عندما دخلت رابعةُ إلى قفص الاتهام، التفتت مئات العيون تجاهها، كانت زائفة النظرات منكوشة الشعر، ترتدي جلبابًا قذرًا، في أصله أبيض اللون، تبحثُ عن شئٍ لا يعرفه أحد. ربما كانت تبحث عن نظرة تعاطف أو تفهم وسط النظرات النارية التي أفقدتها خلال الشهور الأخيرة بقايا عقلها، وذهبت به إلى قاعٍ بعيدٍ ترقد فيه منذ زمن “كرامتها وآدميتها. ومشاعرها” وفوق كل هذا إحساسها بالأمان.
إنها سيدةٌ مصرية ريفية شابة، أكلها الفقر وتركها فريسة للأيام القاسية والظروف الاجتماعية العنيفة الطاحنة، ولم تستطع أن تُقاوم، وكيف لها ذلك وهي بغير أسلحةٍ تساعدها، فهي أمية وجاهلة وفقيرةً ومعدمة، لا عمل لها إلا رعاية الأولاد والزوج، وأسرتها مثلها، أكلها الفقرُ منذ زمن بعيد، غير قادرة على مساعدتها وتقويتها في مواجهة رأى عام غاضب تدقُّ فيه طبول الحرب ضدها، وتُجهز فيه الأخشاب الرطبة لحرقها ببطء وتلذذ.
رابعة سليمان مطر – أم لخمسة أطفال لا تعلم عن مصيرهم شيئًا، ليس فقط لأنها لا تعى ما حولها، لأن أسرة زوجها القتيل حجبتهم عنها وحرمتهم منها وحرمتها منهم تكريسًا لقهره، حتى في أمومتها هي أضعفُ من أن تجبرهم على إعطائها الأطفال، فهي مقيدة الحرية محبوسة منذ شهور طويلة، إلى جانب أنه لا يوجد أحد متعاطف معها – فالكلُّ ينظر لها باعتبارها غير آدمية متوحشة، فكيف تتحدث عن المشاعر أو تحس بفقدانها.
رابعة سليمان مطر– هي الزوجة المصرية الفقيرة، التي عانت وتعرضت لكل أنواع الضغوط الاجتماعية والنفسية والصحية من أجل أن تحافظ على بيتها وأطفالها – وبدلاً من تُكافأ مقابل قوتها المطلقة على الاحتمال، تُهان وتُضرب كل يومٍ أمام أطفالها، وتُهدد بالطرد والتشريد، وتعاير بالقبح وآثار الأيام على وجهها، وتأتيها فتاةٌ لعوبٌ صغيرة لم تمر الأيام على يدها لتخشنها، ولا القهر على نفسيتها ليشوهها، لتتدلل على زوجها الذي كان يعتقد في حقه المطلق في الزواج والحب ثانيًا وثالثًا، غير مهتمٍ بأثر ذلك على زوجته وقريبته التي أفنت شبابها وحياتها من أجله وأولاده.. وتتحملُ رابعة الضغوط النفسية الرهيبة لتزيدها آلامًا، ويزداد فقدان الأمان والرعب من الأيام السوداء التي تنتظرها بعد أن يتزوج عليها زوجها من أخرى دلوعة وصغيرة، فلو بقيت في المنزل ستكون خادمةً للجميع، ولو خرجت فالشارعُ ينتظرها مجردًا من الرحمة والإنسانية، لتجد ملاذها الأخير في الضياع – ألم أقل منذ البداية إنها مجردة من الأسلحة التي تُقويها أو تساعدها على تحمل الأيام …
كانت محاكمة رابعة مطر يوم الاثنين 6/ 11/ 1989 – جاءت متأخرة عن بداية الجلسة، والتأخير بالطبع إجباري ككل شئ في حياتها.
كانت النيابة قد استعدت لها خير استعدادٍ من حيث الأداء والمضمون، تجلبُ لها حبل المشنقة على نحو لا يمكن الإفلات منه– حسب تصور النيابة – وكان لها محاميان – الأول موكلٌ من أسرتها الفقيرة، والثانية متطوعةٌ للدفاع عنها تفهمًا لدوافعها وتعاطفًا معها، وكرهًا للقهر الذي تعرضت له والذي أجبرها على ارتكاب فعلتها الشنعاء على حدِّ تعبير النيابة..
كانت قاعة المحكمة مليئة بمئات البشر – المحامين وطلبة الحقوق وأهلها وأهل القتيل والصحافة والفضوليين، وهؤلاء الذين يُعدوا أنفسهم لسماع حُكم إعدامها ليخففوا عن أنفسهم الغيظ والغل الشخصي تجاهها، رغم أنها لم تقتلهم هم أو أى أحد من أقاربهم، لكنها على أي حال قُتلت مثلهم ..
وكان عددُ النساء قليلٌ للغاية، يُعدُّ على أصابع اليد الواحدة – وهو الأمر الذي قد يُشير إلى أنه حتى بنات جنسها لم يتعاطفوا معها، أو على أقل تقدير لا يُظهرن ذلك التعاطف ..
عندما بدأت النيابة في المرافعة – أشارت إلى رابعة باعتبارها وحشًا طليقًا – شيطانًا في صورة آدمي، قتلت زوجها ورفيق عمرها ومزقت جسده ودفنته في التراب و….. مئاتُ الألفاظ المترادفة التي تدين رابعة قبل حكم المحكمة، أفاضت النيابة في وصفٍ دقيقٍ لكيفية تقطيع الجثة – فكانت القاعة تتأوه ألمًا على الرجل البائس الذي مزقته المرأة السفاحة المجرمة، واختتمت النيابة مرافعتها بطلب الإعدام شنقًا لرابعة جزاء فعلتها وأقل جزاء .!!!
وبعد النيابة بدأ المحاميان في الدفاع عن رابعة – وسط جوٍ ملتهبٍ من المشاعر العدائية، وتناول الدفاع أركان الجريمة المنسوبة لها” قتل مع سبق الإصرار “لينفيها عنها ” فهى ضربت زوجها دفاعًا عن نفسها، بعد أن اعتدى عليها بالضرب وأصابها في جبهتها، ورفض توسلاتها ودعى على أطفالها بالموت وضرب كوب اللبن بقدمه فأساله على الأرض – أحضر لها سكينًا ووعدها بالقتل بعد أن يُنهى صلاته – فضربته دفاعًا عن النفس بساطورٍ فمات، ولم تكن تتوقع موته وهي لم تتعمد قتله، بل كانت تحت حالة انفعاليةٍ ونفسيةٍ رهبية، وضغوطٍ لا يقوى على احتمالها بشر – ضُربت أمام أطفالها، وقبلت قدمه، فأبى أن يرحمها وأحضر سكينةً وهي متأكدةٌ أنه سينفذ قوله – فالرجل عندها ووفقًا لمفهومها وقيمها وجهلها لا يرجع في كلامه.
أما عن سبق الإصرار فغيرُ متوافرٍ، لأن سبق الإصرار يحتاج إلى تفكير وهدوء وتأنى، والغضب والانفعال التي كانت تحت وطأتهما لم يتركا لها فرصة للتفكير ولا للهدوء…
وعن ادعاء النيابة بأن لها مشروعًا إجراميًا مُسبقًا – تحدث الدفاع وقرر “المشروع الإجرامي – لو تصورنا حدوثه يُفكرُ في الجريمة ونتائجها – لكن رابعة بعد ارتكابها الجريمة لم تعرف كيف تتصرف في الجثة، وامتلكها الرعبُ إلى حد محاولة الانتحار ثلاث مرات، وهذا يتناقضُ مع فكرة المشروع الإجرامي.
وعن حديث التمزيق للجثة قرر دفاعها “ليس تمثيلاً بالجثة، وإن كان ذلك ليس اتهامًا موجهًا لها من قبل النيابة – ولكنه رُعبٌ من اكتشافها وعجزٌ عن مواراتها“.
“وعن مسؤوليتها الجنائية” هي غير مسؤولة جنائيًا عن تصرفاتها لإصابتها بعاهةٍ في عقلها، يُحدد إطارها وأسبابها طبيبٌ مختص، وحتى إن ظهر عليها المرضُ النفسي بعد ارتكاب الجريمة، فقد يكون دلالة على كون ذات المرض كان مستنيرًا داخلها قبل وأثناء ارتكاب الجريمة، والفيصل في ذلك الطب وليس الآراء العامة غير المتخصصة.
وعن اعترفها التفصيلي أمام النيابة، قرر الدفاع أنه” اعترافٌ باطلٌ لأنه وليد ضغطٍ وإكراه مادي ونفسي، تمثل في احتجازها في قسم الهرم حوالي ثلاثين يوماً مع استمرار التحقيقات، وإحضار أولادها للشهادة ضدها، كذلك نسب أقوالٍ إليها لم تقلها، فهي الفتاةُ الريفية الجاهلة لاتستطيع أن تقول “لقد اعترفت بمحض إرادتي” إنما هو قولٌ كتب نيابةً عنها وبصمت بأصابعها عليه دون أن تفهمه أو تقرأه حتى تمتلك إرادة أن تعترض عليه، وقد انتهت المحكمة في قرارها إلى إيداع رابعة بمستشفى الأمراض العقلية لمدة 45 يومًا للكشف عن قواها العقلية، لتحديد مدى مسؤوليتها الجنائية، ومازلنا في انتظار ما سينتهي إليه الكشفُ الطبى – لكن..
بغضِّ النظر عن سلامة عقلها أو عدم سلامته..
بغضِّ النظر عن الحكم الذي سيحكم عليها به، سواء كانت إدانة أم براءة، حُكمٌ بعددٍ كبيرٍ من السنوات أو قليل. فالمأساة الحقيقية أن رابعة مطر وغيرها كثيرات – آلاف الفتيات – عندما تعرضت للقهر الاجتماعي العنيف، لم تجد من يدافع عنها أو يقف معها – لم تجد جهةً تشكو لها من زوجها وقسوته – لم تجد جهةً تردع زوجها، وتُفهمه أن لزوجته حقوقًا يلزم مراعاتها – لم تجد قانونًا يحضر لها حقوقها إلزامًا على ذلك الزوج، ما دام يرغب في إنهاء الحياة الزوجية بغير إرادتها – لم تجد جهةً تشكولها الجهل الذي فرض عليها، ولا إمكانية العمل الضائعة – لم تجد جهةً تشكو لها امتهان الكرامة والإذلال الدائم – لم تجد جهةً تساعدها على رؤية أولادها – لم تجد جهةً توقف عنها أنياب الرأى العام، لذا فكيفما كان مصير رابعة مطر– ونأمل أن يكون مصيرًا أقل مرارة من الحياة التي عاشتها، نتمنى أن نحاول مساعدة غيرها من القابعات في المنازل بغير سند أو مستقبل أو سلاحٍ ضد الحياة القاسية، نتمنى أن نحاول إنقاذهن وإنقاذ أنفسنا من مصير رابعة مطر وحياتها .