ذوات الأصابع الماهرة عمالة رخيصة

تاريخ النشر:

2015

اعداد بواسطة:

ذوات الأصابع الماهرة عمالة رخيصة“:

تحليل لعمل نساء العالم الثالث في الصناعات التصديرية *

مقدمة

أتيح للنساء في الكثير من بلدان العالم الثالث منذ أواخر ستينيات القرن العشرين نوع جديد من العمل مدفوع الأجر، ألا وهو العمل في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالميالتي تنتج منتجات صناعية يقتصر تصديرها على البلدان الغنية. وعادة ما تتكون الأغلبية العظمى من عمال هذه المصانع من شابات تتراوح أعمارهن بين الرابعة عشرة والرابعة أو الخامسة والعشرين. ومع أنهن لا يشكلن إلا نسبة ضئيلة من إجمالي نساء العالم الثالث، فإن قضيتهن قضية مهمة تستحق الدراسة، لأن توفير الوظائف للنساء كثيرًا ما يعتبر سبيلاً مهمًا لدمج النساء في عملية التنمية، وهو مطلب خرج من مؤتمر الأمم المتحدة للعام العالمي للمرأة الذي عقد في عام ١٩٧٥ تحت رعاية مختلف هيئات التنمية الدولية.

تؤمن مجموعة كبيرة من أصحاب الرأي، من هيئات التنمية الدولية، والهيئات الحكومية، وأصحاب التيار الماركسي السائد، ومنظمات المرأة إيمانًا عميقًا بفكرة أن الوضع المتدني للنساء ناتج من حرمانهن من فرص التوظف، ويمكن إنهاؤه بتوفير فرص عمل كافية للنساء. وقد قمنا بدراسة في ورشة عن تدني وضع النساء في عملية التنمية عقدت بمعهد دراسات التنمية التابع لجامعة ساسيكس، وخرجنا منها برفض هذا المنظور كنقطة انطلاق. لا نقبل القول بأن المشكلة تكمن في استبعاد النساء من عملية التنمية، بل نرى أن العلاقات التي يتم عن طريقها دمجالنساء في عملية التنمية هي التي تحتاج إلى إثارة تساؤلات نقدية (problematization) بشأنها وتمحيصها. فهذه العلاقات قد تكون جزءًا لا يستهان به من المشكلة لا جزءًا من الحل.

نقطة انطلاقنا إذن هي الحاجة لتقييم المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي من منظور ما تقدمه لنساء العالم الثالث اللاتي يعملن بها من إمكانات جديدة، وما تثيره لهن من مشكلات جديدة.

 

تمثل المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي نقلاً لعمليات إنتاج أنواع معينة من المنتجات الصناعية من البلدان المتقدمة، التي ما زال أهلها يستهلكون هذه المنتجات، إلى العالم الثالث. وغالبًا ما تصنف هذه المنتجات في فئتين: المصنوعات التي تستخدم فيها تكنولوجيات قديمة متفق عليها (أو تكنولوجيات تقليدية“)، (مثل صناعات الملابس، والنسيج، والأدوات الرياضية، ولعب الأطفال، والسلع التي توزع إلكترونيًا (soft goods)، مثل ملفات الموسيقى، والبرمجيات، وماشابه، والأثاث، الخ)؛ والمصنوعات التي تستخدم لإنتاجها التكنولوجيات الحديثة، (مثل السلع الكهربية وقطع الغيار التي تدخل في صناعة الإلكترونيات).

ومع ذلك، يمكن أن يكون التأكيد على حداثة الأساس التكنولوجي للصناعات (أو عدم حداثته) أمرًا مضللاً، لأن الأساس التكنولوجي لبعض الصناعات، مثل صناعات الإلكترونيات يتطلب عمليات معقدة يستخدم فيها قدر عال من المعرفة المكثفة، وما زالت هذه العمليات تتركز في بعض البلدان المتقدمة، مثل اليابان والولايات المتحدة الأمريكية. وقد نقلت أجزاء من هذه الصناعات إلى بلدان العالم الثالث، وهي أجزاء تشترك في سمات كثيرة مع المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي القائمة على تكنولوجيات قديمة متفق عليها مثل: أن عمليات الإنتاج فيها تخضع لمعايير موحدة، وأنها ذات طابع تكراري رتيب، ولا تستدعي إلا العلم بالقليل من المعارف الحديثة، وتعتمد بشدة على العمالة الكثيفة. وفي كثير من الحالات، يكون سبب ارتفاع كثافة العمالة في هذه الأنواع من عمليات الإنتاج أنها من نوع عمليات تجميع أجزاء السلعة، التي ثبت أنها صعبة أو مكلفة أو تجمع بين الصعوبة والكلفة لو أجريت عن طريق المزيد من الميكنة.

عادة ما تعمل المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي وفقًا لعقود من الباطن (subcontracts) لأمر عميل أجنبي معين، وهذا العميل هو الذي يتولى ترتيب عملية تسويق المنتجات. قد يكون المصنع من المصانع التي تنتج الحساب السوق العالمي مملوكًا لرأسمالي من أهل البلد، وقد يكون بأكمله فرعًا مملوكًا للعميل الأجنبي، أو قد يكون مشروعًا مشتركًا بين رجال أعمال من العالم الثالث والعميل الأجنبي. والمصانع التي تنتج قطع الغيار المستخدمة في الصناعات الإلكترونية لحساب السوق العالمي عادة ما تكون فروعًا مملوكة كليًا أو جزئيًا لشركات يابانية، أو أمريكية شمالية، أو أوروبية متعددة القوميات. والشركات الكبرى متعددة القوميات العاملة في مجال التجارة وتجارة القطاعي التي تقع مقارها في البلدان المتقدمة كانت شديدة الأهمية في تطوير التجارة في السلع الاستهلاكية النهائية التي تنتجها المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي. والشركات الأمريكية واليابانية الكبرى لتجارة القطاعي مثل سیرز روبك (Sears Rocbbuck)، وماركس آند سبنسرز (Marks and Spencers) وسي آند إيه مودز (C& A Modes) تبرم الآن عقودًا ضخمة جدًا مع المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي. فقد قدر مثلاً أن حوالي 40% من التجارة الخارجية لكوريا الجنوبية في يد أربعة شركات تجارة يابانية كبرى، بل يقال إن هذه النسبة في تايلاند أعلى.

وبعض المصانع التي تنتج سلعًا استهلاكية نهائية لحساب السوق العالمي لا تقوم بأكثر من تجميع الأجزاء التي أمدها بها عملاؤها. من الأمثلة المضبوطة على هذا خياطة منتجات مثل الملابس، والقفازات، والحقائب الجلدية، فتصميم هذه السلع وتفصيلها يحدث في البلدان المتقدمة بمعرفة الشركة العميلة. فمثلاً، تفصل البنطلونات في ألمانيا، وتشحن في حاويات عن طريق الجو إلى تونس، حيث تجري خياطة القطع المفصلة سلفًا بعضها مع البعض، ثم تعلب، وتشحن عائدة الى ألمانيا لتباع هناك. في هذه الحالات، تكون المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي مدمجة تمامًا في عملية الإنتاج التابعة للشركة العميلة، حتى لو كانت مستقلة رسميًا عنها.

ويمكن للعميل أن يتحكم في عملية الإنتاج من خلال توفيره للمواد التي سيجري تصنيعها، أو دوره في التصميم، أو تشغيل رأس ماله، إلى حد أنه على الرغم من تمتع المنتِج رسميًا بالاستقلال في اتخاذ القرار، فإن العميل يقوم عمليًا بتشغيل نوع من نظام الورش الذي ساد في القرن التاسع عشر” (Putting- out system) وإن كان أكثر تعقيدًا، وعلى الرغم من أن نقل السلع عبر الحدود القومية قد يبدو كما لو كان منظمًا من خلال مبيعات السوق ومشترواتها، فقد يكون في الحقيقة نقلاً لهذه السلع بين قسمين من أقسام عملية إنتاج واحدة لا تتجزأ. ويوجد محك جيد لاختبار هذا النظام، ألا وهو أنه لو فسخت العقود المعينة التي يعمل بمقتضاها هذا المصنع الذي ينتج لحساب السوق العالمي، يمكنه أن يجد بسهولة مشترين بدلاء لمنتجاته، أو مصادر بديلة لتزويده بنفس الخامات.

وفي بعض الحالات يوجد مجال محدود للمبادرات المحلية، واستقلالية نسبية باتخاد القرار إلى حد معين. وهونج كونج مثال جيد على الشكل الذي قد يأخذه هذا النوع من الاستقلال النسبي باتخاذ القرار، فحين واجهت هونج كونج وضع ضوابط على الواردات، نجح رجال الأعمال العاملين في مجال صناعة الملبوسات هناك في التحول إلى تشغيل خطوط إنتاج جديدة تمون طرف السوق الذي يتعامل في المنتجات ذات النوعية الممتازة، لا طرفه الذي يتعامل في النوعيات الأرخص من المنتجات. وبينما تنتج الغالبية العظمى من مصنوعات الملابس في هونج كونج بموجب عقود لصالح مجموعات كبرى من المشترين الغربيين، وتصنع وفقًا لمعاييرهم الخاصة، فان عدد الصانعين الذين يطورون منتجاتهم الخاصة ويسوقونها بمعرفتهم قد بدأ في الازدياد.

لكن درجة تمتع المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي بالاستقلال باتخاذ القرار محدودة عمومًا لأنها تفتقر إلى وسائل تطوير تكنولوجيات جديدة. فمثلاً، صناعة الإلكترونيات الاستهلاكية التي طورت في هونج كونج ومملوكة لناس من أهلها (وهي الصناعات التي تنتج أجهزة الراديو، والساعات، وألعاب الكمبيوتر، وما إلى ذلك) عانت من صعوبات في ضبط جودة بعض الأشياء الافتقارها لمعرفة الأسرار الفنية التكنولوجية لتصنيعها. وتشير كل الدلائل إلى أن المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي لا يمكنها أن تبتكر أسسًا تكنولوجية جدة للتراكم الرأسمالي، ومن أهم ما توجهه حكومات العالم الثالث من نقد للمصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي أنها ينقصها نقل التكنولوجيا.

السبب الرئيسي لذلك هو محاولة التغلب على القيود التي تضعها العمالة في البلدان المتقدمة على عاتق أصحاب المصانع والتي تحد من الربحية. أن استغلال العمالة شرط ضروري لربحية رأس المال، إلا أنها تضع رأس المال أيضًا في مواجهة معارضة محتملة.1 لا يمكن أبدًا تقرير العلاقة بين رأس المال والعمالة بأكملها وفقًا لما يناسب رأس المال. قد يحاول أفراد من الرأسماليين الالتفاف حول هذه المشكلة بالتلاعب بالسوق الصالح منتجاتهم، لكن وجود أصحاب رأس مال آخرين يحد من قدرتهم على فعل هذا. وفي الحالة التي نحن بصدد دراستها، كان التنافس بين رؤوس الأموال التي تشغل عمالة كثيفة لإنتاج منتجاتها في الولايات المتحدة الأمريكية من جهة, واليابان من جهة أخرى ذات أهمية خاصة. كانت المشكلة التي طرحتها العمالة في اليابان في ستينيات القرن العشرين أقل بكثير من المشكلة التي طرحتها في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية. فقد كانت مستويات الأجور في اليابان أقل والإنتاجية أعلى، فتمكنت الشركات اليابانية من تخفيض أسعار منتجاتها عن أسعار منتجات منافسيها الأمريكيين والأوروبيين الغربيين الذين اضطروا لبيع منتجاتهم بأسعار أعلى ليتمكنوا من تغطية نفقات الإنتاج. وقد كان من الممكن تلافي أثر هذا الوضع على الشركات الأمريكية والأوروبية الغربية إلى حد ما بتدخل الدولة، كان تفرض ضوابط على الواردات. لكن هذا النوع من التدخل ينحو إلى البقاء في حدود محدودة بفعل التنافس المستمر بين رؤوس الأموال في مختلف الصناعات في أي اقتصاد قومي. ورغم أن الضوابط على الواردات تنحو إلى زيادة ربحية الشركات في فروع الصناعة المحمية، بتمكينها من تقاصي أسعار أعلى، فإنها تنحو إلى إنقاص ربحية الشركات في غير ذلك من فروع الصناعة، بأن تزيد مثلاً من تكلفة الأجور بسبب ارتفاع تكلفة السلع التي تشتريها هذه الأجور، مثل المنسوجات والملبوسات.

إن القيود التي يضعها التنافس على الاستراتيجيات في السوق تعني أنه لابد من التحرك لاتخاذ خطوات ما في عملية الإنتاج. قد يأخذ هذا التحرك شكل الاستثمار في تكنولوجيا جديدة من شأنها أن تقلل من الحاجة إلى العمالة أو تخفض من كلفتها، أو تحقق الهدفين معًا, بالسماح بمزيد من الضوابط التي تحكم القوى العاملة في المصنع أو استبدالها بعمالة أرخص، وما إلى ذلك، على أن يجري هذا الاستثمار الجديد في مواقع موجودة بالفعل. (للاطلاع على نقاش كلاسيكي أجري حديثًا بشأن إمكانية حدوث هذا، انظري/ انظر بريفرفمان (Braverman). أو قد يأخذ هذا شكل استثمار في مواقع جديدة، سواء باستخدام تكنولوجيا جديدة أو بدون ذلك، لاستغلال القوى العاملة الأرخص أجورًا والتي يسهل التحكم فيها أكثر من غيرها.

في حالة الصناعات التي كانت تستخدم عمالة مكثفة في نهايات ستينيات القرن العشرين، واجه رأس المال عوائق تكنولوجية، حيث كانت الميكنة إما شديدة الصعوبة أو باهظة التكلفة بالنسبة للكثير من عمليات التجميع. وفي الوقت نفسه، خفض التقدم في تكنولوجيا النقل والاتصالات من تكلفة وضع عملية الإنتاج في مواقع تبعد بمسافات طويلة عن السوق الذي تخدمه؛ وكانت حكومات العديد من بلدان العالم الثالث قد نشطت في مد الصناعات التي تعتمد على العمالة المكلفة بما يلزمها من بنية أساسية. وقد تحركت حكومات الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان أوروبا الغربية أيضًا لتيسير نقل الإنتاج إلى مواقع أخرى، فعدلت من تدابير تعريفتها الجمركية للسماح باعفاء السلع التي جرى تجميعها في الخارج من قطع ومكونات مستوردة من البلدان المتقدمة من الرسوم الجمركية عند إعادة إدخالها إلى هذه البلاد. وأنشأت حكومات بلدان العالم الثالث مناطق تجارية حرة، وقدمت عددًا كبيرًا من الحوافز للشركات لتنقل عمليات إنتاجها إليها2.

قدم كل هذا حافزًا قويًا لنقل عمليات الانتاج إلى مناطق من العالم الثالث، تتاح فيها قوى عاملة ملائمة. ولابد أن تقدم هذه القوى العاملة نسبة أعلى من الإنتاج مقابل التكلفة المالية للأجور، تزيد بكثير عن نسبة الإنتاج التي تتيحها العمالة المنتشرة في مراكز تراكم رأس المال الموجودة في البلدان المتقدمة. ولابد من تحقيق هذه النسبة العالية دولية تكنولوجية عالية. وقد صار لدينا الآن وثائق تسجل أن هذا قد تحقق في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي بمزيج من انخفاض الأجور بمراحل عن أجور العمال في البلدان المتقدمة المصحوب بزيادة الإنتاجية بمقدر أكبر مما ينتج في البلدان المتقدمة.

غالبًا ما تكون أجور عمال المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي أقل من عشر أجور عمال المصانع المثيلة التي تقع في البلدان المتقدمة، بينما تزيد ساعات العمل السنوية بما يصل إلى 50 %. أما التكاليف الإضافية التي تشمل التأمينات الاجتماعية المدفوعة، والفوائد الجانبية، وملابس العمل فهي أيضًا أقل بمراحل. وقد وجدت لجنة التعريفة الجمركية الأمريكية أن إنتاجية العمال في المنشآت الأجنبية التي تعمل في تجميع أو معالجة منتجات من أصل أمريكي تقترب عمومًا من إنتاجية العمال الذين من نفس الفئة الوظيفية في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد سجلت عدة دراسات أخرى لحظات من الإنتاجية أعلى بكثير جدًا مما في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي لم تحققها تكنولوجيا عالية المستوى، بل نتجت عن تعظيم كثافة العمالة، وزيادة استمرار الإنتاج، وبالاختصار، عن المزيد ممن التحكم في أداء القوى العاملة.

وهذه الدرجة الأعلى من التحكم في أداء القوى العاملة تعززها التدابير التي اتخذتها حكومات العالم الثالث لتجميد حقوق العمال في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي. والكثير من بلدان العالم التي سبق لها سن تشريعات تقدمية بشأن القضايا العمالية فيما مضى دمجت الآن منظمة التجارة الرسمية في جهاز الدولة، وكثيرًا ما كان هذا نتيجة لإسهام نضال النقابات العمالية في الحرب ضد الإمبريالية، وإما أن هذه البلدان قد جمدت أهم مواد هذه التشريعات أو فشلت في فرضها قانونًا. ولم يعد هناك ما يحمي عمال المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي بعد إنهاء العمل بهذه القوانين التي تحمي حقوق العمال في مسائل مثل: الحد الأدنى للأجور، والاشتراك في صناديق التأمين، وتحديد ساعات العمل اليومية وعدد أيام العمل في الأسبوع، وتأمين العمالة, وضمان دفع أجر للعمال في حالة استغناء العمل عنهم لتوفير العمالة، وحق الإضراب. ويوجد في المناطق التجارية الحرة خصوصًا تزمت في التحكم في أنشطة المنظمات العمالية، لكن في بعض البلدان، لاسيما في بلدان جنوب شرق آسيا، تغطي مثل هذه الأنواع من التحكم البلد برمتها؛ وتتشدد الدولة في استخدام سلطتها لفرضها. ومن المفارقات أن الكثير من الحكومات قد لعبت دورًا فعالاً في تقليص قدرة الفقراء على حماية أنفسهم ضد أشد أشكال الاستغلال سفورًا وقسوة باسم تحسين حياة أفقر الجماعات في العالم الثالث عن طريق خلق المزيد من فرص العمل لهم.

لكن لا يمكن تحليل وضع عمال المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي من حيث النضال الطبقي والوطني فقط، بل لابد من تحليل وضعهم من حيث النضال في مجال موازين القوى بين الرجال والنساء.

لماذا تشكل النساء الغالبية العظمى من القوى العاملة في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي؟ من الواضح أن هذا السؤال غائب في معظم الدراسات التي أجراها الاقتصاديون (والاستثناء الملحوظ من هذه القاعدة دراسة ليم (Lim 1978). ربما يكون أحد أسباب هذا الوضع أن العمل الذي تؤديه النساء في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي وتقع في بلدان العالم الثالث هو نفس العمل الذي تؤديه نساء العالم الأول أيضًا. وربما يبدو أن من توابع هذا أن العمالة في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي تسودها النساء لأن الوظائف التي يجب القيام بها تعتبر أعمال نساء“. لكن ملاحظة ربط بعض الوظائف نمطيًا بجنس العامل لا يعني تفسير هذا الربط، ومع كل، فالقوى المتنافسة ترغم الشركات الرأسمالية على اختيار قواها العاملة، وإقامة تقسيم العمل فيها على أساس الربحية، لا الأيديولوجيا. فلو كان توظيف الرجال في العالم المتقدم لتأدية الأعمال التي تؤديها النساء في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي الموجودة هناك يجلب ربحًا أكثر لفعلت الشركات الرأسمالية هذا، لا سيما أن البلدان المتقدمة لا تواجه الوضع الذي ساد في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، حين كانت القوى العاملة من الرجال تكاد تكون موظفة بالكامل. وقد نتوقع أن تدفع ضغوط العمالة المنقوصة والفقر بالرجال إلى قبول وظائف صنفت في بلدان العالم المتقدم على نحو نمطي في فئة أعمال النساء“. وهذا ما نجده حقًا في عدد كبير من الوظائف المكتبية وظائف ذوي الياقات البيضاء، مثل العمل على الآلة الكاتبة والأعمال الكتابية (Boserup 1970). لكن لا يبدو أن هذا قد حدث في المصانع التي تعمل لحساب السوق العالمي.

إن إعادة إنتاج تقسيم العمل على أساس جنس العامل في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي والذي تتميز به عمليات التجميع التي تتطلب عمالة كثيفة في البلدان المتقدمة لابد أن يقوم إذن على بعض التمايز في القوى العاملة الذي من شأنه أن يجعل توظيف العاملات أكثر ربحية من توظيف العمال في هذه الوظائف. لابد أن تكون أجور العاملات أقل من أجور العمالة, أو أن تزيد إنتاجيتهن عن إنتاجية نظائرهن من الذكور، أو أن يضمن توظيفهن مزيجا من هاتين الميزتين؛ والنتيجة النهائية في أن تكلفة إنتاج الوحدة تقل في حالة توظيف العاملات لإنتاجها. وعمومًا، يبدو أن التكلفة المالية لتوظيف النساء للعمل في المصانع التي تتنج لحساب السوق العالمي أقل من التكلفة المالية لتوظيف الرجال. وقد وجدت دراسة كيري أن أجور النساء العاملات في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي تقل عمومًا بنسبة ٢٠% -50% عن الأجور التي تدفع للرجال العاملين في وظائف مشابهة (Frobel et al. 1979) من الصعب إجراء مقارنة مباشرة بين إنتاجية العمال والعاملات، حيث إن قلة من الرجال هم الذين يعملون في وظائف عمليات التجميع المقارنة التي تستدعي استخدام عمالة كثيفة. وفي الحالات القليلة التي سجلتها وثائق، والتي استخدم فيها الرجال (في مصانع الإلكترونيات بماليزيا ومصانع النسيج في مالاوي)، كانت إنتاجيتهم في الحقيقة أقل من إنتاجية النساء المستخدمات في نفس المصانع. ويبدو أن الشركات التي تدير المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي مقتنعة بشدة بأن الأمور تسير على هذا المنوال عمومًا.

ما الذي يؤدي لحدوث هذا التمايز؟ يبدو من إجابات الشركات عند سؤالها لماذا تستخدم النساء، ومن تصريحات الحكومات التي تحاول جذب المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي إلى بلادها وجود اعتقاد شائع بأنه تمايز طبيعي، ناتج عن القدرات الطبيعية والسمات الشخصية للنساء والرجال، وعن التمايز الموضوعي لاحتياجات الجنسين من الدخل، بمعنى أن الرجال يحتاجون دخلاً لإعالة أسرة، أما النساء فلا حاجة لهن بذلك. والفترة التالية مثال طيب، وقد وردت في مطوية صادرة عن مشروع استثماري ماليزي، صمم لجذب الشركات الأجنبية:

تشتهر المرأة الشرقية لدى العالم أجمع بالبراعة اليدوية. فيداها صغيرتان، وهي تعمل بهما بأقصى ما يمكن من سرعة وإتقان، فمن أكثر تأهيلاً من الفتاة الشرقية بحكم الطبيعة والوراثة للإسهام في العمل بكفاءة في خط إنتاج

يعتمد على التجميع على المناضد! (تشديد المؤلفة)

لا يقتصر الأمر على اعتبار النساء ذوات أصابع ماهرة، بل يتعداه إلى اعتبارهن أكثر طاعة بطبيعتهن، وأكثر قبولاً للاضطلاع بضوابط العمل الصارمة، وأقل ميلا بطبيعتهن عن الرجال للالتحاق بالنقابات العمالية، وأن طبيعتهن تجعلهن أكثر ملاءمة لأداء العمل الروتيني الشاق, الرتيب. ويعزى انخفاض أجورهن إلى أنهن يحتللن مرتبة ثانوية في سوق العمل، ويعد هذا من العواقب الطبيعية لدورهن في الحمل وولادة الأطفال. إن النساء الشابات هن فقط اللاتي يعملن في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي، ويبرر هذا الوضع بأنه من آثار دورهن في الحمل والولادة؛ الذي يعني بالطبع أنهن لن يرحبن بالاستمرار في العمل أو لن يقدرن على ذلك بعد بدايات العشرينيات من عمرهن. وتعرف ظاهرة ترك النساء للعمل في المصنع عند زواجهن أو حملهن باسم الفاقد الطبيعي، ويمكن أن يكون ميزة كبيرة للشركات التي تحتاج لتنويع حجم العمالة بها دوريًا لتتواءم مع تفاوت الطلب على منتجاتها في السوق العالمي.

إننا نتفق على وجود تمايز حقيقي بين السمات المميزة لكل من الرجال والنساء كعناصر يحتمل توظيفها كعمال وعاملات في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي، إلا أننا نرى أن هذه الفوارق بين النساء والرجال ليست طبيعية بأية حال.

إن النساء لم يرثن الأصابع الماهرةالشهيرة التي لهن عن أمهاتهن كما قد يرثن عنهن لون البشرة أو العيون، بل نتحت مهارة أصابع هؤلاء النساء عن ما تلقينه منذ نعومة أظافرهن من تدريب من أمهاتهن وبقية قريباتهن على المهام التي تعتبر ملائمة اجتماعيًا لدور المرأة. فمثلاً, حيث إن حياكة الملابس على المستوى الصناعي تشبه جدًا حياكتها باستخدام ماكينة الحياكة المنزلية، فإن الفتيات اللاتي تعلمن الحياكة في منازلهن صرن يمتلكن فعلاً المهارة اليدوية والقدرة على قياس المسافات الذي يتطلبها هذا العمل. والتدريب على أشغال الإبرة والحياكة يؤدي أيضًا إلى تنمية مهارات يمكن نقلها لعمليات تجميع أخرى:

إن المهارة البدوية العالية قد تكون مطلوبة في العمليات الصناعية المعتادة التي تتم بعقود من الباطن، ومع ذلك, يمكن تعلم العملية بسرعة بناء على ما لدى العاملة من مهارات تقليدية. وهكذا، يمكن للفتيات المغربيات (اللاتي قد يكن أميات) أن يتعلمن في ستة أسابيع تجميع أجزاء ذاكرة الكمبيوتر تحت العدسات المكبرة، والتي عادة ما تخاط مع بعضها بأسلاك نحاسية، علما بأن الحياكة من المهارات التقليدية في المغرب. وفي مجال الصناعات الكهربية يوجد معادل للخياطة، ألا وهو تجميع الكابلات المكونة من أسلاك كهربية ذات أغلفة مختلفة الألوان، وفي الصناعات المعدنية، نجد أن بعض أشكال اللحام توازي المهارات التقليدية التي تتعلمها الفتيات، (Sharpston 1976, 334)

يرجع هذا جزئيًا إلى أن هذا التدريب غير مرئي اجتماعيًا ويتم في إطار من الخصوصية، مثله كمثل الكثير من أنشطة النساء التي تصنف في فئة الأعمال المنزلية، وأن المهارات الناتجة عنه تعزى للطبيعة، والوظائف التي تستفيد منه تصنف على أنها أعمال لا تحتاج إلي مهارةأو تحتاج إلى نصف مهارة“. وباعتبار أن المهارة اليدوية العاليةمطلب معترف به للكثير من أعمال التجميع التي تقوم بها النساء في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي، وأن النساء العاملات في الصناعات الإلكترونية يتعين عليهن أن ينجحن في اختبارات القدرات بدرجات عالية، يتضح أن تصنيف هذه الوظائف تحت فئة الوظائف التي لا تحتاج لعمالة ماهرةلا ينبع من مجرد السمات الفنية للعمل. إن التدريب على العمل في المصنع لا يتطلب إلا دورة تدريبية قصيرة، وما تلبث العاملات حتى يصرن شديدات المهارة بعد مضي وقت قصير على انتهاء هذه الدورة، بيد أن هذا لا ينتقص من هذه الخلاصة. فالنساء لا يلزمهن إلا تدريب بسيط وتدريب يتم داخل مقر العمل وأثناء قيامهن به لأنه مدربات بالفعل.

فالفتاة التي تعرف الخياطة بالفعل تستغرق ستة أسابيع لتتعلم كيف تخيط الملابس على المستوى الصناعي Sharpston 1975, 105) ،تشديد المؤلفة)

وبعبارة موضوعية، من الأقرب للدقة أن نتحدث عن الأعمال التي تتطلب عمالة سهلة التدرب، لا عن أعمال تتطلب عمالة غير ماهرة. لكن فئات المهارات لا تقرر وفقًا لوسائل موضوعية بالطبع (Bravermam 1974). وتميل الوظائف التي تنحو نحو التعريف كأعمال تقوم بها النساء إلى أن تصنف على وجه الخصوص على أنها أعمال لا تتطلب عمالة ماهرة، أو تتطلب عمالة نصف ماهرة، بينما تعرف الوظائف الشبيهة بها فنيًا والتي تنحو نحو التعريف كأعمال يقوم بها الرجالإلى تصنف على أنها أعمال تحتاج إلى عمالة ماهرة” (Phillips and Taylor 1980). والنساء لا يقمن إلى حد بعيد بأداء الأعمال التي لا تتطلب عمالة غير ماهرةلأنهن يحملن عبء الأعمال الأدنى، بل يقال إن الأعمال التي يتولينها لا تتطلب عمالة ماهرةلأن النساء يدخلنها وقد تقرر عنهن مسبقًا أنهن يقمن بالأعمال الأدنى.

إن الطابع غير المنظور للتدريب الذي ينتج عنه هذه المهارات اليدوية وعدم الاعتراف الاجتماعي بتلك المهارات ليست أمورًا حدثت بمحض المصادفة، بل هي جزء لا يتجزأ من إنشاء بنية النوع (Gender Construction) في العالم اليوم. فهذه ليست مجرد عملية تمايز بين الجنسين، تؤدي إلى إنتاج أدوار منفصلة لكنها متساويةللنساء والرجال، لا تزيد عما تنتجه عملية الفصل العنصري من أدوار منفصلة لكنها متساويةللسود والبيض في جنوب أفريقيا، بل هي عملية وضع النساء كنوع في منزلة أدنى(Whitehead 1979).. وهذه العملية ليست مجرد عملية أيديولوجية، تأخذ مجراها في عالم الاتجاهات والقيم.

إن إعطاء أدوار النساء التي يقمن بها بحكم نوعهن قيمة أقل من أعمال الرجال ليس أمرًا حتميًا؛ ولا هو حتمي أن يفشل الناس في رؤية إسهامات النساء، ولا أن يعتقدوا بأن ما يصح للنساء وما يلائمهن هو أن يقبلن أن يكن في منزلة ثانوية بالنسبة للرجال. ورغم أن الأيديولوجيا تلعب دورًا في ذلك، فإننا نذهب إلى أنه لا يمكن فهم تدني منزلة النساء كنوع على أنهاتجاه أبوي، بل هو عملية مادية، لا تأخذ مجراها في رؤوسنا فحسب، بل في ما نفعله في واقعنا العملي. إننا إذ نزعم بأنها عملية مادية لا نقصد أن نختزلها إلى عملية اقتصادية لا يمكن تحليلها إلا من حيث العمالة؛ بل نقصد أن نؤكد أنها عملية لا يمكن تغييرها بمجرد الدعاية لآراء أكثر تنورًا، وأنها تتطلب تغيرات عملية في الحياة اليومية. ونحن نشير إلى أن عملية تدني منزلة النساء كنوع يمكن فهمها من حيث استبعاد النساء كنوع من أنشطة معينة، وقصرهن على أنشطة أخرى؛ حيث إن الأنشطة التي تستبعد منها النساء كنوع هي بعض الأنشطة التي تعتبر أنشطة عامة، والأنشطة الاجتماعية الصريحة، والانشطة التي تقتصر على النساء كنوع هي بعض الأنشطة التي تعتبر أنشطة خاصة، وهي على ما يبدو أنشطة فردية صرفة.

وبالطبع، يختلف اعتبار الأنشطة عامة أو خاصة، أو اجتماعية أو فردية من زمن لآخر, وبين مختلف أنواع المجتمعات، وهذا الاعتبار في حد ذاته موضوع الصراع، وليس أمرًا مسلمًا بهومقررًا سلفًا. وترجع أهمية الأنشطة التي يسودها الجانب الاجتماعي، والتي تمثل صراحة في صورة الأنشطة الاجتماعية إلى أنها أنشطة تضفي على أصحابها قوة اجتماعية. وهذا لا يعني القول بأن الأنشطة التي يسودها الجانب الخاص لا تضفي قوة على أصحابها، لكننا نعتقد أن من الخطأ النظر إلى القوة ذات الوجه الخاص كمعادل مساو للقوة ذات الوجه الاجتماعي. فالقوة ذات الوجه الاجتماعي قوة جمعية، يمكن إعادة إنتاجها من خلال عمليات اجتماعية مستقلة نسبيًا عن السمات المميزة لأفراد بعينهم. لكن القوة ذات الوجه الخاص قوة فردية صرفة، تعتمد على سمات مميزة لأفراد بعينهم، ولا يعاد إنتاجها إلا بالصدفة المحضة.

وعادة ما يمكن التمييز بين العلاقات التي تعزى للنوع، أي العلاقات التي تعتبر قائمة على التركيب الداخلي للشخص المعني من حيث نوعه /نوعها؛ والعلاقات التي لا تعزى للنوع. لكنها يمكن رغم ذلك أن تكون علاقات حاملة للنوع Whitehead 1979, 11)). من أمثلة الصف الأول من العلاقات علاقات الاقتران، فالزواج بالضرورة علاقة تتضمن اقتران أفراد من نوعين مختلفين وكل منهما له / لها نوع محدد. فالاقتران بين شخصين من نفس النوع ليس زواجًا. ومن أمثلة الصنف الثاني من العلاقات تقسيم العمل على أساس الجنس في عملية العمالة الرأسمالية. فعلى الرغم من أن علاقات العمل الرأسمالية لا تعزى لنوع الفرد، فهي علاقات حاملة النوع Phillips and Taylor 1980)). ومن الجلى أن العلاقات التي تعزى للنوع هي المواقع الرئيسية لتدني منزلة النساء كنوع، وتتخذ تدني منزلة النساء فيها شكلاً أبويًا بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ تخضع النساء فيها مباشرة لسلطة الأب (بمعني الوالد)، سواء كان والدهن أو والد أطفالهن. لكن هيمنة الرجال في العلاقات التي تعزى للنوع لا تأخذ دائمًا شكلاً أبويًا, بل يخضع الأمر في هذه العلاقات التي تعزى إلى النوع للمدى الذي يمكن أن تستخدم فيه هذه العلاقات وحدها ولا شيء غيرها كوسيط يجري من خلاله إرساء الوجود الاجتماعي للنساء على نحو كاف، بينما لا يصدق هذا على وضع الرجال. وهذا النوع من تدني منزلة النساء أمر لا يمكن لأي امرأة بصفتها الفردية أن تهرب منه بأن تتجنب أنواعًا معينة من العلاقات الشخصية مع الرجال. فمثلاً، يعني هذا التدني في المنزلة أن غياب الزوج له نفس قيمة حضوره في إنشاء هوية المرأة، وكما أوضحت إليزابيث فيليبس، التي تعمل في مكتب النساء بجامايكا:

أن الاستقلال الظاهري للنساء عن الرجال يمكن أن يكون مضللاً، فبينما قد لا تكون النساء في مرتبة أدني بالنسبة لفرد معين من أقاربهن الرجال بشكل مباشر، لكنهن خاضعات الثقافة عامة تسودها سيطرة الرجال.

فالنساء لسن كالرجال، من حيث إن مسألة النوع لا تغيب عن أفقهن ابدًا.

تعزى إلى النساء الطاعة المزعومة والتأدب، ومن ثم يعتبرن ملائمات لأداء الأعمال الشاقة، الرتبية التي تقوم بها نساء العالم الثالث، ولابد لنا من تحليل هذا الوضع في سياق تدني منزلة النساء كنوع. فهذا هو المظهر الذي كثيرًا ما تقدم النساء أنفسهن للرجال به في ظروف تدني منزلة النساء كنوع، وخاصة للرجال الذين يربطهم بهن نوع معين من أنواع علاقات السلطة، كالوالد، والزوج، ورئيس العمل. وتقدم الشعوب الخاضعة للاستعمار أنفسها لمستعمريها بمظهر مشابه لذلك، حلله فرانز قانون (Franz Tanon) بألمعية، وأظهر كيف أن ما تظهره عامة الشعوب الخاضعة للاستعمار لمستعمريها من سلبية وقدرية لفترات طويلة تخفي تمردًا داخليًا خاصًا ورغبة في الهدم. لكن هذه السلبية ليست حالة أصلية، فهي لا تكتسب إلا بجهد جهيد لقمع الذات. فـ الفرد من السكان الأصليينيعيش في حالة توتر دائم، لذا، حين يقاوم، ينحو إلى فعل هذا بتلقائية وشدة بأقصى ما لديه من قوة لأن مقاومته كبتت وأخفيت لهذه الفترة الطويلة، فيتميز رد فعله لذلك بالحركة لا بالمفاوضة (Fanon 1969, 48). ويمكن إعطاء مثال عملي على مستوى الحياة اليومية يوضح أن كبت الذات مطلوب للنساء ليصلن إلى مستوى كافٍ من الطاعة والتأدب، هذا المثال هو الفرق بين سلوك النساء في حضور رموز السلطة وغيابهم. من أمثلة ذلك السلوك الذي لاحظته دراسة نويلين هايزار Noeleen Heyzer 1978)) في أحد المصانع التي تنتج المنسوجات لحساب السوق العالمي في سنغافورة. فقد كانت العاملات في هذا المصنع دائمًا ما يأخذن حذرهن حين يوجد الملاحظون في المكان، ويبدين حينها التأدب الذي يميز النساء؛ لكن في غياب الملاحظين، يتغير سلوك العاملات، فيتحولن من إظهار التأدب والاحترام إلى السخرية من الملاحظين والتهكم عليهم. ومن المؤشرات الأخرى الدالة على أن اختلاف السلوك الخاصللعاملات وهن وسط رفيقاتهن عن سلوكهن في حضور الغرباء يرجع إلى أن بعض مصانع الإلكترونيات الواقعة على الحدود المكسيكية قد أدخلت بعض الرجال للعمل في خطوط الإنتاج التي كانت فيما سبق مقصورة على النساء، اعتقادًا بأن هذا سيحسن من انضباط العاملات وإنتاجيتهن. أن الضغط الذي يضعه هذا الكبت الذاتي على النساء وما قد يتخذه التخفيف منه من أشكال تضع في اعتبارها وجود الآخريظهر في مثال أجادت الدراسة توثيقه، ألا وهو حدوث نوبات من الهيستيريا الجماعية بين الشابات العاملات في مصانع جنوب شرق آسيا.

ومن المدهش أن الحكومات والشركات ليست على استعداد للثقة التامة في الطاعة الشخصية للعاملات، فالحكومات تشعر بالحاجة إلى تعزيز هذه الطاعة بتجميد عدد كبير من حقوق العاملات، ويعد هذا من المزايا التي تسوِّق بها الحكومات ما لديها من المناطق التجارية الحرة. لكن برغم أن العاملات في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي يتعرضن لاستخدام الدولة القوة على نطاق واسع للتحكم في النقابات العمالية ومنع الإضرابات، فهن قد تخلين علنًا في بعض الأحيان عن سمة الطاعة والتأدب وأخذن خطوات مباشرة في التحرك، رغم ما سجل من انخفاض إسهامهن في أنشطة النقابات العمالية. وتوجد مؤشرات دالة على أن هذا النضال ينحو نحو الحدوث خارج الإطار الرسمي للنقابات العمالية، إذ يأخذ مثلاً شكل اعتصامات ومسيرات تلقائية خارج نطق النقابات، لا شكل حركات منظمة تدور حول مفاوضات رسمية.

من أهم جوانب التمايز بين الرجال والنساء في القوى العاملة المتاحة للعمل في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي ما تشير إليه الكتابات عامة باسم المنزلة الثانويةللنساء في سوق العمل (Lim 1988, 11). من أهم السمات المميزة لهذه المنزلة الثانوية أن أجور النساء تنحو الي الانخفاض عن أجور الرجال الذين يؤدون نفس الأعمال أو أعمال شبيهة بها، وأن سوق العمل تميل إلى استخدام النساء كجيش احتياطيمن العمالة، يسهل فصلهن حين ترغب الشركات في توفير العمالة بها، ويسهل إعادة توظيفهن حين ترغب الشركات في التوسع في عملها مرة أخرى. يوجد ميل لتفسير هذا الوضع بأن سببه دور النساء في الأسرة، أو الدور الإنجابي للنساء“. فد يكون هذا التفسير صحيحًا بمعنى ما، لكنه غامض من حيث كون الكثير من الناس يرون أن دور النساء في الأسرةوالدور الإنجابي للنساءحقيقة لا يعدو عليها الزمن، وبديهية بيولوجية. أما ما يجب تأكيده فهو أن دور النساء في الأسرة مبني اجتماعيًا كدور متدن، حتى لو كن رأس أسرة تعولها امرأة، لأن دور النساء هو رعاية الأطفال والرجال، وهو عمل يبدو خاصًا وشخصيًا تمامًا؛ بينما دور الرجل أن يمثل النساء والأطفال في المجتمع الأوسع، وهو دور تمثيل نيابي يضفي القوة الاجتماعية على صاحبه.

إن هذا الشكل من أشكال تدني منزلة النساء بوصفهن أحد النوعين يعني أنه عند تطور سوق العمالة، لا تتمكن النساء عكس الرجال من التمتع تمامًا بكل مزايا العمل الحر المأجور. فالرجل يمكنه أن يغدو عاملاً في مجال العمل الحر المأجور:

بالمعنى المزدوج الكلمة، الذي فحواء أن الرجل كفرد حر يمكنه أن يبيع قوة عمله بوصفها سلعة تخصه، وأنه من جهة أخرى لا يملك سلعة غيرها ليبيعها فهو خالي الوفاض من كل الموضوعات اللازمة لتحقيق قوة عمله. (Marx 1976, 237)

والمرأة لا تكون خالية الوفاض، ولا حرةأبدًا بهذا الشكل، فعليها واجبات العمل المنزلي، وهي تواجه صعوبات في تأسيس التحكم في جسدها، وليست قادرة على أن تكون عضوًا كاملاً في المجتمع بما لها من حق خاص؛ لكنها تملك أيضًا إمكانية الحصول على عيش كفافها من الرجال مقابل ما تقدمه لهم من خدمات شخصية ذات طابع جنسي أو رعاية، وتملك أيضًا تحقيق قوة عملها خارج عملية العمل الرأسمالية. وهذا الفرق الذي تملكه النساء كنوع عن الرجال كنوع هو الذي يضع النساء في منزلة ثانويةفي سوق العمل. لا نقصد أن ننكر هذه المنزلة الثانوية كواقع اجتماعي، بل نقصد أن نأخذ موقفًا نقديًا من هذا الواقع، لا أن نصوره کشئ، طبيعي، فالطبيعة لا تفرض القيام بمهام تربية الأطفال كمسئولية خاصة تقع على عاتق أمهم، حرمانها من القوة الاجتماعية اللازمة لها بحكم حقها فيها لتأمين الحصول على الموارد اللازمة للقيام بهذه المهمة وبذا ترغمها على أن تكون في وضع التبعية.

إن هذه المنزلة الثانوية الناشئة عن تدني وضع النساء كنوع تعني أن العاملات عرضة بوجه خاص لمزيد من الاستغلال الفائق، بمعنى أنه لا يلزم أن يمنحن أجورًا تغطي بالكامل النفقات المالية اللازمة لإعادة إنتاج قواهن العاملة، لا على المستوي اليومي، ولا على مستوى الأجيال. ويعني أيضًا أن أجور النساء تنحو إلى الانخفاض عن أجور الرجال، حتى ولو كانت هذه الأجور تسهم في إعالة عدة أشخاص آخرين، كما هو الحال مع أجور الكثير من الشابات العاملات في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي (أو كما يحدث حقًا مع الكثير من العاملات في البلدان المتقدمة). وفي بعض الحالات، يكون إلحاق الابنة بالعمل بمثل هذه المصانع الاستراتيجية الوحيدة الباقية بيد الأسرة لكسب دخل للإنفاق على بقية أفرادها.

التأثير والتأثر بين رأس المال والنوع: حدود تحرير النساء عن طريق العمل في المصانع

منذ أن جذب العمل في المصانع أعدادًا كبيرة من النساء إبان الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر في إنجلترا، ظهر اعتقاد قوي بأن العمل المأجور يمكنه أن يحرر النساء من تدني وضعهن كنوع. وقد مال الماركسيون الكلاسيكيون إلى النظر إلى دخول النساء إلى سوق العمل المأجور على أنه استبدال لنوع من أنواع السيادة تحكم الزوج في الزوجةبنوع آخر، هو سيادة الرأسماليين على العمال (Engels 1976, 171- 178)، بحيث صار نضال العاملات جزءًا من النضال الطبقي العام. أما الليبراليون فقد مالوا دائمًا إلى النظر إلى عمل النساء كوسيلة لتحرير المرأة عن طريق توفير الاستقلال الاقتصادي للنساء، وصوروا عدم المساواة في الأجور، وفي ظروف العمل وفرصه للنساء في الاقتصاد الرأسمالي كنتيجة لتحيز وتمييز عفا عليهما الزمن. ومن المتوقع أن تتآكل هذه الاتجاهات تدريجيًا كلما أظهرت النساء قدراتهن في مجال العمل المأجور الظاهر الجلي للعيان، والذي هو عمل اجتماعي صريح، وليس كالإنتاج المنزلي. إن كون العلاقات الاجتماعية للعمل في المصانع بعيدة عن أن تعزى بطبيعة تكوينها للنوع، لكنها ذات جذور تضرب في سلسلة معقدة من العلاقات المالية غير الشخصية يعطي مثل هذه الآراء شيئًا من المعقولية.

فمثلاً، يبدو من المعقول أن التنافس بين النساء والرجال على الوظائف من شأنه أن يقوض أي أساس مادي للتمايز بين النوعين في القوى العاملة في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي. فإذا كان الرأسماليون يفضلون توظيف النساء في المقام الأول لأنهن يمكن أن يعملن بأجور منخفضة، ويمكن تدريبهن بسرعة، ويبدو أنهن يقبلن ضوابط الحياة في المصنع بسهولة، فمن المؤكد أن ارتفاع البطالة بين الرجال ستنحو إلى تقويض تفضيل النساء عليهم في سوق العمل، حيث إن الرجال – لكي يجدوا عملاً ستدفعهم الظروف لقبول نفس الأجور وظروف العمل ولاكتساب نفس الاتجاهات التي تزيد من الطلب على عمالة النساء. والنتيجة النهائية لهذه العملية انتقاء التمايز بين النوعين في القوى العاملة، فيضطلع الرجال والنساء بنفس الوظائف، في نفس ظروف العمل، وبنفس الأجور، ولا يغير من هذا إلا التفضيلات الشخصية أو التحيز لهذا النوع أو ذاك من الوظائف أو الموظفين. سينتفي أي أساس موضوعي للتمايز على أساس النوع.

لكن هذا الفرض يفشل في النظر إلى كيف تسنى للنساء اكتساب السمات التي تجعلهن قوى عاملة مفضلة في المقام الأول، فإذا كان للرجال أن ينجحوا في التنافس معهن، يلزمهم أيضًا اکتساب الأصابع الماهرةوطباع الطاعةالتي تفضل النساء بسببها. لكن عليهم للحصول على ذلك أن يمروا بنفس الخبرة الاجتماعية التي مرت بها النساء. وإذا كان للرجال أن ينجحوا في التنافس مع النساء فعليهم أن يمروا بخبرة تدني منزلتهم كنوع. لكن حيث إن الرجال والنساء لا يمكن أن يمروا معًا في نفس الوقت بخبرة تدني المنزلة كنوع، فإن هذا لا يمكن أن يحدث إلا إذ تحررت النساء من تدني منزلتهن كنوع؛ أي أن ينعكس حال التمايز بين النوعين، لا أن يقضي عليه. ويمكن أن ينحو التنافس بين النساء والرجال في سوق العمل إلى إنتاج علامات لمثل هذا الحال من عكس الآية تحت في بعض الظروف (Engels 1976 173- 174)، وهي علامات تستفز نقد التقليديين لإسهام النساء في العمل المأجور باعتباره قلبًا للنظام الطبيعي للأشياء. لكن هذه العلامات الدالة على عكس آية أدوار النوعين (النساء والرجال) توضح في حد ذاتها الاعتماد الرئيسي للسمات المميزة للقوى العاملة للنساء والرجال على بعضها البعض. ورغم أن النساء والرجال كمتنافسين في سوق العمل قد يبدون ويبدين للوهلة الأولى كأفرا مثل الذرات، فإنهم وإنهن لا ينفصلون ولا ينفصل عن بعضهم وبعضهن البعض إطلاقًا. فهم وهن دائمًا تريطهم وتربطهن معًا علاقات تعزى للنوع، وعلاقات سوق العمل بينهم وبين بعضهم وبعضهن البعض تصير حاملة للنوع.

إن النقطة المهمة فيما يخص تطور الرأسمالية أنها تقدم نوعًا من الاعتماد المتبادل سلسلة دورة المال المعقدة – التي لا تعزى إلى النوع. لكن رغم أن سلسلة دورة المال المعقدة تسود الإنتاج الرأسمالي، بمعنى أنه لابد من تنظيمها بحيث يعود المال بربح، فمع ذلك يستحيل أن تنظَّم بأكملها بتاتًا من خلال العلاقات المالية (من خلال الأجور والأسعار) لكنها تتطلب تنظيمًا إداريًا هرمًيا خاصًا، ألا وهو عملية العمل في الإطار الرأسمالي. لابد من تنظيم هذه العملية من خلال إصدار الأوامر، علاوة على دفع الأجور. ولهذا السبب يمكن أن يكون الإنتاج الرأسمالي حاملاً للنوع، رغم أنه لا يعزى بطبيعته إلى النوع (Phillips and Taylor 1980, Whitehead 1979). ومن المعتاد في عملية تنظيم العمل في الإطار الرأسمالي أن يكون إعطاء الأوامر امتيازًا للرجال، بينما يكون دور النساء تنفيذ الأوامر.

ومن نقاط الضعف الداخلية الأخرى أنه لا يمكن إنجاز إدخال إعادة إنتاج القوى العاملة من خلال سلسلة دورة المال في الإطار الاجتماعي بشكل تام. من الواضح الجلي أن الكثير من العمل المطلوب لتوفير السلع والخدمات اللازمة لإعادة إنتاج القوى العاملة يمكن أن يوضع في إطار اجتماعي من خلال سلسلة دورة المال، فمن أهم العلامات المميزة للتراكم الرأسمالي إدخال عملية العمل التي كانت تجري فيما سلف في المنزل وتدخل في الإطار الاجتماعي من خلال علاقات الزواج (التي تعزى العلاقات بين النوعين) في إطار التعاملات المالية Braverman Chapter 13)). لكن إرساء الهوية الاجتماعية للأطفال، ودمجهم في المجتمع لا يمكن أن يتم بالكامل من خلال سلسلة دورة رأس المال. ومن أحد آثار هذا أن الوضع الراهن للعاملات بوصفهن من كبار المساهمات في دخل الأسرة لا يعني أنهن سيحظين بالاعتراف الاجتماعي بهن أوتوماتيكيًا باعتبارهن كاسبات للعيش، وأن منزلتهن الثانوية في سوق العمل ستنتهي، ذلك أن منزلة كاسب العيش لا تتكون بشكل كامل على المستوى الاقتصادي، بل تتكون أيضًا في عملية تأسيس الرابطة بين الأسرة والمجتمع الأوسع. فلابد أن يكون كاسب العيش أيضًا الممثل للأسرة في النطاق العام. وقد ألمحث آن وايتهيد Whitehead 1978)) إلى أن الأجر نفسه، رغم أنه من الواضح أنه ليس شكلاً من الأشكال التي تعزى للنوع، يميل إلى أن يكون حاملاً لقيم النوع، بمعنى أن أجور أفراد الأسرة من الذكور والإناث لا تعامل على أنها أجور يمكن أن يحل أحدها محل الآخر، بل تخصص لأشياء مختلفة.

إن الاعتراف بنقاط الضعف لا يعني أن علينا أن ننكر أن الرأسمالية تملك/ ي قدرات على تحرير النساء، فأشكال التنشئة الاجتماعية البديلة التي تقوم على المال والتي تستدعيها الرأسمالية تنحو إلى تقويض الأشكال الأخرى من التنشئة الاجتماعية وهدمها، بما في ذلك العلاقات التي تعزى للنوع والتي هي أساسية لوضع النساء كنوع في منزلة دنيا. فبهذه الطريقة تقدم تلك الأشكال أساسًا ماديًا للنضال ضد وضع النساء كنوع في منزلية دنيا. لكن يستحيل أن يحل استغلال رأس المال للعاملات ببساطة محل تدني منزلة النساء كنوع. حقًا، إن الاستغلال الرأسمالي للنساء العاملات بأجر يعد طفيلاً يعيش على تدني منزلتهن كنوع.

نود أن نفرق بين ثلاثة اتجاهات في العلاقة بين ظهور العمل في المصانع وتدني منزلة النساء كنوع: الميل إلى تضخيم الأشكال الموجودة من تدني منزلة النساء كنوع، وميل إلى تفكيك أوصال هذه الأشكال، وميل إلى إعادة بناء أشكال جديدة من تدني منزلة النساء كنوع. ونحن لا نقول إن هذه الاتجاهات يستبعد كل منها الآخر بشكل تام، فأي وضع معين قد تبدو فيه علامات من الأنواع الثلاثة كلها. كما أن هذه الأنواع ليست فئات يمكن تجميعها للخروج بخلاصة وحيدة البُعد فحواها أن أوضاع النساء في تدهور أو في تحسن، بل نحن نوردها كطرق لتحليل ارتباطات معينة بين القوى التي تشكل حياة النساء، آملين أن يساعد هذا على توضيح الإمكانات الاستراتيجية التي تواجه النساء في هذه الأوضاع.

توجد شواهد على الاتجاهات الثلاثة كلها في الدراسات التي تناولت حالة النساء العاملات في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي. من أسئلة طرق تضخيم الأشكال الموجودة من تدني منزلة النساء كنوع، حالة شركة متعددة القوميات تعمل في ماليزيا تؤمن بالمحاولة القصدية للحفاظ على الأشكال التقليدية للقوة الأبوية واستعمالها، فبدلاً من أن تقوض هذه الشركة سلطة الأب على الابنة بتشجيع السلوك الحديثو الغربي، تتبع الشركة سياسة تعزز هذه السلطة.

لقد أقامت الشركة غرفًا للصلاة في المصنع نفسه، وهي لا تفرض ارتداء زي غربي موحد، لكن تسمح للفتيات بارتداء أزيائهن التقليدية، كما تفرض ضبطًا صارمًا وجامدًا للسلوك في مكان العمل. Lim 1978, 37))

إن تعزيز قيمة البنات تقدم بالتأكيد دافعًا للآباء لبذل المزيد من الجهد في التحكم فيهن، بما ذلك إرسالهن للعمل في المصانع، سواء أردن أم أبين. من جهة أخرى، فإن قدرة البنات على الكسب من العمل المأجور قد تكون عاملاً مهمًا في تقويض أشكال معينة من تحكم الآباء والأخوة الذكور في الشابات، وهي ميزة كثيرًا ما ذكرتها النساء الماليزيات العاملات في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي. لكن هذا لا يعني أن هيكل السلطة في الأسرة قد انقلب رأسًا على عقب، إذ توجد شواهد عملية معتبرة تدل على أن أجور النساء لا تضفي عليهن مزيدًا من الرفعة في المكانة أو تزيد من قوتهن في اتخاذ القرار، حتى ولو كنّ المصدر الأساسي لدخل الأسرة.

ومن أمثلة الطرق التي يمكن بها تفكيك أوصال الأشكال الراهنة من تدني منزلة النساء كنوع، نستشهد بملاحظات ميرنا بليك (Myrna Blake 1979) عن أهمية عمل النساء في المصانع كطريقة للإفلات من الزواج المبكر المرتب في بعض البلدان الآسيوية. لكن القدرة على مقاومة الزواج المرتب واختيار الزواج القائم على الاختيار الحرسلاح ذو حدين. ففي حالة المجتمعات التي يسودها نمط الإنتاج الرأسمالي، يميل الزواج القائم على الاختيار الحرإلى التميز بسمات شكل الاختيار السائد في مثل هذه المجتمعات، ألا وهو شكل اختيار السوق من بين سلع متنافسة. والنساء أنفسهن هن اللاتي يتخذن الكثير من صفات السلع المتنافسة، بينما يمارس الرجال الاختيار من بين هذه السلع. إن هذا الميل إلى إعادة بناء شكل رأسمالي له صفة السلعةعلى وجه الخصوص من أشكال إقامة علاقات الزواج؛ شكلٌ تشجعه أساليب إدارة بعض شركات صناعة الإلكترونيات الأمريكية الكبرى متعددة القوميات تشجيعًا فعالاً، عن طريق تقديم دروس في الموضة والعناية بالتجميللموظفاتها ، وتنظيم مسابقات ملكات جمال، وإقامة حفلات راقصة ومناسبات اجتماعية على النمط الغربي لهن. وتبرر هذه الشركات تقديم هذه الأنشطة بأنها من المزايا الجانبية التي تروق بطبيعتها للعاملات الشابات ذوات الاهتمامات الأنثوية“. إن مثل هذه الاهتمامات أنثويةحقًا في وضع تتنافس فيه الكثير من الشابات في سوق الزواج بأمل اجتذاب زوج. لكنها لا تنبع من التركيب الخالد للنفس الأنثوية، بل من ظروف مادية ملموسة قد يكون فيها وجه الشابة هو ثروتها بالمعنى الحرفي للكلمة.

ورغم أن نوعًا واحدًا من تدني منزلة النساء كنوع (هو تدني منزلة البنات بالنسبة لآبائهن) قد يتقوض بشكل ظاهر للعيان، فإن شكلاً آخر من تدني منزلة النساء كنوع (هو تدني منزلة العاملات بالمصانع بالنسبة لرؤسائهن من الرجال) ظاهر أيضًا للعيان، علاوة على أنه في طور التكوين. ينظم العمل في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي من خلال تراتب هرمي رسمی، يشغل فيه العمال العاديون القاع وتحكمهم مستويات مختلفة من المشرفين والإداريين. وقد كشفت الدراسات المتوالية عن وجود نفس النمط، حيث يكاد قاع هذا الهرم يقتصر على العاملات الشابات، أما المستويات العليا من هذا التنظيم الهرمي فيكاد الذكور يشغلونه على الدوام. ولا يشيع وجود النساء في مستويات الإشراف إلا في أدناها، والعلاقة بين العاملات وروسائهن من الرجال تختلف كيفيًا عن العلاقة بين العمال الرجال ورؤسائهم. من السمات المهمة المميزة لهذه العلاقة أن العنصر الجنسي في العلاقة بين الموظفة الأنثى ورئيسها الذكر لا يقع في إطار علاقات القرابة, ولا تشكله القرابة، وهذا هو السبب في أن الفتيات العاملات بالمصانع كثيرًا ما يعتبرن غير جديرات تمامًا بالاحترام“. وفي بعض الحالات، يتفشى الاستغلال الجنسي لهن على نطاق واسع، فمثلاً، في منطقة ماسان، وهي منطقة تصدير حرة في جنوب كوريا، حدثت وقائع عديدة من تعرض الموظفات للإساءة الجنسية على أيدي المشرفين على أعمالهن، وهم من اليابانيين.

إن إعادة بناء أشكال جديدة من تدني منزلة النساء كنوع على هذا النحو، الذي تخضع فيه الشابات لسلطة رجال لا تربطهن بهم أي علاقة عائلية يمكن أيضًا أن تفاقم من الأشكال التقليدية لتدني منزلة الزوجات أمام أزواجهن بحكم انتمائهن لنوع النساء. فقد يكون خضوع الزوجة إذا عملت في مصنع لسلطة رجال آخرين سببًا قويًا يدفع الزوج إلى الرغبة في احتباس زوجته في البيت. فكراهية الأزواج لعمل زوجاتهم في المصانع مذكور في دراسة ليندا ليم (Lim 1978) كأحد أسباب قلة عمل النساء المتزوجات في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي في ماليزيا.

لكن المشكلة ليست مجرد أن الشابات يمكنهن من خلال العمل بالمصنع أن يفلتن من سيطرة الآباء والأخوة الذكور، لا لشيء إلا ليصرن في منزلة الخاضعات للمديرين والمشرفين الذكور، وأنهن لا يفلتن من سيطرة المديرين والمشرفين إلا ليقعن في منزلة متدنية بخضوعهن للأزواج أو العشاق. توجد أيضًا مشكلة، ألا وهي أن سيطرة المديرين والمشرفين يمكن أن تسحب من النساء، إذ قد تفصل المرأة من عملها، فتظل محرومة من الحمايةالتي يضفيها عليها خضوعها لوالدها، أو أخيها، أو زوجها3. قد تبقى المرأة معتمدة على سلسلة دورة المال كوسيلة للبقاء على قيد الحياة, لكنها تظل عاجزة عن إدراك ما تساويه قوة عملها بمعيار المال من خلال العمل في المصنع.

والمشكلة حادة على وجه الخصوص بالنسبة للنساء العاملات بالمصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي، فقد يؤدي حدوث أي تغير في بقعة بعيدة مجهولة من بقاع العالم إلى زعزعة وضعهن في لحظة، فتظل منتجاتهن وقوة عملهن بلا سوق. لقد أثار الانكماش في الطلب العالمي في عام ١٩٧٤ زعزعة ضخمة لأركان العمالة في الكثير من المصانع التي تنتج الحساب السوق العالمي، فمثلاً؛ فقد حوالي ثلث العاملين والعاملات في مصانع الإلكترونيات بسنغافورة أعمالهم وأعمالهن (Grossman 1979, 10). علاوة على ذلك، ما زالت توجد إمكانية لأن تعيد الشركات الواقعة في البلدان المتقدمة إذكاء نيران التنافس.

إن نجاح المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي في حد ذاته قد جعلها عرضة للمجازاة، التي أخذت حتى الآن أساسًا شكل تنامي القيود على واردات المصنوعات، لاسيما السلع الاستهلاكية مثل النسيج، والملابس، والأحذية. وقد ظهرت حديثًا علامات دالة على محاولات جديدة لإحداث ثورة في عملية الإنتاج في البلدان المتقدمة، لإنهاء الامتيازات التي تعطيها العمالة الرخيصة للمصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي في إنتاج السلع المعتمدة على العمالة الكثيفة. وتزمع اللجنة الاقتصادية الأوروبية (EEC) باتحاد مُصَنِّعي الملابس تمويل برنامج بحوث لدراسة سبل ميكنة تصنيع الملابس. إن استمرار كتلة رأس المال في التراكم في البلدان المتقدمة يعني استمرار تركز طلب السوق، والمعرفة الفنية بأسرار الصناعة، والتمويل في هذه البلدان، بحيث تصير المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي والتي تمثل نسبة ضئيلة نسبيًا من تراكم رأس المال عرضة بحكم تكوينها للمخاطر الناجمة عن التغيرات في ظروف التراكم في البلدان المتقدمة. لكن أساليب التوظيف والفصل في شركات معينة تزيد من المخاطر التي تحف بالعمالة في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي وتزعزع أركان هذه العمالة. أن تفضيل الشركات لتشغيل صغار السن يعني أن العاملات اللاتي في بدايات العشرينيات من أعمارهن ولم يتركن العمل طوعًا بعدُ هنّ أول من سيفصل إذا استلزم الأمر خفض الإنفاق على القوى العاملة. وكثيرًا ما يكون الحمل هو سبب فصل العاملات، أو تفصل النساء لأنهن لم يعدن قادرات على الالتزام بمعايير الإنتاجية أو أوقات العمل. وكثيرًا ما يكون تدهور أداء العاملة في حقيقته نتيجة لنوع من الإعاقة سببه العمل نفسه لها. تنحو النساء العاملات في صناعة النسيج على الحدود المكسيكية إلى المعاناة من شكاوى من الكلى ودوالي الساقين. والنساء اللاتي يستخدم الميكروسكوب يوميًا في صناعة الإلكترونيات يعانين من إجهاد العين وتتدهور حدة إبصارهن. ويمكن أن يؤدي العمل في نوبتجيات – وهو أمر شائع في مصانع الإلكترونيات والنسيج – إلى الشعور بإجهاد مستمر, وصداع، وتدهور في الصحة العامة. والنتيجة النهائية أن هؤلاء العاملات هن غالبًا اللاتي يكن قد اكتسبن أنماطًا استهلاكية جديدة، ووقع على عاتقهن مسئوليات جديدة، وتورطن في الديون في كثير من الحالات، وهن اللاتي يفقدن وظائفهن، الا اللاتي التحقن حديثًا بالعمل في المصنع.

إذا فقدت امرأة عملها في أحد المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي بعد أن أعادت ترتيب حياتها على أساس دخلها من الأجر، لا تجد أمامها وسيلة للبقاء إلا بيع جسدها. فمثلاً وردت تقارير من كوريا الجنوبية تقول ان العاملات السابقات بالصناعات الإلكترونية لا يجدن بديلاً إلا التحول إلى الدعارة (Grossman1979, 16).. وتقدم الطريقة التي نشأت بها صناعة السياحة، خاصة في جنوب شرق آسيا, سوقًا متناميًا لمثل هذه الخدمات.

يمكن إيجاز خلاصتنا فيما يلي: توجد حدود متأصلة للمدى الذي يمكن فيه لتوفير العمل المأجور للنساء من خلال التراكم الرأسمالي أن يؤدي إلى تصفية تدني منزلة النساء كنوع. فبدلاً من إنهاء هذا التداني في المنزلة، فإن الدخول إلى سوق العمل المأجور ينحو إلى تحويلها إلى نوع آخر من المنزلة المتدنية. وبينما يوجد ميل لتفكيك أوصال بعض الأشكال الراهنة لتدني منزلة النساء كنوع، مثل تحكم الآباء والأخوة الذكور في أنماط حياة الشابات، يوجد أيضًا ميل لإعادة بناء أشكال جديدة من تدني منزلة النساء كنوع، وتتم هاتان العمليتان من خلال إعادة بناء العلاقات التي تعزى إلى النوع بأشكال جديدة، ومن خلال تحول علاقات ليست في أصلها ذات علاقة بالنوع إلى علاقات حاملة للنوع. حقًا، إن الميل إلى تفكيك أوصال العلاقات في حد ذاته لا يؤثر إلا في نسبة ضئيلة من النساء المعنيات اللاتي ينتمين لنفس الفئة العمرية، بل وعلى نسبة أقل من إجمالي النساء من سكان المجتمع المعنى. وغالبًا ما لا تملك النساء من الاختيارات لحمايتهن من هذا الخطر إلا أن يقبلن قبولاً إيجابيًا بالحمايةالتي توفرها لهن الأشكال الجديدة من تدني منزلتهن كنوع، بل وأن يسعين إليها.

عادة ما تنتهي التقارير الرسمية عن مشكلات نساء العالم الثالث بقائمة من التوصيات بسياسات لابد أن تنفذها مختلف الهيئات الرسمية التي تتحرك من أجل صالح النساء“. لكننا نوجه نقاشنا للعمل ليدور حول مفهوم النضاللا حول مفهوم السياسة“. لا يعني هذا أننا لا نرى دورًا للهيئات الرسمية للدولة، سواء على المستوي القومي أو الدولي، في عملية التحرك، بل يعني أننا نتجه نحوهم لنسأل، لا عن أي حلول يجب أن تقدمها هذه الهيئات للنساء, بل عن كيف يمكن للنساء استخدام هذه الهيئات للأغراض التي يحددنها بأنفسهن، حيث إننا نفهم أن أهم أهداف التحرك المرتقب تطوير قدرات النساء ليحددن مصائرهن بأنفسهن.

وفي رأينا أن إنشاء المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي يوفر في حد ذاته أساسًا ماديًا لعملية نضال من أجل تقرير المصير. وأهم طريقة تفعِّل بها هذه المصانع هذا أنها تربط بين عدد كبير من النساء وتجعلهن يواجهن معًا سلطة مشتركة تقوم على أساس مالي، ألا وهي سلطة رأس المال. وهذا ليس أثر من آثار أكثر بدائل العمل المتوفرة لنساء العالم الثالث، مثل العمل غير المأجور في الأسرة، أو العمل في القطاع غير الرسميفي الخدمات الصغيرة أو العمل الخارجي “out – work”، أو العمل خادمات في المنازل (Blake 1979, 11). في هذه الحالات الأخرى، تنحو النساء تنحو أن يكن منعزلات عن الالتقاء بغيرهن من النساء وجهًا لوجه، أو تواجههن أشكال مختلفة من السلطة ذات طابع أكثر شخصية؛ أو أنهن يتصلن ببعضهن البعض، لا كأفراد من نفس النوع أو الطبقة، بل كأفراد من أسر معينة، أو جماعات قرابة، إلخ.

إن أوضح إمكانية للنضال يوحي بها هذا الحال هو نضال النساء كعاملات حول قضايا مثل الأجور وظروف العمل. من ثم، يخيب أملنا من النظرة الأولى إذ نجد انخفاض مستوى مشاركة النساء العاملات في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي في الأنشطة النقابية؛ كما نجد شواهد على أنهن في كثير من الحالات لا يُعرِّفن أفسهن بوصفهن عاملات، ولا يكتسب وعيًا بأهمية النقابات“(Cardosa – khoo & Khon Kay Jin 1978). لكن لابد أن نتذكر أوجه قصور النضال المنطلق من العمل في المصانع حول قضايا العمل، كما نتذكر إمكانياته، ونواحي النقص التي تعتور المنظمات النقابية الرسمية في الكثير من أنحاء العالم.

الجانب الرئيسي في هذه الأوجه من القصور، ألا وهو قدرة العمال على تأمين التحسينات في الأجور وظروف العمل، بغض النظر عن حسن تنظيميم/ تنظيمهن، يحكمه أن زمام التحكم في وسائل الإنتاج يقع في النهاية بيد الإدارة، وليس بيد القوى العاملة. وحدود حركة عمال المصانع التي تنتج لحساب السوق ضيفة على وجه الخصوص لأن العمليات التي يقومون بها في هذه المصانع يسهل نقلها لمكان آخر، ولأن إدارة هذه المصانع كثيرًا ما تستمتع بمساندة أشكال قوة الدولة التي تمارس القهر على الأخص. فقدرة العمال على تأمين التحسينات في ظروفهم تنحو إلى أن تكون مشروطة بمعدلات معينة من التراكم في مواقع محلية معينة. ومن الملحوظ أنه في بلدان مثل هونج كونج وسنغافورة حيث صارت معدلات الاستثمار عالية، مالت الأجور المدفوعة للعمال في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي إلى الارتفاع. ويظهر ميل لوجود نسبة أعلى من النساء المتزوجات والأكبر سنًا بين عاملات المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي في هذه البلدان، وهي أعراض دالة على ضيق سوق العمالة هناك عن غيره من الأماكن.

وإلى جانب معدلات التراكم، يوجد اعتبار آخر مهم، ألا وهو مدى استعداد بقية الجماعات الاجتماعية لدعم عمال وعاملات مصانع معينة في القيام بحملات لتحسين الأجور وظروف العمل. وفي حالة النساء العاملات في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي، يرجح أن تأتي هذه المساندة في بلدهن إما من جانب جماعات النخبة من المهنيين والتقنيين، أو المنظمات الدينية. الجماعات الأولى تساند العاملات على أساس مادي هو أن الأجور التي تدفعها المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي وظروف العمل بها كثيرًا ما تكون جارحة للإحساس بالعدل والإنصاف الذي تشجعه الجوانب الأخرى من تطور الرأسمالية، التي تضرب بجذورها في جانبين من جوانب اقتصاد السوق، هما تحقيق المساواة والتحرر. ولسوء الحظ، أن هذه المساندة تميل إلى أن تكون محدودة، فبينما يرحب الكثير من أفراد جماعات الصفوة من المهنيين والتقنيين بمساندة حقوق العملات والعمال في الحصول على أجر يومي عادل مقابل يوم عمل عادل، فإنهم لا يرحبون بمواجهة كل الآثار الناجمة عن حصول العمال والعاملات على حق تقرير المصير فعلاً، بما في ذلك حقهم وحقهن في التحكم في وسائل الإنتاج.

وكثيرًا ما تأخذ المساندة التي تقدمها الجماعات الدينية أشكالاً أكثر جذرية بعدة سبل, لأنها تميل إلى الاستناد إلى مجموعة مختلفة من القيم، تضرب بجذورها في رؤية أكثر انتماء للمجتمع. وفي بعض البلدان، باتت مثل هذه الجماعات شديدة الانهماك في نضال عمال وعاملات المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي. لكن، من وجهة نظر النساء، قد تكون هذه المساندة ذات حدين على وجه الخصوص، لأن القيم الدينية كثيرًا ما تميل إلى تشجيع تدني منزلة النساء كنوع.

لكن مهما كانت فعالية واتساع مساندة الجماعات الدينية أو غيرها من الجماعات للقوى العاملة، يظل النضال من أجل تحسين الأجور وظروف العمل متناقضًا مع هذه الجماعات. فنجاح العمال في هذا النضال يستند إلى حد معتبر إلى نجاح الإدارة في تحقيق الأرباح.

إن قدرة الإدارة على استبدال الميكنة بالعمالة يعني أن وجود موازنة بين حاجتين متناقضتين، هما عدد الوظائف المتاحة وما يرتبط بها من ظروف الأجور المدفوعة مقابل العمل ليس مجرد اختراع أيديولوجي للاقتصاد التقليدي المتشدد. لكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد. فالرأسماليون يجب أن يقوموا بتحركات فردية لنقل الإنتاج إلى مناطق أخرى وإعادة تشكيله على نطاق دولي (وذلك بسبب ما يقع عليهم من ضغوط تنافسية)، ولهذه التحركات الفردية عواقب تنحو إلى تقويض احتمالات نجاحهم في الاستمرار في التحكم في وسائل الإنتاج. ولكي نرسم شكلاً تخطيطيًا لهذا الوضع، نقول إن نقل الإنتاج إلى مواقع أخرى وإعادة تشكيله على المستوى الدولي له عواقب تنحو إلى تقويض نظم الحقوق المالية وحقوق الملكية على المستويين القومي والدولي، وهي الحقوق التي يُبنَى عليها التحكم الرأسمالي في وسائل الإنتاج، وهي ضرورية لحدوث هذا التحكم. والظواهر الراهنة لهذا الوضع هي مشكلات التضخم التي تحدث في جميع أنحاء العالم, وانعدام ثبات أسعار العملات الدولية، والزيادة الضخمة في مديونيات بلدان العالم الثالث التي كانت بالتحديد أنجحالبلدان في التصنيع الموجه إلى التصدير.

أهم درس نخرج به من هذا أننا لا يمكننا الحكم على النضال على مستوى المصنع على أساس آثاره على الأجر وظروف العمل فحسب. فالحكم على هذا النضال لا يجب أن يقتصر على الحكم عليه كأداة لتحقيق مكاسب اقتصادية، بل كسبيل للارتقاء بقدرات المنخرطين فيه، خاصة قدرتهم على تنظيم أنفسهم. في هذا السياق، يكون الإسهام في العمل الجماعي في المصنع في حد ذاته، حتى ولو كان فرديًا وذا طابع تلقائي، أهم من مجرد العضوية الرسمية في إحدى النقابات، إذ يساعد العمل الجماعي العمل أيضًا على فهم هيكل القوى التي تشكل حياتهم الموجودة في جميع أنحاء العالم، ويساعد على إعدادهم للنضال، ليس في المصنع الذي يعملون فيه فحسب، بل للنضال ضد النظام الاقتصادي الذي يشكل المصنع جزءًا منه.

لكن أشكال النضال النابعة من إنشاء المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي ستظل تعاني من قصور خطير في نظر النساء العاملات إذا ما تعاملت مع القضايا الاقتصادية فقط، كمسائل الأجور وظروف العمل، وفشلت في تناول المشكلات الأخرى التي تنبع من إعادة بناء الأشكال الجديدة من تدني منزلة النساء كنوع. تظهر الكثير من هذه المشكلات في هيئة سلسلة من المصاعب الشخصيةوالفردية، مثل: كيف تجتذب المرأة زوجًا أو عشيقًا؛ وكيف تتعامل مع متناقضات الطبيعة الجنسية للمرأة، أي كيف تعبر عن طبيعتها الجنسية دون أن تصير متاعًا جنسيًا؛ وكيف تتعامل مع الحمل وتربية الأطفال (Blake 1979, 12).. إن اهتمام العاملات من النساء بمثل هذه المشكلات ليس علامة دالة على تخلفوعيهن مقارنة بوعي العمال من الرجال، بل يعني أن تدني منزلة النساء كنوع أولوية بالنسبة للنساء، أما الاستغلال الرأسمالي فهو ثانوي ونابع من هذا التدني في المنزلة. لا يعني هذا القول بأن النساء يدركن تلقائيًا أن مشكلاتهن الشخصيةتجليات لتدني منزلتهن كنوع. فإذا كانت العلاقات الاجتماعية شفافة إلى هذه الدرجة لما وجدت حاجة كبيرة لكتابة مقالات كهذا، ولا إلى إجراء تحليل واع لموقف النساء ووضع خطة للنضال وتنظيمه.

ولم تكن الأشكال التي اتخذتها المنظمات العمالية تقليديًا كافية من وجهة نظر النساء, لأنها فشلت في إدراك خصوصيتهن كنوع، وفي إدخال هذه الخصوصية في بنية هيكلها. فالنقابات العمالية مثلاً نظمت لتمثيل العامل، والأحزاب السياسية نظمت لتمثل الطبقة العاملة“. وفشل هذه التنظيمات في أخذ النوع في الاعتبار يعني أنها في الواقع العملي تميل إلى تمثيل العمال الذكور. وقد ظهر ميل لتمثيل النساء العاملات من خلال اعتمادهن على العمال الذكور فقط. كما أن المشكلات النوعية التي تهم النساء بوصفهن نوعًا ذا منزلة متدنية تكون غالبًا مشكلات لا يسهل للأشكال المعتادة من النقابات العمالية أو للأنشطة السياسية للطبقة العاملة تناولها. والمطلوب أشكال جديدة من التنظيمات تتناول هذه المشكلات على وجه الخصوص، وتقدم تحركًا عمليًا فوريًا بشأنها، كما تكشف أيضًا عن الجذور الاجتماعية بما يبدو للنظرة الأولى سلسلة من المشكلات الفردية والشخصية، التي يكمن القاسم المشترك الأعظم الوحيد بينها في خصال وقدرات طبيعيةمفترضة في جنس النساء.

إن توظيف النساء في المصانع التي تنتج لحساب السوق العالمي يوفر أساسًا ماديًا لـ تسييس المسائل الشخصيةبسبب جمعه لجماهير من النساء معًا، لا كعاملات فحسب، بل كنوع. فالنساء يتجمعن معًا في أي مصنع، لا بفضل أن الواحدة منهن ابنة هذا الرجل، أو أم ذاك الرجل، أو شقيقة هذا، أو زوجة ذلك؛ بل يتجمعن في المصنع لمجرد أنهن نساء وبفضل هذه الصفة، ولأن لهن السمات المميزة للنوع ذي المكانة المتدنية. فالنساء حين يوظفن للعمل في المصنع، يجردن من العلاقات ذات الطابع الخاص التي تعزى إلى النوع.

وهكذا، يُضفى واقع عملي على مفهوم النساء كنوع، بنفس الطريقة التي يُضفى بها الواقع العملي على مفهوم العمل عمومًا (Marx 1973, 103- 105)، ويتم إنشاء هذا الوضع أساسًا لبناء نضال النساء العاملات بالمصانع على أنهن نوع، علاوة على أنهن أفراد من طبقة، ولا يعني هذا أن نقول بأن مثل هذا النضال سيحدث أوتوماتيكيًا، إذ لن يحدث إلا لو بنيت أشكال جديدة من التنظيم عن وعي. وهذا يحدث فعلاً إلى حد ما. فقد كونت النساء العاملات في مختلف أنحاء العالم الثالث تنظيمات تضم كل قطاع من قطاعات الصناعة، وهذه التنظيمات تربط بين النساء العاملات في مختلف المصانع العاملة في نفس الصناعة؛ كما كونت هؤلاء النساء منظمات خارج موقع العمللتناول قضايا مثل الإسكان، والتعليم، والصرف الصحي، التي تظل كلها من مسئوليات النساء.

والنضال من أجل تخفيف وطأة بقية جوانب الحياة على النساء العاملات مبتلى بالطبع بأوجه قصور وتناقضات مثيلة لتلك التي نوقشت في حالة النشاط من أجل تحسين الأجر وظروف العمل بالمصنع، لا سيما أنواع النضال فيما يسمى بالمجال الشخصي“. فمثلما يضه احتكار الرأسماليين الطبقي لوسائل الإنتاج القيود على النوع الأول من النشاط، يضع احتكار الرجال كنوع لوسائل إرساء الوجود الاجتماعي والحضور الاجتماعي قيدًا على الأنواع الثانية من النضال. وبناء على ذلك، لا ينبغي الحكم على نضال النساء بصفتهن نوعًا وفقًا لشروط ذرائعية بحتة، مثل تحقيق هذا التحسن أو ذاك في أوضاع النساء، بل يجب أن يحكم عليه من حيث الطرق التي يُكسِب بها النضال نفسه النساء قدرات على تقرير مصيرهن بأنفسهن. بل إن اكتساب التعاون والتضامن الواعيين بين النساء على أساس إدراكهن لخبرتهن المشتركة بتدني منزلتهن كنوع أكثر أهمية من أي إصلاح معين للحالة القانونية، ومن أي إضعاف معين لـ الاتجاهات الأبويةأو السلوك الذكوري العدوانيإن التحسينات التي تتحقق من خلال تراكم رأس المال أو سياسة الدولة أو تغير اتجاهات الرجال يمكن أن تنقلب على أعقابها. أما المكاسب التي تبقى فهي التي تعتمد على بناء العلاقات فيما بين النساء أنفسهن.

تلك هي النقطة التي تحتاج إلى ترسيخ في ذهن كل مستشاري السياسة، وواضعيها، ومنفذيها على المستويين القومي والدولي الذين يأملون في دمج النساء في التنمية، وتعزيز مكانة النساء، وما إلى ذلك. وأهم مطلب، وأهم سبيل للمساعدة، إتاحة الموارد والمعلومات للمنظمات والأنشطة القائمة على الاعتراف الصريح بتدني منزلة النساء كنوع، والتي تحاول إنشاء أشكال جديدة من الجمعيات التي يمكن للنساء أن يبدأن من خلالها في إرساء عناصر هويتهن الاجتماعية بأنفسهن، وليس من خلال وساطة الرجال. وهذه المنظمات لا تتطلب مستشاري سياسات ليخبروا النساء بما ينبغي عليهن فعله، ويشرفوا عليهن، ويراقبوهن، بل تتطلب سبل الحصول على الموارد، والحماية من الهجمات العنيفة التي تكاد تكون لا مفر منها والتي يشنها أصحاب المصلحة الشخصية في استمرار استغلال النساء كعاملات وتدني منزلتهن كنوع. وأهم مهمة تقع على عاتق الأفراد المتعاطفين مع النساء من العاملين في هيئات الدولة على المستويين القومي والدولي، هذه المهمة هي تفعيل السبل التي بإمكانهم لتيسير حصول النساء على مثل هذه الموارد وتقديم مثل هذه الحماية لهن، والآن، كيف يمكن لهم تقديم حزمة من التحسيناتالجاهزة مغلفة بغلاف برنامج للنساء؟

دیان إیلسون Diane Elson أستاذة علوم اقتصادية تتولى التدريس في جامعتي يورك وساسيكس, وقد أجرت بحثًا في جنوب شرق آسيا، وهي تعيش الآن في مانشستر حيث تتمتع بعضوية مختلف الجماعات النسوية هناك. وهي أيضًا عضو عامل في مؤتمر الاقتصاديين الاشتراكيين، وفي دورية Socialist Economic Review روث بیرسون Ruth Pearson أستاذة علوم اقتصادية عملت في الأرجنتين والمكسيك. تعيش الآن في نورويتش، حيث تعمل بتدريس العلوم الاقتصادية ودراسات المرأة، وهي عضوة نشطة في مختلف الحملات النسوية المحلية. وشاركت المؤلفتان في الورشة التي عقدت بمعهد دراسات التنمية التابع لجامعة ساسيكس عن تدني منزلة النساء.

هذه الورقة ثمرة نقاشات جرت في مختلف المنابر النسوية مع نساء من كل من العالم الثالث والعالم الأول. ونود أن نوجه الشكر لبقية أعضاء وعضوات ورشة تدني منزلة النساء، التي عقدت بمعهد دراسات التنمية التابع لجامعة ساسيكس؛ والمشاركات والمشاركين في المؤتمر الدولي عن استمرار تدني منزلة النساء في عملية التنمية، الذي عقد في معهد دراسات التنمية، في سبتمبر ۱۹۷۸؛ والمشاركات والمشاركين في الحلقة الدراسية التي تولاها معهد دراسات التنمية عن النساء والإنتاج الاجتماعي في منطقة الكاريبي، والتي عقدت في بورتوريكو في يونيو يوليو ۱۹۸۰. ونخص بالشكر جوزفينا آراندا (Joesephina Arunda) ، وجين کاردوسا کهو، وسونيا کوالیز (Sonia Cuakes)، ونيولین هایزار (Noeleea Heyzer)، وروس مولت (Ros Molt)، ومويما فيزر (Moema Viezzer)

* Diane Elson and Ruth Pearson, “Nimble Fingers Make Cheap Workers’: An Analysis of Women’s Employment in Third World Export Manufacturing”, Feminist Review, no. 7 (Spring, 1981), pp. 87- 107.

1 يستخدم مصطلح استغلال العمالة في هذا البحث بمعنى فني، مستنبط من ماركس، ويعني عملية إرغام العمال على العمل لفترات أطول مما يلزم لإنتاج السلع التي يستهلكونها هم أنفسهم.

2 المناطق التجارية الحرة عبارة عن مناطق خاصة معفاة من القواعد العادية التي تحكم عمليات الاستيراد والتصدير، وغيرها من القواعد المنظمة للأعمال أيضًا، مثل تشريعات حماية العمالة، وقوانين الضرائب.

3 قد يبدو الحديث عن الحماية التي يوفرها الخضوع للآخرين مفارقة فيها تناقض، لكن المفارقة تكمن في العلاقات الاجتماعية نفسها. فحين تضطر النساء لبناء هويتهن من خلال علاقاتهن بالرجال، فغالبًا ما يصير غياب الأب، أو الأخ، أو الزوج انتقاصًا من الميزات المتاحة للنساء.

Blake, Myrna (1979) “Asian Women in Formal and Non-Formal Sectors – Women in Third World Manufacturing Review and Proposals for Research, Education, Mobilisation.”.Occasional Paper2, United Nations Asian and Pacific Centre for

Women and Development.

Boserup, Ester (1970) Women’s Role in Economic Development London: Allen and

Unwin.

Braverman, Harry (1974) Labour and Monopoly Capital. London and New York:

Monthly Review Press.

Cardosa-Khoo, Jane and KHOO, Kay Jin (1978) “ Work and Consciousness: the case of electronics ‘ runaways’ in Malaysia”’. Paper presented to Conference on the Continuing Subordination of Women in the Development Process, Institute of Development Studies, University of Sussex.

Engels, Frederick (1976) The Condition of the Working Class in England. St. Albans: Panther.

Fanon, Franz (1969) The Wretched of the Earth. Harmondsworth: Penguin Books.

Frobel, Folker, Heinrichs, Jurgen and Kreye, Otto (1979) The New International

Division of Labour. Cambridge: Cambridge University Press.

Grossman, Rachel (1979) “ Women’s Place in the Integrated Circuit.” Southeast

Asia Chronicle No. 66 (joint issue with Pacific Research Vol. 9, No. 5-6) pp. 2-17.

Heyzer, Noeleen (1978) “ Young Women and Migrant Workers in Singapore’s LabourIntensive Industries”. Paper presented to Conference on the Continuing

Subordination of Women in the Development Process, Institute of Development

Studies, University of Sussex.

Lim, Linda (1978) “ Women Workers in Multinational Corporations in Developing

Countries—The Case of the Electronics Industry in Malaysia and Singapore”

Women’s Studies Program Occasional Paper No. 9, University of Michigan.

Marx, Karl (1973) Grundrisse. Harmondsworth: Penguin Books.

Marx, Karl (1976) Capital. Vol 1. Harmondsworth: Penguin Books.

Phillips, Anne and Taylor, Barbara (1980) ‘Sex and Skill: Notes Towards a Feminist

Economics”. Feminist Review No. 6, pp. 79-88.

Sharpston, Michael (1975) “International Subcontracting”. Oxford Economic

Papers. March pp. 94-135.

Sharpston, Michael (1976) “International Subcontracting”. World Development,

Vol. 4. No.4, pp. 333-337.

Whitehead, Ann (1978) “The intervention of capital in rural production systems:

some aspects of the household’. Paper presented to Conference on the

Continuing Subordination of Women in the Development Process, Institute of

Development Studies, University of Sussex.

Whitehead, Ann (1979) “ Some Preliminary Notes on the Subordination of Women”.

IDS Bulletin Vol. 10 No.3, pp. 10-13.

شارك:

اصدارات متعلقة

اغتصاب وقتل طفلة رضيعة سودانية في مصر
نحو وعي نسوي : أربع سنوات من التنظيم والتعليم السياسي النسوي
شهادة 13
شهادة 12
شهادة 11
شهادة 10
شهادة 9
شهادة 8
شهادة 7
شهادة 6