرأة مرتبطة ارتباطًا عضويًا بتخلف مجتمعها اقتصاديًا وسياسيًا، وبالتالي تخلف قيمه ومفاهيمه, وتدعو صاحباتُ هذا الاتجاه إلى توحُّد جهود الرجال والنساء المضطهدين لمواجهة أسباب الاضطهاد، ويبشرُ هذا الاتجاه بأن تحرر الوطن هو الطريق الواقعي لتحرر المرأة والرجل على حد سواء، وبين هذين الطرفين تبرز اتجاهاتٌ تحاول الربط بين الاثنين بدرجات متفاوتة، مستفيدةً من أنَّ وجود الاختلاف يُبرز صحة وخطأ كلِّ مقولة.
إن فهمًا أدق لقضايا المرأة يُلقى عبء توضيح كلا الاتجاهين، وتقديمهما بطريقة غير منحازة وتفهم دوافعهما. وكتابنا اليوم تنتمى صاحبته إلى الاتجاه الثاني: دومتيلا دوشنجارا ، سيدة من بوليفيا، وزوجة لأحد عمال المناجم في أكبر مركز لاستخراج المعادن في سيغلو٢٠، تعيشُ تحت حدود الفقر مع أسرتها الكبيرة زوجها وأطفالها الثمانية.
اكتشفت دومتيلا بخبرتها الذاتية، أن الحكومة (صاحب الامتياز في استغلال المنجم) لا تستغلُّ زوجها وزملائه من العمال فقط؛ بل تستغلُّ أسرهم أيضًا.. العمال يحصلون على أجور منخفضة.. وعلى منازل مؤقتة، وهم مُعرضون للأمراض المهنية بشكل حتمى بعد سنوات من العمل..
وعندما يبدأ العمال في تقيؤ رئاتهم المصابة مع الدم .. يُطردون من منازلهم مع وقفهم عن العمل.
أما زوجةُ العامل فهي تستيقظُ قبل زوجها لتعد الطعام الذي يأخذه معه للمنجم.. وتنتظرُ بالساعات في طوابير الحصول على المواد الغذائية الأساسية.. وتقوم بعمل المنزل المجهد حيث لا توجد وسائل راحة، ولا تجهيزاتٌ صحية ولا مياه.. وتقوم بتوفير الأجر القليل بالحياكة لأبنائها وزوجها، والتفنن في تحويل الأنواع الرديئة من المواد التموينية إلى شئ يُمكن أكله. كما تحاولُ بعضهنَّ صنع أنواع من المأكولات والمشغولات والمتاجرة فيها لزيادة الدخل.
ورغم هذا تسودُ المجتمع تلك الفكرة الخاطئة” أن النساء لا يعملن لأنهن لا يُساهمن اقتصاديًا في البيت“، وتردد دومتيلا: أنهن بأجر صغير كالذي يتقاضاه أزواجنا، على المرأة أن تعمل أكثر بكثير في المنزل، وهذا بالفعل عمل غير مدفوع الأجر.
لقد رُبيت دومتيلا ككلِّ نساء طبقتها، على أن المرأة وُجدت للطبخ والعناية بالأطفال، وأنها يجب ألا تدسَّ أنفها في شؤون السياسة، باعتبار السياسة حكرًا على عالم الرجال. وقد سنحت لدومتيلا الفرصة لتغيير مفاهيمها وحياتها مع ازدياد عنف الحركة الشعبية في بوليفيا، حيث أدى إلقاءُ القبض على عدد كبير من عمال المنجم بزوجاتهم إلى تشكيل لجنة للمطالبة بالإفراج عنهم. (لجنة ربات البيوت في سيغللو ٢٠)
ونتيجة تصاعد الأحداث، وجدت دومتيلا نفسها تشاركُ مع بقية النساء في أعمال هذه اللجنة التي اتسع نشاطها، واكتسبت شرعيةً تنظيمية وانضمت لاتحاد العمال مع بقية النقابات .
ولم يكن حصول اللجنة على مكانتها سهلاً، فقد عانت من نوعين من المعوقات، أولهما ملاحقةُ الحكومة لقائدات هذه اللجنة بالسجن والتعذيب، وتشريدهنَّ مع أسرهن، وثانيهما عدمُ تقبل رفاقهن من الرجال قيامهنَّ بهذا الدور الجديد بحكم عادات المجتمع السائدة، أو بحكم تعرض أزواج النساء النشيطات للملاحقات البوليسية أو التهديد بالطرد من العمل.
لقد اكتسح تنامي الحركة الشعبية وجدية النساء وقوة ساعد منظمتهنَّ المعوقات الثانية، ليقف الرجال والنساء في المناجم صفًا واحدًا للدفاع عن قضيتهم المشتركة، وفي بداية تعامل دومتيلا مع لجنة ربات البيوت، هددها رجالُ الدين بطردها من جماعتهم، لأن الدين لا يسمحُ بالاختلاط بالشؤون السياسية، وأن حل شؤون البشر هو في الالتزام بتعاليم الكتاب المقدس.
وتجيب دومتيلا في مناظرتها معهم: (لنفرض أن هناك أرملةٌ لديها أطفالٌ كثيرون، وطلب منها بعضهم أن تكذب فيعطيها بالمقابل بعض الخبز، لنقل فيما بعد أنها اضطرت أن تسرق، لنقل أن أحد أطفالها مرض واحتاجت المال، ومن يأسها قبلت حتى البغاء، لتنقذ حياة طفلها، الآن وبحسب تفكيركم أن العاهرات والكاذبات وأمثالهنَّ لن يعرفن بالحياة الأخرى، مملكة الله. لن ترى الأرملةُ وجه الله، لن تتمكن من دخول الجنة، أنا لا أستطيع قبول ذلك. ومع أنكم تعتقدون أن العون الروحي هو الشيء الوحيد المهم، أعتقد أنكم يجبُ أن تبدأوا بالعون المادي، إذا أمنت الأرملةُ عملاً، تستطيع أن تقول لها : يقولُ الإنجيل” لاتكذبي أو تسرقى أو تزني ” ستتمكن عندئذ من أن تعيش حسب ذلك القانون).
كيف استطاعت امرأةٌ بسيطة فقيرة من قرى المناجم المعزولة، أن تصبح قائدةً سياسيةً ومناضلةً على مستوى حركة النساء. الفضل يرجع للواقع البوليفي: فقراءٌ يزدادون فقرًا، وأغنياءٌ يتبرجون بغناهم الفاحش أمام هذه الفئات المطحونة. نساءٌ يفقدن أزواجهن في شرخ الشباب بأمراض المناجم، ثم ترفض المناجم أن توفر عملاً للأرامل يقيهنَّ وأسرهنَّ الكبيرة العوز، وتكتفى بمكافأة صغيرة للأسرة مع طردها من مساكن الشركة. لقد أكسبت تلك الحياة البغيضة الشاقة مناضلي المناجم البسطاء فضيلةً رائعة، هي التكافل. إن العائلة منهم عندما تحصل على عشاء طيب تُفكر أن الجيران ربما كانوا جوعي في هذه الليلة. وحين سُجنت دومتيلا فترةً طويلة، وعادت لأطفالها استقبلها الأولاد دون أن تبدو عليهم مظاهر الهزال: (لقد أعطانا الرفاقُ خبزًا وطعامًا، واشتروا لنا الأقلام ومُعدات الدراسة). لقد كان عمل لجنة ربات البيوت محفوفًا دائمًا بالصعوبات، وفي إحدى المظاهرات الأولى التي قمن بها ليطالبن بعمل، عادت كل واحدة ليلقاها زوجها بعلقة ساخنة حتى لا تعود مرةً أخرى لتلك الترهات. وفي تلك المظاهرة حين وقفت امرأةٌ لتخطب صرخ فيها الرجال: اذهبن إلى البيت، إلى المطبخ، إلى الغسيل. ولكن مع قوة النساء ورغبتهنَّ بالعمل، قام كل رجال المنجم بالإضراب عن العمل لأيام حين ألقى القبض على قائدات اللجنة. وفي كتابها تستعرض دومتيلاً موقف لجنتهن من كل الأحداث السياسية التي مر بها وطنها، بعد أن استطاعت اللجنة أن ترفع درجة وعى المرأة بذاتها، وقدرتها على مشاركة الرجال في صنع الأحداث، والتأثر بها .
وربما كان هذا هو ما قدمته دومتيلا ورفيقاتها للحركة النسائية.
وحين دعيت دومتيلا لمحكمة السنة العالمية للمرأة سنة ١٩٧٤ في المكسيك كقائدة شعبية، اختلفت مع وفد بوليفيا النسائي الرسمي الذي كان يُدلي بتصريحات وهمية عن أن النساء في بوليفيا حققن المساواة مع الرجال، واختلفت مع النسويات من أوروبا وأمريكا اللاتي قدمن للمحكمة ليقلن أن الرجال أعداؤنا: ويطالبن بإعلان الحرب ضدهم.
وقد دافعت دومتيلا مع نساء أخريات من أمريكا اللاتينية عن وجهة النظر التي تقول: أن بالنسبة لهن المهمة الأولى ليست في النضال ضد رفاقهن، بل معهم لتغيير النظام الذي يعيشون فيه، والعمل على قيام نظام يكون فيه للرجال وللنساء الحق في الحياة والعمل والتنظيم.
لقد كان لمشاركة دومتيلا ونساء أمريكا اللاتينية بفاعلية في هذا المؤتمر، أكبر الأثر في الحركة النسائية العالمية، حيث بدأت تجارب النساء في العالم الفقير تحظى بالاهتمام المناسب، وتعلمت نساء أوروبا وأمريكا أن مشاكل النساء ليست واحدةً في كل البلدان وكل الطبقات، وأن الديمقراطية داخل الحركة النسائية تتطلب منا أن نسمع الأخريات باهتمام، ونحترم ونتفهم وجهات نظرهن لأنها ثمرة تجربة حية حقيقية لشعوبهن.